والمكان المعروف باسم «كرمة» أخذ اسمه من الإقليم الذي يقع على الشاطئ الشرقي للنيل
بين «أرقو» و«تومبوس» ويسكنه الآن نوبيو «دنقلة» أو البرابرة. والميزة الظاهرة لهذه
البقعة خرابتان مؤلَّفتان من المباني المقامة من الطوب التي تُدْعَى بلغة أهل «دنقلة»
«كرمان دفوفة»، وكلمة «دفوفة» يحتمل أن تعني قرية وخرائب «كرمان دفوفة» يمكن رؤيتها من
بعد، وقد لاحظها كل السياح الذين مروا بهذه الجهات. وتنقسم «كرمان دفوفة» في نظر
الأهالي قسمين «دفوفة العليا» و«دفوفة السفلى» وتشمل «كرمة» حاليًّا عدة مجاميع من
البيوت المقامة من الطين بالقرب من النهر.
وعلى ذلك ينبغي للإنسان أن ينظر إلى سكان «كرمة» في نهاية الدولة الوسطى وبداية
الدولة الحديثة، كما ينظر على وجه التقريب إلى سكان بلدة «أم درمان» الحالية حيث يجد
فيها الإنسان الآن كل الأجناس التي تسكن أعالي وادي النيل.
ومما يُؤْسَفُ له جد الأسف أن ثقافة «كرمة» ليس لها وثائق مكتوبة قط، وما عثر عليه
من
نقوش هيروغليفية ليس له أية علاقة بهذه الثقافة.
غير أن ما جاء في هذه اللوحة لا يؤكد لنا بصورة قاطعة نشاط مصر في الجنوب. وعلى ذلك
فإن كل اعتمادنا على صلة مصر بهذه الجهة ينحصر فيما عُثِرَ عليه في «كرمة». والواقع أن
معلوماتنا عن ثقافة «كرمة» في تلك الفترة مستقاة من مقابر جبانات شاسعة الأرجاء تبعُد
حوالي أربعة كيلو مترات ونصف كيلو متر من شاطئ النيل.
وبعد ذلك يُقام في صلب هذه الكومة في خلال عدة أجيال مقابر ثانوية كانت تُحْفَرُ في
الحصى حتى طبقة الطين أو أعمق من ذلك. وكان يُوْضَعُ صاحب القبر غالبًا مع زوجه على
سرير ويلف كل منهما في جلد حيوان، وهنا كذلك نجد فردًا أو عدة أفراد مدفونين على الأرض
مباشرة، ومن المحتمل أنهم أقارب صاحب المقبرة أو خدمه، وهؤلاء كانوا بمثابة قربان له
كالخرفان التي كانت تُدْفَنُ معه قربانًا.
هذا وتُقَدِّمُ لنا الأشياء التي كانت توضع مع المتوفى في قبره لاستعماله اليومي
في
عالم الآخرة في «كرمة» لمحة عن ثقافة بلاد النوبة العليا في العهد النوبي المتوسط،
والواقع أن هذه الثقافة تُنْسَبُ إلى العهد النيوليتي المتأخر مثل ثقافة مجموعة
C؛ ففي حين نجد أن جزءًا من محتويات القبر قد
صُنِعَ في نفس بلاد النوبة العليا بدون شك، فإنه قد عُثِرَ على قطع أخرى من أثاث القبر
قد تأثرت كثيرًا في صنعها بالطابع المصري حتى إنه كان في كثير من الأحيان يصعب على
الإنسان أن يميز بين الأشياء المورَّدة من مصر والأشياء المصنوعة محليًّا، ومن المحتمل
أنها كانت من صنع مصريين هاجروا إلى بلاد السودان واستوطنوها، ويميل غالبًا إلى هذا
الرأي الأخير الأستاذ «ريزنر».
والمجموعة الثانية تحتوى على ١١٫٥٪ من مجموع فخار «كرمة» وهي من حيث الشكل والمادة
والصناعة موحدة مع أوانٍ مصرية معروفة أو على الأقل قريبة الاتصال بها وهي كما قلنا من
قبل إما مجلوبة من مصر أو عُمِلَتْ تقليدًا لأوانٍ مصرية.
هذا ويدل ما وجد في المقابر من الأشياء الكمالية التي عُمِلَتْ في أشكال مصرية
كالمرايا والآلات المصنوعة من النحاس وحِقَاقِ الزيت المصنوعة من المرمر وغير ذلك على
أنها من أصل مصري وأن الصناع المصريين قد أَتَوْا إلى بلاد النوبة العليا وزاولوا
صناعاتهم فيها.
وإذا ألقينا نظرة عامة إلى مجموع ما عرفناه عن ثقافة «كرمة» حتى الآن أمكننا أن نقرر
بحق أن الثقافة قد تأثرت تأثرًا عظيمًا بالثقافة الأفريقية أكثر من الأثر الذي نجده في
أختها ثقافة مجموعة C التي ظهرت في بلاد النوبة السفلى.
حقًّا إن كلًّا من حملة هاتين الثقافتين بينهما رابطة جنسية تربطهما بعضهما ببعض، هذا
فضلًا عن أن كلًّا من الفريقين كان يفلح الأرض ويرعى الماشية، كما نجد كذلك تشابهًا
بينهما من حيث الملبس وبخاصة الأحزمة المزينة بالخرز، وكذلك من جهة المحاصيل اليدوية
فهي مشاعة بينهما، ومن جهة أخرى نجد فروقًا ضخمة وبخاصة في مؤسسات المقابر التي تتشابه
جميعًا في الظاهر، إذ نجدها كلها على هيئة كومة مستديرة، وكذلك تختلف في عادة الدفن إذ
نجد العادة في «كرمة» أن يُدْفَنَ مع الرئيس عدد عظيم من الناس المذبوحين ومعهم أدوات
زينة خاصة، ولكن في ثقافة مجموعة C كان صاحب المقبرة
يُدْفَنُ وحده.
المستودع التجاري الذي أُقِيمَ في«كرمة»
تحدثنا فيما سبق عن جبانات «كرمة» وعن الأشياء التي عُثِرَ عليها في مقابرها مما
وضع أمامنا صورة عن الثقافة التي كانت سائدة في هذا العهد.
والآن نتحدث عن المستودع التجاري الذي وُجِدَ في هذه الجهة ويقع على مسافة كيلو
مترين من شاطئ النيل وعلى مسيرة خمسة كيلو مترات من «جزيرة أرقو» ويتألف من مبنى في
صورة مستطيل مقام باللبنات وقد أقيم في الجهة الشرقية مبنى آخر بُنِيَ بنفس الطريقة
ويُعَدُّ في الواقع امتدادًا للمبنى السابق في حين أنه يوجد في الجهة الغربية من
هذا المبنى مجموعة مبانٍ مركبة أقيمت أمام الجهة التي فيها المدخل العام.
وتدل شواهد الأحوال على أن المبنى الأصلي قد بُنِيَ على حسب مقاييس الأبعاد
المصرية فطوله يبلغ ٥٢٫٥ مترًا وهو ما يساوي مئة ذراع مصري وعرضه ٢٦٫٧ مترًا وهو ما
يساوي خمسين ذراعًا مصريًّا، يضاف إلى ذلك أن صناعات اللبنات التي بُنِيَ بها تختلف
عن اللبنات المصرية العادية. ويلحظ في هذه المباني أنه قد استعملت كتل من الخشب في
صلب المباني لتقويتها، هذا إلى أن مقاس اللبنات وتنظيمها في الجدران يتفق مع ما هو
معروف في المباني المصرية في هذا العهد.
وكان ارتفاع هذا المبني ١٩٫٣ مترًا عند الكشف عنه. والدور العلوي الذي كان مخصصًا
للسكن والمؤن قد هُدِمَ، وكذلك المبنى الإضافي الذي في الجهة الشرقية فقد كان
ارتفاعه مثل ارتفاع المبنى الأصلي، ولم يبقَ منه إلا الجزء السفلي (انظر الشكل رقم
١).
ويدل ما عثر عليه في هذا المبنى من مواد غفل وأوانٍ مثل السلات والأوعية المصنوعة
من الفخار الكبير العدد المختومة، على أن هذه المؤسسة كانت مركزًا تجاريًّا هامًّا
وقد يكون خلو المبنى الرئيسي من طوابع أختام كالتي وُجِدَتْ في الحجرتين الثالثة
والرابعة من المبنى الغربي جاء من طريق الصدفة، ومع ذلك فإن الدكتور «ريزنر» يؤكد
أن الحجرتين الأولى والثانية (أ، ب) وهما اللتان يُفْتَحُ بابهما إلى خارج المبنى
هما متجران لا مكانان للسكن، ومع ذلك يمكن أن نَعُدَّ الحجرة الأولى مقصورة للعبادة
إذ إنها بما تحتويه من عمد في وسطها تشبه المقصورتين أو المزارين رقم ٢ ورقم ١١
اللتين عثر عليهما في هذه الجبانة الشاسعة.
٥٧
ومن البدهي أن المبنى الرئيسي قبل زيادة أية إضافة فيه كان يُعَدُّ نوعًا من
الحصون أو مستودعًا تجاريًّا محصنًا تخزن فيه السلع، وكان يسكن فيه المصريون الذين
كانوا يشتغلون في التجارة مع أهالي الجنوب، وذلك لحماية أنفسهم من غارات السطو
والنهب التي كانت تتعرض لها مثل هذه الأماكن الغنية بما فيها من مواد ثمينة.
ويستنبط من موقع هذه المؤسسة في الوادي أنها كانت لأول وهلة تشبه حصون بلاد النوبة
السفلى التي تقع في الوديان. غير أن الأخيرة كانت تقع في أسفل النهر الذي كان يسيطر
المصري هناك عليه، يضاف إلى ذلك أن عدم انتظام تصميم هذه المؤسسة جعلها تُشْبِهُ
حصن ميناء نهري، غير أن الأحوال في السودان تختلف اختلافًا تامًّا فقد رأينا على
حسب ما جاء في لوحة الحدود التي أقامها «سنوسرت الثالث» تجارة نهرية وطنية، كما
رأينا فضلًا عن ذلك أن المصري لم يكن في مقدوره قط أن يسيطر على النهر سيطرة تامة،
إذ كان مضطرًّا أحيانًا أن يوجه حملات بأسطوله جنوبي «سمنة» على أعدائه المغيرين.
ومن أجل ذلك لم يكن هذا المخزن مقامًا أسفل النهر، ولذلك كان وضعه في الأرض
المكشوفة رهنا بالوضع الذي يكون فيه بيوت السكان؛ ومن ثَمَّ كان لا بد من انتخاب
نقطة قوية يمكن حمايتها من كل جانب. وهذه الحصون تشبه في الواقع الحصون الجبلية
التي كانت تُقَامُ عند «الشلال الثاني»، فكان يُقَامُ طوار ضخم تحت الحصن وبذلك كان
ينال هذا الحصن نفس الميزة التي يتمتع بها الحصن الجبلي. والواقع أن المبني الأساسي
في «كرمة» كان يشبه حصنًا جبليًّا مقامًا على جبل صناعي. وكان في مقدور مثل هذا
البناء الضخم أن يقاوم أكثر من السور الذي يُقَامُ حول الميناء النهرية في بلاد
النوبة السفلى.
ويقول الأستاذ «ينكر»
٥٨ إنه استنادًا إلى براهين مقنعة نفهم أن هذه المؤسسة لا يمكن أن تكون
حصنًا مصريًّا يستطيع به المصريون أن يسيطروا على الأراضي التي حوله ويبتزون
المحاصيل التي يحتاجون إليها بمثابة جزية، وذلك لأن حجم هذا المبنى الصغير نسبيًّا،
إذا فرضنا أنه حصن، لا يتسع لأكثر من خمسين إلى مئة رجل، يضاف إلى ذلك أن انفرادها
تمامًا يؤكد عدم صلاحيتها لأن تكون حصنًا. حقًا نعرف أنه في القرن التاسع عشر بعد
الميلاد كانت توجد حاميات عربية صغيرة في داخل أفريقيا يمكن بوضعها أن تسيطر على
بقعة كبيرة من الأرض، ولكن الفضل في إمكان قيامها بمثل هذه الوظيفة يرجع إلى حسن
تسليح رجالها بالأسلحة النارية الحديثة. وعلى العكس تدل الآثار المكشوفة في جبانات
القوم من الوطنيين في «كرمة» على أنهم كانوا قومًا مسالمين يتبادلون التجارة بين
مصر وبلاد السودان كما سنرى بعد.
وكذلك نجد في المبني الشرقي لهذه المؤسسة نفس التصميم الذي قام عليه البناء
الأصلي إذ بوساطة المسطح الذي يشتمله الطابق العلوي يمكن توسيع إمكانية الدفاع عند
الهجوم وذلك لأنه كان في الإمكان وضع حامية كبيرة عليه.
أما البابان الخاصان بالحجرتين (أ و ب) وهما اللذان يظهر أنهما لا علاقة لهما
مباشرة بالدور العلوي فإنهما لا يُؤَثِّرَانِ بأية حال على نظام الدفاع لأن الرماية
من الشرفات التي فوق الباب تهيئ للرامي مكانًا فسيحًا أكثر مما يتصور. أما مجموعة
المباني المقامة في الجهة الغربية للمؤسسة وهي التي تتألف من عدة حجرات فإنها تؤدي
على العكس بما فيها من زوايا ميتة إلى ضعف بين في نظام الدفاع وعلى ذلك تكون في
تصميمها مضادة لتصميم البناء الأصلي، ومن ثَمَّ فإنه يلوح أن هذه المجموعة قد أنشئت
في وقت كانت فيه الأحوال هادئة موطدة الأركان، والعناية بشئون الدفاع الفني لم يكن
لها الاعتبار الأول عند إقامتها، يضاف إلى ذلك أن الأرض المكشوفة التي تحيط بهذه
المؤسسة وما جاورها من المباني لم تكن بأية حال من الأحوال محاطة بسور حامٍ
لها.
وعلى الرغم من أن التاريخ النسبي للأجزاء المختلفة لهذه المؤسسة قد عُرِفَ على
وجه التقريب، وأن البناء الشرقي أقدم من الجزء الرئيسي من المجموعة التي في الغرب،
فإن التاريخ المؤكد للبناء كله لم يمكن الوصول إليه بعد.
وقد وُجِدَتْ تحت المبنى الأصلي جدرانٌ أقدم منه كما وُجِدَتْ بعض أجزاء مبانٍ في
مجموعة من المباني الغربية أقدم من المبنى القديم وقد نسب الأستاذ «ريزنر» هذه
المباني إلى الدولة القديمة وحدَّد ذلك ببعض آثار وُجِدَتْ هناك بأنها من الأسرة
السادسة. وقد وصف لنا «ريزنر» حالة الطبقات والأساس لهذا المكان فيما يأتي:
وكما ذكرنا فيما سبق كانت توجد ثلاث طبقات من الردم: أولًا طبقة علوية من
الردم الخشن مؤلفة بوجه خاص من آجر مفتت، وثانيًا طبقة من الردم الدقيق
المفكك تملأ الجدران، وثالثًا بقايا ردم قديم متماسك كان تحت الأرضية يرجع
إلى عهود مختلفة. ففي الردم الخشن لم تُوجَدْ آثار تقريبًا إلا بعض قطع من
الفخار بعضها داخل في تركيب اللبنات. وقد وُجِدَ في الردم المفكك معظم
الأشياء التي استخرجت من هذه البقعة. وهذا الردم معظمه أتربة جلبتها الرياح
ولبنات متحللة من عصور مختلفة جدًّا. ففي الحجرات التي تقع شمال العقد لم
توجد إلا قطع من الفخار أو من أواني الفخار المطلي بالقاشاني.
٥٩ هذا إلى أشياء أخرى ليس لها أهمية فاصلة. ووُجِدَ جنوب عقد
المبنى في الردم الذي كان في الجدران القديمة سلسلة من القطع الأثرية على
جانب عظيم من الأهمية، أهمها قطع كثيرة من المرمر الخاصة بالعطور ذات الشكل
الأسطواني وهي التي كانت شائعة الانتشار في الدولة القديمة، ووجد منها
منقوشًا على أقل تقدير خمس وعشرون آنية مختلفة باسم الملك «بيبي الأول»؛
ولكن أسماء الملوك «رع نفركا» (بيبي الثاني) و«أمنمحات الأول» و«سنوسرت
الأول» ذُكِرَ كل منهم مرة واحدة. وكذلك اسم الملك «مرنرع» ذُكِرَ على قطعة
من نفس طراز الأواني التي وُجِدَتْ في المبنى رقم ٢
(KII). وهذه القطع بوجه خاص في الحجرة
(H5)، ولكن وُجِدَتْ كذلك في الحجرة
(X 1-3). وهذه الأشياء كانت على ما
يظهر مما لدينا من أدلة قد أودعت هنا مع الردم قبل إقامة «الدفوفة». وكانت
موجودة تحت سفح السُّلَّمِ الخارجي للعقد في أسفل. وكانت بلا نزاع تحت
المستوى الذي تتطلبه رقعتا الحجرتين
(H,
X). ومن الممكن إذن أن تكون قد أُلْقِيَتْ مع أشياء أخرى
في أثناء حفر جدران «الدفوفة»، فإذا كان هذا الفرض صحيحًا — وإني أعتقد
بصحته — فإن امتداد زمن القطع المؤرخة يد على أن «الدفوفة» كانت قد أقيمت
بعد بداية حكم «سنوسرت الأول»، ودُفِنَتْ فيما بعد في جبانة «زفاي حعبي»
(KIII)، وعلى ذلك يمكن أن تكون المدة
التي مكثها البناء القديم على هذا الموقع تمتد من عهد «بيبي الأول» حتى عهد
«سنوسرت الأول».
ولكن مما يُؤْسَفُ له أن الأستاذ «ريزنر» لم يقدم لنا أي صورة تخطيطية عن هذه
الطبقات والجدران التي تحدث لنا عنها مما جعل التاريخ النسبي للأجزاء المختلفة لهذا
البناء لا يمكن ضبطه، كما ترك لنا حالة الأساس غير ظاهرة بالنسبة لقطع المرمر. وقد
دل البحث على أن وجود قطع المرمر السالفة الذكر لا يمكن اتخاذها معيارًا لوجود
مبانٍ قديمة من عهد الدولة القديمة.
٦٠
وعلى ذلك فإن ما وجد من آثار في عهد الدولة القديمة في «كرمة» وما وجد من مخازن
عهد الدولة الوسطى لا بد أن يبقى موضع الشك إذا كان لنا الحق في أن نُسَلِّمَ بأنه
وُجِدَ في عهد الدولة القديمة مُسْتَوْدَعٌ تِجاري في «كرمة». على أنه من الممكن
بدون شك أن تكون هذه الأواني قد جُلِبَتْ أولًا في عهد الدولة الوسطى إلى «كرمة»،
مما يدل على أن استعمال الأواني القديمة كان مستعملًا في الجنوب كما كان مستعملًا
في شمال الوادي،
٦١ فنجد مثلًا في مخزن الأواني الذي وُجِدَ في هرم «زوسر» أواني من الحجر
من عهد الأسرتين الأولى والثانية.
٦٢
وكذلك وُجِدَتْ آنية من الحجر في مخزن من عهد الأسرة الثامنة عشرة في «تل
العمارنة».
٦٣ وفضلًا عن ذلك وُجِدَ في «كريت» وكذلك في بلاد اليونان نفسها أوانٍ من
الحجر مصرية الصنع، وبخاصة في المقابر الكريتية — أقدم بكثير من عهد استعمالها في
هذه الجهات — ولا بد أنها على الأرجح قد أحضرت من مصر قبل زمن استعمالها.
ومن الممكن أن تكون هذه الأواني المصنوعة من المرمر التي أُتِيَ بها إلى «كرمة»
قد جُلِبَتْ في زمنٍ كان استعمالُها في مصر قد انقضى ولم تكن من جهة نقوشها من حيث
الاستعمال أو بوصفها أوانيَ جنازية ذات ميزة خاصة. وقد وصلت بوساطة تبادل التجارة
مع أهالي الجنوب لتُسْتَعْمَلَ هناك. وقد عثر «ريزنر» على قطع مؤرخة بعهد الدولة
القديمة في المزار أو المقصورة رقم ٢ الخاصة بجبانة الأهالي في «كرمة».
وعلى أية حال فإن التأريخ الأصلي لإقامة المستودع التجاري السالف الذكر غير مؤكد،
غير أنها على ما يظهر ترجع إلى عهد بداية الأسرة الثانية عشرة. ولا ينبغي أن نبني
السبب في ذلك على قطع المرمر التي وجدناها في «الدفوفة» باسمي الملك «أمنمحات
الأول» و«سنوسرت الأول» بل يُحْتَمَلُ أن نضم إلى ذلك مائدة القربان التي وُجِدَتْ
باسم الملك «سنوسرت الأول» في «جزيرة أرقو». وهذه المائدة قد وُجِدَتْ مبنية في بيت
في هذه الجزيرة وهي موجودة الآن في متحف المديرية في «مروي». ويقول «ريزنر» إن هذا
الأثر يُحْتَمَلُ أنه أتى من «كرمة» أو «كاوا» ولكن في الغالب من «جزيرة
أرقو».
٦٤ هذا وقد وُجِدَ فضلًا عن ذلك في مقبرة «زفاي حعبي»
(KIII) تمثال هذا الأمير بالحجم الطبيعي وكذلك
تمثال زوجه، ويدل وجود لوحة في مقصورة «كرمة» رقم ٢
(KII) باسم «أنتف» على احتمال إقامة مؤسسة في
عهد «أمنمحات الأول» أو «أمنمحات الثاني».
وتدل القطع الأثرية الأخرى الْمُؤَرَّخَةُ التي وُجِدَتْ في المستودع التجاري
(مثل طوابع الأختام التي وُجِدَتْ في المبني الشرقي من هذه المؤسسة) بوجه التأكيد
على استمرار وجود هذا المستودع حتى عهد الهكسوس. فنجد فضلًا عن طوابع أختام عديدة
ذات طراز خاص بهذا العصر أسماء الملوك الآتية:
- (١)
ابن رع «أبيبي» (= «أبو فيس»).
- (٢)
ابن رع «ششي».
- (٣)
الإله الطيب «ماعت أب رع».
- (٤)
الإله الطيب (؟) «سخعن رع».
- (٥)
الزوجة الملكية العظيمة صاحبة التاج الأبيض «إنني».
فبينما نجد أن الملكة «إنني» يرجع عهدها على الأرجح إلى الأسرة الثالثة عشرة إذ
نجد أن الملوك الآخرين الذين عددنا أسماءهم هنا جميعًا يرجع تاريخهم إلى عهد
الهكسوس، ولا شك في أن ذلك كان حوالي العهد الذي قوي فيه نفوذ الهكسوس في الوجه
القبلي ولم تكن معارضة الأسرة السابعة عشرة وسالفتها قد بدأت بعد.
٦٥
وتدل شواهد الأحوال على أن مؤسسة «كرمة» (المستودع) قد امتد زمنها حتى بداية
الدولة الحديثة إلى أن خربها حريق، ويحتمل أن ذلك كان في عهد الاضطرابات في نهاية
عهد الهكسوس في وقت لم يكن المصريون في مركز يؤهلهم للتجارة مع الجنوب.
وقد وُجِدَتْ جبَّانات ضخمة بالقرب من هذه المؤسسة وهي كما ذكرنا من قبل تقع على
مسافة ثلاث كيلو مترات شرقي مستودع التجارة وتشمل عدة مقابر مستديرة على هيئة تل
بعضها كبير والآخر صغير كما تحتوي على مزارين مستطيلي الشكل وهما «كرمة» رقم (١)
و«كرمة» رقم (٢) (KI, KII) وحجرات هذين المزارين
مُزَيَّنَةٌ بالرسوم وبالأعمدة المقامة في وسطها.
ولا نزاع في أن هذه الأكوام المستديرة الشكل هي مقابر السكان الأصليين، غير أن ما
وُجِدَ فيها من كتابات لا يمكن به معرفة أسماء أصحابها. وقد برهن الأستاذ
«ينكر»
٦٦ على أنها مقابر الأهالي كما اعترف بذلك «ريزنر».
وقد تحدثنا من قبلُ عن هذه المدينة ولكن يجب أن نلحظ هنا أن ما وجد فيها هو في
أساسه وطني غير أنه تأثر تأثرًا عظيمًا بالثقافة المصرية. ويدل ما في هذه الجبانات
الضخمة من الإنتاج الصناعي القومي وبخاصة الخناجر ذات الشكل الخاص على أن أصحابها
كانوا قومًا محاربين.
وقد رتب «ريزنر» الجبانات العظيمة التي في منطقة «كرمة» ترتيبًا تاريخيًّا
نسبيًّا فوضعها على حسب قِدَمِهَا بالترتيب التالي: ٣ و٤ و١٦و١٨ و١٩ و٢٠، وإذا كان
هذا الترتيب صحيحًا كما يَدَّعِي فإن هناك أسبابًا تدعو للتشكك فيه، وذلك لأنه اتخذ
أساسًا لاستنباطه آثارًا تحوم حول تاريخها الشكوك. وسنورد فيما يلي النقوش التي
استند إليها «ريزنر» في تحديد تواريخ هذه الجبانات وما جاء عنها من اعتراضات:
فاستمع لما يقول:
٦٧ «لقد عانيت صعوبات كبيرة في وضع ترتيب تاريخي لهذه الأكوام العظيمة على
أسس أثرية وذلك لأن الأشياء المكتوبة كان معظمها في حالة تمزق، ووُجِدَتْ كلها في
الردم وليست في أماكنها الأصلية» ثم يستطرد فيقول إنه «لا يشك في أن هذه النقوش
بسبب ما قدَّمه من براهين في الفصول الخاصة بقطع النحت وبالمباني المنفصلة
والجبانات الكومية الشكل — قد وُجِدَتْ تقريبًا في الأماكن التي نوَّه عن وجودها
فيها. والنقوش التي وجد فيها إشارة عن تاريخها هي كما يأتي:
(١) تمثالان بالحجم الطبعي للأمير «زفاي حعبي» وقد وُجِدَا في الجبانة رقم ٣
والتمثال الأخير يُرَجَّحُ أنه وُجِدَ في مكانه الأصلي تقريبًا وقد عُرِفَ «زفاي
حعبي» من ألقابه ومن اسمَي زوجه وأمه والدعاء للإله «أنوبيس» رب «أسيوط» ونفس «زفاي
حعبي» الذي يوجد قبره في «أسيوط» قد وُجِدَ اسمه في النقوش التي سجلها الأستاذ
«جرفث»
٦٨ ونجد في قبره هذا الذي لم يكن قد تم اسمَا «سنوسرت الأول» على جدرانها
و«زفاي حعبي» يقدم أمامها الخضوع. ولا شك في أن «زفاي حعبي» كان عائشًا في عهد
«سنوسرت الأول» (١٩٨٠–١٩٣٥ق.م.) وتدل شواهد الأحوال على أن نقوش القبر الذي في
«أسيوط» قد نُقِشَتْ فوق نقوش أخرى أي إنها لم تكن خاصة بالتصميم الأول لتزيين
القبر بل بالتصميم الثاني وهو الذي يُحْتَمَلُ أنه قد نُفِّذَ كله أو بعضه على يد
كاهن الروح للأمير «زفاي حعبي» بعد موته. وليس من السهل لدينا أن نفسر أهمية الاسم
الملكي من حيث التاريخ. إذ من الجائز أن الاسم الملكي قد وُضِعَ على الجدار بوصفه
المنعم العظيم على «زفاي حعبي» حتى ولو بعد موت «سنوسرت الأول». ومع ذلك فإنه على
الرغم من ذلك لا يزال من الحقائق الثابتة أن «زفاي حعبي» كان من أتباع «سنوسرت
الأول». وقد اعتبر هذا الملك بأنه سيده العظيم. هذا وقد يشير إلى تعيين «زفاي حعبي»
نائبًا للملك في بلاد أثيوبيا (كوش) ومن الجائز أن هذا الاعتراف بالجميل قد يرجع
سببه إلى خطوات أخرى نالها في مصر، وأن التعيين في السودان كان المقصود منه النفي
من البلاط وأن الذي أمر بها هو «أمنمحات الثاني». فإذا فرضنا أن تعيين «زفاي حعبي»
حاكمًا «لكوش» قد تم في عهد «سنوسرت الأول» فإن الفرصة المواتية كانت بعد الحملة
التأديبية التي وقعت حوالي عام ١٩٦٢ق.م. وأن الغرض من إرسال حامية مستديمة مع «زفاي
حعبي» في «كرمة» كان المقصود بها إخماد أي ثورة أخرى كما حدث من قبل، وإذا كان
«زفاي حعبي» قد بدأ مجال حياته في «كرمة» عام ١٩٦٠ق.م. وتمتع بمدة ولاية مثل التي
كان يتمتع بها نواب الملوك في الأسرة الثامنة عشرة فيحتمل أنه قد مات حوالي عامي
١٩٤٠–١٩٣٠ق.م. أما إذا كان قد عُيِّنَ في عهد «أمنمحات الثاني» فإن أقدم تاريخ لذلك
يكون حوالي عام ١٩٣٥ق.م. ومن المحتمل أن يكون قد حكم في «كرمة» حتى حوالي عام
١٩٠٠ق.م. أو إذا كانت حياته طويلة فوق العادة فيكون قد حكم حتى عام ١٨٨٠ ق.م. وهكذا
يظهر لي أن السنتين ١٩٤٠ق.م. و١٨٨٠ق.م. هما الطرفان الممكنان لموت «زفاي حعبي».
والظاهر أنه في زمن ما في خلال الستين سنة هذه أقيمت الجبانة الكومية الشكل في
«كرمة رقم ٣» ولا بد أن المقصورة «كرمة رقم ٢» كانت قد بُنِيَتْ». هذا ما قاله
«ريزنر» عن مقبرة «كرمة رقم ٣» التي يَدَّعِي أن «زفاي حعبي» قد دُفِنَ فيها، غير
أن هناك اعتراضات على ذلك يظهر منها أن «زفاي حعبي» لم يُدْفَنْ في هذا القبر إذ قد
وُجِدَ في هذه المقبرة غير تمثاله وتمثال زوجه تماثيل أخرى لموظفين آخرين يحملون
أسماء وألقابًا عالية من بينهم واحد يُلَقَّبُ أعظم العشرة
٦٩ للوجه القبلي وآخر يُدْعَى «كن»
٧٠ ويُلَقَّبُ المشرف على حملة الأختام، ولدينا ثالث يحمل لقب حامل الخاتم
الملكي والمشرف العظيم والمشرف على حملة الأختام «أميني».
٧١ ومن المحتمل أنه كان يتمتع بنفس المرتبة التي كان يتمتع بها «زفاي
حعبي» الذي لم يكن يحمل في «كرمة» لقب المشرف العظيم للوجه القبلي. وليس من المرجح
أن هذا الموظف قد اشترك في إقامة هذه الجبانة مع «زفاي حعبي» فإن ذلك يكون لو سلمنا
بأن حاكم مقاطعة «الكاب» الذي يُدْعَى «سبكنخت» قد دُفِنَ في قبر ثانوي في جبانة
«كرمة رقم ٣» لأنه وجد هناك آنية من المرمر باسمه.
٧٢ وهذه التماثيل لا تمدنا إلا بتأريخ العهد الذي عُمِلَتْ فيه. أما المدة
التي بين الدفن في جبانة «كرمة رقم ٣» وفي جبانة «كرمة رقم ١٠ ب»، وبين إقامة هذه
التماثيل فإنه لا يمكن معرفتها على وجه التأكيد إذ من الجائز أن أحد الأهالي قد
استعمل تماثيل قديمة لا تمثله ولا تحمل نفس اسمه.
وإنه لمن الصعب أن نضع فاصلًا بين ما هو تابع للدفن الرئيسي وهو ما تُؤَرَّخُ به
الجبانة، وبين ما هو تابع للدفن الثانوي الذي عُمِلَ فيما بعد، وذلك لأن محتويات
الجبانة قد قُلِبَتْ رأسًا على عقب. ولكن عندما نسب «ريزنر» الجعارين التي وُجِدَتْ
في الدهليز الرئيسي لهذه الجبانة (11-63)،
(11-87) للدفنة الرئيسية نتج عن ذلك أن هذه
الجبانة قد أصبحت تُؤَرَّخُ بعصر متأخر عن بداية الدولة المتوسطة، هذا إذا كانت
نسبة هذه الجعارين لهذه الجبانة صحيحة، وذلك لأن من شكل النقوش يظهر أن الجعران
(11-63) من عهد الهكسوس، وكذلك نلحظ أن الجعران
الثاني (11-87) يدل شكله على أنه من عهد بعد الأسرة
الثانية عشرة، وكذلك نجد أنها ممثلة في طوابع الأختام التي وُجِدَتْ في «كرمة»
للمبنى رقم (١) كما وُجِدَتْ في الدفنات الثانوية في جبانة كرمة رقم (٣)، ونجدها
كذلك على ظاهر جعارين مصورة بأشكال كثيرة (راجع
11-74,11-81,11-86,11-89). وكل هذه الرسوم لا
يمكن أن تُنْسَبَ إلا إلى العهد الذي بعد الأسرة الثانية عشرة.
وكذلك الحال في الجبانة رقم (٤) «بكرمة» يُلْحَظُ أن الجعارين التي وُجِدَتْ مع
الأجسام في الدهليز الرئيسي وبخاصة الجعران (11-53)
لا تكاد تتفق مع استنباط «ريزنر» بالنسبة لتاريخها فقد وضع هذا الجعران الأخير في
عهد «أمنمحات الرابع».
وعلى أية حال نرى أن «ريزنر» قد استنبط من الآثار التي عثر عليها في جبانة «كرمة
رقم ٣» (التي دل ما وجد فيها على أنها من طراز يرجع إلى أزمان متأخرة) أنها من عهد
أوائل الدولة الوسطى وهذا يناقض ما كشف فيها من آثار، وعلى ذلك يمكن القول إن جبانة
«كرمة رقم ٣» لا يمكن أن تكون مقبرة «زفاي حعبي» وهذا يوافق رأي «سيف
زودربرج».
وإذا كانت هذه الآثار والطرز التي نشاهدها في جبانة كرمة رقم ٣ لا يمكن أن
تُؤَرَّخَ بعهد أوائل الأسرة الثانية عشرة فإن وجودها في هذا المكان لا بد أن
يُنْسَبَ إلى ما بعد الأسرة الثانية عشرة أو على الأقل إلى نهاية هذه الأسرة.
وفضلًا عن ذلك وُجِدَ في دهليز جبانة «كرمة رقم ٣» قضيب سحري مصنوع من سنِّ الفيل
كُتِب عليه النقش التالي «الأم الملكية أنني». ومن المحتمل أنها كانت في الأصل في
الدفنة الرئيسية. ونحن من جانبنا نعلم بوجود الأم الملكية التي تُدْعَى «إنني» على
بعض الجعارين، وقد قال عنها «نيوبري» إنها من العهد المتوسط الثاني
٧٣ وهذا التأريخ يتفق مع تاريخ الجعارين التي وُجِدَتْ في الدهليز الرئيسي
لمقبرة «كرمة رقم ٣».
أما الغطاء الذي عُثِرَ عليه في جبانة «كرمة رقم ٣» وهو الذي نقش عليه الاسم
الحوري للملك «أمنمحات الثالث» فتدل كل الاستعمالات المتبعة على أن أصله من مبنى
«كرمة
٧٤ رقم ٥». هذا فضلًا عن أن هذا الغطاء لا يمكن أن يُعَدَّ ضمن أثاث جبانة
«كرمة رقم ٣».
ومن ثَمَّ نلحظ أن هناك أشياء كثيرة تُرَجِّحُ الرأي القائل إن جبانة «كرمة رقم
٣» وجبانة «كرمة رقم ٤» لا بد أن تُؤَرَّخَا بعهد غير العهد الذي اقترحه «ريزنر»
ومن ذلك تكون التماثيل التي وُجِدَتْ للأمير «زفاي حعبي» وزوجه قد اسْتُعْمِلَتْ
مرة ثانية في هذه الجبانة فيما بعد. والآن يتساءل الإنسان عما إذا كان «زفاي حعبي»
والموظفون الآخرون الذين جاء ذكرهم في النقوش في جبانة «كرمة رقم ٣» كانوا فعلًا
يقومون بأعمال إدارة في «كرمة». فعلى حسب رأي «ريزنر» نفهم أن كل التماثيل التي
وُجِدَتْ في «كرمة» مصنوعة من أحجار محلية، غير أن هذا الرأي يرتكز فقط على أن
الأحجار التي اسْتُعْمِلَتْ للحفر موجودة في هذه الجهة أي إنها أحجار محلية، غير أن
المكان الذي اسْتُخْرِجَتْ منه هذه الأحجار سيظل غير مؤكد لدينا إذ ليس من الثابت
لدينا أن نوع الحجر الذي نحن بصدده لم يكن مُسْتَعْمَلًا في مصر وأنه لا يوجد إلا
في «كرمة».
وإذا كانت التماثيل الصغيرة والكبيرة قد نُقِلَتْ إلى «كرمة» بوساطة التجارة أو
غير ذلك فإن الأشخاص الذي تمثلهم لا يقدمون لنا بدهيًّا أية صورة عن طائفة الموظفين
في هذه الجهة. أما التماثيل الصغيرة فإنها على العكس من التماثيل الكبيرة الحجم
يمكن حملها ونقلها بسهولة.
وتشمل النقوش عدا لوحة «أنتف» التي عُثِرَ عليها في مبنى «كرمة رقم ٢» صيغة
جنازية وألقابًا بعضها لا يدل على شيء، وبعضها له اتصال بعلاقات مصرية داخلية
مباشرة. هذا ونجد أن لقب «الرئيس العظيم للجنوب» الذي يحمله «زفاي حعبي» لا يكاد
يعادل لقب حاكم، ولكنه من المؤكد يحمل نفس المعنى الذي نجده في لقبه «المشرف على
الوجه القبلي» وهو اللقب الذي نجده في نقوشه التي تركها لنا في مقبرته «بأسيوط».
يضاف إلى ذلك أننا لا نجد في نقوش «أسيوط» هذه ما يدل على أن «زفاي حعبي» كان يعمل
خارج بلاد مصر أي في بلاد «كوش».
(٢) ينتقل بعد ذلك «ريزنر» إلى التحدث عن لوحة «أنتف» فيقول: «وجدت لوحة الأمير
الوراثي والمشرف على الخاتم «أنتف» مُهَشَّمَةً ثلاث قطع متقاربة في الردم أمام
مقصورة «كرمة رقم ٢». وقد أُرِّخَتْ بالسنة الثالثة والثلاثين من عهد «أمنمحات
الثالث» (١٨١٦ق.م.) وهي تذكار لإصلاح مبنى يُدْعَى «سنبت» أي إن تاريخها ما بين ٦٥
و١٢٥ سنة بعد موت «زفاي حعبي». والظاهر من النقش الذي تركه لنا «أنتف» أنه قد
أُرْسِلَ إلى «كرمة» في حملة موفقة، ولكنه يفتخر بأنه قد أُرْسِلَ بسبب امتيازه
لتوسيع حدود الملك وما أوتي من كفاية، وليس في مقدوري أن أعرف لماذا أُرْسِلَ إلى
هذا المكان إذا كان هناك فعلًا حاكم في «كرمة»؛ فلا يتصور أن يُرْسَلَ إلى هذه
الجهة عظيم لمجرد إصلاح مبنى يحتاج إلى عدد قليل من آلاف اللبنات، والتفسير الوحيد
المقبول في هذا الصدد على ما يظهر لي هو أن «أنتف» كان قد أرسل لإدارة هذا القطر،
وإن هذه اللوحة هي عبارة عن سجل قصير لعمل من الأعمال، وقد نُصِبَتْ في هذا المكان
حيث نفذ هذا العمل، وإني أعتقد إذن أن «أنتف» كان أحد نواب الملك العاملين في
«كرمة» وكان يقوم بعمله في العام الثالث والثلاثين من حكم «أمنمحات الثالث» ما بين
١٨١٦ق.م. وبين ١٨٨٠ق.م. وهو آخر تاريخ ممكن لعهد ولاية «زفاي حعبي» وهي مدة قدرها
أربع وستون سنة، ولا بد أن نفرض لهذه المدة حاكمًا لم يكن مدفونًا في «كرمة» أما من
جهة «أنتف» نفسه فإنه على الرغم من تحديد تاريخ لعهده في «كرمة» فإن هذه الحادثة
يمكن أن تكون قد حدثت بين عامي ١٨١٦ و١٨٥٠ق.م. وإن كان من المحتمل أن التأريخ
الأخيرة مُبَالَغٌ فيه بعض الشيء. والنقش يقدم لنا نقطة أخرى في اسم المؤسسة «إنبو
أمنمحات (جدار أمنمحات) صادق القول»، وذلك أن هذا المكان قد سمي باسم فرد يُدْعَى
«أمنمحات» كان قد مات، وعلى ذلك فإنه ليس «أمنمحات الثالث» الذي عُمِلَ في عهده
النقش لأن النقش على الأرجح جدًّا بطبيعة الحال كان يُنْسَبُ إلى «أمنمحات الأول»،
وعلى ذلك فإن تأسيس هذه النقطة العسكرية في «كرمة» لا بد أن يُنْسَبَ إلى عهده. وقد
أخضع «أمنمحات الأول» ثورة كوشية في عام ١٩٧١ق.م. غير أن ابنه «سنوسرت الأول» كان
مضطرًّا لإخماد ثورة أخرى في عام ١٩٦٢ق.م. أي بعد تسع سنوات من الثورة الأولى. وكان
المركز الإداري المحصن الذي تمثله «الدفوفة الغربية» قد أُقِيمَ إما في نهاية عهد
«سنوسرت الأول» أو في أوائل عهد «أمنمحات الثاني» وكانت الجبانة العظيمة التي تعد
المركز الهام لدفن المجتمع هناك قد بُدِئَتْ على قدر ما يمكن معرفته الآن بالأمير
«زفاي حعبي» عند نهاية حكم «سنوسرت الأول» تقريبًا أو في عهد «أمنمحات الثاني».
والظاهرُ أن المؤسسة «إنبو أمنمحات» إذا كانت قد أُسِّسَتْ في عهد «أمنمحات الأول»
لم تكن في عهده إلا بمثابة نقطة تجارة كما كانت عليه في عهد «بيبي الثاني»، ولذلك
فإن اسم «جدار أمنمحات» يظهر ضخمًا أكثر من اللازم إلا إذا كان هناك جدار شاسع محيط
كان قد هدم تمامًا، وعلى ذلك لا يمكن حل هذه المسألة بما لدينا من مادة محفوظة كشف
عنها، فالجبانة كما وجدناها لا يرجع تاريخها إلى أكثر من عهد «سنوسرت الأول» وعلى
ذلك فإنه لا بد أن نفكر في المقترح القائل بأن اسم «إنبو أمنمحات» يشير إلى
«أمنمحات الثاني»، وأن «زفاي حعبي» قد أرسله الملك إلى «كرمة» وأنه هو المؤسس
لحامية «كرمة» وهذا المقترح إذا كان صحيحًا فإنه يجعل موت «زفاي حعبي» حوالي عام
١٨٨٠ق.م. أكثر من التاريخ الذي حُدِّدَ لموته فيما سبق، هذا ما علق به الأستاذ
«ريزنر» على لوحة «أنتف» والآن يجب علينا قبل مناقشة كلامه أن نضع ترجمه لهذه
اللوحة فيما يلي:
السنة الثالثة والثلاثون الشهر الأول من فصل الصيف اليوم الأول في عهد
جلالة ملك الوجه القبلي والوجه البحري «ني ماعت رع» بن «رع» «أمنمحات
(الثالث)» العائش أبديًّا، قائمة اللبنات اللازمة للمبنى «سنبت» الذي يقع
في «إنبو أمنمحات المرحوم» وهي التي اسْتُعْمِلَتْ بنشاط الأمير والسمير
الوحيد الذي بعثه سيده لأنه كان ممتازًا — لتثبيت حدوده بما لديه من
تصميمات ممتازة، المشرف على الخاتم «أنتف» ابن «شم إب» عندما كان مع جنود
الحدود الخاصة «بإلفنتين».
٧٥ (عدد اللبنات) ٣٥٣٠٠ (أو ٣١٣٠٥).
وعلى الرغم من أن المنتظر أن ذكر جنود الحدود في «إلفنتين» وكذلك العبارة: «لأنه
كان ممتازًا لتثبيت حدوده (أي الملك)» يكون مصدره نقشًا من «إلفنتين» أكثر من نقش
مصدره «كرمة»، فإن شواهد الأحوال تدل على أن مصدره كان «كرمة». ومن الْمُحْتَمَلِ
أن النشاط البنائي المذكور في هذه اللوحة كما يقول «ريزنر» قد دل على إصلاح في مبنى
«كرمة رقم ٢». وكلمة «سنبت» معناها العام «جدار» ولا تعني أية محطة معينة. غير أن
عدد اللبنات يتفق مع عمل إصلاح حدث فعلًا في مبنى «كرمة رقم ٢»، وفي الوقت نفسه
فإنه يعتبر عددًا ضئيلًا جدًّا لإقامة مبنى في «كرمة رقم ٢» أو «كرمة رقم ١». ويطلق
الاسم «إنبو أمنمحات المرحوم» على المستودع التجاري «بكرمة» أو على المستعمرة
المرتبطة بها (أي كرمة نفسها)،
٧٦ هذا إلى أن تكوين الاسم نفسه يدل على أنها قد أقيمت في عهد ملك مبكر
يُدْعَى «أمنمحات» ويُحْتَمَلُ أنه «أمنمحات» الأوَّل أو الثاني ولذلك سميت باسمه.
أما الأستاذ «ينكر» فيسلم
٧٧ بأن مبنى «كرمة رقم ٢» وكذلك المؤسسة الكبيرة «كرمة رقم ١» قد أقامهما
«أمنمحات الثالث» غير أن المتون التي لدينا لا تعضد هذا الرأي، ومع ذلك فإنه قد
يكون على حق، وذلك لأنه من المحتمل أن «كرمة رقم ١» المتأخرة قد أقيمت في عهد ذلك
الفرعون في حين أن المباني القديمة في «الدفوفة» قد أقيمت في بداية عهد الدولة
المتوسطة. وهذا الرأي يمكن الأخذ به ما دامت المآخذ الأثرية تعوزنا. وتؤكد لنا
المتون على أن الوكالة كانت تقوم بنشاط في عهد حكم الإمبراطورية، وهذا ما تدل عليه
كل الأحوال في عهد الدولة الوسطى.
وتدل صفة هذه المؤسسة المحصَّنة التي تُعَدُّ بمثابة مستودع تجاري لا حصن، كما
يدل ما نجده من مظاهر النعيم والرخاء في مقابر القوم في هذا العهد، على أن المصري
كان يعيش هنا بوصفه تاجرًا مسالمًا، وأنه كان يستغل السكان الأصليين في تجارته. ولم
تنتشر المقابر المتأخرة عن عصر ثقافة «كرمة» بعد، غير أنه من المادة التي انتشرت
حتى الآن من جبانة «كرمة رقم ٣» نعلم أن تدهورًا حدث في فن بناء المقابر الكومية
الشكل وكذلك في الصناعات اليدوية.
٧٨
وبازدياد الصعوبات في العهد المتوسط الثاني من التاريخ المصري في وجه التجارة مع
الجنوب ظهر أمامنا كذلك حالة فقر الأهلين في «كرمة» نتيجة لذلك.
(٣) ويستمر «ريزنر» في تعداد الآثار التي وُجِدَتْ من هذا العصر فيقول: «عُثِرَ
على لوحة في هيئة خاتم في «كرمة رقم ٤٠٥» وهو مدفن من أهم المدافن الثلاثة في جبانة
«كرمة رقم ٤» وهو على ما يظهر أحد المدافن المبكرة في هذه الجبانة. ويرى «ريزنر» أن
العلامات الهيروغليفية التي على هذا الخاتم هي الاسم الحوري للملك «أمنمحات
الرابع»
٧٩ وهذا الخاتم كان متآكلًا ويبرهن على أن الدفنة
(K
405) كانت قد حُفِرَتْ بعد بداية حكم «أمنمحات الرابع»، ولكن
هذه المدة لا تتجاوز عشر سنين من غير شك، وعلى ذلك يمكننا أن نضع حدًّا لتاريخ
معقول وهو ما بين ١٨٠٠ق.م. و١٧٩٠ق.م. للعهد الذي يمكن أن يكون قد تُوُفِّيَ فيه
الموظف الذي دُفِنَ في الجبانة
(KIV). ويلاحظ أن
هذا التأريخ يفتح أمامنا إمكانية أن «أنتف» صاحب اللوحة الذي أصلح مبنى «كرمة رقم
٢» قد دُفِنَ في نفس المقبرة
(KIV). وألقاب الموظف
الذي دُفِنَ في
(KIV) كما وصلت إلينا من قطعة من
تمثال صغير نسبته إليه هي: الأمير الوراثي والحاكم …» في حين أن «أنتف» كان
يُلَقَّبُ على اللوحة «المشرف على الخاتم» ولكن يلحظ أن اللوحة صغيرة جدًّا وكان
الكاتب مضطرًّا بمقتضى المساحة التي أمامه أن يختصر في الألقاب، فمن الممكن إذن أنه
كان يحمل ألقاب صاحب التمثال الصغير وغيرها. وفضلًا عن ذلك يمكن أن يحمل التمثال
اللقب الذي على اللوحة وألقابًا أخرى هُشِّمَتْ. وأخيرًا يمكن أن نضيف هنا أن
«أنتف» قد أتى إلى «كرمة» إما في سنة ١٨١٦ق.م. أو قبلها، وهو يحمل لقب «المشرف على
الخاتم» ومن الممكن أنه كان قد أحرز ألقابًا أخرى بين هذا الوقت والتاريخ الذي
دُفِنَ فيه إذا كان فعلًا قد دُفِنَ في هذه الجبانة».
والواقع أن قراءة الاسم الحوري بوصفه للملك «أمنمحات الرابع» فيه شك، وبخاصة أن
هذا الخاتم لا يحمل على ظهره الإطار العادي والرسم الذي على ظاهر الخاتم على أنه من
عهد متأخر
٨٠ وعلى ذلك فإن كل مقترحات الأستاذ «ريزنر» تتلاشى من حيث التأريخ بهذا
الخاتم.
(٤) ثم يقول «ريزنر»: «عُثِرَ على تمثال صغير لملك يُدْعَى «سخم رع خوتا وي» في
دهليز التضحية للمقبرة (KXB) في الردم في غربي حجرة
الدفن الرئيسية، وكذلك عُثِرَ على قطع من تمثال أصغر بكثير من السابق وعلى تمثال
الملك «سنوسرت الثالث» على سطح الردم على الجانب الجنوبي للمقبرة الكومية». وتوحيد
هذا التمثال بالملك «سنوسرت الثالث» يتوقف على سطر من النقوش جاء فيه: الإله الطيب
«خع … رع» وعلى رأس تمثال يظهر من ملامحه أنه «لسنوسرت الثالث» كما يدل على ذلك
تماثيله في مصر ويظهر لي ذلك مؤكدًا. والعلاقات بين قطع هذا التمثال الصغير والدفنة
الرئيسية ليست واضحة. ولكن يمكن أن تُعْتَبَرَ هذه مثل القطع التي وُجِدَتْ في
المقبرتين رقم ٣ و٤ في «كرمة» وعلى ذلك فإني أنسبها بالإضافة إلى تمثال «سخم رع
خوتا وي» للدفنة الرئيسية في الجبانة (K.X.). وعلى
حسب ورقة «تورين» يعتبر «سخم رع خوتا وي» الملك الخامس عشر في الأسرة الثالثة عشرة،
وعلى حسب تاريخ هذه الأسرة العام يكون حكمه حوالي عام ١٧٣٠ق.م. تقريبًا، وعلى وجه
التقريب يكون قد حكم بعد «سنوسرت الثالث» بقرن. ولما كان تمثاله قد وُضِعَ في حجرة
الدفن الرئيسية للمقبرة (K.X.) فإن الرجل الذي
دُفِنَ هناك لا يمكن أن يكون قد مات قبل حكم «سخم رع خوتا وي».
(٥) ويقول «ريزنر»
٨١ إنه عثر في المقبرة
(KXVI) في ردم حجرة
الدفن الرئيسية على قطع كبيرة من إنانء قربان كبير مصنوع من المرمر نُقِشَ على جزء
منها نهاية اسم ملكي «مس» كما عثر على تمثال صغير من الخشب له لباس رأس ملكي وصل،
هذا إلى قطع من تمثالين «لشخصين عاديين».
وقد قرأ «ريزنر» اسم هذا الملك على أنه «زديومس» غير أن هذه القراءة فيها شك كبير
لأن علامة «مس» فيه مهشمة تماما.
٨٢
ومما سبق نفهم أنه كان يوجد في جهة «كرمة» مستعمرة مصرية قد يجوز أنها ترجع إلى
عهد الدولة القديمة، غير أن قيامها الفعلي كان في عهد الدولة المتوسطة، وكان الغرض
منها قبل كل شيء التجارة بين بلاد «كوش» ومصر، وتدل شواهد الأحوال على أن هذه
التجارة كانت تقوم على مبادئ السلام والمهادنة. والواقع أنه ليس لدينا أية مصادر
حتى الآن تدلنا على قيام مشاريع حربية أو على نشوب مواقع مع الأهالي جنوب «سمنة»،
ومن ثَمَّ نعرف أن بلاد النوبة السفلى كان يحتلها المصريون احتلالًا عسكريًّا، وأن
الأهالي هناك عندما كانوا لا يُسَامُونَ الْخَسْفَ يخضعون تمامًا سياسيًّا لمصر.
ولكن من جهة أخرى نجد أن العلاقات بين منطقة «كرمة» ومصر كان قوامها تبادل التجارة
السلمي، وعلى ذلك فإن الصعوبات التي كانت تعترض التجارة المصرية في الجنوب وهي التي
انتهى أمرها بسقوط المستودع الذي كان في «كرمة» لم يكن سببها يرجع إلى الأحوال في
«كرمة» بل إلى الأحوال في مصر نفسها وفي بلاد النوبة السفلى التي كانت تربط الجهتين
إحداهما بالأخرى. إذ في تلك الفترة أخذت مصر في التدهور الذي انتهى بسقوط الدولة
الوسطى ثم احتلال الهكسوس للبلاد لمدة طويلة كما سنرى بعد.