المجموعة الثقافية G (من ١–٤) حوالي ٢٤٠٠ ق.م–١٦٠٠
ق.م
كان يسكن في بلاد النوبة السفلى قوم من النوبيين القدامى الذين يُنْسَبُونَ إلى نفس
جنس
سكان مصر في عهد ما قبل التاريخ، ولكنَّ دَمَهُمُ الحامي كان مختلطًا بدم الزنوج وهم
الذين
تَخَطَّوُا الشلال الأوَّل من الجنوب ونزلوا في الوجه القبلي واستوطنوه وهؤلاء القوم
كانوا
في الأصل رعاة ماشية يشبهون قبيلة «البقارة» الحالية التي يرعى أهلها ماشيتهم ي مراعي
«كردفان» وقبيلة «المعازة» التي يربي أهلها الماعز في رقعة الصحراء الشرقية،١ وقد استوطنوا وادي النيل، ولا يمكننا أن نحكم على وجه التأكيد من أين جاء هؤلاء
السكان الجدد وقد ذهب الأثري «فرث»،٢ والأستاذ «ينكر»٣ إلى أن موطنهم الأصلي في الجنوب الشرقي من البقعة التي ينبع منها النيل الأزرق
وعطبرة، ويتألف من مجراهما طريق طبيعي إلى وادي النيل في بلاد النوبة، وفي هذه البقعة
نجد
موطن أهل ثقافة «كرمة» الذين يسكنون بلاد النوبة العليا، وقد نمت ثقافة القوم وترعرعت
في
«دنقلة»، غير أن الأستاذ «ستيندورف» يرجح نظرية أخرى في هذه المعضلة وافقه عليها الأثري
«فرث» وأنكرها الأستاذ «ينكر»، وذلك أن قوم مجموعة ثقافة C
قد أَتَوْا من الجنوب الغربي من «كردفان» وسكنوا أولًا في منطقة الشلال الثاني، ونذكر
هنا
بهذه المناسبة نظرية أخرى أدلى بها «فرث»٤ إذ يقول إن أول وأبسط فرض يخطر بالبال هو أن الجنس الزنجي قد دخل وادي النيل
النوبي من جهة السودان واختلط بالقبائل الحامية التي تقطن الصحراء الشرقية وهم الذين
يمثلهم
الآن «العبابدة» و«البشاريون» و«الهدندوة» ولكن يعترض هذه النظرية التي ينكرها كذلك الأستاذ
«ينكر» النتائج التي أسفر عنها بحث الأجسام البشرية؛ وذلك أن الهياكل العظمية لمجموعة
C ليس فيها إلا نسبة ضئيلة من الجنس الزنجي، وهنا نقف
أمام سؤال لم تُسْفِرِ البحوث الأثرية عن جواب شافٍ له، وهو ما أصل هذه السلالة التي
غزت
البلاد النوبية؟ ويجب أن نعلم حق العلم أننا هنا أمام جنس من الناس يحيط بأصله الغموض
والإبهام وليس لدينا أية معلومات كتابية تميط اللثام عنه (وقد تحدثت عن أصل ثقافة مجموعة
C عند التحدث عن جولان «التمحو» وخزفهم الذي عثر عليه
في بلاد النوبة في الجزء السابع من مصر القديمة ص ٦٥–٧٤).
والذي نعرفه أن هؤلاء القوم المهاجرين بمجرد اختلاطهم بالسكان الأصليين كوَّنوا لأنفسهم
ثقافة جديدة نامية أخذت عناصر كثيرة من الثقافة النوبية القديمة، وبخاصة الفخار، ولكنها
على
وجه عام كانت ثقافة قائمة بذاتها، وقد احتلت مكانة عالية في الحياة القومية نفسها، وإذا
ما
قُرِنَتْ بثقافة الدولة الوسطى المصرية عُدَّتْ ساذجة إلى أقصى حدٍّ، بالنسبة إليها،
ويمكن
أن تُعَدَّ بمثابة الثقافة النحاسية الحجرية المتأخرة. ولم تأخذ عن المنتجات الثقافية
الأجنبية إلا الشيء الضئيل جدًّا؛ وذلك لأن الأهالي كانوا شديدي الفقر فلم يفكروا في
جلب
أشياء كمالية من الخارج، وعلى ذلك لم يجلب من مصر الغنية أشياء مصنوعة من النحاس إلا
القليل
كالمرايا والخناجر وقطع الزينة الرخيصة أو الأواني المصنوعة من الفخار كالأباريق القناوي
وما أشبه ذلك. كان يتجر فيها تجار جائلون وهم الذين كانوا يتنقلون بسلعهم من مكان إلى
آخر،
ولكن من جهة أخرى لم يكن هناك أي تبادل تجاري بين أهل مجموعة ثقافة
C ومصر. ومن جهة أخرى نستخلص أنه كانت تقوم بين هؤلاء
الناس وبين سكان ساحل البحر الأحمر معاملات ماهرة، إذ كانوا يجلبون من ساحل البحر الأحمر
الأدوات الضرورية للزينة وبخاصة المحار الذي كان يحمله بدو الصحراء الشرقية إلى وادي
النيل.
هذا وليس لدينا أي دليل على قيام أية معاملات تجارية بين هؤلاء القوم وبين بلدة «كرمة»
التي كانت تعد المركز الثقافي المصري لبلاد النوبة العليا.
أسماء بلاد النوبة والسودان
وقد ظهر خلال باكورة الدولة الوسطى في النقوش المصرية اسم جديد للجزء الأعلى من وادي
النيل بلاد النوبة وهو «كاش» . وبهذه المناسبة سنفحص هنا الأسماء
التي سميت بها بلاد السودان في مختلف عصور التاريخ وسنبدأ أولًا بالاسم الحديث الذي
يستعمله المؤرخون في كتب التاريخ الآن وهو:
«أثيوبيا» ولا نزاع في أن لفظة «أثيوبيا» التي
استعملها الكتاب القدامى والأثريون المحدثون هي لفظة تنقصها الدقة للدلالة على الإقليم
الخاص الممتد من أعالي النيل، والذي يشمل من أول «حلفا» تقريبًا حتى ملتقى النيل الأزرق
بالنيل الأبيض عند «الخرطوم». وقد دلت البحوث الأثرية الحديثة على أن المراكز الرئيسية
للثقافة والسكان في هذا الإقليم كانت منطقة «دنقلة» الحالية ما بين الشلال الثالث
والرابع ومركز «مروي». وهذا الإقليم لا يشمل بلاد الحبشة (أبيسينيا) الجنوبية
الشرقية.
والواقع أن لفظة «أثيوبيا» قد استعملت لتدل على الأقطار الواقعة جنوب مصر نفسها وتشمل
المساحة التي نعرفها الآن بهذا الاسم. ولكن هذا الاسم يستعمل بطريقة مبهمة حتى إنها
كانت تشمل كل بلاد النوبة السفلى وبلاد الحبشة، وفضلًا عن ذلك فإن هناك عنصرًا آخر زاد
في ارتباك معنى هذا الاسم، وذلك أن سكان بلاد السودان الأحداث لا يَعُدُّونَ أنفسهم
أثيوبيين ولا يرغبون في أن يُطْلَقَ على بلادهم هذه التسمية.٥ وكان قدماء المصريين في عهد الدولة الحديثة يشيرون إلى الأراضي الجنوبية
بلفظين وهما:
(١)
«واوات» وتعادل بلاد النوبة السفلى من أسوان حتى «وادي حلفا».
(٢)
و«كوش» وكانت في نظرهم الإقليم الواقع جنوب «وادي حلفا» وعاصمته «نباتا»
ويحكمه نائب ملك يحمل لقب «ابن الملك صاحب كوش». ومملكة «كوش» هذه عندما
استقلت كانت تشمل «مروي»، وكانت في عصورها الأخيرة تُحْكَمُ من هذه
المدينة.
والواقع إذن أن ما يسمى بلاد «أثيوبيا» عند المؤرخين القدامى هو بلاد «كوش». وأول
ذكر
لهذا الاسم (كوش) على الآثار في نقوش اللعنة التي وضعها الأستاذ «زيته».٦
وقد بحث الأستاذ «ستيندورف» الأسماء المختلفة التي أطلقت على بلاد السودان أو على
أجزائها في مقال ممتع،٧ وسنورد هنا هذه الأسماء ونتحدث عن كل منها:
(١)
«خنت-حن-نفر»: وجد هذا الاسم في قائمة
البلاد التي خلفها لنا «رعمسيس الثاني» على جدران معبد «العرابة
المدفونة».٨ وهذا الاسم يعد أحدث أسماء بلاد النوبة بعد اسم «أثيوبيا» وكان
أول ذكر له على الآثار في نقوش القائد «أحمس» بن «إبانا»،٩ وتدل المتون على أن هذا الاسم كان يُطْلَقُ على السودان حتى
الشلال الثالث على الأقل، بل يحتمل على كل البلاد التي كانت خاضعة لمصر في
هذه الجهات الجنوبية ولم يكن يقتصر على جزء معين من بلاد النوبة.
(٢)
«كاش» أو «كوش»: هذا الاسم أقدم من
السابق بمئات السنين وكان يُنْطَقُ في أقدم الكتابات «كاش» وقد عثر عليه في
النقوش المصرية في أوائل الدولة الوسطى كما ذكرنا من قبل.١٠ وقد ظهرت كلمة «كاش» في نفس الوقت الذي ظهر فيه قوم أصحاب
ثقافة مجموعة C في وادي النيل، وقد أصاب
الأستاذ «ينكر»١١ عندما قال إن «كوش» لا تعنى إلا الأراضي التي تسكنها أهل
مجموعة ثقافة C، وهي البلاد الجنوبية التي
تمتد من الشلال الثاني حتى «أسوان»، ولا نعلم كيف امتد هذا الاسم في كل
الرقعة التي يُطْلَقُ عليها، كما كانت الحال على ما يظن مع اسم «خنت-حن-
نفر»، والواقع أن هذا الاسم قد أُطْلِقَ فيما بعدُ على كل البلاد التي كان
يحكمها «ابن الملك صاحب كوش». فكانت «كوش» كما ذكرنا من قبلُ هي على وجه
التقريب بلاد «أثيوبيا» في العهد اليوناني الروماني.
(٣)
تاستي: أما ثالث اسم لبلاد السودان
فنجده في قائمة أسماء البلاد بالعرابة المدفونة وهو «تاستي» وهو أقدم اسم
لهذه الجهات الجنوبية، وكان يُتْرْجَمُ فيما مضى «بأرض القوس»، غير أن
الأستاذ «ولف» قال إن العلامة ( = ستي) لا تدل على القوس.١٢ ويرجع الفضل للأستاذ «أرمان» في قراءة هذا الاسم «تاستي» الذي
كان يُقْرَأُ قبل «تاخنت»،١٣ وكتابة هذا الاسم في متون «الأهرام» تدل على أنه بلد أجنبي أو
جبلي. وقد ظن البعض أن «تاستي» لم تكن تُطْلَقُ في الأصل على بلاد النوبة
بل على أول مقاطعة من مقاطعات الوجه القبلي من جهة الجنوب، ولكن الوثائق
دلت على أن هذا زعم خاطئ. ولا نعلم إذا كان إقليم «واوات» هو جزء من بلاد
«تاستي» أو كان يقع في الأصل جنوب حدود «تاستي». وعلى أية حال فإن بلاد
«تاستي» كانت تشمل في الأسرة الثامنة عشرة كل بلاد النوبة إلى الشلال
الثاني وتتفق جزئيًّا مع الاسم «خنت-حن-نفر»، وذلك أن أقدم جزء من معبد
«سمنة» كان منذورًا للإله سيد بلاد النوبة «ددون». وتقع «سمنة» في بلاد
«تاستي» هذا إلى أنه عندما ذكر في لوحة «نورثمبتون»١٤ أن خشب الأبنوس يأتي من «تاستي» فإن هذا لا يعني بلاد النوبة
السفلي بل يعني بلاد السودان الواقعة جنوب الشلال الثاني.
وعلى ذلك فإن الأهالي الذين كانوا يسكنون أرض «ستي» أي الذين يسكنون في
وادي النيل النوبي كانوا يُعْرَفُونَ باسم «ستيو» منذ أقدم العهود دون
الالتفات إلى نوع الثقافة التي يتبعونها سواء أكانوا تابعين إلى الثقافة
الأولى أم الثانية أم الثالثة. ومن هنا وجب علينا أن نترجم هذا الاسم بكلمة
«النوبيين»، غير أنه يلزم أن نعلم تمام العلم أن كلمة «النوبيين» لا يمكن
تحديدها بأي جنس، بل تُطْلَقُ على أي قوم من الناس سكنوا بلاد النوبة فنجد
اسم «ستيو» كان فعلًا منذ عهد «مينا» في كتابات القبور الملكية١٥ إذ يشير فيه إلى ضرب «ستيو»، وفي عهد الدولة الوسطى نجد في متن
حرب الملك «منتو حتب» في الأسرة الحادية عشرة ذكر هؤلاء القوم بوصفهم
«ستيو» بجانب «ستتيو» (سكان آسيا). وفي الدولة الحديثة قد جاء ذكر «ستيو»
أيضًا،١٦ حيث يقال إن «تحتمس الأوَّل» في حملته على أهل الجنوب هزم
أمراء «ستيو».
(٤)
نحسيو: ونجد اسم «نحس» أو «نحسي» الذي
جمع على «نحسيو» مستعملًا أكثر من اسم «ستيو» ويقصد به سكان
الجنوب،١٧ واسم «نحسيو» كان يترجم إلى زمن قريب بكلمة «زنجي» ومن ثَمَّ
اسْتُنْبِطَ أن بلاد النوبة كانت في العهد القديم مسكونة بقوم من الزنوج
غير أن الكشوف الحديثة في بلاد النوبة برهنت على أن سكان هذه البلاد وهم
الممثلون للمجموعتين الثقافيتين A & B
وكذلك المجموعة الثقافية C، وهي التي وفد
أهلها فيما بعدُ إلى بلاد النوبة لم يكونوا بأية حال زنوجًا بل هم من أصل
حامي وقد اختلط دمُهم بعض الشيء بالدم الزنجي. وقد أثبت الأستاذ «ينكر» بعد
البحث المسبب أنه لم يوجد حتى عهد الدولة الحديثة في الرسوم المصرية صورة
«زنجي» وأن اسم «نحسيو» لا يطلق فقط على أهل النوبة سكان وادي النيل من
«أسوان» حتى السودان وحسب، بل كذلك يشمل سكان بلاد «بُنت».١٨ وعندما دخل الزنوج للمرة الأولى بلاد النوبة حوالي بداية
الأسرة الثامنة عشرة واستوطنوها كانوا لذلك يُسَمَّوْنَ «نحسيو»؛ وعلى ذلك
نجد أن كلمة «نحسيو» قد أخذت شيئًا فشيئًا تحمل المعنى الخاص بالزنوج، ومنذ
الأسرة الثامنة عشرة ذُكِرَتْ بلاد «نحسيو» وأُطْلِقَتْ على أرض الزنوج،
ومن ثَمَّ ظهر في المناظر التي من عهد متأخر أجناس العالم الأربعة كما وجدت
منقوشة في مقبرة «سيتي الأوَّل»١٩ فكان «النحسيو» يُمَثَّلُونَ ببشرة سوداء وشعر مجعد بجانب
«العامو» (أي السامي) و«التمحو» (اللوبي» و«رمث» المصري (ومعنى الكلمة
الأخيرة هو الناس إذ كان المصري يعتبر أن الناس هم المصريون وسائر العالم
همج).
(٥)
«أونوت»: وكذلك يوجد بجانب الاسمين
«ستيو» و«نحسي» اسم آخر يُعَدُّ أقدم الأسماء بكونه نعتًا لأرض الجنوب
وأعني بذلك كلمة «أونوت». وقد وُجِدَ هذا النعت في كثير من النقوش
التاريخية منذ عهد الأسرة الثامنة عشرة مستعملًا صفة لاسم «ستيو» أو مضافًا
لكلمة «ستي» أو «تاستي». فيقال «ستيو-أونوت» أي نوبيو «أونوت». وقد جرت
التقاليد على أن يترجم اسم قوم «أونوت» بكلمة «تروجلوديت» Troglodite (أي سكان الكهوف)، أي إن
هؤلاء «الأونوت» هم قوم كانوا يسكنون الجنوب الشرقي من الصحراء بين النيل
والبحر الأحمر، ويقول عنهم «زيته»٢٠ إنهم يمثلون أهل قبيلة «مجا» أو «مزا» (المزاوي) الذين يسكنون
الصحراء بين النيل والبحر الأحمر ويفدون إلى وادي النيل. والواقع أن اسم
هؤلاء القوم يمثل قبيلة «مجا» وواضع هذا التفسير هو الأثري «بركش»، غير أن
تفسيره اللغوي لكلمة «أونوت» لا يتفق مع المعلومات الحديثة في هذا الصدد،
إذ قد اشتق «بروكش» كلمة «أن» التي تعني عمودًا أو دهليزًا من أصل الحجر
الذي عُمِلَ منه العمود وربطها بكلمة أرض جبلية أو مكان فيه حجارة، وعلى
ذلك تكوين كلمة «آن» أو «أنتى» معناها ساكن الجبل أو إنسان يسكن الكهف أي
«تروجلوديت» مثل هؤلاء القوم الذين يسكنون بين البحر الأحمر ووادي النيل،
غير أن المعنى الحقيقي لكلمة «أونوت» على حسب قول «زيته»٢١ هو في الأصل قبيلة بدوية (ويقول «جاردنر٢٢ أن عبارة «أونتي-ستي» مأخوذة من كلمة «أونت» التي تعني قوسًا،
وتعني الرامي من القوس)، ويظن «زيته» أن اسم قوم «أونوت» مشتق في الأصل من
الكلمة المؤنثة المفردة «أونت»، وأصبح إذن اسم الفرد المنسوب إلى هذه
القبيلة يسمى «أونتي». وهذا الاسم كان في الأصل يطلقه المصري القديم على
قبائل مختلفة تسكن الصحراء الشرقية، وقد أصاب «زيته» عندما أطلقه على القوم
الساميين الذين يسكنون شبه جزيرة سينا كما أطلقه كذلك على العرب الرُّحَّلِ
الذين يسكنون صحراء العرب بين النيل والبحر الأحمر وهما العبابدة الحاليون.
وكذلك بدو بلاد النوبة. ولدينا أمثلة كثيرة على ذلك.٢٣
والأمثلة التي جاء فيها لفظ «أونوت» وتعني سكان الصحراء الشرقية ترجع إلى عهد الأسرة
الأولى حتى الأسرة الثامنة عشرة.
ويمكننا بعد درس هذه الأمثلة أن نستخلص باختصار ما يأتي:
في استطاعتنا أن نفهم أنه كان في الأصل ينضوي تحت لواء هذا الاسم القبائل التي لم
تكن
مصرية المنبت والعشائرُ التي تقطن شبه جزيرة سينا، وكذلك التي كانت تسكن الصحراء
الشرقية تجاه الوجه القبلي، والتي تحتل بلاد النوبة ويحتمل كذلك الصحراء النوبية. ولكن
نجد في عهد الدولة الوسطى أن هذا اللفظ قد حُدِّدَ معناه. ومنذ الدولة الحديثة كان
يُوَضَّحُ معناه بكلمة «نوبي»، وكانت الكلمة تُطْلَقُ بوجه خاص على الأجانب الذين ليسوا
مصريين ويسكنون وادي النيل النوبي في الأراضي «ستي» و«خنت-حن-نفر». وقد دلت الحفائر
الحديثة التي عملت في هذه الرقعة من الأرض على أن سكانها كانوا حاميي الجنس ولهم ثقافة
خاصة بهم وهي التي تمثل ثقافة مجموعة C. وعلى ذلك يجب
ألَّا نفهم أن «أونوت» الدولة الوسطى أو «أونوت» النوبيين التابعيين للأسرة الثامنة
عشرة مثل النوبيين القاطنين في وادي النيل. والواقع أن نوبي هذا العهد ليسوا من البدو،
وذلك عندما نعلم أن المقصود أنهم قبائل غير متوطنين. ومن باب أولى لا نفهم على هذا
الزعم أنهم «الترو جلوديت» الذين ليس لهم بهم أقل علاقة.
نعود بعد هذا العرض لأسماء بلاد النوبة المختلفة إلى ثقافة مجموعة
C.
الأماكن التي وجدت فيها آثار ثقافة مجموعة
C.
جمع المعلومات التي كشفت عنها البعوث المختلفة في جَبَّانَاتِ مجموعة
C الأستاذ «ينكر» في كتابه المسمى «كوبانيه
الشمالية»٢٤ وبحثها. وجبانات هذا العهد كبيرة والمقابر كلها من العهد النوبي المتوسط
وتشمل الجبانة رقم ٨٧ في بلدة «كشتمنه»٢٥ والجبانات رقم ١٠١–١٠٣ في «الدكة» والجبانة رقم ١١٨ في «قرته غرب» وتشمل
مقابر من عصر مجموعة C المبكر٢٦ وفي «عنيبة» و«فرص».
ومقابر هؤلاء القوم مستديرة في شكلها الخارجي وجزؤها الأعلى كان مبنيًّا بالحجر ويغطي
المبنى الْمُقَامَ فوقها رمال الصحراء. والجزء الأسفل منها حفرة موضوعة في الجهة
الشرقية الغربية. وقد وُضِعَ الْمُتَوَفَّى فيها مضطجعًا القرفصاء على الجانب الأيمن
ووجهه متجه نحو الشمال وذراعاه وساقاه مغطاة بالملابس، ولكن وجد أن هذا الوضع لجسم
الْمُتَوَفَّى لم يَدُمْ الحرص عليه، فنجد هناك حفرًا غالبًا ما يكون اتجاهها من الجنوب
للشمال فيتغير وضع الجثة تبعًا لذلك.
أما الأثاث الذي يوضع مع الْمُتَوَفَّى فكان يوجد في الجانب الخارجي من البناء الذي
فوق حفرة الدفن في الجهة الشرقية أو في الشمال الشرقي عادة، ويحتوي على أوانٍ من الفخار
الأحمر ذي الفوهة السوداء وفخار أحمر حافته محزوزة وأطباق عليها حزوز بيضاء تذكرنا
بالأطباق المصرية التي ترجع إلى عهد ما قبل التاريخ، وبالأطباق النوبية التي من مجموعة
A الثقافية، غير أنها من حيث الصناعة والنماذج
تختلف عنها اختلافًا بينًا. وكذلك وُجِدَ فخار بدائي الصنع محزوز وغير محزوز. كما وجدت
جرار حبوب وأوعية للمؤن وقعاب صغيرة من الفخار الصلب المصقول ذي اللون الأبيض المائل
للخضرة. وهذه الأواني هي التي يُطْلَقُ عليها الأواني القناوية وقد وجدت في المقابر
القديمة من مجموعة C بعدد قليل، ومعظمها وُجِدَ في
العصر النوبي المتوسط.
وبدأت أوَّلًا عادة وضع الأواني الفخارية مع الْمُتَوَفَّى في حجرة الدفن أو الحفرة
في فترة متأخرة من هذا العهد الذي يتحدث عنه. وقد ظهر بدلًا من الأطباق التي كانت
تُوضَعُ فيها مواد التجميل صحاف مفرطحة معظمها من فخار النيل، وقد وُجِدَ فيها كشف عنه
من هذه الصحاف بقايا مادة الكحل. أما الأواني المصنوعة من الحجر فقليلة جدًّا.
هذا ووجدت كذلك مرايا من النحاس وحلي مؤلف من عقود مصنوعة من الخرز من أنواع مختلفة
وأسورة حرخلاخيل وأسورة معصم مصنوعة من مواد مختلفة وحلي عظيم كالأقراط ومشابك الشعر
المصنوعة من الأصداف.
وتدل شواهد الأحوال على أنه إذا كانت بداية العهد النوبي المتوسط الذي يماثل ثقافة
مجموعة C هي الأسرة السادسة فإن نهاية هذا العهد كانت
في باكورة الأسرة الثامنة عشرة. وعلى ذلك تكون فترة هذه الثقافة حوالي ثمانية قرون من
الزمن. والمفهوم أن هذه الثقافة لم تقف جامدة طوال هذه الفترة الطويلة بل لا بد قد حدثت
فيها تغييرات، ولكنها تغييرات ليست مُحَسَّةً بالنسبة لقوم بدائيين كالنوبيين. وذلك على
العكس مما وجدناه جاريًا من تغيرات في الثقافة العالية التي كانت منتشرة في وادي النيل
في مصر منذ توحيد البلاد.
وقد أشار الأثري «فرث»٢٧ إلى الاختلافات التي توجد في مختلف جبانات «الدكة» الخاصة بالمجموعة
الثقافية C. وقد أثبت بحق وجود مميزات في إقامة المقابر
تدل على أنها صُنِعَتْ في أزمان قديمة متأخرة عن سابقتها وبخاصة ظهور المقابر
الْمُقَبَّبَةِ والمزارات الْمُقَامَةِ من اللَّبِنَاتِ، هذا بالإضافة إلى اتجاه
المقابر نحو الشمال بدلًا من الغرب ووجود أوانٍ بها حزوز مملوءة بألوان مختلفة.
ويمكن تقسيم مدة هذه الثقافة على حسب الآثار التي عُثِرَ عليها في «عنيبة» أربعة
أقسام تاريخية منفصل بعضها عن بعض، وإن كانت أحيانًا تتداخل وهي:
(١) الثقافة النوبية المتوسطة رقم (أ): وتمثل العهد
القديم الذي يبتدئ حوالي الأسرة السادسة والعهد المتوسط الأوَّل المصري. والآثار التي
تمثل هذا العهد عُثِرَ عليها في أجزاء جَبَّانَاتِ «الدكة» و«عنيبة» و«فرص»، ولكن في
«عنيبة» على وجه التأكيد، وتمتاز مقابر هذا العصر بأن مبانيها العلوية التي على سطح
الأرض مقامة من الحجر الجيري الأبيض المتماسك الحبات فوق حفرة صغيرة مستديرة الشكل. هذا
وقد وُجِدَتْ أحجار على هيئة لوحات كانت تقام بغير تنسيق في الجبانة.
أما الأثاث الجنازي فكان يحتوي على أوانٍ من الفخار حمر وسود وكذلك على أوان محزوزة
من الأشكال والنماذج القديمة، وعلى أوانٍ ملوَّنة باللون الأحمر.٢٨ ومن جهة أخرى نجد أن الفخار النوبي الخشن الصنع٢٩ معدوم، وكذلك الفخار القناوي (جرار الحبوب وما أشبه ذلك) لا يوجد إلا في
حالات فردية.٣٠ ووجدت المرايا المصنوعة من النحاس في يد الْمُتَوَفَّى اليمنى عادة أمام
الوجه، هذا إلى وجود أوانٍ من الحجر لطحن الكحل، ولم يُعْثَرْ على المحار الخاص بحفظ
مواد الزينة إلا قليلًا. ووُجِدَ عدد عظيم من الحلي مُؤَلَّفٌ من قلائد من الخرز بخاصة
لأن الأنواع المحببة كانت هي الخرز والعقود المصنوعة من الصوان ذي اللونين الأسود
والأبيض معًا والقلائد المصنوعة من الكرنالين والتعاويذ المصنوعة من الخرز والأختام
التي على هيئة أزرار.
(١٨) اقرن: L.D., III, p. 163. حيث
نجد عبارة نحسيو بنت وكذلك راجع: Junker, Das Erste
Auftreten der Neger in der Geschichte (Almanach der Akademie
d. Wissinschaft Wien 1925)