الإرهابيون بيننا
ذات مساء منذ أعوام، وأنا ما زلت طالبًا أكتبُ أولى تقاريري الصحفية، كنت أجلس في بار أحد الفنادق مع رودولف شيملي، المراسل الصحفي الشهير لجريدة «زود دويتشه تسايتونج»، الذي كان يكتب عن الشرق الأوسط منذ عقود. تكلمنا عن التوقعات المستقبلية والخطط الشخصية، وقال لي شيملي إن الشكوك تساوره أحيانًا فيما إذا كان سيظل بمقدوره بعد عدة سنوات، بوصفه زائرًا غربيًّا، أن يعبر الطريق وهو في أي بلد عربي دون قلق كما يفعل الآن، وأضاف قائلًا إن أجمل ما يجده في مهنته هو التجول عبر المدن العربية ومدن الشرق الأوسط دون هدف، والاستمتاع بحسن الضيافة وبالأدب هناك يومًا بعد يوم، وأعرب عن قلقه من أن لحظات السعادة تلك ربما لا يتسنَّى للمراسل الغربي أن يستمتع بها في المستقبل. ومنعني وقتها الاحترام الكبير الذي أُكنه لشيملي الذي يكبرني في السن أن أقول رأيي بصراحة، فقد كنت أرى أن فكرة ألا يشعر مواطن غربي في يوم من الأيام بالأمان وهو في العالم العربي في منطقة سكنية تقليدية غير واقعية بالمرة. إلا أنني الآن أخشى أن شيملي ربما كان مُحقًّا؛ أخشى أنني لن أتمكن في المستقبل من إقناع أصدقائي الأوروبيين بالخروج وحدهم لقضاء أُمسية في المدينة القديمة في القاهرة، أو ليلة في ميدان «الفناء» في مراكش، ذلك الميدان الكبير الساحر الذي طالما تغنَّى به الناس — حتى يتخلصوا مما علق بأذهانهم من أحكام مُسبقة وتعميمات عن العرب والمسلمين، وربما ينبغي ألا أحاول إقناعهم بذلك.
إننا معشر المراسلين الذين قضينا أعوامًا عديدة في السفر بين الشرق الأوسط وأوروبا، ولنا في المنطقتين أصدقاء، ونعرف عظمة كلتا الحضارتين ونواتهما الإنسانية، ونحاول عن طريق تقاريرنا الصحفية أن نُشجع الفهم المتبادل — نقف اليوم على أطلال الحُجَج التي كنا نسردها. فماذا تملك التحليلات عن الإسلام، مهما كانت دقيقة، وماذا تملك التقارير الصحفية عن العالم العربي، مهما كانت مُتفهِّمة، في مواجهة صور الاعتداء على مترو الأنفاق في لندن؟ مَن سيكون بوسعه أن يُعارض، عندما ينطلق التحذير من الخطر الإسلامي؟ وعلى الجانب الآخر: لا الحضارة الأوروبية ذات الألف عام ولا التنوير ذو الثلاثمائة عام ولا الستون عامًا التي هي عُمر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يمكن أن تقف في وجه الانطباع الذي تُعطيه السياسة الغربية في الشرق الأوسط يومًا بعد يوم بالحروب الأمريكية، ودعم ديكتاتوريات عربية، والاحتلال الإسرائيلي، والاستغلال الاقتصادي السافر، وأيضًا — وهو الأمر الذي يندر الحديث عنه هنا بينما يكثر ذكره في العالم الإسلامي — الحملات التبشيرية العنيفة التي تقوم بها بعض الكنائس الإنجيلية. ولم يعُد أحد في الشرق الأوسط يُعارض فكرة التحذير من الخطر الغربي، ولا حتى المثقفين الليبراليين ذوي التوجه الأوروبي البحت.
أعرف ما يتوقعه الرأي العام الأوروبي منا، بوصفنا ندَّعي أننا نعرف الشرق معرفة جيدة. بالإضافة إلى أنني لا أغضب من أي شخص يرى أن عليَّ التزامًا خاصًّا بتوضيح موقفي من الإرهاب والظلم اللذين يُمارسان باسم ديني. أيتوقع البعض منا التنصل من ذلك؟ نعم، فالتنصل أمر يسهل فعله، كما يمكن مجانًا تنزيل نصوص بذلك المعنى من على المواقع الإلكترونية لجميع الاتحادات الإسلامية. لقد أصبح هذا طقسًا من الطقوس التي أشاهدها ولا أشارك فيها، ففي اللحظة التي أتنصل فيها أكون قد أعطيت الآخر الحق في أن يضعني موضع الاتهام. إن من مهام وواجبات المنظمات الإسلامية أن تُعلن عن موقفها، أمَّا أنا كفرد، فعندما أصبح في أوروبا متهمًا بدعم الوحشية بسبب ديني أو أصلي، فسيكون من الأفضل لي عندئذ أن أبحث عن قارة جديدة أعيش فيها تكون بعيدة قدر الإمكان عن الأحداث العالمية. الأصعب بكثير من التنصُّل هو أن نوضح لأنفسنا وللآخرين أسباب العنف ذي الدافع الديني، وما يمكن القيام به لمواجهة ذلك.
أريد أن أذكر مثالًا على تلك الصعوبة. بعد الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١ ألَّفتُ كتابًا حاولت أن أشرح فيه لماذا يختطف شباب لِطاف طائرة ويلقون بأنفسهم وببقية ركابها إلى الموت. واليوم أسمح لنفسي أن أدَّعي ببساطة وجرأة وحرية أن هذا الكتاب كان جيدًا جدًّا. أنا أدَّعي أنه بوسعنا إلى حد ما أن نفهم ما دار في أذهان الجُناة إذا ألقينا الضوء على خلفياتهم الفكرية وسِير حياتهم؛ يمكن أن نستشعر حالة الإثارة التي وصلوا إليها عندما استطاعوا أن يُظهروا قوة عالمية عُظمى أمام عدسات الكاميرات وهي عاجزة عن الدفاع عن نفسها، وهم يدمرون أبرز رموزها باستخدام بعض الأسلحة البيضاء الصغيرة وبأسلوب يُشبه ما نراه في أفلام الخيال العلمي. ومنذ ظهور ذلك الكتاب يُطلب مني دائمًا تقديم شرح لكل الهجمات الانتحارية الممكنة، وخصوصًا بعد موجة الهجمات التي شهدها العراق. وقد أصبح جوابي منذ فترة: ليس لديَّ أدنى فكرة، أنا أيضًا لم أعد أفهم ذلك. لا أعرف لماذا يفجر شخص ما نفسه كل يوم عند تقاطع شارعين أو في سوق في بغداد أو في النجف، أو مؤخرًا في أفغانستان أيضًا — دون أن يراه أحد سوى الضحايا. كل نماذج الشرح التي تنطلق من وجود عنف سياسي أو تضحية بالذات، والتي يمكن أن تُستخدم لشرح ما يجري في النزاع حول فلسطين أو الغضب المدمر المرتبط بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، لا تنطبق على ما يجري في العراق. تقع هناك هجمات كثيرة جدًّا تبدو «شديدة العمى»، ولا يُحدِث كل منها منفردًا إلا تأثيرًا ضعيفًا على الصعيد العام. على خلاف ما يحدث في فلسطين وما حدث في الحادي عشر من سبتمبر؛ فأنا لا أعرف من أين يأتي هؤلاء المجرمون، وما هي سِيَر حياتهم، وبأي طريقة وبأي تبريرات جرى تجنيدهم، ومَن الذي قام بذلك. تقع في العراق مذابح جماعية بمعدل شبه يومي، ولكنها تبقى في رأينا مُستعصية على الفهم.
ومما يزيد صعوبة فهم ما يحدث في العراق الآن هو أن الوضع الأمني جعل المراقبين لا يكادون يستطيعون دخول البلاد والتحدث إلى الأطراف الثائرة هناك. ولكن لننظر إلى إيران، كل من تابع التطورات في إيران عن كثب يمكنه أن يفهم التركيبات السياسية الداخلية والخارجية التي أدت إلى الوضع الراهن الذي يدعو إلى اليأس على كافة الأصعدة. الأسباب التي أدت إلى وجود رئيس لإيران اليوم يبدد جميع طموحات الانفتاح التي سادت في الأعوام الماضية ويدفع بها في الاتجاه المعاكس ليست مجهولة على الرغم من نُدرة ما نقرأ عنها هنا. ولكن هل ستقل خطورة الموقف إذا أصبح مفهومًا؟ إن الرئيس الإيراني لا يتصرف بصورة لاعقلانية بأي حال من الأحوال، كما يصوره الكثيرون، إنه لا يستهدف حكم العالم ولا يخطط لمحو إسرائيل من الوجود، ولا يمكن وضعه أبدًا في القالب الذي نسارع إلى تسميته «هتلر جديدًا». يا إلهي، من ذا الذي لن يوصف بأنه هتلر إذا ما صدقنا كلام أشهر المثقفين الناطقين بلغتنا؟ صدَّام كان هتلر، وشارون كان هتلر، وجورج دبليو بوش هو بأي حال من الأحوال هتلر الأكبر. والآن إذن محمود أحمدي نجاد: برلين ١٩٣٩ تساوي طهران ٢٠٠٨، هذه مُقابلة مُختصرة وواضحة. ولكن أي شخص أمضى ولو يومًا واحدًا في إيران سيجد تلك المُقابلة مُضللة وخاطئة تمامًا. إن الوضع هناك يمكن أن يتكشَّف للرائي عندما يبدأ في النظر إليه بتعمق وتدقيق، وعندما يُحلل تسييس فكرة المسيح المنتظر [المهدي] عند الشيعة وتحويلها إلى فكرة متطرفة، وعندما يبحث في الأسباب العقلانية البحتة والمتعلقة بالسلطة السياسية التي تقف وراء تصريحات الرئيس المقززة حول المحرقة وإسرائيل، وعندما يحلل سلك المخابرات والسلك الأمني اللذين خرج من بين صفوفهما أحمدي نجاد، وعندما يأخذ في الاعتبار الثورة العظيمة في داخل المجتمع الإيراني التي ردت عليها الدوائر الأكثر تطرفًا في داخل النظام بما يُشبه الانقلاب. إلا أن — وهذا تحديدًا ما أرمي إليه هنا — النظر بتعمق وتدقيق يعني عدم الاستسهال أو الاستهانة بما يجري تمامًا. إن الوضع الراهن في إيران يمثل تهديدًا حقيقيًّا، للإيرانيين أنفسهم في المقام الأول، من النساء والطلاب ورجال الدين الناقدين للوضع وجميع أصحاب الفكر الآخر والاعتقادات الدينية الأخرى، وبالأخص البهائيين، ويمثل هذا الوضع أيضًا تهديدًا لدول الجوار التي تمارس إيران تأثيرًا عليها. يُعد النظر بتعمق وتدقيق مقومًا يجب توفره حتى يتسنى التعامل المناسب مع مشكلة ما. النظر إلى الأمور بتعمق وتدقيق والملاحظة الصبورة وعقد الموازنات الحذرة هو عملنا. يتملكني في بعض الأيام شعور بأن عملنا هذا قد أصبح على شفا الإفلاس.
كثيرًا ما أقرأ مقالًا أو أستمع إلى متحدث في التلفاز وأقول له في نفسي: أيها الزميل اذهب شهرًا لزيارة دولة عربية، أو اقرأ كتابًا يكون على الأقل مقبولًا من الناحية العلمية ويتمتع بالمصداقية، قبل أن تلقي على أسماعنا هنا فتوى عن الإسلام. لكني أعود وأقول في نفسي: آهٍ، لو كان يعرف مدى المصيبة! وكم هو كارثي وضع الدراسات الدينية! على سبيل المثال جامعة الأزهر، أكبر مؤسسة دينية تمثل الإسلام السني. كلا، إنها ليست غرفة العمليات المركزية في الحرب ضد الغرب. بل العكس: الشيخ الأكبر، شيخ الأزهر، يقول كل يوم وفي كل خطبة جمعة «لا للإرهاب»، ويفعل كل ما تطلبه منه حكومته وما تطلبه منه وسائل الإعلام الغربية. إنه يرى نفسه الحصن الذي يقف في مواجهة الأصولية. ولكن — وهذا مثال جيد لوضع الإسلام — المستوى الثقافي للتفكير في الدين في داخل المرجعية الدينية المركزية للمسلمين السُّنَّة يمكن أن يكون دون مستوى معظم القساوسة الإنجيليين في كنائس المحليات. إن الهزال الذي أصاب الإسلام الأصيل الذي كانت تثير ديناميكيته قديمًا العجب والإعجاب؛ هذا التراجع الذي أصاب الثقافة الدينية التي كانت مزدهرة — هو الذي مهد الطريق للأصولية. لم تنشأ الأصولية من الدين الأصيل، وإنما هي نتيجة للأزمة التي يمر بها. عندما توقف الدين الأصيل عن إمداد الناس بالإجابات نشأ الإسلام السياسي في الطبقات المتوسطة في المدن.
يمكن رصد حالة التراجع في معظم المجتمعات العربية في مجالات كثيرة وليس في حقل الدين وحده. لا تتفق نتائج تقرير «التنمية البشرية» العربي الذي تصدره الأمم المتحدة أو ملاحظات دراسات الهجرة التي تجريها الجامعات — من وجهة النظر الأوروبية — مع الصور التقليدية للخطر الإسلامي، إذ لم تعد تلك النتائج مثيرة مثل محتويات الكتب التي تُنشر عن الإسلام وتحتل أرفف أكثر الكتب مبيعًا أو مثل فشل المجتمع متعدد الثقافات. لكن هل يقلل ذلك من التأثير المنبه لتلك النتائج؟ لا، بل على العكس من ذلك. في معظم المدارس الإعدادية التي أصبح يدرس فيها نسب ضخمة من أبناء المهاجرين لا يُعد العنف كما كان في مدرسة روتلي في برلين هو المشكلة الحقيقية، وإنما انعدام الأفق هو المشكلة الملحة. إلى جانب أنه لا يمكن في المقابل مكافحة الإرهاب في الجيل الثاني أو الثالث عن طريق إجراءات الاندماج التي يُدعى إليها كرد فعل فوري في كل مرة يقع فيها اعتداء إرهابي، وذلك بسبب أن من نرى صورهم على الصفحات الرئيسية بعد وقوع التفجيرات الانتحارية يكونون في العادة شبابًا مسلمين مندمجين في المجتمع بدرجة جيدة، وعلى مستوى ثقافي جيد، ومشاركين في المجتمع، وتبعًا لسِيَر حياتهم متأثرين بالغرب تمامًا، وهم ليسوا من الشباب الذين تربوا في أحياء فقيرة مغلقة عليهم في ألمانيا، ولم يُمضوا أوقاتًا بعد الظهيرة في كتاتيب في الأفنية الخلفية للبيوت. كانوا يبدون وكأنهم نماذج ناجحة للاندماج؛ أذكياء وناجحين وعلى درجة عالية من المهارة الاجتماعية والثقافية. كانوا حاصلين على شهادات جيدة، وكانوا يفكرون في قضايا البيئة وتنمية المدن أو ترميم المدن التاريخية القديمة، وفي بعض الأحيان كانوا يدخنون الماريجوانا للاسترخاء، أما في عطلة نهاية الأسبوع فكانوا يخرجون للحج، ليس إلى المسجد، ولكن إلى استاد بي سي سانت باولي عند بوابة ميلر. يبدو أنهم جميعًا في مرحلة معينة من حياتهم قد اتجهوا إلى وسط ديني معين دون أن يتخلوا عن حياتهم اليومية من أجله، وكان هذا الوسط الديني يعمل فعليًّا على عزل نفسه عن التأثيرات الغربية. لم يخرج هؤلاء الشباب من هذا الوسط ولكنهم انجذبوا إليه وتورطوا في جماعة متطرفة تشبه في تركيبتها الطوائف الدينية. وهذا لا يختلف عما حدث للبريطانيين والأستراليين والأمريكان الذين ظهروا فجأة في صفوف المعتقلين من مقاتلي القاعدة أثناء حرب أفغانستان. هذا الفكر الذي قابلوه من خلال خبرة ذات أهمية جذرية، أو من خلال بعض معارفهم، يُعد فكرًا رجعيًّا بل عتيقًا. ولكن نشأة هذا الفكر، الذي لا يمت بصلة إلى الإسلام كما يفهمه آباؤهم، وإمكانية الاستناد إلى تقاليد متصورة، هذه هي الأمور التي تزداد معاصرة يومًا بعد يوم. إن توجه هذا الفكر ضد الحداثة التي تسيطر عليها أمريكا وضد نظامها السياسي يجعل من التركيبة النفسية للأعمال التي يوجهها هذا الفكر تركيبة حديثة ومدنية وبرجوازية.
لن نفهم إرهاب ١١ سبتمبر واغتيال تيو فان جوخ أو الهجمات التي وقعت في لندن ما دمنا ندير نقاشًا لا يمت إلى هذه الأحداث بصلة. يمكن أن تكون التحذيرات من وجود مجتمعات موازية في محلها أو في غير محلها، ولكن علاقتها بهجمات لندن أو باغتيال تيو فان جوخ أو باعتداءات ١١ سبتمبر علاقة سطحية فقط. الجُناة لم يأتوا من مجتمع موازٍ، بل كانوا ينتمون لمجتمعنا نحن. لا يمكن تجنب هذا الإرهاب بتقديم دورات دراسية في اللغة الألمانية ودروس دينية باللغة الألمانية في المساجد. السؤال الذي يجب أن يُطرح هو: لماذا تكونت مشاعر الكره ضد الغرب، وبذلك ضد المجتمع الذي ينتمون هم أنفسهم إليه، تحديدًا لدى شباب متعلمين تعليمًا جيدًا ومشاركين اجتماعيًّا ويصفهم المحيطون بهم بأنهم أشخاص ودودون. السؤال هو: لماذا توقفوا عن الشعور بأنهم ينتمون إلى هذا المجتمع. السؤال نفسه يمكن أن يُطرح فيما يتعلق بالشباب العرب أو الأفارقة السود في «البونليو» الفرنسية، أو ما يسمى بالمناطق المحظورة، ما الذي حدث ليجعلهم بدءًا من مرحلة معينة في حياتهم يديرون ظهورهم بصورة متطرفة للغرب، على الرغم من أنهم عاشوا معظم حياتهم في الغرب أو ولدوا فيه؟ أنا أتكلم هنا عن عدد كبير من الأشخاص في المجتمعات الأوروبية، ولا أتكلم عن أشخاص يقومون بأعمال عنف وحسب. هذه قلة مصيرها إلى الزوال، ولكن الانطباع الشخصي الذي تسبب في توجههم ضد الغرب منتشر إلى حد ما حسب ما أرى وخصوصًا بين المهاجرين من الجيل الثاني والثالث والرابع. إنه الإحساس بأنهم لن ينتموا أبدًا إلى هذا البلد، وهم ليسوا المقصودين أبدًا عندما يقول قائد الدولة أو المعلق التلفزيوني «نحن». وهذا الشعور هو بالتأكيد ما تشعر به تركيا: حتى ولو استوفت يومًا ما جميع الشروط المطلوبة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فستبقى آخر الأمر خارجه.
وبالطبع يتسبب توجه الشباب المسلم إلى تقاليد متطرفة في زيادة التحفظات ضدهم، وازدياد التحفظات من جانبهم يتسبب في زيادة ابتعادهم عن المجتمع. يشبه الأمر الدوران في حلقة مفرغة. ازدياد مشاعر الكراهية ضد المسلمين كلما ازداد عدد من يتحصنون منهم في داخل إطار حياة متطرفة أمر يمكن تفهمه. ولكن مشاعر الكره هذه لا تجعل الباقين ينأون بأنفسهم عن أفراد مجموعتهم، لأن ثمن الانتماء إلى المجموعة الأخرى هو أن يتخلى المرء عن ثقافته. في قصص الغلاف التي تنشرها مجلة «ديرشبيجل» عن المسلمين في ألمانيا — كي نضرب مثالًا من الإعلام — تعرض المجلة كل مرة قصص «التركيات الصالحات». إنهن الفتيات اللاتي تركن بيوت أهليهن ويعشن الآن في حماية الألمان الشجعان، حتى يتمكنَّ من الذهاب إلى المراقص دون التعرض لمضايقات. منذ ذلك الحين لم يعد لديهن مشكلة في الحصول على شقة سكنية. الرسالة واضحة وساذجة أيضًا: سينجح الأمر، فقط إذا أردتم! لكن التأثير الذي يتركه مثل هذا الخطاب الاستعلائي لدى الشباب المسلمين الذين أعرفهم مختلف تمامًا: أنا لست ساذجًا! ربما كان الأمر بديهيًّا في رأيهم، أن يعتبروا الغرب وطنهم، وربما لم يفكروا في هذا الموضوع قط. لكنهم الآن مجبرون على التفكير فيه، إلى أي «نحن» ينتمون. إنهم مجبرون على اتخاذ قرار: إذا كنت تنتمي إلينا، فلا يمكن أن تنتمي إليهم. ويبدو أن قليلًا جدًّا من المهاجرين من أبناء الجيلين الثاني والثالث خطوا هذه الخطوة. إنهم ينظرون بعين ناقدة إلى ما يُفعَل باسم الإسلام، لكنهم لا يستطيعون ببساطة تغيير الجانب الذي ينتمون إليه. ونظرًا لأنهم مجبرون على اتخاذ القرار، فإن أعدادًا متزايدة من المسلمين تتخذ قرارها؛ وفي رأيي يتخذون القرار الخاطئ، الخطأ يكمن في أنهم يتخذون قرارهم لمصلحة جانب واحد من الجانبين.
أرى أن هذا التوجه ينشأ هنا تحديدًا، أو بعبارة أكثر حرصًا: يمكن أن يكون واحدًا من الدوافع التي تجعل شخصًا ينسلخ تمامًا من ثقافته، وبحماس المتحولين عن دينهم أو ثقافتهم يبدأ في مهاجمتها، كما نرى كثيرًا في البرامج الحوارية أو النقاشات عن الإسلام، أو أن يكون واحدًا من الدوافع التي تجعل الشخص على العكس من ذلك يحدد هويته عن طريق اختلافه الديني. والبديل الأخير يحدث ليس فقط لمن يقومون بأعمال إرهابية ولكن لكثير من الشباب في أوروبا، وهذا لا يدفعهم بالضرورة إلى ارتكاب أعمال عنف. إنهم يتوحدون أكثر مع توجههم الإسلامي. الأمر الذي كان يُعد مكونًا بديهيًّا من مكونات الحياة لدى جيل الآباء أصبح في رأي كثير من الشباب المسلم العنصر المحدد للحياة. وبذلك يُطابقون بصورة أو بأخرى الصورة التي لدى مجتمع الأغلبية عن المسلمين: أنهم أشخاص تتحدد هويتهم فقط من خلال الدين. هذا ما يجعل الإسلام يصلح لأن يكون المقابل لما يعنيه السياسيون ومعلقو التلفاز بقولهم «نحن».
إن مثل هذا التحليل لا يمكن أبدًا اعتباره شاملًا، فالتحليلات المشابهة تحاول فقط أن تتحسس الطريق للوصول إلى إمكانيات شرح، لا بل جزيئات من إمكانيات الشرح، التي يجب أن نضيفها إلى جزيئات أخرى، ولا تقدم هذه التحليلات حقائق مؤكدة أو تعرض السبب الوحيد للعنف، ولا تقدم أيضًا حلولًا بحال من الأحوال. إذا أردنا اختصار الفقرات الأربعة سالفة الذكر في صورة مقولة محددة تصلح للعرض في برنامج إخباري أو لقاء حواري، فإن المرء سيجعل من نفسه أضحوكة: يتحول المسلمون إلى إرهابيين لأنهم يشعرون بالعزلة. الأفضل أن يظل المرء صامتًا. هذا هو أيضًا السبب الذي جعلني لا أشارك منذ سنوات في النقاشات التلفزيونية عن الإسلام، وأتجنب أي حلقات نقاشية مشابهة. فأنا — كما اكتشفت — الشخص غير المناسب تمامًا لمثل تلك النقاشات التي تهدف إلى تقسيم الناس إلى معسكرات واستخلاص ادعاءات بسيطة وآراء واضحة من الضيوف. أنا أحمل التناقضات في داخلي، وعندما أقول شيئًا فإن الاعتراض عليه يتبادر إلى ذهني عادة بصورة تلقائية. عند إلقاء محاضرة أو إجراء حديث لا يكون المرء فيه مضطرًا إلى وضع الأطروحة تلو الأطروحة (أي تكرار نفس الفرضية في كل مقولة) وإنما يستطيع التعبير عن الاختلافات والشكوك والتساؤلات، فإن هذا يجعل إلقاء الضوء على نفس العنصر من جوانب متعددة ممكنًا إلى حد ما، إلا أن مثل هذه الموازنات الفكرية لا تصلح للبرامج الحوارية، إذ يوضع أمام المرء فيها ميكروفون ويبدأ الضيف في عرض تعميمات وأمثلة مبالغ فيها بطريقة تبتلع في ثقة كل الفوارق الدقيقة بين الأشياء. ولأني ظننت بسذاجة أن عليَّ الرد على الشائعات والإهانات التي كانت تتعرض لها ثقافة والدي، فقد وجدت نفسي بسرعة في موقف المدافع، وهو الموقف الذي أشكك في جدواه. أنا لا أريد أن أدافع عن الإسلام، فهذا ليس دوري، إن واجبي بوصفي كاتبًا يتركز على النقد، أو بمعنى أدق نقد الذات، وهذا يعني في حالتي الثقافة الأوروبية والثقافة الإسلامية كذلك. ربما ينجح آخرون في حلبة النقاش عندما يتم إطلاق اثنين أو أربعة من المتنافسين، من أصحاب الآراء المتنافرة، في أن يحتفظوا بنقدهم الذاتي في هذه اللحظة لأنفسهم ويركزوا على ما يميزهم عن الآخرين. أما أنا فكان أقصى ما أتمناه دائمًا بعد مرور ثلاث أو خمس دقائق أن أختفي في الهواء.
أصحاب النوايا الحسنة تجاه الإسلام يذكرون أمثلة للأشخاص الذين حققوا اندماجًا ناجحًا ونتائج الإحصائيات التي تقوم على دراسات ميدانية، لكنَّ الإرهابيين لن يرجعوا عما هم عليه فقط عندما يعلمون أنهم يمثلون قلة ضئيلة. يشير المرء إلى من يسمون المعتدلين الذين يشكلون غالبية المسلمين، أو يطالب بإصلاح الإسلام، التنوير الإسلامي، «نموذج مارتن لوثر الإسلامي»، تفضلوا وتحدثوا مع من شئتم من المعتدلين، ولكنهم ليسوا هم الذين يلقون القنابل، فعن ماذا تريدون الحديث معهم؟ تفضلوا واخترعوا «لوثر الإسلامي» إن شئتم، ولكن لا تعولوا كثيرًا على أن يُصغي إليه السيد ابن لادن. يوجد كثير من الأسباب لإعادة التفكير في الإسلام، وهذا ما يعكف عليه بالفعل كثير من علماء الإسلام. ولكن من الوهم تخيل أن صناعة صيغة جديدة من الإسلام تتوافق أخيرًا مع حقوق الإنسان ستكون قادرة على سحب البساط من تحت أقدام الإرهاب. أرضية الإرهاب تتمثل في الأحوال الاجتماعية والسياسية. بالتأكيد يمكن هنا أو هناك اتخاذ إجراءات أو تدارك أخطاء: مزيد من الكاميرات في الأماكن العامة ومزيد من الصلاحيات والأفراد لأجهزة المخابرات، ومزيد من الحوار مع جماعات المسلمين. ويمكن أن يساعد هذا — كما أتمنى — في تجنب وقوع اعتداءات إرهابية كما حدث مؤخرًا في لندن أو في زاورلاند. ولكن الأمر المؤكد أيضًا أن بعض الاعتداءات ستنجح في المستقبل، ولا أعرف ولا يعرف أحد السبيل لمنع حدوث ذلك. وأنا أستشعر — مثلما يستشعر الجميع — عواقب ذلك على التعايش مع المسلمين في أوروبا.
معظم الذين انشغلوا بالإسلاماوية في التسعينات أو عملوا مراسلين صحفيين في الشرق الأوسط اعتقدوا كما اعتقد المستشرق الفرنسي جيل كيبل أن الإسلاماوية قد تخطت بالفعل ذروتها، وكان هذا أيضًا انطباعي عندما زرتُ إيران وآسيا الوسطى والعالم العربي. لم نغفل وجود الجماعات الإسلاماوية أو نقلل من حجمها، ولكننا اعتبرنا الإرهاب نتيجة لتراجع تلك الأيديولوجية. الجزء الأكبر من الإسلام السياسي انتهج نهج الإصلاحيين الإيرانيين أو حزب العدالة التركي. كان على طريقه ليصبح ما يشبه الديمقراطية المسيحية ولكن بصبغة إسلامية؛ أي محافظًا وذا توجه قيمي ولكن نابذًا للعنف. الأمر الذي لم نستشرف حدوثه هو أن تنجح القوى الأكثر تطرفًا في إعادة تنشيط وإنعاش أيديولوجية الحرب العقائدية عن طريق عولمتها. ولم نتوقع أيضًا حربًا على الإرهاب تتسبب بغبائها وعنف وسائلها في نقل الدم اللازم لإحياء الأصولية وكره أمريكا في كل أرجاء العالم. سنوات عدة كنت أجوب طول البلاد وعرضها معلنًا أن جموع المسلمين لا تحمل كراهية للغرب. عندما ينتقد العرب أو الإيرانيون الغرب، فإنهم يعنون فقط ازدواج معاييره؛ أي أن الغرب يخون معاييره عندما يتعامل مع دول غير غربية. وهذا لا يُعد قدحًا في المعايير الغربية، بل العكس من ذلك، إنه مطالبة الغرب بأن يتصرف تبعًا لمعاييره الغربية الخاصة، بدلًا من أن يدعم حكامًا ديكتاتوريين مثل صدام حسين أو متطرفين مثل طالبان. لكني اليوم لم أعد واثقًا إن كان كره الغرب للمسلمين لا يعدو كونه أوهامًا.
في مثل هذا العالم الذي أصبحت فيه الفوارق الاجتماعية شاسعة، وتوزيع القوة غير متكافئ، ولكن أيضًا تداول المعلومات أصبح عريضًا بهذه الدرجة؛ فربما على المرء أن يعوِّد نفسه على فقدان الحريات الشخصية. ربما يكون ما سيأتي عاديًّا إذا قورن بالسلام الذي نتمتع به في رخاء في الغرب. ربما يكون علينا أن نعوِّد أنفسنا على الحياة في عالم لا نستطيع فيه أن نعيش التسامح والحريات إلا في داخل «المجمعات السكنية ذات الأسوار العالية». في المدن الأمريكية والآسيوية الكبرى يتحصن الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم متمدنين بالفعل حاليًّا وراء الأسوار والسلك الشائك ولا يفكرون في أن تطأ أقدامهم أحياء معينة. كانت توجد في ألمانيا أيضًا مناطق يشار إليها ﺑ «مناطق غير قابلة للارتياد»، قبل أن تتعرض هذه التسمية للنقد في وسائل الإعلام. كل مهاجر من أفريقيا أو من الشرق الأوسط من ساكني برلين يعرف أن هناك أماكن في براندنبورج من الأفضل له ألا يمشي فيها وحده، ولا يقترب منها في المساء بأي حال من الأحوال. حسنًا، يمكن التعايش مع ذلك. لن يذهب المرء إلى هناك. يوجد كابوس فظيع يؤرقني كثيرًا في الفترة الأخيرة، وهو أنه لم يبقَ في أوروبا مكان يمكن للمسلمين أن يعيشوا فيه!
بصرف النظر عن الجدل الذي دار في هولندا بعد اغتيال تيو فان جوخ، فإن حكومات أوروبا كانت تتصرف برصانة مع الاعتداءات الإسلاماوية التي تقع في بلادهم. فحسب ما رأيت لم يكن يوجد كيلٌ للاتهامات الجماعية، بل العكس: قام حاكما إسبانيا وبريطانيا العظمى، أزنار وبلير، في أعقاب الاعتداءات بمحاولات واضحة لفتح الحوار مع ممثلي الجاليات المسلمة هناك. وبذلك لم يسديا للإرهابيين الجميل بأن يزيدا الصدع بين مجتمع الأغلبية والأقلية المسلمة فيه عمقًا، إذ إن هذا على ما يبدو واحد من أهداف تلك العمليات الإرهابية: أن تزداد كراهية المجتمع للمسلمين فتؤدي تلك الكراهية إلى مزيد من تطرفهم. وكان رد فعل الحكومة الألمانية أيضًا متعقلًا بعد وقوع محاولتَي الاعتداء على قطارين من القطارات الداخلية هناك. ما كنت لأتصور قبل أربعة أعوام أن أمتدح وزير داخلية مسيحيًّا ديمقراطيًّا على سياسة الاندماج التي ينتهجها. وأنا فخور أكثر من كوني سعيدًا بالسياسة الألمانية التي استطاعت حتى الآن أن تقاوم إلى حد ما — حتى في الجانب اليميني منها — استغلال ما يحدث سياسيًّا رغم سهولة ذلك. لذلك فأنا لا أتفق تمامًا مع الشكوى العامة من وجود تفرقة عنصرية ومعاداة للمسلمين من جانب الحكومات الأوروبية. لكني في الوقت نفسه أتصور: وقوع هجومين أو ثلاثة في ألمانيا يتبعه عدد كبير من القتلى؛ عندها لن تصنع قطاعات عريضة من الشعب وحدها ولا حتى الصحف والمحطات الإعلامية الشهيرة صورة عدائية ضد المسلمين، ولكن أيضًا ستخلق السياسة مناخًا معاديًا للمسلمين. هذا أمر لن يمكن تجنب حدوثه ولن يكون مختلفًا في أي دولة أخرى. إذا وقعت سلسلة هجمات من الأرمن في إيران، فإن مسئولية العنف لن تُلقى على المتطرفين الأرمن وحدهم بل على كل الأقلية الأرمنية. وإن كان مكسيكيون هم الذين أسقطوا برجي التجارة العالمية وليس مسلمين، لكانت الآن القبعات المكسيكية العريضة هي التي تمثل خطرًا على الحياة وليست العمائم.
يُعد تحميل الجميع تبعات تصرفات مجموعة من الأفراد أمرًا غير عقلاني، ولكنه رد فعل بديهي على العنف الذي يُرتكب باسم الجميع. إذا أصبح لدى الناس في أوروبا خوف حقيقي ويومي وليس فقط خوفًا نظريًّا مجردًا من الأشخاص الذين يرتكبون أعمال عنف باسم الإسلام، فإننا معشر المسلمين، جميع المسلمين، سنمثل جزءًا من هذا المجموع الذي يقوم بتلك الأعمال. عندها سيقع المسلمون في أوروبا تحت ضغط مستمر كي يثبتوا عدم وجود صلة لهم بالجُناة ويدافعوا عن أنفسهم، وسيدورون في حلقة مفرغة: كل اعتداء يقع سيبدد كل تأكيداتهم أن الإسلام بالفعل دين سلام، وأنهم يحبون العيش في أوروبا، وسيحمل نداءات جديدة لهم بأن يبتعدوا عن دوائر الإرهاب. ربما ستكون هناك أصوات أخرى تدافع عن المسلمين وتنادي بعدم تعميم الاتهام عليهم، ولكن حتى خطاب أصحاب النوايا الحسنة سيكون متأثرًا بإحساسهم أن هناك «نحن» أوروبية تتعرض للهجوم من «أنتم» لا تنتمي لهذه اﻟ «نحن». نظرًا لأني مسلم يعيش في ألمانيا ويستمتع بالحرية والتسامح، فأنا أخشى من حدوث تطور يؤدي في آخر الأمر إلى فقداننا بوصفنا أقلية هذا الكرم وذلك التسامح.
منذ فترة وجيزة كانت إحدى بنات عمومتي تزورنا هي وأسرتها في كولونيا. سألتْ قريبتي التي تعمل مهندسة معمارية في كاليفورنيا: كيف يرى الناس في ألمانيا وأوروبا الإسلام؟ فسألتها وأنا أهز كتفي: كيف عساهم يرونه؟ اقرئي أخبار اليوم وستعرفين كيف ينبغي أن يروا الإسلام. تذكرت ابنة العم الاعتداءات على القطارات الداخلية التي تم إحباطها، وخطبة المحرقة التي ألقاها الرئيس الإيراني، والتي سببت حالة من الذهول، ولم تطرح قريبتي أي أسئلة بعدها. دخل صديقي شديد التدين في الحوار وقال لنا إن زوجته بدأت في استبعاد جميع المقتنيات ذات الدلالة الإسلامية من غرفة المعيشة، أي ربما المصحف القديم أسفل المنضدة الزجاجية أو أي رسوم بالخط العربي. على الرغم من أنها في يوم ما كتبت شيئًا ذكيًّا جدًّا عن الصلوات الإسلامية، وعن المعنى الروحي للحروف المتحركة في اللغة العربية، وعن تتابع حركات الصلاة الذي يمكن مقارنته باليوجا أو التاي تشي أو العلاج النفسي الحركي، فإن زوجته اليوم لم تعد تحتمل، فحيثما نظرت وجدت أن الإسلام أصبح يعني القهر والحجاب والقتل. قلت لصديقي إن علينا ألا نتخلى عن ميراث الآباء والأجداد وعن كل هذه الثروات والأدب والتصوف والمؤاخاة التي تعلمناها باسم نفس الإسلام، لذلك فإن علينا ألا نترك ماضينا وراء ظهورنا فقط لأن الأخبار الراهنة لا تعجبنا.
كنت مصدومًا. إذا تولى صديقي وزوجته عن الدين، فمن سيبقى؟ قلت لهم إن الإسلام من وجهة النظر الغربية يُعد مرادفًا للقهر والحجاب والقتل، وهذا بديهي لأن هذا ما تعرضه الأخبار على الناس. ولكن نحن الذين تربينا مع الإسلام وتعرفنا على الثقافات يجب علينا ألا نستسلم لوجهة النظر الأحادية المُخلة هذه. وسألته كيف يرى العراقيون والفلسطينيون والأفغان الغرب، ألا يعتبرونه مرادفًا للاستغلال والنفاق والحرب، فهل ستجعلنا تلك الرؤية نتخلى عن الغرب؟ عن بيتهوفين والتنوير والأدب وكافكا وحقوق الإنسان؟ نتخلى عن ذلك كله ونقول إنه كذب في كذب، فقط لأن السياسة الخارجية لحكومة بوش كانت سياسة إجرامية، ولأن «تكتل هاليبورتون» لا يفكر إلا في النفط؟ وافقني صديقي الرأي في أننا يجب ألا نترك الثقافة لأولئك الذين يمرغونها في الوحل، ولا أن نتوحد مع الآخرين الذين يحتقروننا. لقد كان في حيرة من أمره. أما زوجته فستبحث لغرفة المعيشة عن رمز بوذي ولن تعبأ بما يقترفه البوذيون من جرائم في سريلانكا أو في غيرها.