القرآن والعنف
مشهد يومي من الحوار الألماني مع الإسلام: اثنان من خبراء الإسلام يتناقشان مع شخص مسلم عما يسمى ﺑ «الميثاق الإسلامي» الذي يعلن فيه المجلس المركزي للمسلمين في ألمانيا التزامه بمبادئ الدستور الألماني، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والنظام القانوني العلماني. يحاول الخبيران الجالسان على المنصة إقناع المسلم بأن ميثاقه هذا لا يتفق مع الإسلام. يقول أحدهما إن الإسلام لا يعرف الفصل بين الدين والدولة، لذلك يجب على المسلمين التخلي عن أجزاء جوهرية من دينهم إذا كانوا يريدون فعلًا الالتزام بالدستور، ويكمل الآخر بقوله إن من جوهر الإسلام أن يسعى كل مسلم إلى نشر الإسلام بالقوة. فيعارض المسلم بشدة.
هل يدعو القرآن إلى العنف؟ كِلا الخبيرين يدلل على زعمه أن القرآن يدعو إلى العنف عن طريق اقتباسات من كتاب المسلمين المقدس، كما يفعل المتحاورون الألمان دائمًا، فلا يكاد يمر لقاء علني إلا ويقارع المتحاورون الألمان أو اثنان أو ثلاثة من الحضور المتحدثين المسلمين بآيات عنيفة من القرآن. وخصوصًا على الإنترنت تُتداول العشرات من الأقوال المخيفة عن الإسلام، وكثير منها تكون ببساطة مختلقة أو مترجمة ترجمة موجهة، إلا أن الاقتباسات السليمة تكفي للإقناع بوجود خطر إسلامي، مثلًا الإشارة إلى بداية الآية ٨٤ من السورة رقم ٤ (النساء) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا، وتوجد آية أخرى يندر ألا يُستشهد بالجزء الأول منها في «الحوار مع المسلمين»، ألا وهي الآية ١٩١ من السورة رقم ٢ (البقرة) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ، أما الآية التي يُستشهد بها أكثر وربما تكون أشهر آيات القرآن في أوروبا فهي الآية رقم ١٢ من السورة رقم ٨ (الأنفال) التي يُستشهد بالجزء الأخير منها إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ. يفضل المسلمون في هذه الحالة الرد على هذه الاستشهادات بآيات أخرى من القرآن. وحتى ينجحوا في حوار الأديان يشيرون إلى رحمة الله التي تؤكدها فواتح الآيات أو اشتقاق اسم الإسلام من كلمة «سلام». من بين الآيات التي تخدم المسلمين في إثبات أنهم مسالمون توجد بكل تأكيد الآية ٢٥٦ من السورة رقم ٢ (البقرة) لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، وكذلك الآية ٣٢ من السورة رقم ٥ (المائدة) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ.
يمكن للمرء الاسترسال في تبادل الاستشهاد بآيات القرآن بهذه الطريقة التي تشبه لعبة تنس الطاولة كما يشاء، لكن هذا لا يوضح أي شيء عن القرآن نفسه. آيات القرآن التي نستأصلها من سياقها النصِّي والتاريخي ونعزلها عن تاريخ تلقيها لا تقول شيئًا لا عن مدى دعوة القرآن إلى السلم ولا إلى العنف. استخدام القرآن وكأنه محجر نقتطع منه في كل وقت ما يناسبنا يتعارض مع تركيبته اللغوية والبنائية، ويتعارض مع أهم تقاليد التفسير في الإسلام. بقدر ما أصبح الناس يتعاملون اليوم في العالم الإسلامي مع القرآن بطريقة غير متعقلة، حيث تتيح الأقراص المدمجة والإنترنت إمكانية البحث في نص القرآن تبعًا لأي كلمة بحث، بقدر ما كانت علوم الإسلام دائمًا واعية بأن القرآن لا يمكن فهمه إلا بالنظر إلى مُجمل أقواله وبمراعاة أسباب نزوله. عرف المرء دائمًا أن القرآن هو مجموع الوحي الذي تلقاه النبي محمد على مدار ثلاثة وعشرين عامًا في مواقف تاريخية خاصة، كما عرف أن آياته تحتاج إلى تفسير وأن معانيها تحتمل أوجهًا كثيرة. لذلك اضطلعت العلوم الإسلامية دائمًا بتفسير القرآن على خلفية تلك المواقف التي نشأ علم لدراستها، وهو ما يسمى ﺑ «علم أسباب النزول». هذه ليست نظرة تاريخية نقدية، ولكنها تعني أن العلوم الإسلامية كانت منذ بدايتها تفهم رسالة القرآن في سياق نشأتها. بذلك استطاعت تلك العلوم التعامل مع بعض التناقضات التي تبدو عصية على الفهم إذا وضع المرء فُرادى الآيات في مواجهة بعضها بعضًا.
في بداية الوحي على وجه الخصوص كان القرآن يمنع بوضوح استخدام العنف من أجل نشر الدين. لذلك يمكن لمن يريد إثبات سماحة الإسلام أن يجد في السور التي نزلت في الفترة المبكرة من الإسلام بُغيَته. ثم نزلت في المدينة آية رفعت حكم منع اللجوء إلى العنف بوضوح وهي الآية ٣٩ من السورة رقم ٢٢ (الحج) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، ومعنى الإذن هنا أنه كان ممنوعًا عليهم استخدام العنف قبل ذلك. وكما يمكن أن نفهم من السورة بعد ذلك فإن المسلمين كانوا في حيرة من أمرهم؛ إذ كيف يقاتلون أبناء قبيلتهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا الآية ٧٧ من السورة رقم ٤ (النساء). ولكن عندما احتدم الصراع بين أتباع النبي محمد وصفوة أهل مكة، عندها جاء الأمر بأن يدافع المسلمون عن أنفسهم، هذا هو السياق التاريخي للآيات التي كثيرًا ما يُستشهَد بها مثل الآية ١٢ من السورة رقم ٨ (الأنفال) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ. كان جمهور العلماء على مدار التاريخ الإسلامي يفهمون هذه الآية في سياق ظروفها التاريخية وليس على أنها أمر عام وشامل بقتال غير المؤمنين. وكان واجب العلوم الدينية دائمًا هو محاولة فهم موقف الخالق، ذلك الموقف العام غير المقيد بزمان والذي أدى تحت ظروف تاريخية مختلفة إلى أقوال مختلفة. حقيقة أن الرسالة العليا للقرآن هي السلام، وهذا ما تثبته دائمًا العلوم الدينية، ليست كلمات خطابية فقط تستخدم في حوار الأديان، لأن جدلية الصدق والتوازن التي يعكسها الموقف التاريخي للمسلمين الأوائل نجدها حاضرة طوال فترة تاريخ الوحي، كي تشير دائمًا إلى أن احتكار القوة هو أمر لله وحده؛ وليس مسموحًا للإنسان أن يأتي فعلًا لا يحق إلا لله وحده أن يقوم به. عشرات الآيات في القرآن تؤكد أن الكفار سيجدون عقابًا أشد من أي عقاب يمكن لبشر أن يلحقه بهم، وذلك في الآخرة. هنا يوجد أيضًا استثناءان واضحان من تحريم القتل: أولًا معاقبة القاتل وثانيًا القتل في الحروب الدفاعية. أي أن القرآن لا يدعو بحال من الأحوال إلى النبذ التام والدائم للعنف، ولكنه يضع لاستخدام العنف حدودًا واضحة.
الأديان لا تتألف إذن من الحروف التي أوحى الله بها فحسب، وإنما أيضًا من الجوانب التي ربما يتجاهلها المؤمن. قبل أن أدرس العلوم الإسلامية لم أكن أعرف شيئًا عن الآيات القرآنية التي تدعو إلى استخدام العنف. على الرغم من أني نشأت في بيت متدين وتقام فيه الصلاة بانتظام، فإني لم أواجه تلك الآيات كما لا يسمع الأطفال الإنجيليون في حصص «تثبيت العماد» أي شيء عن كتاب القوانين الذي جاء به موسى أو ما نزل به الوحي على يوحنا. فمثل هذه الفقرات لا تظهر في الصلوات، وكنت أرى تديُّن والدَيَّ وجدَّيَّ متسامحًا وسلميًّا، لذلك كان طبيعيًّا تمامًا في رأيي أن أعتقد في الحديث النبوي الذي كنت أسمعه دائمًا الذي يقول إن الطرق إلى الله عديدة مثل عدد أنفاس الإنسان. وكان لديَّ أسئلة ناقدة جدًّا، ولكنها لم تكن تتعلق بالآيات التي يذكر فيها استخدام العنف التي كنت لا أعرفها بأي حال من الأحوال، وإنما تعلقت أسئلتي بالحدود المادية في الشريعة الإسلامية والتي سمعت عنها لأول مرة في حصص الدين المسيحي في المدرسة. عندما تحدثت مع أمي قبل فترة عن ذلك، إذ كتبت الصحيفة يومها عن تطبيق حد الرجم في إيران، عرفت منها أن الأجوبة التي أعطتها لي عندما كنت طفلًا كانت هي نفسها التي سمعتها من والدها عندما كانت طفلة. سألت أمي عندما كانت فتاة صغيرة جدي متعجبة: ما هذا الدين الذي يأمر بالرجم؟ عندها غضب جدي ليس من ابنته ولكن من هؤلاء الملالي الذين أرادوا وقتها إعادة تطبيق حد الرجم. وقال في ثورة إن هذه الحدود القاسية موجودة حتى لا تُطبَّق أبدًا، وبدأ يذكر شروط كل واحد منها؛ قطع اليد وضرب الزوجة والرجم في حالة الخيانة الزوجية. وشرح لأمي قائلًا إنه لا يصح فهم قطع اليد الآن فهمًا حرفيًّا، وضرب الزوجة ما هو إلا ضرب رمزي بالخلَّة على ظهر اليد، كما فعل الرسول، ثم شرح لأمي موضوع الرجم بالكلمات الآتية (حتى أنا ما زلت أذكر جيدًا تحمسه في الكلام عن شئون العقيدة والأخلاق):
يجب أن يحضر الموقف أربعة شهود، ليس هذا فحسب بل يجب عليهم أن يمرروا خيطًا بين المشتبه فيهما، ويجب أن يعلق الخيط حتى تثبت التهمة. فماذا يعني هذا إذن؟ هل هذا واقعي؟ هل يمكن تصور موقف يضبط فيه أربعة شهود ذكور رجلًا وامرأة أثناء ممارسة العلاقة الحميمة ويبقى الاثنان يعلو أحدهما الآخر في هدوء حتى يُمرَّر خيط فيما بينهما إلى أن يعلق الخيط؟ ألا تفهمين أن مغزى مثل تلك الشروط هو ألا تتحقق أبدًا؟ فإلى ماذا كان يرمي هذا قبل ألف عام؟ هل اطلعت على الطريقة التي كان العرب قبل الإسلام يعاقبون بها على الخيانة الزوجية؟
بوصفي من علماء الإسلاميات فأنا أعرف اليوم أن هذه الإجابة ليست تامة الصحة سواء من الناحية التاريخية أو الدينية، ولكنها إجابة أكثر نمطية من وجهة نظر التربية الإسلامية، مقارنة بفتاوى الأصوليين الإسلاماويين وخبراء الإسلام الغربيين، الذين يستخدمون الإسلام في تشويه صورته وجعله يبدو مثل الكاريكاتير عندما يختصرون القرآن على قانون يُطبَّق حرفيًّا. لم يكن جدي وحده الذي يشرح الأمر بهذه الطريقة، فقد سمعت كلامًا مشابهًا من والدي وأقارب آخرين عندما كنت في نفس سن أمي حين طرحت نفس الأسئلة، كان الجميع يقول: يجب أن تراعي السياق، وأن تفهم المعنى الدائم غير المرتبط بزمن معين، وأن تفكر دومًا في أن القرآن يرشدنا إلى الأعمال الحسنة، أعمال الطيبة والرحمة، بل إن الأعمال الحسنة أفضل ثوابًا من الصلاة. بصرف النظر عن ذلك كله، فإن القرآن لا يذكر شيئًا عن الرجم، كما كان جدي يؤكد، ولكن رجال الدين هؤلاء لم يرغبوا في فهم ذلك، لم يرغبوا في فهم ما تأمرهم به كتبهم. لم يكن الله من وجهة نظرهم في المقام الأول الرحمن، وإنما القاضي الجلاد وهم السيافون. كان هذا يستثير ثائرته، وكأني أراه هكذا أمام عيني. والآن تذكر الصحيفة أن حد الرجم سيُطبَّق مجددًا في إيران. قالت أمي هامسة إن هذا أمر لا يُعقل، إنهم لم يتركوا للإسلام شيئًا من كرامته.
لقد تأثرت بالفعل الصورة الإيجابية للإسلام التي كانت لديَّ وأنا طفل حتى قبل أن يعرض خبراء الإسلام الألمان القرآن وكأنه يتكون فقط من دعوات للقتل وللضرب المفضي إلى الموت بفترة طويلة. لم يكن ممكنًا حتى لصبي في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من عمره إغفال أن سلطة الحكم العنيفة في إيران استمدت شرعيتها من القرآن والتراث الإسلامي. بسبب الديكتاتورية الدينية هاجر معظم أفراد أسرتي إلى أمريكا، وبعضهم اضطر إلى خوض مغامرات للهرب عبر الجبال الكردية، وأحد أبناء عمومتي سُجن لسنوات طويلة، وأُعدِم أخو زوج عمتي. كل هذا حدث لعائلتي التي كانت تعوِّل كثيرًا على الثورة. يمكن تصور المرارة التي كان الناس يتحدثون بها في مجالسهم المسائية عن الأحوال السياسية، بل وما زالوا يتحدثون بها. لكنني لم أستطع — ليس فقط لأسباب عاطفية — أن أنسى قيم تربيتي الدينية، كما لم أغفل قط المثل العليا في الطيبة والصلاح التي أراها ما زالت متجسدة في بعض أقربائي الأكبر سنًّا شديدي التدين.
يوجد بالتأكيد عدد من المواضع في القرآن يتعارض مع الإعلان العام لحقوق الإنسان، وهذا التعارض لا يمكن التغلب عليه حتى إذا أخذنا في الاعتبار أسباب النزول. إذا أخذنا القرآن مثلًا وتوقفنا فقط عند الحدود مثل قطع يد السارق، فإن جميع أشكال الحوار لن تغير حقيقة أنها منصوص عليها في القرآن بوضوح. السؤال هو إذن كيف يتعامل المسلمون مع تلك الآيات، كيف يطبقون الأقوال التي تقف في سياق تاريخي معين على زمن آخر: ربما يتجاهلها المسلم العادي وخصوصًا فيما يتعلق بتربيته لأولاده، إلا أن علوم الدين لا يمكن بحال من الأحوال أن تتجاهل هذا السؤال. إن الاختلاف في الإجابات عن هذا السؤال يمتد في الإسلام من ضرورة التطبيق الحرفي وصولًا إلى تفسيرات تسلب القرآن أي أهمية فيما يتعلق بسَنِّ القوانين.
لا يختلف الوضع في المسيحية كثيرًا، ولا نعني بذلك العهد القديم وحسب، بل إن العهد الجديد يطالب بوجود معايير قانونية معينة واستعداد للتضحية بالذات وكذلك ببذل الجهد بصورة غير مسبوقة في تاريخ الأديان من أجل التبشير بالمسيحية، الأمر الذي يغلق الباب في وجه جميع المناوشات الحوارية. ولا يختلف الأمر عما هو عليه لدى الإرهابيين الإسلاماويين عندما كان يُفهم في المسيحية — بصورة متكررة وحتى وقت قريب — حرفيًّا ما ورد في إنجيل متَّى (١٠: ٣٤) من أن المسيح يعلن أنه سيحضر السيف، أو عندما ننظر إلى الغطاء الديني لسياسة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، أو إلى التبرير المسيحي للمتطرفين الصرب، أو ما أعلنه سيلفيو برليسكوني من «احتلال» العالم الإسلامي، أو المباركة المسيحية التي منحها ممثلون رفيعو المستوى من الكنيسة الأرثوذكسية للحرب الروسية في الشيشان.
إن الأديان لها طبيعة صلبة، يكفي ادعاؤها امتلاك الحقيقة المطلقة، فإن هذا في حد ذاته بمنزلة الفضيحة، وفيه يكمن الخطر الذي ينبعث منها، وتكمن فيه في الوقت نفسه قوة الكلمة التي تأتي عن طريق الوحي في مقابل جميع أشكال النسبية: إن الأديان تأتي من عالم آخر على ما يبدو ولا تقول ببساطة ما نعرفه بالفعل. إلا أنها لا يمكن أن تظهر في أبهتها وادعائها امتلاك الحقيقة وشموليتها إلا بالقدر الذي لا تتحول فيه إلى قانون للدولة يكون ملزِمًا لأصحاب العقائد الأخرى. أي أن الأديان نفسها تحتاج إلى الإطار العلماني، إذا كنا نرغب في عدم اختصار رسالتها في مجموعة من النوايا الحسنة العامة. ولا يمكنها إظهار مزايا ادعائها امتلاك الحقيقة إلا في دولة تكون هي نفسها محايدة دينيًّا، أي حيث يكون ممكنًا تجاهل أو حتى رفض هذا الادعاء. يجب ألا يصبح معنى العقيدة فقدان من لا يتبعونها حريتهم. على أي حال، فالحقيقة تصبح مطلقة عندما لا يصادرها شخص لنفسه. إن جذور البلوى الحالية التي يعاني منها الإسلام إذا أجملنا القول تتمثل في عملية العلمانية وانفتاح التأويل الديني التي لم تحدث إلا بصورة محدودة أو حتى التي يُتراجَع عنها كثيرًا. يقول الإمام علي، رابع الخلفاء الراشدين: «القرآن كلام بين دفتي كتاب، لا يتكلم ولكن البشر هم من يتكلمون به.» يحتاج الوحي إلى تفسير، وبالنظر إلى إمكانات الفهم المختلفة وتأثيرها على الواقع السياسي يمكن الكلام عن الإسلام. كون الأديان تتألف من مجموع تفاسيرها، فهذا أمر يسري على جميع الأديان، إلا أنه لم يُذكر بوضوح إلا في الإسلام واليهودية. التفاسير التقليدية للقرآن تضم دائمًا أكثر من تحليل. بعد أن يقوم المفسر بعرض كل أوجه التفسير الممكنة يقدم تفسيره هو ثم يختتم بالعبارة البلاغية الشهيرة «هذا والله أعلم.» إن القرآن كلمة الله الخالصة، ولذلك فإن الفهم الإسلامي التقليدي ينطلق من أن أي تفسير للقرآن هو من صنع البشر، ومن ثم فهو بضرورة الحال نسبي. كما يُعد من منطلقات التفسير الإسلامي التقليدي أنه لا يوجد شخص يمتلك القدرة على إعطاء التفسير الوحيد للقرآن، وأن مثل هذا التفسير غير موجود أساسًا. يحدث أحيانًا في الجدل الديني التغاضي عن هذه الحقيقة، لكن لا أحد يتجاهلها تمامًا مثلما يفعل اليوم الأصوليون والخبراء الغربيون، الذين يحاولون عن طريق القرآن أن يوضحوا للمسلمين مدى قسوة دينهم. جزء كبير مما يدخل اليوم في نطاق الثقافة الإسلامية مثل الأعمال الرائدة في الشعر والعمارة والفنون التطبيقية والموسيقى والتصوف والفلسفة لم يتأثر بعوامل من خارج الإسلام فحسب، بل إن كثيرًا من قيمها وموضوعاتها يتناقض مع المعايير التي ينص عليها القرآن دون أن يتسبب ذلك التناقض في أن تعتبرها غالبية المسلمين أمورًا بدعية أو مكفرة. تظهر هذه التناقضات مثلًا في استخدام موضوع الخمر والحب المثلي المحرم في الشعر، أو في العقلانية المفرطة في الفلسفة، أو في الأبهة في المساجد أو في أغاني العشق أو في المساواة بين الأديان في التصوف الإسلامي، أو في سخرية مشاهير الشعراء الحمقى في ألوان الأدب الشعبي المختلفة من كل ما يمثل سُلطة بما في ذلك السُّلطة الإلهية.
من أهم أهداف الأصوليين تطهير الدين «الإلهي» من الثقافة «البشرية»، وخصوصًا من ثقافته الدينية. إنهم يريدون العودة إلى الكلمة المجردة، ويفهمون جميع الظواهر التاريخية التي لا تتفق معها على أنها بدع. يمكن أن ندرك الخطر الحقيقي الذي تشتمل عليه هذه الرؤية إذا نظرنا إلى الحظر الثقافي والتحريم الديني للصور الذي يطبقه بعنف الوهابيون في السعودية أو طالبان في أفغانستان. إلا أن الحياة الحقيقية التي يعيشها معظم المسلمين تختلف عن ذلك. يكفي فقط أن يسافر المرء إلى القاهرة أو إلى طهران أو إلى إسطنبول حتى يفهم كم تختلف المجتمعات الإسلامية عن الصورة التي يجب أن تكون عليها كما يقول الكتاب، حيث يفهم الناس الإسلام هناك بصورة أكثر تكاملًا وتداخلًا عما هو عليه الحال في الحوار الألماني مع الإسلام؛ حتى الآن على الأقل. أظهر استطلاع حديث للرأي أنه على الرغم من تزايد التدين بين الناس، فإن ٨٥٪ من الأتراك ما زالوا يرون أن الشخص الذي لا يؤدي الصلاة أو الذي يشرب الخمر يمكن أن يكون رغم ذلك مسلمًا صالحًا؛ نعم، مسلمًا «صالحًا». لن يُفاجأ بهذا الكلام إلا من لم ينشأ في كنف الإسلام. يمكن للمرء أن يفهم الإسلام كما يفهمه تيلمان ناجيل، وهو أحد المتحدثَين في حلقة النقاش سالفة الذكر التي نظمتها مؤسسة هانس زايدل، فلم يكن ناجيل — على العكس من شريكه في الحوار هانس بيتر راداتس — حماسيًّا، بل كان يقف على أرضية فيلولوجية صلبة، والأكثر من ذلك أنه واحد من أهم علماء الإسلاميات في ألمانيا. ولكن لحسن الحظ، فإن التاريخ والحاضر الإسلامي لا يعبآن دائمًا بالأفكار الدوجماتية التي يستخلصها ناجيل من القرآن؛ أريد أن أقول إن الإسلام يعيش مثله مثل كل الأديان في العلاقة التفاعلية بين النصوص وقرائها. إذا اتبعنا رؤية ناجيل، فسيكون علينا اعتبار أن معظم المسلمين الذين يستخدمون نفس المصادر التي يستخدمها ويصلون إلى نتائج أخرى — يراها ناجيل خاطئة — كفار، وهذا ما لا ينقص المسلمين فلديهم ما يكفيهم ممن يدعون ذلك.