ملحق
كلمة شكر بمناسبة منح جائزة العام من مؤسسة هيلجا وإدزارد
رويتر في برلين يناير ٢٠٠٤
السادة مانحو الجائزة، السيدات والسادة،
-
لماذا يجب على الغرب التبشير بثقافته الموجِّهة؟
-
لماذا يجب على ألمانيا السماح للمعلمات بارتداء الحجاب؟
إذا نظرنا إلى الأطروحتين على حدة، فلن نجدهما جديدتين، لكن الأمر غير المعتاد هو أن يمثل المرء كلتا الأطروحتين في الوقت نفسه. إذ إن الذي يصر على الحق المطلق للقيم الغربية يرى في العادة في الحجاب على رأس معلمة مسلمة تحديًا لهذا الحق. والعكس بالعكس، فمؤيدو الحجاب لا يكونون في العادة مبشرين بتصورات القيم الأوروبية. وبالنظر إلى الانقسام الواضح بين المعسكرين يمكن اعتبار كلمتي إسهامًا في التفاهم بين الشعوب، بين مؤيدي الثقافة الموجِّهة ومؤيدي التعددية الثقافية. إلا أن القول بأني أقف بإحدى قدمي في هذا المعسكر وبالأخرى في الآخر لا يكفي كي أستحق جائزة الاندماج هذه، لذا أريد أن أمثل الأطروحتين اللتين تبدوان متناقضتين من خلال ترك مجالي مؤقتًا لأبدأ بأمرين يمكن أن يكونا مألوفين على الأقل لواحد من مانحي الجائزة، ألا وهما: المال، والسيارات الليموزين. وجدير بالذكر مقدمًا أن السيارات الليموزين لا تأتي من شتوتجارت-تسوفينهاوزن وإنما من سوشو في فرنسا. ولكن كي أسير بالترتيب سأرجع إلى الأمر الذي ذكرته أولًا: المال، وبدقة أكثر مبلغ الجائزة الذي حصلت عليه.
دون أن أثقل عليكم بأرقام، أريد فقط أن أقول إن المبلغ يعتبر في رأيي مالًا كثيرًا، ربما اختلف الأمر في شتوتجارت-تسوفينهاوزن، ولكن حيث أسكن في كولونيا-أيجلشتاين نقول بلهجتنا الخاصة: «يا له من مبلغ طيب!» في اللحظة التي جاءني فيها خبر حصولي على هذا التشريف الكبير تبادر إلى ذهني على الفور سؤال: ماذا سأفعل بهذا المال؟ في الحقيقة لا ينقصني شيء إطلاقًا؛ لديَّ شقة في أجمل مدينة في ألمانيا، ولديَّ جهاز ستيريو ممتاز، ويوم السبت أستطيع شراء تذاكر لأفضل أماكن في استاد منجرسدورف، كي أشاهد فريق «إف سي كولونيا ١» وهو يخسر بشجاعة. ولديَّ أيضًا ما يكفيني لقضاء المساء في الحانة المعتادة، ولا أنوي شراء أشياء كبيرة. وبذلك أكون قد وصلت إلى الأمر الثاني الذي يفهم على الأقل واحد من مانحي الجائزة الكثير عنه. أنا أقود بالفعل أجمل سيارة في العالم: بيجو ٦٠٥ مصنوعة في عام ١٩٩٠ — عام الوحدة الألمانية — العام الذي تمدد فيه الغرب في اتجاه الشرق. كنت أجد الأمر دائمًا جيدًا، منذ البداية. كنت أجلس أمام التلفاز في بيت الطلبة وأقول في نفسي: رائع، فليسقط هؤلاء العجزة! فلتسقط التماثيل! فلتسقط تلك البزات العسكرية! أوقفوا تلك العروض العسكرية! ارسموا شوارب في وجوه الديكتاتوريين المرسومة على اللوحات الدعائية! أحضروا صور دورات المياه المذهبة التي يمتلكونها!
وقد احتفظت بتلك الدفعة في داخلي حتى اليوم: تلك الفرحة بأن الماضي انتهى، مهما كان المستقبل سيئًا. حتى عندما ظهر ذلك الديكتاتور مؤخرًا، الذي لم يكن هناك حاجة إلى رسم شارب في وجهه لأنه كان لديه بالفعل شارب مثل باقي أعضاء حزبه، ولديه لحية أيضًا، لم أشعر بتعاطف معه ولا بحنين إلى الماضي. بالطبع توجد دائمًا أشياء يمكن انتقادها. بالطبع كان أوسكار لافونتين محقًّا وسارت عملية التوحيد بطريقة كارثية. بالطبع فعلت الولايات المتحدة الأمريكية كل الأخطاء الممكنة في اقتحامها العراق، كل مراقب مستقل كان موجودًا في العراق لم يملك إلا أن يهز رأسه متعجبًا من سوء إدارة الاحتلال. وبالطبع توجد سيارات أفضل من البيجو ٦٠٥ المصنوعة عام ١٩٩٠ التي يجب أن أضيف لها ماء التبريد قبل القيام بأي رحلة طويلة. كل من يحاول تشغيل مكيف الهواء في سيارتي في الصيف يهز رأسه متعجبًا من التكنولوجيا الفرنسية. دائمًا يوجد ما هو أفضل. كان من الأفضل أن يقوم الشعب بنفسه بإسقاط صدام حسين. البيجو ٦٠٧ أجمل من البيجو ٦٠٥، وخصوصًا لأنها أحدث ومزودة بجهاز توجيه ملاحي، يبدو أن الأمريكيين أنفسهم لم يكن لديهم مثله في العراق؛ ولكن لشراء بيجو ٦٠٧ لا يكفي حتى مبلغ الجائزة الذي تقدمه مؤسسة هيلجا وإدزارد رويتر.
لذا فكرت فيما يمكن أن أفعله بالمبلغ؟ وقررت أن أشتري بيتًا قديمًا في أصفهان، وهي مسقط رأس عائلتي، وإذا كنتم منزعجين قليلًا من أني أتكلم طوال الوقت عن المال فبإمكاني أن أدافع عن نفسي مستخدمًا حجة ثقافية: الأصفهانيون هم بخلاء إيران مثل أهل منطقة شفابين في ألمانيا. كل الأصفهانيين، جميعهم بلا استثناء. هذا على الأقل ما يقوله باقي الإيرانيين عنا. تبعًا لما يظنه الناس فنحن بخلاء إلى أقصى حد، ولا نفكر إلا في المال، ونحتال على أي إيراني آخر وخصوصًا الإيرانيين الأتراك أي الأذربيجانيين. زوجتي واحدة من هؤلاء الأتراك ولديها جواز سفر إيراني. لا يسعني إلا أن أحذر من مثل تلك الهويات المزدوجة. عندما أزور عائلة زوجتي في طهران، هل تظنون أني أفهم كلمة واحدة مما يقولون؟ جميعهم يتكلمون هناك اللغة التركية، وهم في قلب طهران. يا له من مجتمع موازٍ مفزع، غير قابل للاندماج تمامًا؛ ولديه رفض للحوار بطريقة لا تعرف الحلول الوسطى. أرسلوا معي كلاوديا روت رئيسة حزب الخضر الألماني وأنا سأريها أين تنتهي حدود القابلية للاندماج. لا يمكن تكوين أسرة مع الأتراك، وهو ما اكتشفته بعد ذلك؛ فكيف يمكن تكوين اتحاد سياسي معهم؟
الأصفهانيون ما كانوا ليقبلوا الأتراك في الاتحاد الأوروبي؛ سيكونون مكلفين جدًّا. ولكن ما كان أيضًا ممكنًا دخول أصفهان في الوحدة الألمانية؛ فهذا أيضًا سيكون مكلفًا جدًّا. كان سيصبح لزامًا عليكم تحمل إيجون كرنتس بصفة دائمة. كونوا شاكرين لأن ألمانيا لا يحكمها أصفهاني، وإن كان من ناحية أخرى وبالنظر إلى ارتفاع الديون فإن اختيار مستشار أصفهاني يمكن أن يكون أمرًا مغريًا. لكني لن أقبل هذا المنصب، وأود أن أوضح ذلك هنا والآن، وإلا فسيكون عليَّ الانتقال مرة أخرى من كولونيا إلى برلين. لقد فعلت ذلك مرة ولكن بعد ثلاث سنوات اكتفيت من ذلك الهدوء وتلك السكينة في جرونيفالد. (…) على الأقل لا يضحك عليَّ أحد عندنا في أيجلشتاين عندما أضيف كل يوم ماء التبريد لسيارتي البيجو، فالجميع هناك يفعل نفس الشيء، فأنا أسكن حي الأتراك، وعندما أرى جيراني يجب عليَّ أن أطلق نفير التنبيه للتحية، وهو أمر لا يتوافق تمامًا مع معايير الاتحاد الأوروبي. إن ما يفعله جيراني يمكن أن يقضي على أي اتحاد من اتحادات اختبار الكفاءة التقنية في ألمانيا. حتى سيارتي البيجو قام الميكانيكي التركي الذي يسكن البيت المقابل لي بتمريرها أمام المراقبين الألمان دون أن يلاحظوا شيئًا. يمكن للمرء أن يتخيل ماذا سيفعل الأتراك في تعليمات بروكسيل الخاصة بتحديد عدد أعواد الثقاب في علب الكبريت أو بحجم علب السمنة. فما بالكم بثعالب التوفير الأصفهانيين.
لكني لم أكن أرغب في قول أي شيء فيما يتعلق بانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، فهذا الأمر أتركه للخبراء في الشئون التركية الذين يفيضون حاليًّا من بين المؤرخين الألمان ومن بين الأعضاء البرلمانيين من الحزب المسيحي الديمقراطي كما يفيض الماء من مبرد سيارتي. كما لا أرغب في تقديم مرافعة من أجل قبول أصفهان في الاتحاد الأوروبي. كلا، فأنا أريد أن أتحدث عن التفاهم بين الشعوب، فهذا هو الأمر الذي أكرم بسببه اليوم. والأمر كالتالي: نظرًا لأني لم أتمكن من الإسهام في تحقيق التفاهم بين مواطني كولونيا ومواطني برلين، قررت أن أشتري بيتًا في أصفهان آملًا في أن أنجح في تحقيق التفاهم بين الألمان والإيرانيين بصورة أفضل.
يوجد في إيران ألف وستمائة بيت سكني من عصر الصفويين والقاجاريين يخضع للحماية الأثرية. كل واحد من تلك البيوت يُعد قصرًا أو متحفًا، يُعد مجدًا لانفراد الشخصية. كل بيت منها له شخصية مختلفة وله طابع معماري متناسق في حد ذاته. المنمنمات وأعمال الجبس المزخرف والإيوانات والقباب والأسقف المقوسة وأعمال الزجاج والمرايا وأعمال الخشب المطعَّم والرسومات على الحوائط التي تُزيِّن تلك المنازل منذ مئات السنين، ولا يكاد يصل إليها السياح حاليًّا؛ تبهر الأنظار من شدة الجمال والعجب من كثرة الجهود التي بذلها الناس قديمًا لمداعبة الحواس، ويشعر الرائي أيضًا بالخجل لأن الإنسان يفكر دون أن يشعر في طرق بناء البيوت التي تفتقد إلى أي إبداع في إيران حاليًّا. لكل بيت منها فناء داخلي، فيه أحواض الورود وشجيرات الأزهار وأشجار الرمان. إنها منازل تعبر عن اشتياق الإنسان إلى الجنة؛ ألف وستمائة جنة عدن.
للأسف أصبح عالم المباني الذي أحدثكم عنه جزءًا من الماضي. وقد فقد معظم الأصفهانيين في القرن العشرين وعيهم بقيمة تقاليدهم الجمالية والمعمارية. يتم بالتأكيد صيانة النُّصب التذكارية الكبيرة والمساجد في المدينة لجذب السياح. ولكن يومًا بعد يوم تفقد أصفهان وجهها: مع كل طريق يتم شقه عبر الأحياء السكنية بغرض تعبيد طريق سريع، ومع كل باب خشبي يتم استبداله بباب حديدي، ومع كل بيت سكني يتم استبداله ببرج سكني. فالبيوت القديمة عديمة القيمة من الناحية الاقتصادية؛ مساحة سكنية صغيرة على قطعة أرض كبيرة. لذلك يرى كثير من أصحاب البيوت القديمة أن اللعنة قد حلت بهم عندما تُعلن الحكومة أن بيوتهم أصبحت تحت حماية هيئة الآثار، لأنهم لن يستطيعوا هدمها وبناء عمارات سكنية. لكن حتى عندما تقرر الحكومة حماية المنازل توجد دائمًا طرق أخرى لهدمها: يمكن تركها فارغة، يمكن ترك خرطوم مياه الحديقة مفتوحًا أيامًا متتالية داخل المنزل في الشتاء، يمكن ترك عدة آلاف من النقود للموظف المختص؛ وبذلك تكون أصفهان قد فقدت جزءًا آخر من ماضيها.
لكن لا يقف وراء ذلك أسباب اقتصادية فحسب، إذ يرغب في السكن بطريقة حديثة كل من يستطيع ذلك، والطريقة الحديثة تعني السكن في شقة ذات مطبخ به ركن للجلوس ومصعد وأرضية من الباركيه وستائر وأجهزة تكييف الهواء والتدفئة المركزية. لم يبقَ سوى كبار السن والعجائز الذين يرغبون في العيش تحت القباب، حيث تُغني القباب عن أجهزة تكييف الهواء. يحكون بشجن عن أمسيات العائلة الكبيرة تحت شجرة الرمان، ولا يستطيعون فهم كيف استطاع أبناؤهم أو ربما كيف استطاعوا هم أنفسهم عندما كانوا شبابًا وحمقى أن يفرطوا في عبق الزهور وصوت خرير الماء. يعرف كبار السن، العجائز، الذين ربما لم يغادروا أصفهان طيلة عمرهم، قيمة البيوت القديمة وما تتيحه من حياة جميلة. إذن يجب بالضرورة ألا يغادر المرء أصفهان حتى يتكون لديه هذا الوعي. أو ربما يجب على المرء أن يرتحل حول العالم حتى يتكون لديه ذلك الوعي: مهندسون معماريون درسوا في الغرب، أصفهانيون عرفوا ترميم وصيانة المدن القديمة في أثناء زيارتهم لمدن أوروبية قديمة، إيرانيون يعيشون في الغرب. هنا وهناك يشتري أحدهم بيتًا قديمًا ويرممه، ربما ليسكن فيه، أو ليؤسس فيه مكتبه، أو ليفتتح فيه مطعمًا أو مقهى. من وقت إلى آخر يسافر أحدهم من كولونيا إلى أصفهان لينقذ بمبلغ الجائزة التي حصل عليها بيتًا من تلك البيوت من حمى الهدم أو من خرطوم الحديقة.
كنت في أصفهان في شهر نوفمبر مدة أسبوع، وطوال الأسبوع كنت أستمع إلى من يحاولون إقناعي بأن تلك البيوت القديمة غير عملية تمامًا. استغرق الأمر مني وقتًا طويلًا حتى استطعت إقناع السمسار بأني لا أرغب في شراء بيت قديم كي أهدمه وأبني مكانه برجًا سكنيًّا.
سألني السمسار: «ترغب في السكن فيه؟»
«نعم. لماذا، هل هذا أمر غريب إلى هذا الحد؟»
«لا، لا. لكن البيت تحت حماية هيئة الآثار، لن تستطيع هدمه بهذه البساطة.»
«نعم، لهذا السبب تحديدًا أرغب في شرائه.»
«لكنك لن تستطيع إعادة بيعه.»
«أنا لا أفكر في إعادة بيعه، أريد أن أرممه وأدخن نرجيلتي في حديقته.»
«نرجيلة، هل تدخن النرجيلة؟»
«نعم، النرجيلة.»
نظر إليَّ السمسار صامتًا، ثم قال أخيرًا:
«دائمًا توجد طرق لهدم مثل هذه البيوت.»
«لا أريد هدمه، أريد إصلاحه.»
«الأمر هكذا إذن.»
نظرت إلى السمسار وأنا أعرف جيدًا فيمَ يفكر: إن هؤلاء الغربيين يخرِّفون. كان يشعر بالود تجاهي، ولذلك كان يريد مساعدتي. بدأ في التفكير مجددًا ثم قال:
«لديَّ بيت رائع الجمال، يطابق تمامًا الذي تبحث عنه، يمكنك الانتقال غدًا للسكن فيه إن شئت. وهو قديم أيضًا، تقريبًا من العصر الحجري.»
«كم عمره؟»
«ثلاثون، ربما أربعون سنة، على الأقل.»
«لا، أنا أعني قديم فعلًا.»
«قديم فعلًا!»
«نعم، من الطين وبه نافورة وشجرة رمان وفناء داخلي.»
«يا لها من أفكار، هل ترغب في تدخين سيجارة ونستون؟»
«لا، شكرًا، أنا أدخن النرجيلة.»
بعد دقائق شرح السمسار لزميله ما أبحث عنه.
«نعم، واحد من تلك البيوت القديمة.»
«لماذا، هل يرغب في هدمه؟»
«لا، الأستاذ من الغرب.»
«نعم، فهمت، من الغرب.»
صحيح! لقد جئت من الغرب. إنه وعي غربي أجول به بين طرقات أصفهان. إنه وعي غربي لدى أصدقائي في أصفهان الذين دفعوني إلى شراء بيت قديم. جميعهم سافر بعيدًا ويتمنى أن يحمل أشخاص مثلي ممن يأتون من الخارج أفكارهم إلى المدينة. وهم يعرفون أنه إذا أصبح لي بيت في أصفهان فسيستخدمه أصدقاؤنا من الغرب، سيزورون المدينة ويعيشون فيها بعض الوقت، وينشرون ثقافتهم الغربية من خلال اكتشافهم لعظمة الثقافة المحلية هناك. يقولون إن هذا سيكون جيدًا للمدينة. عندما يهتم الغربيون بالبيوت القديمة سيزداد عدد الأصفهانيين الذين سيهتمون أيضًا بها.
كان من الضروري في رأيي أن يكون البيت الذي أريد شراءه في مدينة جولفا، وجولفا هذه هي حي الأرمن في أصفهان، أي حي المسيحيين. كنت دائمًا أفكر في أني لو اشتريت بيتًا في أصفهان فإنه يجب أن يكون هناك، ليس فقط لأنه حي يتمتع بهدوء وجمال خاص، أو لأن الإنسان يمكن أن يعيش بحرية أكثر هناك مقارنة بباقي أحياء المدينة، ولكن أيضًا لأن الأصدقاء الغربيين الذين سيزورونني في أصفهان سيسكنون هناك بجوار ثلاث عشرة كنيسة. سيخرجون إلى الشارع ويستمعون فورًا إلى اللغة الأرمنية. ودون أن أقول أي شيء سيكتشفون واحدًا من أكبر مظاهر ثراء أصفهان المتعددة: التنوع الذي تقدمه هذه المدينة من ثراء الفردية والتعددية ليس فقط في المعمار ولكن الأهم التعددية في رؤى الحياة وطرق المعيشة. تحتضن أصفهان خمسة أديان وأربع لغات، ففضلًا على المسلمين والمسيحيين في جولفا يوجد أيضًا اليهود بمعابدهم العشرين فقط في حي جوباره، ويوجد أيضًا الزرادشتيون والبهائيون. واللغات المتكلمة هناك هي الفارسية الحديثة والأرمنية والفارسية القديمة التي يتحدثها اليهود، واللغة الفارسية الأقدم التي يتحدثها الزرادشتيون. لكن يجب ألا تُجمَّل الأمور، فحتى أصفهان تعرضت لمذابح وعمليات تهجير قسري، وبعد الثورة الإسلامية أصبح الوضع — وخصوصًا في رأي البهائيين — غير محتمل. أما إذا صدقنا ما ترويه لنا كتابات الرحالة القدامى وتكلمنا مع الناس اليوم، فإننا سنكتشف أن أصفهان تختلف عن مدن إيران الأخرى في احتفاظها بالتعددية بوصفها أمرًا بديهيًّا؛ وهذا يشبه ما يقوله كثيرًا مواطنو كولونيا بلهجتهم المعهودة «كل شخص مختلف»، وهو فهم يطبع الحياة في مدينة كولونيا حتى اليوم.
ما زال التعايش مستمرًا في أصفهان بين مختلف الأديان والأعراق واللغات؛ نعم ما زال هذا التعايش بديهيًّا. أراه بديهيًّا، وأن عدد المهتمين بالحفاظ على البيوت القديمة قليل جدًّا. لا يلفت انتباه بنات عمومتي مدى أهمية هذه التعددية، إذ لهن نفس الصديقات اليهوديات والمسيحيات. أما أنا فتلفت نظري هذه التعددية في المقام الأول بسبب أني من الغرب. بالتأكيد لم يولد الغرب ومعه التسامح. لكن الآن وبعد أن دمر الغرب إلى حد بعيد تعدديته الثقافية والدينية الأساسية، ما زال التسامح على الرغم من ذلك يتحقق فيه أكثر من أي مكان آخر في العالم. أتمتع بوصفي مسلمًا في وطني في مدينة كولونيا بحريات لا يجدها المسيحي في وطني في مدينة أصفهان، بداية من حرية الملبس وصولًا إلى إمكانية أن أصبح رئيسًا للدولة أو عمدة للمدينة. أتمنى أن تتحقق هذه الحرية الغربية في كل مكان في العالم الإسلامي. ويتمنى معظم الإيرانيين الشيء نفسه.
أتمنى أن يتسع مدى الوعي الغربي، وألا تكافح أصفهان ضد تعدديتها الدينية والعرقية، وألا تتحملها فحسب، بل أن تقبل وترحب بهذه التعددية وتحتفي بها وتحميها. الديمقراطية وتقسيم السلطات وحيادية رؤية الدولة والتسامح وحقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين؛ كلها مبادئ نشأت في القرون الماضية في الغرب ولكنها تصلح للعالم كله. ينبغي على الغرب ألا يتخلى عن هذه القيم أو أن يجعلها نسبية من أجل حوار الثقافات. بل على العكس يجب على الغرب أن يقف وراء تلك القيم ويتمثلها بطريقة تبشيرية. من الأفضل التوسع في ثقافة موجِّهة بمثل هذا المفهوم عن أن تترك الثقافات لتتآكل على أرضها. لذلك فإن تصور المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية عن نبذ النسبية وترك المعايير المزدوجة ونشر الديمقراطية إذا لزم الأمر بالإجبار في جوهره صحيح، وهو ما برهنت عليه صور الناس وهم يحتفلون في كابول بتحريرهم من طالبان، وكذلك فرحة العراقيين عند سقوط تمثال صدام حسين. الخطأ بل والأمر المشئوم كان الوسائل المستخدمة. يجب على أوروبا أن تطور رؤية خاصة بها لإسقاط تماثيل الطغاة في مدن أخرى دون أن تقع دولهم فريسة الفوضى والحروب.
أيًّا ما كان الذي يحاول خبراء الإسلام الغربيون والأصوليون الإسلاماويون إيهامكم به، فإن جاذبية الديمقراطية ودولة القانون وحرية الرأي أكبر في العالم الإسلامي بأضعاف من جاذبية الإرهابيين. الأمر الحاسم في ذلك هو: أن هذه الجاذبية لا تقوم على رغبة في التطبع بالطابع الغربي، وإنما على الرغبة في أن يتولى المرء ذمام أمره. ربما تكون الديمقراطية نموذجًا غربيًّا للدولة، ولكن الأهم أن نتيجته هي استقلالية المجتمع. ربما يجعل ذلك الأمر يتحول إلى معضلة للغرب، كما يحدث حاليًّا للأمريكيين في العراق. عندما يتمتع العراق بحرية حقيقية، فإنه بالتأكيد لن يدع «خبراء» أمريكان يملون عليه سياسته النفطية. لكن في هذه المعضلة يكمن السر الحقيقي وراء نجاح الثقافة الغربية الموجِّهة: من خلال انفصال قيمها ومظاهرها عن الارتباط بدين بعينه أصبحت منفتحة بما يكفي كي تتم ترجمتها إلى ثقافات أخرى في العالم وأن تأخذ طابع تلك الثقافات وتترك وراءها أصولها الغربية. من يسعى اليوم في أصفهان من أجل تحقيق التسامح، فإنه يسير تبعًا لنموذج غربي، ولكنه في الوقت نفسه يعيد اكتشاف جزء من ماضي أصفهان. كتب الفرنسي جان شاردين في القرن السابع عشر عن الأصفهانيين: «أكثر صفاتهم التي تستحق الثناء هي طيب تعاملهم مع الغرباء، والاستقبال والحماية التي يعطونها لهم، وكرم ضيافتهم الشامل وتسامحهم فيما يتعلق بالدين.» نجد في أدب الرحلات من تلك الفترة كثيرًا من التعجب من تعدد الأديان في المدينة و«الفهم المنفتح فيما يتعلق بالأديان»، وهذا ما جاء به جوته في «الديوان الغربي الشرقي». يشبه الأمر موضوع البيت القديم في أصفهان: الأشخاص المهتمون اليوم بالحفاظ على معماره التقليدي ليسوا من دعاة الوقوف عند التقاليد، بل هم أشخاص مثلي تأثروا بالغرب وثقافته.
خصوصية الثقافة الغربية الموجِّهة التي يجب النضال من أجلها والدعوة لها تكمن في أنها تقوم على التعددية، وهذا بخلاف الأديان التي تنطلق من ضرورة صلاحيتها المطلقة. لذا تسمح أوروبا بالتعددية الدينية. طورت أوروبا والغرب إجمالًا نموذجًا للدولة يُعد من أهم إنجازاتهم، هذا النموذج لا يسمح بالأديان ورؤى الحياة المختلفة فحسب، بل يتعامل معها بمساواة تصل أو يجب على أي حال أن تصل إلى حد التطرف، سواء في قبولها أو في تقييد حريتها. يجب أن يظهر التفوق ودور الريادة الذي تتمتع به الثقافة الغربية حاليًّا في إعطاء المسلمين الحقوق التي كثيرًا ما يفتقدها المسيحيون في دول إسلامية. أعتقد أني بذلك قلت ما يكفي فيما يتعلق بالأطروحة الثانية التي قدمت لها في بداية كلمتي: لماذا يجب على ألمانيا السماح للمعلمات بارتداء الحجاب ما دامت لم تمنع وجود جميع الرموز الدينية في المدارس؟