هل الإسلام قابل للاندماج؟
تقف منذ سنوات قضية هل الإسلام في أوروبا قابل للاندماج في مقدمة الموضوعات هنا حيث يعقد لها حلقات نقاشية ومؤتمرات وندوات بحثية ودورات تدريبية في مؤسسات تعليم وتدريب الكبار وفي الأكاديميات الإنجيلية. أو يُطرح السؤال باختلاف بسيط: هل يتوافق الإسلام مع الديمقراطية؟ ومع الدستور؟ ومع الحداثة؟ ومع التنوير؟ ومع محتوى المقررات الدراسية في المدارس الألمانية؟ وتصل هذه التساؤلات بصورة منتظمة إلى ساحات الجدال الكبيرة على صفحات الثقافة والفنون بالجرائد، وكذلك البرامج الحوارية والبرلمانات. حتى معلقو كرة القدم يحبون الدخول في حلبة النقاش في كل عام عندما يحل شهر الصيام (رمضان)، إذ يتجادلون حول مسألة هل يتناقض الإسلام مع دوري كرة القدم الألمانية أم لا.
أتابع تلك النقاشات وأنا لا أكاد أصدق ما أسمع، فيبدو أن جميع الكتاب والمتحدثين وضيوف الاستوديو يتفوقون عليَّ في أنهم يعرفون تحديدًا وعلى وجه الدقة ما هو الإسلام، بينما لا أعرف ذلك بنفس الوضوح. فأنا لا أجد على الفور ردًّا شافيًا وافيًا على سؤال: هل يتوافق الإسلام مع الحداثة، إذ يجب أولًا أن نسأل: أي حداثة؟ هل يُفهم المصطلح بصورة معيارية على أنه مجموعة من الأفكار مثل التنوير والعقلانية والتسامح وحقوق الإنسان والديمقراطية؟ أم يُفهم بصورة وصفية باعتباره تسمية لحقبة تاريخية؟ عندها سيدخل تحت مصطلح الحداثة أيضًا الشمولية والمحرقة أو تدمير مساحات واسعة من مظاهر الطبيعة الأساسية لقيام الحياة. ويبدو من الأصعب الإجابة عن السؤال الثاني: أي إسلام؟ الوهابية السعودية التي تمنع النساء من قيادة السيارة، أم أيديولوجية آية الله خوميني، التي تجعل لله وليس الإنسان السيادة على الدولة، وكلا النموذجين يتعارض مع الديمقراطية والتسامح وحقوق الإنسان، أي مع أفكار تنسب عادة إلى الحداثة. ولكن عندما أفكر في مفكرين إسلاميين آخرين أو مدارس أو اتجاهات إسلامية أخرى أو ببساطة في الإسلام، الذي أعرفه منذ طفولتي؛ إسلام أقربائي وأصدقائي ورجل الدين الذي يقطن بالقرب منا — لا أجد فيه شيئًا غير حداثي. فكل من ذكرتهم لم يحاولوا قط فرض وصايتهم على أصحاب العقائد الأخرى أو من لا دين لهم من جيرانهم، ولم يعاملوهم قط بالعنف، ولم يمنعهم دينهم يومًا من أن يتمنوا لبلدهم تحقيق الديمقراطية والتقدم التقني. هؤلاء المسلمون مسالمون ومهتمون ومحبون للحرية ليس على الرغم من دينهم، ولكن أيضًا ليس بفضله. فلو افترضنا أحد الاحتمالين لكان في هذا مبالغة في تقدير تأثير الإسلام عليهم، إذ إن الإسلام ليس العامل المؤثر والمهم الوحيد في حياة المؤمنين.
ربما يعترض أحد قائلًا إن الأقارب والأصدقاء ورجل الدين هذا قد تأثروا بالغرب، وخصوصًا رجل الدين المذكور، ولكنهم على الرغم من ذلك، وفي الوقت نفسه، يرون أنفسهم مسلمين، وربما لم يفكر واحد منهم حتى الآن تمامًا في احتمالية وجود تناقض. من يرى أن الإسلام غير قابل للتوافق مع الحداثة الغربية، فعليه أن يستبعد مثل هؤلاء المسلمين «المتنورين» حتى يستطيع التشبث بموقفه. وسيكون من الغطرسة بقدر ما سيكون مريحًا اعتبار أولئك المسلمين الذين يجدهم الرأي العام الغربي لطفاء — هم دون غيرهم — الممثلين الحقيقيين لدينهم، ومن ثم يُستخلص أن الإسلام والغرب يكمل كلٌّ منهما الآخر على أحسن وجه. لذلك فإن التأكيد على سلمية رسالة الإسلام لا يساعد كثيرًا عندما يريد المرء شرح الأسباب التي تؤدي إلى كثرة القتل باسم الإسلام حاليًّا.
إن القرآن في حد ذاته لا هو بيان «مؤيد» ولا كتاب «معارض» للحداثة أو الديمقراطية أو الدستور الألماني، إذ إن القرآن يقف إلى حدٍّ بعيد موقف المحايد من تلك القضايا ومن غيرها من القضايا الراهنة الملحة، فيمكن مثلًا أن يرفض المرء أو يؤيد تصور الديمقراطية البرلمانية أو فصل السلطات كما يشاء، لكنه لو قرأ النصوص بعناية، فلن يجد في القرآن أو الأحاديث النبوية أو السيرة ما يساعده في ذلك. يجب أن يطلق المفسر لنفسه العنان في التفسير كي يستطيع إثبات — عن طريق الآية القرآنية التي يكثر الاستشهاد بها — أن الناس يجب أن يتشاوروا في أمورهم واعتبار هذا بيانًا ديمقراطيًّا، أو العكس: أن يستخدم آيات أخرى حسب اختياره ليبرر بها نظام الحكم الملكي أو الشيوعي أو الديني، وهو الأمر الذي أصبح معتادًا منذ القرن التاسع عشر. من الواضح أن الله (أو لكي نصوغ الجملة بصورة محايدة دينيًّا: المتكلم في القرآن) قد ترك إلى حد بعيد للبشر كيفية تنظيم الحكم بصورة عادلة ومرضية له.
بالتأكيد يوجد في القرآن بعض الآيات التي تتعارض مع حقوق الإنسان في صورتها الحالية، ولكن على الرغم من ذلك يشهد عدد غير قليل من الباحثين أن الإسلام هو الأقرب للحداثة من بين الأديان الثلاثة في منطقة البحر المتوسط التي تنص على وجود إله واحد. ويشير مثلًا الفيلسوف البريطاني إرنست جلنر إلى عالمية الإسلام والتزامه بالنص القرآني وبمفهوم العدالة الروحي، ويشيد أيضًا بإمكانية مشاركة جميع الناس في مجتمع المؤمنين فضلًا على تنظيمه للحياة الاجتماعية بطريقة عقلانية. ويرى مواطنه الأسقف وعالم الإسلاميات كينيث كراج أن القرآن يقدم صورة ديكارتية للإنسان وأن الإسلام يتيح مدخلًا إلى الحداثة بطريقة لم تتحقق في المسيحية إلا بعد التخلي عن محتويات جوهرية من العقيدة. في حين يرى العالم السياسي الفرنسي فرانسوا بورجات أن الإسلام تحديدًا يتيح إمكانية أن يسير المرء على نهج «المرجعيات الأساسية» لخطاب الحداثة ذي الطابع الغربي، بما في ذلك أيضًا مجالي حقوق الإنسان والديمقراطية.
يذكر علماء آخرون حججًا تستحق هي الأخرى بعض التدبر ليدللوا بها على عكس ذلك، إذ إنهم يرون أن العالم الإسلامي لا يمكن أن يدخل إلى الحداثة إلا إذا اتبع النموذج الغربي في خوض عملية التنوير. وعندها لن يبقى من الإسلام إلا القليل، لأن محتوياته الأساسية تتعارض في زعمهم مع المدنية الحديثة. إلا أن علماء تاريخ الفكر الذين يرون منذ فترة طويلة أن الحداثة ليست فقط ظاهرة غربية وإنما ظاهرة عابرة للثقافات يضعون هذا الموقف الأخير موضع التساؤل. ويحاول علماء الإسلام الذين يرون ذلك ذكر الأدلة على أن أجزاءً من العالم الإسلامي تشهد منذ القرن السادس عشر عملية تنوير موازية لما حدث في العصر الحديث الأوروبي ومشابهة له في جوانب كثيرة، إلا أنها لا تتطابق تمامًا معه. إنهم يشيرون فيما يتعلق بالسلطة السياسية والاقتصاد إلى الأمور المتشابهة بين تشييد الممالك الأوروبية وقيام الدولة العثمانية والدولة الصفوية الفارسية أو إمبراطورية مغول الهند، ويرون في الوقت نفسه في تاريخ الفلسفة الإسلامية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مؤشرات واضحة على وجود فكر إصلاحي مستقل. غير أن مجموعة أخرى من العلماء ستهب معترضة ومؤكدة على أن هذا الفكر لا يمكن أن يقارن بما كان يجري في أوروبا وسيصفون كلام زملائهم بأنه أوهام فقط.
إلا أن الواقع لا يتوقف عند مثل هذه الجدالات الأكاديمية حول الإسلام أو الديمقراطية أو حقوق الإنسان أو تحرير المرأة أو الحداثة، لأن الإسلام في الواقع لديه القدرة بوضوح على إضفاء الشرعية على الشيوعية وعلى الملكية، وعلى فصل الدين عن الدولة أو التوحيد بينهما، وأيضًا الاستبداد بالحكم أو الكفاح ضده. بقدر ما يحرص المراقبون الغربيون على تكوين حكم على الإسلام، بقدر ما سيوجد دائمًا مسلمون لا يندرجون تحت هذا الحكم. وسيبقى المسلمون في آخر الأمر هم الذين يحددون في مجملهم ما هو دينهم أو ما يمكن أن يكونه.
التصورات والطقوس والالتزامات الدينية الوحيدة التي يمكن اعتبارها «إسلامية» دون قيد أو شرط لأن جميع المسلمين يتقبلونها بالفعل على أنها أمور معيارية (حتى إن لم يلتزم بها الجميع بالضرورة) لا تقف في طريق عملية الاندماج في نظام المجتمع الأوروبي العلماني، ولا تسهِّل هذا الاندماج في الوقت نفسه. لا يمكن أن يدَّعي أحد بجدية أن المسلمين المتدينين ليس بإمكانهم أن يشاركوا في أوروبا لأنهم يؤمنون بوحدة الله أو بالأنبياء وبالبعث، أو لأنهم يصلون خمس مرات في اليوم والليلة ويصومون شهرًا في العام ويؤدون الزكاة ويريدون الحج إلى مكة مرة في العمر. هذه هي أسس الإسلام التي يعترف بها جميع المسلمين. لا يتعلق اعتراض من يرون أن وجود إسلام أوروبي أو إسلام حديث يشتمل على تناقض في حد ذاته بأصول أو أركان الإسلام، وإنما يتعلق بأن الإسلام لا يعرف فصل الدين عن الدولة، وبأنه يضع قوانين للمجتمع، وبأنه دين يصر على تنظيم الحياة العامة وإصدار قوانين الدولة. هذا الادعاء يتعمد إغفال حقيقة أن شعار ضرورة وحدة الدين والدولة الذي يتشدق به الأصوليون في كل مكان «الإسلام دين ودولة» وينطلق منه المراقبون الغربيون في حكمهم ما هو إلا مُنتَج خرج من رحم الحداثة. لا يوجد أي دليل على وجود هذا الفكر في أي نص قبل القرن الثامن عشر، فقد كانت السلطات الدينية والسياسية في حقيقة الأمر مختلفة في العصور الوسطى الإسلامية عن المسيحية، إذ كانت في العالم الإسلامي تقريبًا دائمًا منفصلة بعضها عن بعض. كان الحكام بالفعل يوصفون بأنهم حُماة العقيدة ورأس المؤسسة الدينية، إلا أن هذا لم يكن يختلف أساسًا عن كون ملكة بريطانيا حتى اليوم هي رأس الكنيسة الأنجليكانية. لم يكن الخليفة هو المفتي، ولم تكن له في المعتاد خلفية تعليمية دينية، ولم يقم بمهام دينية، ولم يصدر فتاوى أو يوقع أحكامًا دينية. كان للسلطات الدينية مؤسساتها الخاصة، وكانت هذه المؤسسات عند الشيعة لزمن طويل مستقلة، بينما كانت عند السُّنة عادة خاضعة للسلطة السياسية. إذن لا يمكن الحديث عن حكم رجال الدين إلا في استثناءات قليلة مثل الدولة الزيدية في اليمن ثم في الجمهورية الإسلامية في إيران. ربما ما كان أحد فلاسفة الدولة مثل الفارابي في القرن العاشر بالضرورة ليرفض مطلب توحيد الإسلام والدولة، إلا أنه كان سيجد الفكرة غير مفهومة، مثل التساؤلات حول «الإسلام والسلطة، الإسلام والمرأة، الإسلام والشر». في المسيحية والهندوسية أيضًا كانت الحداثة هي التي أعطت الدين هذا الطابع، فلم يكن الدين في رأي رجل العصور الوسطى أيديولوجية، وإنما كان يتكون من تعاليم محددة للحياة العملية وإجابات عن أسئلة تنتج عن مواقف حقيقية ملموسة. لذلك فإن الشريعة ليست كتاب قوانين بالمفهوم الحالي، وإنما تشتمل على جميع آراء العلماء بما فيها من تناقض فيما بينها، تلك الآراء المتعلقة بفُرادى القضايا المتعلقة عادة بالعبادات التي خلُص إليها علماء الشريعة على مدار التاريخ الإسلامي. إن الإشارة إلى النبي محمد والخلفاء الأربعة الأول لا تُعد دليلًا على أن الإسلام يفرض بالضرورة وحدة القيادة الدينية والسياسية، فمن المعروف أنه لا يوجد بعدهم (وكذلك بعد «غياب» الإمام الثاني عشر عند الشيعة) نبي أو خليفة يستمد شرعيته من نسبه إلى النبي وتقبله الأمة لهذا السبب. إن الذي يحاول جعل الموقف الخاص في «تاريخ أمة دينية» مطلقًا، ويجعل منه في تفاصيله نموذجًا يجب تطبيقه على باقي تاريخ تلك الأمة، يفكر بصورة أصولية سواء أكان مسلمًا أم مسيحيًّا، وسواء أكان تابعًا لدين أم مراقبًا له. هذا تحديدًا ما يفعله الإسلاماويون وينتهي بهم المطاف إلى تقليد شكل اللحية والملابس تقليدًا حرفيًّا كما ورد عن النبي، بالإضافة إلى أنهم لا يتركون استخدام الكحل كما كان رجال القرن السابع يضعونه. كان نموذج النبي بالتأكيد الدليل الذي يوجه السلوك والقانون لدى المسلمين، لكن فكرة أن ينظم الإسلام جميع أمور الحياة العامة وأن يصبح نظام الحكم في الدولة فكرة من القرن التاسع عشر نتجت عن الجدل الذي نشأ بسبب التحديات السياسية الفكرية التي وضعها الاستعمار الأوروبي أمام العالم الإسلامي. يسمي عالم الإسلاميات راينر شولتسه القادم من برن هذه الظاهرة ﺑ «فخ الأصولية» الذي يتخبط فيه الفكر الإسلامي. تعامل النقد الغربي مع الإسلام على أنه كيان مستقل لا يتطور بالزمن، ورأى أن المسلم يستسلم له بطريقة سلبية، وجعل دين المسلمين هو السبب في تخلفهم، وادعى أن هياكله تجعله غير قابل لإحداث إصلاح، مما دفع المفكرين المسلمين في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين إلى اللجوء أيضًا إلى الدين حتى يدافعوا عن أنفسهم أيديولوجيًّا ويوضحوا موقفهم المعاكس لذلك، فقد قالوا إنه ليس الإسلام بل الابتعاد عنه هو السبب في أزمة المسلمين، والعودة إليه ستعيد عظمة الإسلام الأولى بصورة تلقائية، وهذا ما كان يتمناه المفكرون في تلك المرحلة التي مهدت للإسلاماوية الحالية. من الجدير بالذكر هنا أن التاريخ القديم للإسلام استُخدِم في كلا الخطابين، الغربي والإسلامي، بوصفه النموذج التفسيري للحاضر، إذ استخدمه الفكر الغربي على أنه نذير، والفكر الإسلامي على أنه نموذج. في كلا الحالين افتُرِض وجود وضع إسلامي أولي ونُظِر إلى التاريخ في جوهره من منظور إلى أي مدى أدى إلى الانحراف عن المعيار الإسلامي الأول. ولم تتغير هذه النظرة تغيرًا جوهريًّا حتى اليوم.
يُجمِع الأصوليون الإسلاماويون على اختلاف أطيافهم على أنهم يبحثون في المصادر الدينية وفي العصر الأول للإسلام عن الأسباب الأصلية لمشاكل وظواهر ومحاولات الوصول إلى حلول في عالمهم المُعاش. ويتفقون في هذه النظرة الأصولية مع تقاليد تفكير خبراء الشرق الأوسط الغربيين التي ما زالت قائمة منذ مئات السنين. فضلًا على أن هذه النظرة هي الأساس الذي ما زالت تقوم عليه — في كثير من الأحيان على الأقل — العلوم المبسطة والتقارير الصحفية في وسائل الإعلام. لا يمكن لأحد أن يصف المتطرفين في شمال أيرلندا بجنود لوثر، كما لا يمكن لأحد أن يبرر تدنيس المقابر الإسلامية في البوسنة أو حروب الولايات المتحدة الأمريكية الأخيرة مستخدمًا في ذلك الإنجيل، على الرغم من أنها بالفعل كانت قد أعلنت باسم العقيدة المسيحية. إن المفردات الدينية تُفهَم فهمًا صحيحًا تمامًا عندما توضع في سياق اجتماعي وسياسي وإلى حدٍّ بعيد أيضًا دعائي محدد، ومن خلال ذلك أيضًا يُنظر إلى ادعائها الحقيقة بصورة نسبية. هذا لا يعني تجاهل أو التقليل من شأن التبرير الديني، بل وضعه مع عوامل أخرى في سياقه وشرحه من خلال ذلك. عندما يستند فاعلون سياسيون في الشرق الأوسط إلى الإسلام، فإننا نصدق كل كلمة يقولونها، حتى لو لم يكن الإسلام مرجعيتهم قبل ذلك، وكانوا يحاربونه سنوات طويلة مثل صدام حسين وديكتاتوريين علمانيين آخرين في الشرق الأوسط، ويُستخدَم النزاع السياسي معهم دليلًا على وجود صراع الثقافات.
إن الفهم العلماني الغربي يستبعد الشرق من هذا الفهم، فقد أصبح نموذجًا لمنطقة الدين التي يجب تبرير جميع التطورات والأحداث الثقافية والسياسية فيها بالدرجة الأولى تبريرًا دينيًّا. في الموسوعات المبسطة عن الإسلام توجد مقالات عن شعراء ملحدين وقادة شيوعيين، بل أيضًا عن مسيحيين، مثل الكاتب إدوار الخياط والمطربة فيروز وميشيل عفلق أحد مؤسسي حزب البعث. وتُعد الظواهر التي لا تُعرَّف دينيًّا استثناءات بدلًا من فهمها بصورة مستقلة، ويتم مثلًا فهم شكسبير أو الحرب العالمية الثانية أو كتاب هيجل «فينومينولوجيا الروح»، التي لها بُعد ديني ولكن لا يمكن بحال من الأحوال اختزالها فيه. يرى عالم الإسلاميات عزيز العظمة أنه «يكاد يوجد نوع من التواطؤ بين المعلقين الغربيين وأصحاب الأيديولوجيات الإسلاماوية»، فكلاهما يرى أن السبب الأساسي لكل ظاهرة في العالم الإسلامي موجود في النصوص الدينية الأساسية. إن هذه النظرة المعيارية لتاريخ وحاضر «العالم المسيحي» ستفند نفسها بنفسها.
تُعد كلمة «حوار الثقافات» في حد ذاتها أيديولوجية محضة، بل الأسوأ من ذلك أنها تؤكد رغم حسن نيتها النموذج العكسي المتمثل في «صراع الثقافات»، كما لو كان هناك شخصان عليهما أخيرًا أن يتفاهما بدلًا من أن يتعاديا. ولكن أين يمكن للمسلمين الغربيين البوسنيين على سبيل المثال أو الجيلين الثاني والثالث من أبناء المهاجرين أن يجدوا لأنفسهم مكانًا في دائرة الحوار تلك؟ أين سيكون مكان البرجوازية العربية أو المسيحيين الشرقيين أو المثقفين الذين يعرفون النظام الثقافي الأوروبي أكثر من معظم الأوروبيين. كلا، إن حوار الثقافات أمر كاريكاتيري مثل التحليلات التي تختزل عالم اليوم إلى صدام بين المدنيات المختلفة. إلا أن المشكلة الحقيقية هي أن مثل تلك الكاريكاتيرات تترسخ في أذهان أعداد متزايدة من الناس، وتؤدي بعد ذلك إلى أعمال سياسية أو حتى عسكرية. عندها لا ينفع القول بأن هذا الفهم خاطئ، إذ يجب على المرء وقتها أن يأخذه مأخذ الجد ويتعامل معه. ويمكن أن يكون العكس أيضًا واقعيًّا. ليس أسامة بن لادن وحده الذي يعتقد في تلك الثنائية الجامدة للثقافات، ففي أوروبا أيضًا تُحوَّل الثقافة الخاصة إلى أمر جوهري يُنظر إليه على أنه قائم بذاته وموجود بصورة مستقلة عن الناس.
يسعى منذ عدة عقود عدد من المستشرقين وكذلك عدد من المفكرين المسلمين إلى تخليص الدين من قبضة الأصولية، والنظر إليه على أنه عامل من عوامل التطور التاريخي والثقافة والهوية الجمعية، وهذا لا يعني تجاهل الدين، ولكن النظر إليه في سياق العوامل الأخرى. من الواضح أن المسلمين يواجهون صعوبات أكبر في ذلك، لأنهم لا يجلسون في برج العلوم العاجي ويكتبون، بل إنهم يتعرضون أحيانًا كرد فعل على كتاباتهم إلى الاتهام بالكفر. لذلك اجتهد المنظرون المسلمون الذين يدعون إلى التعددية وحقوق الإنسان والديمقراطية في الدعوة إلى مطالبهم بوصفها إسلامية. فكانوا مثلًا يعلمون أن القرآن هو أساس تحرير المرأة أو التقدم العلمي. لكنهم بذلك يكونون قد تبنوا نفس طريقة تفكير معارضيهم، مع التوصل إلى نتائج عكس نتائجهم. حدث تغير في ذلك في الأعوام الماضية، فقد بدأ كُتاب مثل الجزائري محمد أركون، الذي يُدرِّس في باريس، أو المصري نصر حامد أبو زيد، أو الإيراني عبد الكريم سوروش، في إعادة تعريف مجال سريان ووظيفة الأديان في سياقات اجتماعية وفكرية مختلفة تمامًا. إنهم يحاولون مواجهة ما يرونه من استغلال الدين سواء من قِبل القوى السياسية التقدمية أو الرجعية على حد سواء. يقول أبو زيد: «الإسلام بوصفه دينًا هو إطار مرجعي، لكني لا أستطيع أن أحدد حقوق الإنسان فقط من خلال الرجوع إلى الإسلام، لأن هناك إنجازات إنسانية أخرى خارج إطار الدين ولا يمكن أن أتجاهلها.»
يرى الكُتاب الثلاثة الأصولية ظاهرة حديثة، ويشيرون إلى التعددية الدينية وفصل السلطة السياسية عن الدينية في التاريخ الإسلامي. لكن بينما يحاول أركون الابتعاد عن أي نقاشات وشهادات دينية، ينطلق سوروش في أفكاره من موقف ديني أساسي ثابت. ويشكو — كما يفعل كثير من المثقفين المتدينين في إيران ما بعد الثورة — من أن الخلط بين الإسلام والسلطة السياسية قد أدى إلى عزوف كبير عن الدين لا سيما بين الشباب. يحذر سوروش بقوله إنه حيثما يُخلط الدين بالسياسة تُنتهَك حرمته ويُحوَّل النظر عن دوره الحقيقي المتمثل في إرشاد الفرد إلى الكمال وهداية خطاه في علاقته بالله. وهو بذلك يسير على نهج تقليد الانقياد لله مع الابتعاد عن السياسة، وهو تقليد كان سائدًا في التشيع القديم على مدار مئات السنين، ويسير في الوقت نفسه على نهج التصوف الإسلامي. كان دائمًا لأسلوب الحياة ورؤية الوجود والميراث الأدبي للتصوف أثر على العالم الإسلامي أكبر من المواقف الأصولية، وكان التصوف منذ القدم الوسيلة الناجحة في مواجهة العقليات الضيقة والالتزام الحرفي بالنص. يمكن للتصوف بوصفه الإسلام عندما تتشبع به الروح أن يكون واحدًا من المجالات التي يتحد فيها التدين والتنوير، وكذلك الفردية والانقياد لله في الفنون. يقول الشاعر الصوفي صوهراب سيبهري — الذي توفي عام ١٩٨٠ ويتمتع باحترام يكاد يصل إلى تقديس ذكراه في إيران — في سيرته الذاتية التي صاغها في صورة شِعر «أنا مسلم»:
من العبث إذن طرح أسئلة عن مدى قابلية أو عدم قابلية التوفيق بين الإسلام والديمقراطية أو حقوق الإنسان، لأنه أولًا لا يوجد ذلك الفهم «الواحد» للإسلام، وثانيًا حتى لو وجِد فإنه لن يعطي إجابة عن هذه الأسئلة. يمكن على كل حال بالنظر إلى التاريخ أن نقول إن الديمقراطية وحقوق الإنسان من إمكانيات الإسلام. وبالإشارة إلى أمثلة الاندماج سالفة الذكر يمكن أن نقول إن الإسلام من حيث المبدأ قابل للاندماج في مجتمع علماني. لكن يبقى السؤال: هل سيندمج المسلمون في ألمانيا؟ لن تكون الإجابة بالضرورة نفسها.