الفصل الثالث
العلاقات الودية بين مصر وبلاد النوبة في عهد الدولة القديمة
تدل النقوش التي يرجع عهدها إلى أوائل الأسرة السادسة وما قبلها مباشرة على أن العلاقات
بين مصر وبلاد النوبة كانت ودية، ولا أدل على ذلك من نقوش الحدود التي ذكرناها فيما سبق
من
عهد الملك «مرنرع» هذا بالإضافة إلى المساعدة التي قَدَّمَهَا الرؤساء الوطنيون للقائد
«وني» عندما ذهب لاستحضار الأحجار لهرم «مرنرع» من أسوان، فمن ذلك نرى أن مصر — إذا لم
تبسط
سيادتها المطلقة على هذه البلاد — لا يمكن أن تُؤَدَّى لها هذه المساعدة. والواقع أنه
ليس
لدينا معلومات تؤكد وجود هذه السيطرة المطلقة، فلا بد أن هؤلاء الأمراء كانوا يقومون
بتقديم
هذه الخدمات في مقابل أجر أو منفعة خاصة. على أننا نشاهد هذا التعاون بين مصر وبلاد النوبة
في نفس نقوش «وني» في مناسبة أخرى، غير ما ذكرنا، وذلك أن الملك «بيبي الأوَّل» كان قد
شرع
في القيام بحملة على البدو وكان جيشه في هذه الحملة لا يقتصر على جنود رديف من المقاطعات
المصرية المختلفة، بل كان يشمل فضلًا عن ذلك فرقًا من أهل النوبة من بلاد «أرثت» و«مجا»
و«يام» و«واوات» ثم لوبيين. ولم يذكر في هذا المتن الذي ذكرنا ترجمته فيما سبق أسماء
الأمراء المختلفين لبلاد النوبة، بل ذكر فقط كلمة «نحسيو» (= نوبي أسود) وعلى ذلك يميل
الإنسان إلى التسليم بأنه لم توجد أية محالفة حربية بين مصر والبلاد النوبية هذه، بل
كل ما
حدث هو أن جنودًا نوبيين من هذه الجهات قد انضمُّوا إلى صفوف الجيش المصري، وهؤلاء كانوا
قد
جُذِبُوا إلى مصر في جماعات للخدمة كما هي الحال في أيامنا، إذ نجد كثيرًا من أهل بلاد
النوبة يَفِدُون إلى مصر للخدمة فيها عند العظماء والأمراء. وعلى ذلك لم تكن هناك هجرة
لقبائل بأسرها إلى مصر، ويدل على ذلك ما جاء في ورقة «إلفنتين» السالفة الذكر من سفر
نوبيين
إلى الشمال وكذلك ذهاب جيش من قبيلة المجا (المزاوي) ومن أهالي «واوات».
ومما يثبت أن النوبيين الذين وفدوا على مصر في عهد الدولة القديمة وكذلك في عهد الدولة
الحديثة فيما بعدُ كانوا يشتغلون شرطة ما جاء في نقوش منشور «دهشور» في عهد «بيبي الأوَّل»
فقد قرر فيه أن سكان مدينة الهرم كانوا تحت حماية النحسيو (النوبيين) الآمنين من أي
تَعَدٍّ. والظاهر أنهم كانوا مرتبطين معًا في جماعات معينة؛ وذلك لأننا نقرأ في نفس المنشور
أنهم كانوا تحت إمرة المشرف على التراجمة (القوافل) والمشرف على «المزاوي» و«يام»
و«أرثت».
١ والواقع أن أعمال الحفر لم تكشف عن جَبَّانَاتٍ نوبية خاصة بهم في مصر كما كانت
الحال في العهد المتوسط الثاني الذي جاء على أعقاب سقوط الدولة الوسطى، ولكن يمكن تفسير
ذلك
بأن النوبيين كانوا عندما تنتهي مدة خدمتهم في مصر، يعودون إلى بلادهم ثانية كما هي الحال
الآن إذ نشاهد أن العمال النوبيين عندما ينتهون من خدمتهم في مصر بتقدم السن يعودون إلى
بلادهم لِيُدْفَنُوا في أرض الوطن. ولدينا من الدولة القديمة بعض مناظر تدل على
ذلك.
٢ ومن الجائز أنه بوساطة هذه الهجرة التي بدأت على ما يظهر منذ زمن مبكر حدث
اختلاط الدم النوبي بالدم المصري بالتزاوج بين أفراد البلدين، ومن الجائز كذلك ما يلحظ
من
أن لون «بيبي عنخ» الأسود الذي كان يسكن «إلفنتين» يرجع سببه إلى أن أمه كانت نوبية،
وكذلك
الرأس الأسود الذي وجده «ريزنر» في أثناء الحفر في منطقة «الأهرام» لأميرة يرجع سواده
لاختلاط الدم النوبي بالدم المصري.
٣
وليس لدينا آثار كثيرة تحدثنا عن العلاقات بين بلاد النوبة ومصر في عهد الأسرة السادسة
ولكن يمكن أن نلحظ أنه في عهد «بيبي الثاني» قد حدثت بعض تغيُّرات في العلاقات الودية
التي
كانت سائدة في عهد الملك «مرنرع». ففي كتابات «حرخوف» نفهم من خلال رحلاته المختلفة بعض
هذه
التغيُّرات. ففي رحلته الأولى قام مع والده إلى بلاد «يام» لارتياد الطريق الموصلة إليها
وقد استغرقت الرحلة سبعة أشهر وقد أحضر معه كل أنواع المحاصيل إلى أرض الوطن ولم يذكر
لنا
عن العلاقات بين مصر وسكان النوبة أية كلمة. وفي الرحلة الثانية ذهب بمفرده عن طريق
«إلفنتين» إلى «أرثت» و«ماخر» و«ترس» ثم «أرثت» وقد استغرقت السياحة ثمانية أشهر ثم عاد
بكل
أنواع المحاصيل من هذه الجهات، ويذكر لنا أنه عاد من مكان بيت أمير «سثو» و«أرثت»، وبعد
ذلك
فتحت أمامه مجاهل هذه البلاد، فكان الهدف الذي يرمي إليه في رحلته في هذه المرة هو كشف
مجاهل هذه الأقاليم. ولكن في عودته تلاقى مع الأمير الذي كان يسيطر على إقليمي «سثو»
و«أرثت». والظاهر أنه قد أَلَّفَ حلفًا نوبيًّا يحتمل أن غرضه كان مناوءة مصر، ومن المحتمل
أن «حرخوف» قد لاقى بعض الصعاب مع أعضاء هذا الحلف، وربما كان هذا هو السبب الذي جعله
يختار
في رحلته التالية الطريق التي تخترق الواحات ويهجر طريق النهر، وفي رحلته الثالثة نجد
إيضاحات بينة لهذه الصعوبات، فقد اتبع طريق الصحراء، ولكن مما يؤسف له أن اسم المكان
الذي
خرج منه وجد في النقوش مهشمًا. فيقص علينا أنه سار على طريق الواحات وساح إلى واحة «كركر»
فواحة «دنقل» وبذلك تحاشى المرور من شمال بلاد النوبة، وبعد ذلك قام أمير «يام» الذي
كان
يقوم بحملة على بلاد «تمحو»،
٤ (أي اللوبيين) وقد تصافحا معًا. وفي عودته تقابل مع أمير البلاد «أرثت» و«سثو»
و«واوات» معًا. ومن المحتمل أن ذلك يعني أن هذا الحلف قد وسع رقعة ممتلكاته. ومن المحتمل
كذلك أن نفس هذا الأمير قد أخضع بلاد «واوات» أيضًا، وعلى أية حال فإن «حرخوف» كانت لديه
أسباب وجيهة تجعله يتجنب الطريق التي تمر بهذه الجهة في سياحته الطويلة، ولكنه عند عودته
وقف إلى جانبه أهل إقليم «يام» الذين كان قد اجتذبهم إلى جانبه، وهؤلاء كانوا خارج الحلف
المشار إليه سابقًا، وربما كان لهم مصلحة مشتركة في ذلك مع مصر. وبذلك كان على «حرخوف»
أن
يتخذ الطريق المحاذية للنيل دون أي تردد. يضاف إلى ذلك أن قافلته كانت محملة بالمحاصيل
المنوعة من بلاد «يام» فأجبره ذلك على ما يظهر على اتخاذ طريق أخرى، ويقص علينا «حرخوف»
في
أثناء مقابلته لأمير «أرثت» و«سثو» و«واوات» مقدار ما كان لديه من قوة ونفوذ فاستمع إليه
وهو يقول: «وعندما رأى رؤساء «أرثت» إلخ. (انظر الترجمة المنشورة سالفًا). ويقول «ريزنر»
عن
هذه الرحلة:
٥ إن «حرخوف» في رحلته الثالثة كان بدهيًّا في الصحراء الغربية، ويقول إنه ابتدأ
من مكان لم يمكن تحقيق قراءته في النقوش، وإنه كان ذاهبًا على طريق الصحراء وقد وجد أن
صديقه حاكم «يام» قد ذهب إلى الأماكن النائية في الصحراء الغربية ليقوم بغزو بلاد «تمحو»
(لوبيا). وقد ذهب «حرخوف» أو أرسل رسلًا للحاق بحاكم «يام» الذي يحتمل أنه يعادل الآن
ملكًا
صغيرًا من الملوك في عصرنا الحالي أو شيخ قبيلة فأحضره، والظاهر أنه أتم معه صفقات تجارية
في «يام» (المتن هنا مهشم) أو في سوق في متناول «مك» «يام» (أي «ملك يام»). ولم يجسر
«حرخوف» على الإيغال أكثر من ذلك دون حماية هذا «الملك» الذي لا بد أنه قد دفع له ثمنًا
طيبًا على ذلك. وباقي البيانات عن هذه الرحلة والعودة مفيدة: «… قبل «أرثت» وخلف «سثو»
وقد
وجدت حاكم «أرثت» و«سثو» و«واوات» (كامنين) عند رأس الطريق عندما كنت آتيًا ومعي ثلاث
مئة
حمار محملة بالبخور والأبنوس وزيت «حكنو» (أحد الزيوت الخمسة أو الستة المستخرجة من نباتات
السودان، وزيت الخروع هو أهمها وهو الذي يعرف على الأرجح بحبوب «سسان»)، وجلود الفهود،
هذا
عدا أسنان فيلة كثيرة، وكل محصول طيب. وبعد أن رأى حاكم «أرثت» و«سثو» و«واوات» جنود
«يام»
العديدين وهم الذين كانوا آتين معي إلى البلاط بالإضافة إلى الجنود المصريين الذين أتوا
معي
فإن هذا الحاكم (أي حاكم «أرثت» و«سثو» و«واوات») أرسل ليعطيني ثيرانًا وماعزًا وأن يرشدنا
إلى طريق جبل أرض «أرثت». وهذه الفقرة إذا تغاضينا عن قصرها وما جاء فيها من أسماء أعلام
يمكن أن نعدها مأخوذة من البيان الذي وضعه «بورخارت» الرَّحَّالَةُ عن رحلته وعن قافلته
التي ابتدأت من «دراو» وانتهت عند «بربر» عام سنة ١٨١٣م، فالوقت الذي أخذه تجار الدولة
القديمة ليصلوا إلى بلاد أثيوبيا (كوش) كان نفس الوقت تقريبًا الذي تنفقه قوافل «سنار».
ولا
بد أن الأحوال السياسية في كلا العهدين كانت واحدة تقريبًا، وتميز بعدم وجود حكومة مركزية،
وقد تغيرت الحال في كلا العهدين فيما بعد، ففي الأولى كان التغيير بفتح مصر لبلاد «كوش»،
وفي الثانية بفتح «محمد علي» لبلاد السودان.
على أن ما يلفت النظر في كلام «ريزنر» هو قوله: «إن حاكم «يام» قد ذهب إلى الأماكن
النائية في الصحراء ليقوم بغزوة على بلاد «تمحو» (لوبيا). والواقع أنه من المستحيل أن
توجد
بلاد «تمحو» بالإقليم الشمالِي الذي نسمع عنه بهذا الاسم فيما بعد، وأوفق نظرية وأكثرها
جرأة في هذا الصدد هي أن نفرض أن عبارة أرض «تمحو» كانت تطبق على أي إقليم زحف عليه
اللوبيون ذوو البشرة البيضاء. فمثلًا جنود أرض «تمحو» الذين ضمهم «وني» في جيشه يمكن
أن
يكونوا قد أتوا من «الواحة الخارجة»؛ وذلك لأنهم لم يُذْكَرُوا في الجزء الأول من الفقرة
نفسها التي تتحدث عن الدلتا، ولكن ذُكِرُوا في وقت واحد مع عدد من القبائل النوبية، وعلى
أية حال فإن ما يبعث أكثر على الحيرة الإشارة إلى هؤلاء اللوبيين في حياة «حرخوف» حيث
يحدثنا كما هو مذكور فيما سبق أنه للمرة الثالثة قد أرسل إلى «يام» (التي تقع في مكان
ما في
الشمال من «وادي حلفا») «وقد وجد أن رئيس القبيلة قد رحل إلى بلاد «تمحو» ليضرب «التمحو»
حتى الركن الغربي من السماء». والواقع أن قيام رحلة إلى الواحة الخارجة يعد مشروعًا غير
ممكن تنفيذه بوساطة رئيس قبيلة صغيرة، هذا بالإضافة إلى أن «الواحة الخارجة» تقع في الاتجاه
الخاطئ من موطن «حرخوف» في «إلفنتين» كما أنها بعيدة جدًّا عن «يام» والفرض الطبعي هو
أن
«حرخوف» قد وصل فعلًا إلى «يام» وأنه بعد وصوله هناك وجد أن رئيس القبيلة قد ذهب لمحاربة
اللوبيين الذين يُنْتَظَرُ أن يجدهم الإنسان بعيدًا جدًّا في الجنوب الغربي. ففي هذه
الجهة
لا يوجد إقليم صالح للسكن في هذه البقعة حتى يصل الإنسان إلى واحة «دنقل»، و«واحة سليمة»
لا
يمكن أن تعد إقليمًا صالحًا للسًّكْنَى، يضاف إلى ذلك أن واحة «دنقل» أقل احتمالًا من
«الواحة الخارجة» لتكون هي أرض «تمحو» التي يقصدها هنا «حرخوف». ويقول «جاردنر» إن تفسير
العبارة التي جاءت عن بلاد «تمحو» في نقوش «حرخوف» قد أعجزه
٦ كلية ثم يقول إن أرض «تمحو» التي غزاها «سنوسرت الأول» كما جاء في قصة «سنوهيت»
كانت تقع بوضوح في الشمال الغربي من الدلتا، ومن المحتمل أنها كانت تمتد في هذه الناحية
من
جهة الغرب حتى «تريبوليتانيا» (إقليم طرابلس) «ولا بد أن نضع فيها كل قوم» التمحو «الذين
ذكروا فيما بعد هنا».
٧
على أنه من المحتمل أن المقصود من الطريق الأخيرة التي اتبعها وهي المختصرة هي الطريق
الواقعة بين «توماس» و«المضيق» وأن الأمير قد أرشده إلى اقتفائها؛ وعلى ذلك كان من الواجب
على «حرخوف» أن يكون على حذر حتى لا يقع في المصيبة التي وقع فيها من بعده المماليك الذين
كان يطاردهم «محمد علي» في بلاد النوبة وكانوا قد وثقوا بقبيلة «العبابدة» ولم يكونوا
على
علم بنفس هذا المكان فأضلوهم السبيل في الصحراء وماتوا عطشًا وهم بجوار الآبار، فقد خبأها
منهم «العبابدة» وباعوها لغيرهم.
٨
والظاهر أن «حرخوف» كان كُلَّمَا أوغل في الجهات الجنوبية في رحلاته يقابل صعابًا
كبيرة،
وكذلك كانت تزداد معارضة القبائل الجنوبية له. وإذا كان الحلف السابق الذكر لم يكن متينًا،
وأنه بعد موت قائده وشيخه قد انحلَّ فلا بد أن أعضاءه قد لَاقَوْا صعوبات ومناهضة من
قبل مع
مصر؛ وذلك لأن النوبي كان يركز معظم همه في رفع أسعار سلعه والضرائب التي كان يجبيها
من
القوافل إذ كانت مورده الوحيد لكسب عيشه.
٩
هذا ويجد المطلع على تاريخ هذه الفترة صورة أخرى عن العلاقات التي كانت بين البلدين
في
المتن الذي تركه لنا العظيم «بيبي نخت»، غير أنه في هذه المرة لم يكن يقوم ببعث سلمي
مثل
بعوث «حرخوف» بل كان حربًا عوانًا على النوابيين لم نسمع من قبل بمثلها في النقوش التي
قبل
عهد «بيبي نخت»، ومن المحتمل أن ذلك يرجع إلى ظهور مقاومة مسلحة من جانب النوبيين للمصريين
الذين أخذوا يستهينون بالأهالي بعد أن اتَّضح لهم نجاح رحلات «حرخوف» وعودته بكثير من
المحاصيل المحلية المرغوب فيها كثيرًا في مصر. وقصة «سبني» ووصفها لموت والده وحجز جثته
في
بلاد النوبة لها علاقة بتغيير الأحوال بين البلدين، وأن العداء منذ ذلك الوقت قد بدأ
يظهر
من جانب النوبيين للمصريين الذين أخذوا يناصبونهم العداء جهارًا، ولولا ذلك لما قُضِيَ
على
القافلة التي كان يرأسها والد «سبني» ولعاد أتباعه بجثته إلى مصر، ولم يكن هناك داع لإرسال
حملة لهذا الغرض
١٠ ولا أدل على خيبة رحلة والد «سبني» خيبة تامة من أن البضائع التي كان قد جمعها
هذا الأب قد حملتها أولًا قافلة ابنه إلى مصر، ولكن مما يُؤْسَفُ له جد الأسف أن المتن
وجد
مهشمًا عند النقطة التي بدأ فيها وصف الكارثة، ولذلك أصبحنا وليس في مقدورنا الحصول على
أي
تفصيل عن هذا الحادث، غير أنه من الجائز أن والد «سبني» قد انْقَضَّ عليه الأهالي وذبحوه.
هذا وقد قَصَّ علينا كذلك «بيبي نخت» السالف الذكر السبب في قيامه برحلة للبحر الأحمر
تشبه
حوادثها قصة رحلة «سبني». وتلخص هذه القصة في أن أحد الضباط الذين أرسلوا في حملة إلى
سواحل
البحر الأحمر واسمه «عنخت نيني» كان يريد أوَّلًا بناء سفينة والسفر بها إلى بلاد «بُنت»
التي كان يعتقد فيها المصريون أنها أرض الإله، وأن أصلهم يرجع إليها، وعندما كان «عنخت
نيني» هذا منهمكًا في بناء سفينته عند ساحل البحر الأحمر غير مُلْتَفِتٍ إلى ما حوله
انْقَضَّتْ عليه وعلى رجاله قوَّة من البدو وقَضَوْا عليه، وقد كان من الضروري معاقبة
المعتدين على فَعلتهم هذه، ولكن كان أهم من ذلك إحضار جثة «عنخت نيني» إلى مصر؛ ولذلك
أُرْسِلَ «بيبي نخت» ثانية للقيام بهذه المهمة.
هذا ولدينا بعض موظفين آخرين لهم علاقة ببلاد النوبة، غير أنهم لم يقوموا بدور هام
إلا
«ثني»
١١ فقد أرسله الملك لجمع الضرائب من بلاد النوبة وعاد بها مما يدل على أنه كانت
هناك جزية تفرض على الأهلين.
على أن النشاط الذي ظهر في بلاد النوبة بصفة جدية، وكذلك إرسال الحملات التأديبية
لم
يستمر طويلًا؛ وذلك لأن الوهن والضعف وسوء الحكم كان قد أخذ يتفشى في داخلية البلاد التي
مزقها الحكم الإقطاعي الذي تجلى بأبشع مظاهره في أواخر الأسرة السادسة ممَّا أدى إلى
القضاء
على كل نشاط سياسي خارج البلاد، سواء أكان ذلك في الشمال تجاه آسيا أم في الجنوب تجاه
بلاد
النوبة، وقد ظلت العلاقات بين مصر وهذه البلاد تكاد تكون معدومة فلم نجد إلا بعض إشارات
في
المتون التي من العصر المتوسط الأوَّل تدل على علاقات فاترة بين مصر وجنوب الوادي، غير
أن
الحفائر التي عملت في بلاد النوبة في أوائل هذا القرن قد دلت على ظهور حالة جديدة في
بلاد
النوبة لم تشاركها فيها مصر.
ويجب ألا ننظر إلى الحملات التأديبية التي قام بها رجال البعوث في بلاد النوبة على
أنها
كانت بعوثًا تقوم على أسس حربية منظمة، كالتي أرسلها ملوك الأسرة الثانية عشرة فيما بعدُ،
وذلك بقدر ما وصلت إليه معلوماتنا في هذا الصدد. وعلى ضوء الحفائر التي قامت في هذه الجهات.
وقد ظن بعض المؤرخين أن هذه البعوث الحربية كان لها مراكز حربية في نفس بلاد النوبة فكان
بها معاقل في «أكور» و«كوبان» و«عنيبة».
١٢ وقد استنبط ذلك «فرث» من المباني فقط دون أن يستند على أي متن من هذا العصر
يشير إلى وجود هذه المعاقل في تلك الفترة، وبخاصة أن نقوش قُوَّادِ البعوث قد وُجِدَتْ
خالية من أية إشارة تدل على وجود حصن واحد. وعلى أية حال فإن كل ما يمكن قوله حتى الآن
في
هذا الصدد هو أننا لا نعرف شيئًا على وجه التأكيد عن المباني المحصنة في هذا العهد ولا
شكلها ولا الأماكن التي أقيمت فيها، ولعل الكشوف المقبلة تحدثنا عن بعض التفاصيل في هذا
الموضوع، ولكن مما لا شك فيه أن مصر لم تكن قد أوغلت في تثبيت قدمها في بلاد النوبة،
وأنها
عندما بدأت في إيجاد مركز سياسي لها كانت قد أخذت هي في أسباب الوهن ودَبَّتْ فيها الفوضى
الداخلية فلم تتقدم كثيرًا في هذا المضمار. بل على العكس تأخرت في ركب الحضارة وأخذت
النوبة
بدورها في تلك الفترة التي نسميها العصر المتوسط الأوَّل تخطو نحو الأمام في مدارج الحضارة
مما سنفصل القول فيه فيما يلي كما اسْتُنْبِطَ من الحفائر الحديثة. وهذا العصر هو الذي
يُطْلَقُ عليه مجموعة ثقافة
C.
هوامش