علاقة مصر ببلاد النوبة في عهد الدولة الوسطى
ومما لا شك فيه أن فتح بلاد السودان لم يحتجْ إلى مخاطر كبيرة، فقد كانت بلاد النوبة مقسمة إلى ممالك صغيرة كما كانت الحال في باكورة القرن الماضي عندما قامت قوة مؤلفة من مئتي مملوك طردهم «محمد علي» من مصر فساروا دون أية مشقة إلى مديرية «دنقلة» وفتحوها وقبضوا على زمام الأمور فيها عدة سنين. وفي عام ١٨٢٠م قام إبراهيم باشا على رأس حملة مؤلَّفة من أربعة آلاف مقاتل ففتح كل السودان واستولى عليه. على أن فتح بلاد مثل السودان التي تعد بلاد طرق للوصول إلى أجزائها المختلفة كان يحتاج إلى الاستعانة بحامية كافية لضمان طرق القوافل والحملات التي تحمل الجزية للحكومة. وبإقامة الحاميات في أنحاء بلاد النوبة أصبحت طرق التجارة بوساطة النهر والطرق المحاذية له هي التي تسير فيها التجارة آمنة. وقد دلت النقوش التي من عهد الدولة الوسطى كما كان المنتظر على أن النقل بطريق الماء كان مستعملًا كثيرًا، وبخاصة في الحملات الكبيرة، وكان النهر محميًّا من خطر الغارات بسلسلة من الحصون نعرف منها اثني عشر حصنًا بالاسم، تمتد من سمنة العليا حتى جزيرة «بجة» (أسوان).
والمقدمات المتعلقة باحتلال الدولة الوسطى لبلاد السودان لا بد من الإدلاء بها هنا لأنها تشير مباشرة إلى الأحوال التي اقتضت تأسيس مستعمرة «كرمة» (جدار أمنمحات)، والنقوش التي عُثِرَ عليها مدوَّنة على صخور بلاد النوبة السفلى وعلى اللوحات التي من «الجبلين» التي تشير إلى العصر الذي قبل الأسرة الثانية عشرة وسنتحدث عنها فيما يلي كل على حسب مناسبته في الكلام.
(١) الأسرة الحادية عشرة
وبعد أن قضى ملوك هذه الأسرة على كل مقاومة في داخل البلاد وأصبحت مصر من جديد موحدة الكلمة أخذت تنهج سياسة نشاط وتوسُّع في الخارج، ولدينا وثائق أثرية خاصة بتوسع مصر في بلاد النوبة وغيرها، وتدل شواهد الأحوال على أن سياسة التوسع هذه كانت قد بدأت تظهر منذ العهد المبكر من تاريخ الأسرة الحادية عشرة. فمن بين هذه الآثار منظر عثر عليه في «تل الشيخ موسى» في «الجبلين» على مسافة بضعة أميال من «أرمنت» إذ أقيم معبد صغير احتفالًا بإقامة باب عظيم لمعبد ما محلي لإظهار الفرح بإحدى انتصارات الملك «منتوحتب الثاني».
والنقش الثاني مهشم تمامًا ولا يمكن أن يقرأ منه الإنسان إلا بعض ألفاظ منها «سافر جنوبًا … وعاد إلى الجنوب مع الناس».
والنقش الثالث هشمت بداية أسطره ولم يمكن فهم محتوياته وجاء فيه ذكر بلاد تدعى «معا» وبدو الرمال و(؟) وبلاد «واوات». هذا وأشير فيه إلى حرب كما أشير فيه إلى أن «ثماو» سافر نحو الشمال. وفضلًا عن ذلك يُحتمل أنه ذكر فيه الاستيلاء على مقاطعة، وكذلك جاء ذكر ابن الملك وجيشه الذي أحضره.
والنقش الرابع في حالة لا بأس بها وجاء فيه: «لقد انحدرت في النهر إلى جهة «طيبة» ووجدت الناس على الشاطئ واقفين وقد ظنوا أنهم سيقومون بحرب؟ وهربوا أمامي …».
أما النقوش من رقم خمسة إلى سبعة فلم يَبْقَ منها إلا القليل وهي غير مفهومة.
ومن الطبيعي أنه لا يمكننا أن نصل إلى صورة مفهومة من المتون السبعة السابقة ومن الجائز أن المقصود من النقشين الأول والرابع وهما اللذان يمكن أن نقرأ منهما شيئًا ما يأتي: كان في قبضة «ثماو» جنود مساعدون من النوبيين يشن بهم حربًا للملك «منتوحتب» على بلاد «زاتي» التي يُحتمل أن تكون هي بلاد «زاهي» في آسيا، وبعد اعتلاء الملك العرش سافر إلى «طيبة» يتبعه نوبي كان ذا شهرة حتى إن اسمه لم يُذكر. وقد عاد هذا النوبي إلى «طيبة» ثم عاد إلى وطنه. وعندما وصل «ثماو» مع جيشه من الجنود المرتزِقة إلى «طيبة» فزع الأهالي الذين كانوا واقفين على الشاطئ وظنوا أنه عدوٌّ فَوَلَّوُا الأدبار أمام «ثماو» هذا.
هذا ما يمكن فهمه، على أننا لسنا واثقين من أن هذا المعني هو الحقيقي، وقد فهم الأستاذ «ريدر» هذا المتن بصورة أخرى إذ يقول إن المتن يقص علينا أن «نب حبت رع» ليس موحدًا مع الملك بل كان تابعًا له، أي كان يُعْتَبَرُ ولي عهد، ولكن استنباط «ريدر» جاء من سوء فهم المتن.
ومن هذا النقش نفهم كما فهمنا من نقش «ثماو» السابق أنه كانت توجد بين مصر وبلاد النوبة علاقة ولكن بصورة مبهمة.
ولا نزاع في أن الحروب الداخلية التي نشبت في نهاية الأسرة الحادية عشرة قد أودت بها إلى الدمار كما فصَّلنا القول في ذلك في الجزء الثالث من مصر القديمة ص ١٤٠–١٤٨.
(٢) فتح مصر لبلاد النوبة على يد ملوك الأسرة الثانية عشرة
الملك أمنمحات الأوَّل وحملاته في بلاد النوبة (٢٠٠٠–١٩٧٠ق.م.).
وليس لدينا مصادر كثيرة تحدثنا عن علاقة «أمنمحات الأول» السياسية ببلاد النوبة، ولذلك أصبح من الصعب علينا حتى الآن أن نحدد على وجه التأكيد التغييرات التي طرأت في عصره على علاقاته بهذه البلاد. وسنذكر أهمَّ هذه المصادر فيما يلي:
ولا نزاع في أن العثور ثانية على المحاجر النوبية الواقعة في الصحراء في الجهة الشمالية الغربية من بلدة «توشكى» وقطع الأحجار منها وإرسالها عن طريق النيل في السفن إلى مصر يدل دلالة واضحة على أن الحكومة المصرية كان لها سلطان عظيم على سكان بلاد النوبة في تلك الفترة؛ وذلك لأن المصري كان عندما يقابل صعوبات في بلاد النوبة السفلى من هذه الناحية يرسل الأحجار عن طريق الصحراء مباشرة إلى «أسوان».
ويدل نقش «كرسكو» الذي يقول: «لقد أتينا إلى «واوات» لنقهرها» على أن العلاقات بين البلدين لم تكن علاقات ودٍّ ومصافاة، بل كانت هناك حرب مع النوبيين كما نوَّه «أمنمحات» إلى ذلك في تعاليمه، وفضلًا عن ذلك نعلم أن خلف «أمنمحات الأول» وهو «سنوسرت الأول» قد سار على رأس حملة لاحتلال بلاد النوبة. وقد كان همُّ المصري في بلاد النوبة منحصرًا في استغلال موادها الغفل وبخاصة مناجم الذهب التي كانت تزخر بها تلك الجهات، وكان على المصري للحصول على ذلك إما أن يستغل النوبي بطريقة منظمة فيستولي على ما لديه من مواد غفل باعتبارها ضريبة يدفعها له أو كان يعمل بالتعاون معه لاستخراجها أو على الأقل كان لا يمنع من الحصول على هذه المنتجات.
سنوسرت الأوَّل وبلاد النوبة (١٩٨٠–١٩٣٦ق.م.)
محاجر صحراء النوبة الغربية:
يظهر أن أول من ممَّر محاجر صحراء النوبة الغربية في عهد الدولة الوسطى هو الملك «سنوسرت الأول». وقد كُشِفَ عن موقع هذه المحاجر حديثًا، وتقع على مسافة ٦٥ كيلو مترًا في الشمال الغربي من «أبو سمبل» أي على خط عرض ٢٢/٤٩ شمالًا وخط طول ٣١/١٦ شرقًا. وقد جاء كشفها عن غير قصد، فلقد كان رجال من شرطة الجيش المصري يمرون في هذا المكان، فلفت نظرهم قطعتان من الحجر عليهما نقوش ظهر أنها تحمل ألقاب بعض ملوك الدولة القديمة ومن بينها اسم الفرعون «زد فرع». وقد عثر في هذه المحاجر على حجر الديوريت الجميل الذي كان يستعمله «خفرع» لصنع تماثيله العظيمة، وقد كان مصدر هذا الحجر مجهولًا حتى كُشِفَ عنه كما ذكرنا، وكذلك عُثِرَ على أنواع أخرى من الحجر الصلب في هذه البقعة، مثل الجرانيت الوردي ذي الحبات الدقيقة وحجر الكوارتسيت الأبيض القاتم.
وقد عُثِرَ في هذا المكان على لوحة من الحجر الرملي الأسمر نُقِشَ عليها طُغْرَاءُ كل من «أمنمحات الأول» وابنه «سنوسرت الأول».
بعوثه إلى وادي الهودي:
- (١) نص لوحة «منتوحتب»: السنة العشرون في حكم جلالة الصقر «الملك»، ملك الوجه القبلي
والبحري «خبر كارع» بن «رع» «سنوسرت» حور العائش أبديًّا خادمه
الحقيقي وعزيزه الذي يفعل كل ما يمدحه دائما وكل يوم، أعظم عشرة
الجنوب، الذي يمثل «ماعت» (العدالة). «منتوحتب» بن «حننو» بن
«بيبي» يقول: أرسلني سيدي له الحياة والصحة والسلامة لأحضر الجمشت
من أرض النوبة، واستوليت من جديد على الأماكن التي كنت قد عملتها،
وقد أحضرت منه كثيرًا جدًّا من منجم الأحجار التي من الجمشت، ولقد
كانت قوة رب القصر وامتيازه هما اللذان رعياني، ولرهبته انحنى أهل
الأراضي الأجنبية، وسيفه يُخضع كل الأراضي ليشتغلوا له، وأُعطي (أي
الملك) الصحراء فيها بأمر «منتو» ساكن «أيون» (أرمنت) و«آمون» رب
تيجان الأرضيين ليبقى خالدًا.
وقد عاد «منتوحتب» هذا مرة أخرى في العام الرابع والعشرين من حكم هذا الفرعون، فكتب على نفس اللوحة ما يأتي: السنة الخامسة والعشرون من حكم جلالة «حور» (المسمى)، حياة المواليد، وصاحب الإلهتين، (المسمى) حياة المواليد، ملك الوجه القبلي والبحري (المسمى) «خبر كارع» (روح «رع» تأتي إلى الحياة) ابن «رع» (المسمى) «سنوسرت» الإله الطيب رب الأرضيين الحي إلى الأبد، العودة لمتابعة (استخراج) الجمشت إنه خادم سيده ومحبوبه إلخ.
- (٢) لوحة قائد الجيش «أنتف»: وفي نفس السنة العشرين ترك لنا قائد الجيش «أنتف» لوحة لم يكمل كتابتها وقد جاء فيها: «السنة العشرون من حكم «حور» حياة المواليد، الإله الطيب، رب الأرضين، ملك الوجه القبلي والبحري «خبر كارع» عاش مثل «رع» مخلدًا. حامل الخاتم وقائد الجيش «أنتف» خادمه الذي يثق فيه، والذي يفعل كل ما يرضيه، وعشت خاليًا من الذنب «أنتف» المبرأ».
- (٣) لوحة رئيس الخزانة «أنتف إقر»: وكذلك ترك لنا لوحة من الجرانيت الأسود رئيس الخزانة غير أن
نقوشها متآكلة، وقد جاء عليها: «السنة العشرون رئيس الخزانة ووكيل
حامل الخاتم «وني» عملت «هذه اللوحة» لقائد جيشه الذي يعمل كل ما
يرضيه دائمًا، وكل يوم، حاكم المدينة (طيبة) والوزير، وكاتم أسرار
بيوت الفرعون «أنتف إقر» له الحياة والصحة والسلامة، لقد أرسلني
لأحضر الجمشت والذهب … وقد أحضرت منها (الكثير جدًّا) …».
وفي السنة الواحدة والعشرين ترك لنا «منتونسو» لوحة من الجرانيت منقوشة نقشًا جميلًا جاء فيها: السنة الواحدة والعشرون من حكم جلالة «حور» حياة المواليد الإله الطيب «سنوسرت» الحي الخالد. إنه خادمه وموضع ثقته بحق الذي يفعل كل ما يرضيه دائمًا وكل يوم. لقد تبع خطوات سيده في الطرق المعبدة التي أحسن صنعها الخادم «منتونسو» بن «حتبي» بن «آدن» وفي نهاية اللوحة نجد رسم الملك.
فهل هذا يُشعر بأن الفرعون نفسه قد زار هذه المناجم؟ وهذه اللوحة محفوظة الآن بمتحف «أسوان».
- (٤) وفي السنة الثانية والعشرين ترك شخصان لوحتين من الجرانيت: أولهما يُدعى «سنوسرت» بن «وني» وقد جاء عليها ما يأتي: «السنة الثانية والعشرون، الخروج لإحضار الجمشت لحور (أي الملك) حياة المواليد الإله الطيب ابن «رع» ملك الوجهين القبلي والبحري «خبر كارع» بن «رع»، «سنوسرت» عاش أبد الآبدين خادمه «سنوسرت» ابن «وني»، مما يدل على أن خادمه كان معه في الرحلة. أما اللوحة الثانية فهي لشخص يُدعى «سبك» بن … وقد نقش عليها ما يأتي: «السنة الثانية والعشرون، ملك الوجهين القبلي والبحري «خبر كارع» بن «رع»، «سنوسرت» معطي الحياة مثل «رع» مخلدًا «سبك» بن … الممدوح … نزل في سلام».
- (٥) وفي السنة الرابعة والعشرين قامت حملة خامسة يقول فيها قائدها: «إنه تابع البحث عن الجمشت» والظاهر أن كاتب اللوحة قد كتبها على عجل إذ نقش اسم «سنوسرت» بدون طُغْرَاءَ.
- (٦) ولدينا لوحة من السنة الثامنة والعشرين باسم «وسدي»: ويلقب رئيس القوم، ولم يُذكر فيها شيء غير الألقاب الفرعونية والصيغ المعتادة في إخلاصه للفرعون، وكان معه خادمه المخلص الذي يثق فيه «حرور» قاطع الأحجار.
أما في السنة التاسعة والعشرين فقد وُجِدَ على ما يظهر لوحتان من عهده: الأولى أقامها موظف يدعي «حننو» وهي من الحجر الرملي وقد جاء عليها ما يأتي: في السنة التاسعة والعشرين خرج إلى هذه البلاد أعظم عشرة الوجه القبلي «حننو» ليته يعيش ويقوى ويصح. (ومعه) خادمه الأمين الذي يعمل كل ما يمدحه (سيده) في خلال كل نهار المسمى «سنب حا أشتف».
أما اللوحة الثانية فصاحبها كذلك «حننو» بن «منتوحتب» وهو نفس الموظف صاحب اللوحة السابقة وقد جاء عليها ما يأتي: «السنة التاسعة والثلاثون أعظم عشرة الوجه القبلي «حننو» بن «منتوحتب» ليته يعيش ويقوى ويصح (ومعه) خادمه الأمين الذي يعمل كل ما يمدحه (سيده) كل يوم «شمسو سعنخ». ومن ذلك نعلم أن اللوحتين قد عُمِلَتَا للموظف «حننو» ومعه خادماه أي إن الثلاثة كانوا قد ذهبوا سويًّا إلى هذه المناجم.
ملك الوجه القبيل والوجه البحري. «خبر كارع» الذي يحب «حور النوبة»، والذي يمدح السيدة التي على رأس النوبة معطي الحياة والثبات والصحة مثل «رع» مخلدًا.
وهو يقول: إني إنسان أرضيت قلب الملك في المعبد وإني فم «نخن» في معبد «ساتيس» ونخبت في معبد «بوتو» (معبد النار) والرئيس الأعلى للكهنة الجنازيين وحامل خاتم ملك الوجه البحري والسمير الوحيد، وكاتم سر الملك في الجيش، والذي يسمع ما يسمعه الواحد فقط، والذي يأتي إليه كل الأرض (أي كل واحد) إلى المكان الذي خضع فيه أعداء الملك. والواحد الذي يدخل في قلب الملك (ثقته) …
وإني إنسان حملت الخاتم الملكي في كل الأحوال الخاصة ببلاد «كوش» (؟) (وفي رواية أخرى كل البلاد الأجنبية) للزوجة الملكية والذي يقدم التقارير عن الضرائب من بلاد «مزا» (بجا) بوصفها جزية من أمراء البلاد الأجنبية. والذي يسهر الليل داخل المعبد في يوم العيد الكبير، والذي يتسلم الهدايا التي تحتوي على أحسن الأشياء الثمينة التي يقدمها الملك في قصره. والرئيس الأعلى للأعياد الثلاثينية في قارب الإله بوساطة كل الأعمال المدهشة (أي المحاصيل المدهشة) للنوبيين من «الشلال» وأمين القوم على الميناء وأعظم المشرفين على سفن بيت الملك، والذي يدير بَيْتَيِ المال بنظام والرئيس على بقاع «تاستي» (النوبة) والذي تحت إدارته من يبحر ومن يرسو.
والحاكم ورئيس الكهنة «سرنبوت» يقول: لقد أقمت قبري بحظوة الملك «خبر كارع». ولقد رفعني الملك في الأرض وكذلك كنت أعلى قدرًا من أمراء المقاطعات، ولقد غيرت (؟) قوانين الأزمان القديمة. ولقد رُفِعْتُ إلى السماء في لحظة عين (أي رُفِعْتُ إلى مرتبة عليا في لحظة عين). وعُيِّنْتُ صناع أحجار لعمل مقبرتي وقد مدحني جلالته لذلك كثيرًا جدًّا ومرات يخطئها العد في حضرة رجال البلاط والملكة. وقد جهزها بأثاث من القصر وزينها بكل ما يلزم وملأها بالحلي وأمدَّها بقربان الخبز وجهزها بكل ما كان صالحًا لها. ولم يكن ينقصني شيء مما يلزمني من الأشياء التي من بيت المال … وسمح لي جلالته أن أذهب (حرًّا) مثل كل موظف في مقر الملك (هل يعني أنه لم يكن مقيدًا بالبقاء في «إلفنتين» طوال الوقت؟) وكنت رجلًا يؤدي خدمات بجانب سيده وإنسانًا رفعته مميزاته».
يقول: «كنت رجلًا مستقيمًا في الحضرة الملكية، خاليًا من المين، وكنت ذكيًّا عندما يرسلني (في مأمورية). ولقد كنت ثاني اثنين وثالث ثلاثة في هذه الأرض، وكنت أعمل المديح كثيرًا جدًّا وكنت مملوءًا بالثناء حتى يعوز حنجرتي الهواء، وقد هللت عندما رُفِعْتُ إلى السماء ووصل رأسي إلى القبة الزرقاء. وقد كشطت أجسام النجوم وباشرت التهليل عندما لمعت كالنجم ورقصت مع الكواكب. وكانت مدينتي في عيد، وهلَّل رجالي وسمعت الناس ذلك الرقص …، والمسنون والأطفال كانوا في سرور. والآلهة الذين في «إلفنتين» قد أطالوا لي مدة بقاء جلالته ملكًا، فقد وَلَدُوا جلالته من جديد من أجلي حتى يكرر لي ملايين الأعياد الثلاثينية. وقد منحوه الأبدية بوصفه ملكًا حتى يبقى على عرش حور من جديد (؟) كما أحب، وكنت خادمه القريب من قلبه مؤديًا ما يحبه سيده، الأمير والمشرف على الكهنة «سرنبوت».
ويقول: «لقد حضرت من مدينتي ونزلت إلى مقاطعتي وعملت ما يحبه قومي وما يمدحه كل الآلهة».
والواقع أن الألفاظ المنمقة التي حاك بها قصة تاريخ حياته لا يمكننا منها الحكم تمامًا عليه واستنباط الحقائق التي قد اختفت وراء هذه التعابير البراقة، ومع ذلك تدل شواهد الأحوال على أنه على ما يظهر كان المؤسس لأسرته، وأن الفضل يرجع للملك «سنوسرت الأول» في تنصيبه في هذا المنصب الخطير، ولذلك لم نجده يحاول إخفاء ما حباه الملك به من فضل وإنهام. ومن ثَمَّ يجب علينا ألَّا نستخلص من فخامة مقابر أمراء هذا العصر أنهم كانوا على جانب عظيم من الأهمية بوصفهم حكامًا محليين مستقلين، بل على العكس تدلنا على خضوعهم لحكم أسرة قوية السلطان، وما كان يتبع ذلك من تقدم مادي.
الحملة الكبرى التي أرسلها «سنوسرت الأوَّل» لفتح بلاد النوبة العليا:
عهد «أمنمحات الثاني» حين اشتراكه مع «سنوسرت الأوَّل»:
ونجد في العهد الأخير من حكم «سنوسرت الأوَّل» عندما كان مشتركًا معه ابنه «أمنمحات الثاني» في الحكم سلسلة نقوش على الصخور في بلاد النوبة السفلى.
حملات «سنوسرت» للبحث عن الذهب:٥٥
والواقع أن «أميني» قد ذكر لنا حملتين إلى بلاد النوبة كان الغرض منهما الحصول على الذهب. فقد قاد «أميني» حملة متأخرة إلى صحراء «قفط» (وكان قد مات في السنة الثالثة والأربعين من حكم «سنوسرت الأوَّل»)، وعلى ذلك لا ينبغي ألَّا نُؤَرِّخَ هذه الحملة بالسنين الأخيرة من حكم «سنوسرت الأوَّل»، هذا إلى أن ولي العهد أي «أمنمحات الثاني» كان قد رافقه في هذه الحملة.
ووصف هذه الحملة مُختصَر وليس مؤرَّخًا. فاستمع لما جاء فيه: «لقد سرت نحو الجنوب لأحضر التبر لجلالة «سنوسرت الأوَّل» العائش أبديًّا. وقد سرت إلى الجنوب مع الأمراء وولي العهد بكر أولاد الملك المحبوب «أميني» له الحياة والعافية والصحة. وسرت إلى الجنوب مع جمع يبلغ أربع مئة من خيرة رجال الجيش، وعدنا إلى الوطن سالمين دون أن يُفْقَدَ واحد منا، وقد أحضرت الذهب الذي كلفت به، وقد مُدِحْتُ من أجل ذلك في بيت الملك وشكرني ابن الملك».
ويدل عدد الجنود الذين رافقوا «أميني» على أنه لم يكن هناك ما يدعو إلى نشوب حرب بل كان لمجرد البحث عن مناجم الذهب التي بدأت تظهر في بلاد النوبة. والظاهر أن وادي النيل النوبي في ذلك الوقت قد سادته السكينة بعد الحروب الأولى، وأن المصريين قد أخذوا العدة لأنفسهم وأقاموا الحاميات في أنحاء طرقهم، ومع ذلك فقد اتخذ قائدنا لنفسه الحيطة خوفًا من قطاع الطرق من البدو الذين كانوا يتجمعون في الصحراء.
وهذا المتن يؤكد لنا ما تحدث به «أميني» في نقشه، ويضيف لنا تفاصيل أخرى عن استخراج الذهب، كما ذكر لنا استخراج الفيروزج من بلاد النوبة.
وقد أرسل «أمنمحات الثاني» بعوثًا إلى «وادي الهودي» وقد وصلت إلينا لوحة من عهده غير مُؤَرَّخَةٍ أقامها رئيس البعثة المسمى «سنيبو» ويحمل لقب رئيس الخزانة ونُقِشَ عليها ما يأتي: «ملك الوجه القبلي والوجه البحري «خع كاورع» عاش أبد الآبدين محبوب «حنحور» سيدة الجمشت (حسمن). قريب الملك الحقيقي ومحبوبه وساكن قلبه رئيس الخزانة، وهو الذي وضعته «سبك رع» ورب الاحترام والذي استولى على قلب الملك باختراق الصحاري (في البعثة) التي قام بها لسيده بتفوق «سنيبو» رب الاحترام».
وقد ظل السلام مخيمًا في عهد كل من الفرعونين «أمنمحات الثاني» و«سنوسرت الثاني» على بلاد النوبة ومصر وازدهرت التجارة فيه ازدهارًا عظيمًا، ولكن ما لبث هذا السلام أن أعقبه اضطرابات وهجمات على القوافل في السنة الثامنة من عهد «سنوسرت الثالث» لأنه في هذه السنة قام هذا الفرعون بحملة على بلاد النوبة كما سنرى بعد، ومن المحتمل أن سبب قيام هذه الهجمات من جانب النوبيين يرجع إلى الخمول العسكري الذي ساد البلاد في عهد هذين الملكين السابقين وهو الذي شجع السكان في السودان على القيام بالهجرة في البلاد من الجزء الجنوبي من السودان مما أدى إلى طرد قبائل أخرى أمامها نحو الشمال.
«سنوسرت الثالث» وعلاقاته ببلاد النوبة (١٨٨٧–١٨٤٩ق.م.)٦٤
يعد «سنوسرت الثالث» عند المصريين من أكبر الغزاة الذين قاموا بحروب طاحنة دفاعًا عن حدود مصر من جهة الجنوب في وجه السودانيين، ومن جهة الشمال في وجه الأسيويين؛ غير أن الحروب التي قام بها جنوبًا كانت شغله الشاغل طوال مدة حياته، من أجل ذلك عَدَّهُ المصريون من أكبر غزاتهم حتى إنهم أَلَّهُوهُ وبقي اسمه تتناقله الأجيال ويذكرونه في خرافاتهم باسم «سوزستريس» كما سنشير إلى ذلك فيما بعد.
وقد كان أوَّل عمل قام به «سنوسرت الثالث» من الوجهة الحربية هو تأديب قبائل بلاد النوبة وهم الذين كانوا في حالة اضطراب وقلاقل بعض الشيء في عهد الفرعون السابق، بل كانوا مصدر خوف في داخل البلاد نفسها. ويقول «ريزنر»: «من الواضح تمامًا أنه في الجزء الأوَّل من عهد «سنوسرت الأوَّل» كانت التجارة الجنوبية مهددة جدًّا من رجال القبائل في مواضع بالقرب من «سمنة» وبخاصة على الشاطئ الغربي. وكان ذلك هو السبب الرئيسي في تدخل «سنوسرت الثالث» لتحرير طريق التجارة الموصلة إلى «كرمة». ويعضد الرأي القائل إن بدو الصحراء عند الشلال كانوا هم العدو الرئيسي لمصر ما أُقِيمَ هناك من حصون في هذا الإقليم وكذلك ما ذُكِرَ على لوحة النصر التي أقيمت في «سمنة».
وقد كان لانتصارات «سنوسرت الثالث» هذه في بلاد النوبة أثر عظيم في تاريخها وعاش اسم «سنوسرت» محرفًا باسم «سوزستريس» ومن ذلك نشأت خرافة «هردوت» عن «سوزستريس» إذ يقول لنا فيها «هذا الملك كان حينئذٍ هو الفرعون الوحيد الذي حكم «أثيوبيا» (بلاد النوبة)». وذلك طبعًا لا ينطبق على الواقع. ولكن من جهة أخرى يظهر لنا مقدار تأثيرات انتصارات «سنوسرت» في هذه البلاد، ولا نعلم إذا كان هذا الفرعون قد حَرَّمَ عبادة تمثاله الذي أقامه عند الحدود أم لا، ولكنا نعرف أن هذا التحريم — إذا كان قد حدث — نُسِخَ بعد مدة قصيرة، وأصبح «سنوسرت» من بين الآلهة الذين يعدون أربابًا لبلاد النوبة، وقد رأينا فيما سبق أن عبادته أصبحت على قدم المساواة مع عبادة الإله «ددون» والإله «خنوم» في قلعة «سمنة» في عهد «تحتمس الثالث»، ولما تولى «تهرقا» الفرعون النوبي حكم البلاد بعد انقضاء ألف ومئتي سنة من حكم «سنوسرت» أعاد معبد «سمنة» وعبادة فاتح النوبة العظيم «سنوسرت الثالث». كما سنرى ذلك بعد.
ولم تحدثنا الوثائق عن الحد الذي وصل إليه «سنوسرت الثالث» في داخل بلاد النوبة ولكنه ثبت الحدود في «سمنة» تمامًا ومن ثَمَّ أصبح في مقدوره أن يتبع القبائل المغيرة في عقر دارها؛ ومن هنا كان تأثير هذه الحملة عظيمًا في إلقاء الرعب والهلع في قلوب أهالي السودان.
والواقع أن الأعمال التي كانت تجري عند «إلفنتين» وأعني بذلك القناة والمباني كانت تحسينات دائمة لطريق المواصلات مع الجنوب، ولم تكن متصلة بأية حملة خاصة يقوم بها الملك، فالذهب أو السام الذي ذكر في السنة التاسعة عشرة أن الملك أحضره من بلاد «كوش» يمكن أن يكون قد أحضر بطرق التنجيم العادية من المناجم أو بالسلب وفرض الغرامات على الأهلين. وهذا لم يكن يستلزم حروبًا طاحنة.
والآن يتساءل المرء نتيجة لذلك عن عدد الحملات التي قام بها «سنوسرت الثالث» في بلاد «كوش» من هذا النوع. وإذا فهمنا النقوش حرفيًّا وجدنا ثلاث حملات: الأولى حدثت في السنة الثامنة، والثانية في السنة السادسة عشرة، والثالثة في السنة التاسعة عشرة.
وحملة السنة الثامنة ترتكز على نقش القناة الذي ذُكِرَ فيما سبق ولوحة المتحف البريطاني السابقة أيضًا. ولوحة «سمنة» الأولى السالفة الذكر لا تحتاج إلى استنباط أن الملك كان في بلاد «كوش» ولكن نفهم منها بطبيعة الحال وجوده هناك. والبيان الوحيد فيها بالنسبة لصفة هذه الحملة هو أن الملك صعد في النيل ليهزم «كوش» الخاسئة ومن المحتمل كما سيظهر أن شعر لوحة «سمنة» الثانية وترجمة حياة «خوسبك» يشير كل منهما إلى هذه الحملة.
وحملة السنة السادسة عشرة ترتكز فقط على لوحة «سمنة» الثانية غير أن هذه اللوحة لا تذكر لنا بيانًا محددًا عن هذه الحملة فتقول فقط: «عندما عمل جلالته حده الجنوبي عند «حح» (سمنة)» غير أنه ينبغي أن يلحظ أن الملك على حسب ما جاء في لوحة «سمنة» الأولى كان قد عمل حده الجنوبي عند «حح». فاللوحة المزدوجة التي عُثِرَ عليها في «ورنرتي» تقول: «عندما أقيم الحصن المسمى «طرد الأونتيو» والشعر الذي نقش على هاتين اللوحتين وهو الذي يصف لنا أخلاق العبيد ويدعي الانتصار عليهم يستند بطبيعة الحال على حقيقة تاريخية، غير أن أساس الحقيقة قد يرجع إلى عدة سنين قبل السنة السادسة عشرة كالسنة الثامنة مثلًا. وإقامة الحصن على «ورنرتي» (جزيرة «ورو») وكذلك إقامة الحدود بنصب حجر تذكاري جديد ليست إلا حقائق قد حددت السنة السادسة عشرة. ولا نزاع في أن إقامة الحصن يدل بوضوح على أن شيئًا قد حدث بين السنة الثامنة والسنة السادسة عشرة يحتم ضرورة زيادة حصن جديد. ومن المحتمل أن سبب ذلك يرجع إلى أن القبائل الغربية قد عبروا النهر إلى الجزيرة وهاجموا القوافل الذاهبة إلى «كرمة» على الشاطئ الشرقي في أسفل حصون «سمنة» وإذا كانت نقوش «خوسبك» وهي التي تذكر أن الملك ذهب جنوبًا ليهزم قبائل «أونتيو» لها علاقة بإقامة هذا الحصن فإن الملك يكون قد أتى بنفسه وقَوَّى الحاميات وأقام الحصن الجديد ليمنع تكرار الغارات عند هذه النقطة.
ومن الجائز أن حصن «مرجيس» الذي يحتوى على معبد للملك «سنوسرت الثالث» كان قد أقيم في نفس الوقت. وليس من المؤكد أن ترجمة حياة «خوسبك» تشير إلى السنة السادسة عشرة بقدر ما يمكن أن تدل على السنة الثامنة، وهي التي قيل عنها في نقش إلفنتين قد قامت فيها حملة لهزم الكوش توصف كذلك بأنها كانت حملة لهزم «أونتيو» أرض «ستي» (بلاد النوبة). وعلى ذلك فإني أشعر ببعض الشك في حضور الملك إلى بلاد «كوش» في السنة السادسة عشرة.
وحملة السنة التاسعة عشرة ترتكز على نقش لوحة «ساتت» السالفة الذكر والحقائق الخاصة بهذه الحملة كما ذكرها «إخرنفرت» و«ساستت» في لوحتيهما هي كما يأتي: «أرسل «أخرنفرت» بأمر الملك ليعمل في «العرابة» مستعملًا السام الذي أحضره الملك بنصر من بلاد «كوش». وقد حضر معه «ساستت» وكان ذلك في السنة التاسعة عشرة عندما ذهب «سنوسرت الثالث» ليهزم «كوش» الخاسئة». ومما تجدر ملاحظته أننا لا نعرف شيئًا قَطُّ عن الوقت الذي أقيمت فيه هذه اللوحة ولا يمكن أن نكون متأكدين من أنها وثيقة معاصرة مثل لوحة القناة واللوحات الرسمية. ومن المحتمل أن هناك بعض خطأ؛ ولذلك فإن لوحة «ساستت» وحدها دون أن يعضدها برهان آخر لا يمكن أن تكون بذاتها برهانًا قاطعًا على قيام حملة في السنة التاسعة عشرة من حكم «سنوسرت الثالث».
وللأسباب السالفة نجد أن حملة السنة الثامنة هي التي ظهر قيامها بوضوح، أما الاستنباطات الخاصة عن الحملة أو الحملات الأخرى، وكذلك فيما يخص الأحوال السائدة في «كوش» فإنها لم تتأثر كثيرًا سواء أكان الملك قد قام برحلة أو اثنتين أو أكثر إلى بلاد «كوش». ولكن تبقى هناك حقيقة وهي أنه لم يذهب إلى بلاد «كوش» ليفرض بطشه على القبائل، أو أنه نهب قبائل الصحراء بدون جدوى، وأنه أقام على أقل تقدير ثلاثة حصون وأنه حافظ على استيراد المعادن الثمينة، ويحتمل كذلك محاصيل أخرى من بلاد «كوش» وإني لا أجد في الوثائق أي أثر لثورة قام بها أهل «كوش» الساكنون على شاطئ النهر كما لا يوجد أثر يدل على فتح بلادهم، بل نجد برهانًا واضحًا على أن «سنوسرت الثالث» قد مَكَّنَ أعماله الخاصة بالحماية على طول الطريق وزاد في الْمَحَاطِّ الحربية ليجعل التجارة في مأمن نسبيًّا.