ألمانيا تزداد انفتاحًا على العالم
لم تزدد في العالم الإسلامي وفي شمال أمريكا أو في الهند في السنوات الأخيرة القوى الأصولية وحدها قوةً، فقد أصبح معارضوها أيضًا يعبرون عن أنفسهم بحسم أكبر من ذي قبل. الصدع لا يتفاقم بين الثقافات بل بالأحرى يتسع في داخلها. لا يختلف الوضع عن ذلك في أوروبا: فكما تتشكل الصراعات الثقافية فإن هناك قوى مضادة تتشكل ويتجمع أنصار أوروبا التي لا تحدد ملامحها من خلال حدودها وإنما عن طريق انفتاح مجتمعها. إنه جدل يشبه في تكوين معسكراته ما يحدث في العالم الإسلامي أيضًا، ولكن لحسن الحظ لا يصل إلى نفس درجة حدة ما يحدث فيه. عناوين الجرائد المحافظة وهستريا بعض كتاب الأبواب الثقافية تصرف الأنظار عن أن سياسة معظم الدول الأوروبية تجاه المهاجرين تعمل على التصدي لصراع الثقافات، وأن هناك تغيرًا في وسائل الإعلام يحدث منذ فترة طويلة، وأن الاتحادات الاقتصادية تدعو بصورة واضحة إلى وجود سياسة منفتحة للهجرة ومجتمع متعدد منفتح على العالم. يوجه السياسيون والاتحادات الاقتصادية وهيئات التحرير بصورة مستمرة خطابهم ومطالبهم وتحليلاتهم إلى جمهور لم يعد متجانسًا عرقيًّا أو ثقافيًّا. وتقديم كلمة يوم الجمعة في بعض المحطات التلفزيونية ما هو إلا إشارة رمزية. وسيتضح أن الأمر الأهم يتمثل في أن نسبة أبناء المهاجرين قد ارتفعت بشدة في الأطباء الذين يؤدون فترة التمرين، وأن تركيبة هيئات التحرير تقترب تدريجيًّا من تركيبة المجتمع. على الأكثر عندما يصبح أحد رؤساء تحرير المؤسسات الصحفية «شبيجل شربينجر فاتس» يحمل اسم جوليناز أو محمد فإن الناشرين الرجعيين أيضًا سيكونون قد دخلوا في مجتمع الهجرة، بدلًا من أن يستمروا في محاربته. وعلى الرغم من كل ما يُكتب عن الإسلام أو ضده، وعلى الرغم من كل الأصوات العالية، فإن التعايش يسير في المجتمع على نحو أفضل بكثير والتسامح مع المسلمين أكبر بكثير مما يبدو في الواقع الإعلامي.
لا يمكن مقارنة انفتاح ألمانيا على العالم اليوم بما كانت عليه قبل عقدين أو ثلاثة عقود. إذ إنها اعتادت اليوم وجود المهاجرين. يجب على المرء فقط أن يتذكر أو يتحدث مع الأشخاص الأكبر سنًّا حتى يحصل على الدليل على المدى الذي وصلت إليه التعددية الثقافية بوصفها أمرًا بديهيًّا. أجد الأمر رائعًا أن أكون محاطًا بكل هذه اللغات والروائح وأشكال الحياة، حتى إن الداخل والخارج كما عشتهما في طفولتي لَينفتح كلٌّ منهما على الآخر، ويسعدني أن الإحساس بالحياة يزداد انفتاحًا على الكون على الأقل في المدن الكبيرة. لا أتمنى أبدًا أن أعيش في ألمانيا في فترة الخمسينات من القرن الماضي، حيث كان الناس سيحدقون فيَّ وكأني حيوان في حديقة الحيوانات، نظرًا لاختلاف لون بشرتي. كثيرًا ما يُستدل على قلة رغبة الأتراك في الاندماج بأنهم يفضلون الزواج فيما بينهم. يمكن للمرء أن يعتقد في هذا الدليل ما يشاء ولكني عندما أنظر إلى جيل والدي ومن تزوج منهم من ألمانيات، أجد أنهم تقريبًا كلهم قد تعرضوا لمشاكل هائلة من أجل أن تقبلهم العائلات الألمانية أزواجًا لبناتهم. كثير من الألمانيات اللاتي أحببن أصدقاء أو أقارب والدي طُردن من عائلاتهن، وبعضهن ما زال مطرودًا حتى اليوم. هذا يبدو الآن ولحسن الحظ غريبًا، إلا أن هذه كانت القاعدة أكثر منها الاستثناء عندما هاجر والداي إلى ألمانيا. لقد تغير هذا وخصوصًا في جيل بناتي، فقد أصبح بديهيًّا أن ينتمي المرء إلى ألمانيا ويكون اسمه أجنبيًّا مثل «ماريكا» أو «مرفه». أتخيل أحيانًا ألمانيا ومدينة كولونيا وهي خالية من الأجانب والأتراك؛ سيكون هذا أمرًا فظيعًا وبالدرجة الأولى ستصبح قاحلة.
أما عن نفسي فألاحظ أني لم أعد أُسأل إلا نادرًا متى سأعود إلى وطني. قبل أعوام كان هذا السؤال يُطرح دائمًا على من هم مثلي: متى ستعود إلى وطنك؟ لم أكن أجد في السؤال اضطهادًا أو إهانة، ولكني كنت أجده سؤالًا غريبًا. العودة إلى الوطن تعني في حالتي العودة إلى مدينة زيجن في وستفاليا السفلى، وأنا فعلًا لا أرغب الآن في العودة إلى هناك. أسأل نفسي دائمًا متى سيفهم الألمان أننا لن نعود إلى أي مكان. أعتقد أنهم بدءوا يفهمون ذلك بالتدريج، حتى في السياسة: فبقدر ما أنظر بنقد إلى قوانين الهجرة التي صدرت أخيرًا وإلى قوانين حماية اللاجئين، أوافق تقريبًا على جميع الإجراءات التي أقرتها الحكومة الاتحادية أو حكومات الولايات أيضًا لدعم تدريس اللغة الألمانية لأبناء المهاجرين ولدمجهم في المدارس أو إجراءات حماية النساء. تسير السياسة هنا منذ سنوات على الرغم من تأخرها بعض الشيء في مسار جيد، إلا أنه يجب أن تخطو عليه بصورة أكثر حسمًا وبثقة أكبر في النفس.
ظهر لي بوضوح الاختلاف الكبير بين الواقع الاجتماعي والواقع الإعلامي في أعقاب النقاشات التي دارت حول بناء مسجد في مدينة كولونيا. عندما كان المرء يقرأ بعض الصفحات الثقافية في الجرائد، كان يأخذ بالضرورة انطباعًا بوجود صراع ثقافات كبير مندلع وأن هناك مسيرات ضخمة للاعتراض على بناء مسجد كبير. أما النقاش هناك في كولونيا الذي أعرفه جيدًا باعتباري أحد سكان تلك المدينة الآن فقد كان يسير ببساطة ودون توتر حتى من المواطنين الذين كانوا ينظرون بعين الشك إلى بناء المسجد. وفي أثناء النقاشات اتضح وجود دعم شعبي وسياسي كبير لبناء المسجد على الرغم من وجود خلافات حول بعض التفاصيل؛ فقد أثيرت أسئلة حول حجم المبنى والخليط الاجتماعي في الحي والممولين ودور الحكومة التركية؛ وكلها أسئلة مشروعة تمامًا. على الرغم من أن دعاة الكراهية كان لهم أحيانًا الصوت الأعلى في التقارير الصحفية، فإنهم في حي «إيرينفيلد» نفسه، وفي المؤتمر الشعبي حول بناء المسجد، في القاعة الرئيسية بالمدرسة التي كانت تعُج بالحضور لم تكن أمامهم أي فرصة. طُرد اثنان أو ثلاثة ممثلين للحزب اليميني المتطرف «من أجل كولونيا» من القاعة بسبب تعليقاتهم الغوغائية والإهانات التي تلفظوا بها، أما بقيتهم فقد غطت أصوات الغالبية الساحقة من المواطنين على أصواتهم.
أُعرِب بكل تأكيد عن بعض التحفظات وعن الرفض، ولكنها كانت في أغلبها اعتراضات محددة عبر عنها أصحابها دون أي مواربة: اتجاه المرور، والمحال الكثيرة التي تبيع كل شيء بيورو واحد في شارع إيرينفيلد للتسوق، والضوضاء المتوقعة، والمعلومات القليلة المتوفرة لدى مقاول البناء، وارتفاع المئذنة وليست المئذنة في حد ذاتها. عندما عرض المهندس المعماري باول بوم تصميم المسجد على حائط العرض ارتفعت أصوات الحضور في القاعة تهليلًا؛ وكانوا ألمانًا. يجب أن يتخيل المرء هذا الموقف. الأشخاص التابعون لمجتمع الأغلبية لا يقبلون المبنى الرمزي للأقلية الجديدة فحسب، بل يقولون أيضًا: يا له من مسجد جميل، إذا كان سيبدو رائعًا هكذا فإننا نريده. تصفيق. يجب أن يكون هناك مكان ليصلي فيه الناس. تصفيق. كيف نطلب منهم أن يندمجوا ونطالبهم في الوقت نفسه أن يبقوا بعقيدتهم في أفنية المصانع حيث يُصلون. تصفيق. نحن إيرينفيلد. هتاف.
لقد اتضح مؤخرًا في الإعلانات ضد ما يسمى ﺑ «مؤتمر مناهضة الأسلمة» في خريف عام ٢٠٠٨، عندما احتشد ٥٠٠٠٠ شخص تضامنًا مع مواطنيهم المسلمين، أن هناك في كولونيا طبقة متوسطة منفتحة على العالم تتحول إلى ما يمكن تسميته مواطنين حسني النية، وخصوصًا في أوساط الطبقة البرجوازية التي «تحافظ على خط المكواة».
لقد لاحظت كثيرًا — وهذا أمر رائع أن تعيش بين هؤلاء الأشخاص — أن كثيرًا منهم متدينون أو قُل إن شئت أناسًا طيبي السريرة، ولكنهم أفضل ألف مرة من أولئك المحاربين الثقافيين الذين تحولوا عن اليسار السابق، الذين لا يريدون الآن الحديث عن أنهم دعموا الحرب على العراق بالأمس وينشدون الحرب على إيران اليوم. إني أفضل ألف مرة الأشخاص الذين يتفهمون دائمًا حتى في المواقف التي لا يكون التفهم فيها مناسبًا، حيث يظن المرء أن الأمر قد زاد عن حده.
كانت السيدة بكل تأكيد مُحقة عندما اشتكت من أن الأتراك، الذين يريدون مسجدًا وهي لا تمانع في ذلك، يتركون سياراتهم واقفة في الصف الثاني. هؤلاء الشباب في السيارة البي إم دبليو السوداء يثيرون غضبي أنا أيضًا في بعض الأحيان، فأصرخ فيهم بعد أن يمروا من أمام دراجتي على الرغم من أن لي أولوية المرور: «أيها المتسكعون!» أو «أيها المتمردون!» أو «أيها الأتراك الحمقى!» هذا ربما يبدو مضحكًا بعض الشيء، ولكن الأمر الذي لم أجده مضحكًا تمامًا كان الولد الأفغاني الذي ضرب ابنتي في المدرسة، ولم تجد المدرسات والمشرفات وسيلة للتفاهم معه؛ لأنه اعتاد في بيته ألا يحترم النساء. هذه بالطبع مشكلة. كيف يمكن لأحد أن يتوقع ألا يتسبب وجود ثلاثين في المائة من المهاجرين أو من أبناء المهاجرين الذين جاء معظمهم من مناطق متخلفة وريفية في مشاكل للسبعين في المائة الآخرين الذين يسكنون المكان من قبلهم؟ يتسبب المهاجرون في مشاكل بكل تأكيد. ولكن يجب الحديث عن هذه المشاكل، تمامًا كما حدث في اللقاء الشعبي. لقد كان ذلك — ولم أكن أنا نفسي أصدق ذلك — ديمقراطية في أخلص صورها. كل شخص لا يتصرف بغوغائية كان له الحق في التعبير عن رأيه، وتلقِّي إجابة حتى ولو امتد الوقت إلى منتصف الليل، فكما كان منظم اللقاء يقول «لدينا الوقت الكافي»، كان الكلام بالدور وتبعًا لمعايير صارمة. «هل تريد بناء المسجد؟ هل لديكم أماكن كافية لركن السيارات؟»
اصطحبت معي الأديب الإيراني أمير حسن جهلتان، الذي كان في زيارة لمدينة كولونيا في إطار برنامج «الديوان الغربي الشرقي» لتبادل الأدباء، وكان يحدِّق مندهشًا. كان يتمتم قائلًا ما هذا التسامح، يا له من بلد متقدم. وكنت أشاهد الأتراك الذين تكلموا بلغة ألمانية أفضل من المشاغبين ورأيت كيف كانت وجوههم مشرقة، وكيف كانوا فخورين، وكيف كانوا يفكرون في أنهم ينتمون إلى هذا البلد، وأيضًا الآخرين الذين كانوا يبدون مثل راكبي السيارة البي إم دبليو السوداء (أريد هنا أن أوضح أن سيارتي زرقاء كومبي). تكلمت فتاة أخرى ترتدي الحجاب، ذات ملامح شرقية، وتتكلم بلهجة منطقة الراين، وتمنت بحماس أن تحافظ كولونيا على سمعتها العالمية كمركز للمثليين الجنسيين (الجميع في كولونيا يطمحون في السمعة العالمية في كل شيء) وأن تُصبح فضلًا على ذلك مركزًا للتنوع الديني. عندها طقطق بعض الحاضرين بأفواههم: مركز التنوع الجنسي والديني. هذا يمكن أن يكون — بل هو بالفعل — ما تعتبره كولونيا رسالتها. كم أتمنى أن تُسمع الرسالة في العالم ولا سيما في وطن ضيفي الإيراني، أو على الأقل في هيئات التحرير وفي الدواوين الحكومية في الجمهورية.
لقد حقق هذا البلد، جمهورية ألمانيا الاتحادية، إنجازات ضخمة فيما يتعلق بالاندماج. تغيرت التركيبة السكانية في غضون عقود قليلة بصورة جذرية، دون أن ينجم عن ذلك توترات اجتماعية كبيرة، مثل التي تعانيها الولايات المتحدة الأمريكية مع الهسبانيكس (سكان الولايات المتحدة من أصول أميركية جنوبية) أو الفرنسيون مع الأفارقة الشماليين، أو حتى المدن التركية مع النازحين من الريف. حركات الهجرة التي لها مثل هذا الحجم الضخم لا تسير أبدًا دون مشاكل، فهي تتسبب دائمًا في توترات، أو توقظ مشاعر الخوف التي لها ما يبررها أو تؤدي إلى صراعات حقيقية. إذا أخذنا ذلك في الاعتبار، فإن عملية إدماج ملايين الأشخاص الذين جاء معظمهم من عالم غريب وريفي وذي طابع إسلامي في ألمانيا قد حققت بالمقارنة نجاحًا جيدًا؛ هذا على الرغم من عدم وجود سياسة للاندماج بها لعقود طويلة، بل إن المرء يمكن أن يتحدث عن سياسةٍ مناهضة للاندماج حتى فترة الثمانينات، عندما كانت تقدم حوافز لتشجيع المهاجرين على العودة إلى أوطانهم. بينما كانت الأحزاب المحافظة حتى نهاية عهد كول ببساطة شديدة ترفض الهجرة، كان كثير من اليساريين يمجدونها بسذاجة، وكأن شعارهم: أيها الأجانب حررونا من الألمان. ولكن لا يمكن اعتبار أي أشخاص في العالم نافعين فقط لأنهم غير ألمان، وإن كانوا الأجانب في ألمانيا. وبذلك تعرضت مشاكل المهاجرين الريفيين للتجاهل، مثل المستوى التعليمي الضحل، أو المعرفة المنخفضة باللغة الألمانية حتى في الجيلين الثاني والثالث، ورؤية الحياة من منظور أبوي سلطوي، فضلًا على اضطهاد المرأة.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الواقع الاجتماعي، كما أراه كل يوم، يسير بهدوء يثير العجب، وأنا أعيش في وسط الواقع متعدد الثقافات حيث يُطبَّق التسامح ويُختبَر يوميًّا — على خلاف المناطق السكنية البرجوازية — في حي تسكنه نسبة عالية من المهاجرين. بينما كنت أستمتع وأنا طالب بالتنوع الذي اتسم به الحي الذي كنت أقطنه، لا أجد الآن وأنا أب فرصة لتجاهل مشاكل المجتمع متعدد الجنسيات. لذلك فأنا أتفهم تمامًا عندما تصدر مدرسة قرارًا بأن تكون اللغة الألمانية هي المستخدمة فقط في فناء المدرسة. نحن مثلًا لم نرسل ابنتنا إلى أقرب روضة أطفال منا، لأننا خشينا بعد أن زرنا الروضة مرة أو مرتين أن تتعلم ابنتنا هناك اللغة التركية وليس الألمانية. إذا لم تُناقش مثل تلك المشكلات والصراعات الأكبر التي تحدث بسبب تعايش عدة ثقافات مختلفة في مدننا مناقشة منفتحة، فإن العواقب ستكون وخيمة. فقط هكذا يمكن التعامل معها بجدية واهتمام كما يحدث في المدرسة الابتدائية الكاثوليكية التي أرسلنا إليها ابنتنا بعد ذلك. كانت نسبة أبناء المهاجرين أعلى من خمسين في المائة، ولكني كثيرًا ما كنت أشعر بالدهشة لنجاح المدرسين وأولياء الأمور والأطفال معًا، ليس فقط في التغلب على مشاكل التنوع، ولكن أيضًا في جعلها أمرًا إيجابيًّا، بل وأن يكون في مصلحة الألمان الذين استقروا هنا من قبلهم. كما تعلمت في المقام الأول أن الاندماج ينجح عندما لا تتقهقر الثقافة المحلية في خجل إلى الخلفية، وفي حالتنا هنا هي الثقافة الكاثوليكية وثقافة كولونيا — بل عندما تتم رعايتها وتمثيلها بصورة واعية. يُعد التخلي عن الاحتفال بعيد البشارة إشارة خاطئة، وهذا يحدث في بعض رياض الأطفال والمدارس خوفًا من رد فعل أولياء الأمور المسلمين. لا يدور الأمر حول إنكار الذات وإنما حول احترام الآخر. من لا يحترم نفسه لا يتوقع احترامًا من الآخرين.
يوجد بالتأكيد كثير من الأمثلة المضادة، أي مدارس لا ينجح فيها التعايش بنفس الدرجة كما في مدرسة ابنتي. عندما تُعلق بجوار المدخل قوائم بأسماء الفائزين في مسابقة القراءة تدل الأسماء على جنسيات التلاميذ المتنوعة، كما هو الحال في فناء المدرسة. ربما لا تكون هذه هي القاعدة، إلا أنها لم تعد استثناءً أيضًا، فتبعًا لبيانات المصلحة الاتحادية للإحصاء فقد ارتفعت نسبة المهاجرين عام ٢٠٠٦ في الثانوية العامة لتصل إلى ٢١٪ في مقابل ١٨٪ من أصحاب الأصول الألمانية. لكن هذا التحول الهائل الذي تعبر عنه الأرقام لا نجد له صدى مطلقًا في النقاش العام عن المهاجرين. ومن يحاول الإشارة إلى الأمور العادية تُوجَّه إليه بسرعة البرق تهمة محاولة التهوين من الوضع وتبسيط الأمور، وربما يقال له: لا أحد ينكر أن هناك نماذج ناجحة للاندماج، ولكن دعونا نتحدث عن المشكلات، تمامًا كما يدور الحديث دائمًا عن العاطلين عن العمل وليس عن الذين يجدون عملًا. هذا صحيح. وعلينا إذن ألا نعجب من فشل الاندماج، أو بصورة أعم فشل المجتمع متعدد الثقافات عندما نغفل تمامًا حياته اليومية العادية. قبل أن أحكي بسعادة غامرة كيف كانت ابنتي فخورة بأن صفها الدراسي قد غنى أنشودة فارسية في حفل عيد الميلاد (وكان ذلك بمنزلة اعتراف وتقدير لاختلافها) وبعد ذلك أنشدوا الأغاني البولندية والتركية والعربية والبرتغالية ثم غنى في النهاية جميع الأطفال والمدرسين وأولياء الأمور في قاعة الجمباز المكتظة بالحضور — غطاء رأس هنا أو غطاء رأس هناك، فقد كانت في آخر الأمر مدرسة كاثوليكية، حيث ترتدي الراهبات أيضًا غطاء رأس — أنشودة عيد الميلاد الألمانية بكل حماس وإخلاص. نعم، قبل أن أحكي عن ذلك ربما من الأفضل أن أعود إلى المشاكل. حتى في المدرسة الكاثوليكية لا يمكن أن يكون كل يوم عيد الميلاد. أريد الآن أن أصف بتفصيل أكثر الواقعة التي أشرت إليها من قبل: «صراع الثقافات»، فلا أحد يفكر فيه إلا نادرًا. قبل الساعة الواحدة ظهرًا بقليل اتصلت بي السيدة أويسكيرشن هاتفيًّا، وكانت في فترة الإشراف على التلاميذ، وطلبت مني الحضور بسرعة إلى المدرسة لأن ابنتي تعرضت للضرب في فناء المدرسة. لم أطرح أسئلة وإنما توجهت على الفور إلى المدرسة. عندما وصلت وجدت ابنتي محاطة بصديقاتها من الصف الدراسي الثاني وببعض الفتيات اللاتي يكبرنها سنًّا. على الأقل كانت قد توقفت عن البكاء ولكن وجهها كانت تعلوه علامات الفزع. لقد ضربها الفتى مرتين بقبضته في بطنها وبكل قوة، والآن يقف مرتبكًا في الزاوية. كان يبدو فتًى تركيًّا، وربما كرديًّا؛ أجنبيًّا على أي حال كما نقول حتى نحن، ولو كان مولودًا في كولونيا أيضًا. أكدت السيدة أويسكيرشن كم أنها تأسف لما حدث، وقالت لي إنهم يبذلون في المدرسة قصارى جهدهم حتى يسير كل شيء في سلام، ومع أن لديهم أطفالًا من جنسيات كثيرة جدًّا، فإن الوضع يتسم دائمًا بالسلام والوئام. وأضافت أنها الآن في حيرة من أمرها، فهذا الغلام مشكلة حقيقية، فهو لا يسمع كلامها. يزيد عمر الطفل على عمر ابنتي قليلًا، ربما يكون في الثامنة أو في التاسعة من عمره. تعدى هذا الطفل عدة مرات بالضرب على أطفال آخرين؛ ولكن ليس بهذا العنف، حسب قول السيدة أويسكيرشن. واستكملت كلامها مؤكدة أنها لم تصادف مثل هذا الطفل من بين جميع أبنائها، وأنها تشعر بالمسئولية تجاه جميع الأطفال ومنهم ابنتي أيضًا. إلا أنها لم تستطع منع وقوع هذا العنف، وفي هذه اللحظة اغرورقت عيناها بالدموع، واستطردت مؤكدة أنها لا تريد مثل هذا العنف بين الأطفال، لكن هذا الفتى لا يسمع كلامها ولا كلام المشرفات الأخريات.
«أرجوك، تكلم معه!» قالت لي ذلك وهي تنظر إليَّ وتكاد تتوسل إليَّ أن أفعل.
قلت لها سأفعل وأنا أعتقد أني أعرف ما الذي فكر فيه كلانا في هذه اللحظة: الفتية المسلمون يعتبرون مشكلة في المدرسة، يميلون إلى العنف لذلك لا يسمعون كلام معلماتهم ومشرفاتهم، لأنهن نساء. أتمنى أن تكون السيدة أويسكيرشن مدركة لحقيقة أن الرجل الذي تطلب منه الوساطة لحل المشكلة الآن أجنبي أيضًا وابنته المسلمة ذات الطبيعة المشرقة والاهتمامات الفنية والمشاركة في «مجموعة عمل كولونيا»، التي تحلم بأن تكون ذات مرة الأميرة في المهرجان لا تتسبب بحال من الأحوال في أي مشكلة في المدرسة. أتمنى ألا تعتقد السيدة أويسكيرشن أن جميع الأطفال المسلمين يتسمون بالعنف ويصعب دمجهم في المجتمع. وانتبهتُ سريعًا إلى أن ما أفكر فيه لا أصل له من الصحة. كيف يمكنني أن أعتقد أن السيدة أويسكيرشن التي تقضي يومها بين أطفال من مختلف الدول لا تملك القدرة على التمييز. كنت أنا أيضًا أعي حقيقة أن هناك أطفالًا صعاب المراس من الأطفال الشُّقر، وأن هناك أطفالًا شعورهم سوداء يحققون مراكز متقدمة في مسابقة القراءة. وعلى الرغم من ذلك يكون للعنف صلة بطابعهم الثقافي. هذا ما فكر فيه كلانا دون أن ننطق به. فكرت أولًا في أن أصطحب الولد إلى منزله وأتحدث مع والده، ولكني خشيت من أن يتعرض الفتى للضرب حالما أغادر منزلهم.
أخذت ابنتي والفتى إلى أحد فصول المدرسة الفارغة وجلسنا إلى طاولة، كلا الطفلين أمامي، وطلبت منهما أن يحكي كل منهما لي ما حدث من وجهة نظره. ولم تختلف روايتهما. لم يُنكر الفتى أي شيء. قال فقط إن ابنتي وقفت في طريقه عندما كان ينزل الدرج مسرعًا إلى فناء المدرسة، ولم تُفسح له الطريق عندما طلب منها ذلك. نعم، صحيح، ثم رجع بعد قليل وضربها مرة أخرى لأنه وجد تصرفها سخيفًا. فسألتُه هل يرى أن ما فعله سليم.
فقال لي: لا لم يكن سليمًا، يؤسفني ما حدث.
شرحت للفتى أن المرء قد يغضب أحيانًا من أطفال آخرين، وعندها يمكن أن يتذمر أو حتى يصرخ فيهم إذا لزم الأمر، لكنه لا يضربهم، هذا ممنوع ممنوع ممنوع منعًا باتًّا. كررت الكلمة ثلاث مرات. ولا نضرب فتاة أبدًا، وخصوصًا إذا كانت أصغر منا. هذا لا يكون غباءً فقط، بل جبنًا أيضًا. كنت واعيًا تمامًا أنني أخاطب فيه ميثاق شرف، وإن كنت أنا أرفضه في حقيقة الأمر، ولكن لم يخطر ببالي تلقائيًّا أي حُجج أخرى أُقنع بها الفتى.
«إذا سمعت مجددًا أنك ضربت أي شخص آخر، أيًّا كان، فسوف تصبح في ورطة حقيقية.» قلت له ذلك بصوت هادئ وأنا أنظر إلى عينيه وأنا عابس الوجه، كما كنت أراهم يفعلون في الأفلام الأمريكية.
كان يطأطئ الرأس في البداية ثم نظر إليَّ وهز رأسه بالموافقة، وقال:
«لقد كان تصرفًا سخيفًا مني. لن أفعل ذلك ثانيةً.»
«وماذا ستفعل الآن؟»
«سأعتذر لها.»
«إذن، فافعل ذلك.»
مد يده وصافحها وقال لها:
«آسف لما حدث.»
فقالت له ابنتي: «لا عليك.»
أعيش بالطبع حياة مميزة، وبالطبع توجد أحياء أخرى شديدة التنوع وكثيرة الصراعات، ولا يُعد العنف في مدارسها استثناءً. إن تعايش أبناء جماعات مختلفة معًا دون حدوث توترات أمر مرغوب فيه، إلا أنه — وهذا ما أثبتته كل الخبرات — أمر غير واقعي. فحيث توجد الاختلافات، تكون أيضًا الصراعات. الأمر الحاسم هو: هل يُعبَّر عنها بطريقة سلمية؛ أي فقط بالكلام، وهل لها أثر على عمل الدولة أو استقلال القضاء. لذلك فلم يضايقني حقًّا من بين جميع الأحداث والنقاشات والتطورات إلا ظاهرتان اثنتان: الأمر الأول هو خطر قيام إسلاماويين بهجمات إرهابية، خطر ممن يفعلون ذلك والخطر الذي يأتي كرد فعل على هذه الأفعال. أما الأمر الثاني الذي أتابعه ببالغ القلق فهو تعامل الدولة مع الأشخاص الذين يُشتبَه في صلتهم بالإرهاب، والقوانين التي يزداد مدى تأثيرها، والأوامر أو حتى الطلبات التي تُبرَّر دائمًا بالوقاية من وقوع هجمات إرهابية. هنا يقع التعدي على المبادئ الأساسية لنفس دولة القانون التي يُراد الدفاع عنها. أريد أن أبدأ بالنقطة الأخيرة وأذكر واقعة تمثل كثيرًا من الأحداث والاتجاهات، وتُذكِّر بأشهر وأوضح انتهاك للقانون في السنوات الماضية؛ قضية «مورات كورناز».