فليحيا الاختلاف
كان من الواضح لي دائمًا عندما كنت طفلًا أنني أجنبي، مهما تكلمت باللغة الألمانية. إلا أني لم أتعرض لاضطهاد يذكر لهذا السبب، حتى عندما دخلت المدرسة الثانوية. كنت أتعامل كثيرًا مع أشخاص ممن يسبون الأجانب الكثيرين في ألمانيا، أذكر على سبيل المثال فتى كنا نعتبره وهو في السادسة عشر أو السابعة عشر نازيًّا، وهو يعمل اليوم موظفًا في أحد بنوك المدينة. وعلى الرغم من أني كنت أجد آراءه السياسية غريبة جدًّا، فيجب أن أعترف بأنني كنت أراه شخصًا لطيفًا. كان لي طريقة مرحة وساخرة في التعامل معه، وكان يتقبل ذلك مني، وكنت أسخر دائمًا من أقواله اليمينية، ربما لأني لم آخذها قط مأخذ الجد. ولكن إجابة واحدة منه انطبعت في ذهني، وخصوصًا لأني سمعتها بعد ذلك من ألمان آخرين في مواقف أخرى. عندما قلت له أنا أيضًا أجنبي فهل عليَّ أنا أيضًا أن أعود إلى وطني، قال لي: هُراء، أنا لا أعنيك أنت مطلقًا بذلك، أنت لست أجنبيًّا مثل الآخرين. سمعت ذلك كثيرًا وأعرف أني كنت أرد دائمًا بانفعال شديد، فأنا لم أُرد أن يُنظر إليَّ على أني أجنبي جيد.
يمكنني حتى اليوم أن أذكر بدقة بداية تلك العملية، عملية أن أصبح أجنبيًّا وأن أعي اختلافي. كانت المرة الأولى التي يؤثر فيها انتمائي لعالم آخر على سلوكي في العالم الألماني تأثيرًا حاسمًا. عندما أقص الحكاية التالية يجب أولًا أن أوضح أنني لم أكن وأنا طفل أختلف عن الآخرين في أي سمات أخلاقية مميزة. إنها ليست قصة بطولة مبكرة وإنما قصة تضامن لم يكن هناك مناص عنه، ولم أعلم سبب هذا التضامن إلا بعدها بكثير.
في أثناء العام الدراسي الأول، أو في بداية العام الثاني، قدمت لنا معلمة الفصل السيدة كلاين زميلًا جديدًا. كان اسمه ميشائيل، وهو ابن بالتبني لأسرة ألمانية أسود البشرة. لم يحتج الأمر إلى وقت كثير حتى بدأ التلاميذ في مضايقته ودفعه إلى فناء المدرسة وضربه. ولسوء حظه لم يكن مستواه الدراسي جيدًا مما زاد من جرعات السخرية التي يتلقاها. كنت وأنا طفل في أحيان كثيرة فظًا غليظًا، ولكن في هذه المرة على وجه الخصوص لم يكن بإمكاني أن أشارك في ذلك العبث. ويبدو أن السيدة كلاين أدركت ذلك، لذا أجلست ميشائيل منذ البداية بجواري في الصف الأخير. وقد أفلحت استراتيجيتها إلى حد ما، وإن كانت بالتأكيد لم تكن تفكر في أني سأدفع إليه بكراسي بعد الانتهاء من كتابة الإجابات في الامتحانات. وأسأل نفسي حتى اليوم هل عرفت السيدة كلاين لماذا كانت درجات ميشائيل تتطابق مع درجاتي في بعض المواد، على الرغم من أنه كان نادرًا ما ينطق بكلمة في أثناء الحصص من فرط إحساسه بالقلق. لكن للأسف توجد امتحانات لم تكن تفلح معها المساعدات التي كنت أقدمها، فمثلًا في الإملاء لم يكن هناك إلا القليل مما يمكن أن أساعده به، ربما لم أكن أساعده فعليًّا إلا في الرياضيات.
لا أستطيع القول إلى أي مدى كنت أعي ذلك، ولكن شيئًا خفيًّا كان يربطنا، فكلانا ينتمي إلى عالم آخر بخلاف باقي الزملاء، غير أني بسبب لون بشرتي لم أكن ألفت النظر إلى ذلك، ولم ينشغل أحد بكوني غريبًا؛ بينما كان من الواضح أنه غريب وخصوصًا لأن لغته الألمانية ضعيفة. لكن هذا كان من الممكن أن يكون حالي، أذكر أني كنت أفكر في هذا الاتجاه. إن فكرة أن ميشائيل ساعدني على اكتشاف أني أجنبي فكرة مغرية جدًّا، ولكنها ليست صحيحة تمام الصحة، ولكن عندما كبرت قليلًا وبلغت العاشرة أو الحادية عشرة بدأت أفكر دائمًا في كوني غريبًا. أما ميشائيل فلم ير أن تضامني معه كان بحزم كافٍ، فقد نقله والداه من المدرسة بنهاية العام الدراسي.
أصبح كوني غريبًا مشكلة عندما جعل منه الآخرون مشكلة. كان ميشائيل قصة عابرة ولكن عندما بلغت الخامسة عشرة أو السادسة عشرة، أي في بداية ووسط الثمانينات، ظهر موضوع مُعاداة الأجانب. وعلى الرغم من أني لم أكد أتعرض لشيء بصورة شخصية، لأنه لم يكن في مدرستنا — عدا الزميل المذكور — مَن يردد أقوالًا عنصرية، لكن لم يخفَ عليَّ أن بعض الألمان كان لديهم تحفظات على الأجانب؛ أي ضدي أنا أيضًا. حتى ولو لم يتعرض الشخص بنفسه لشيء، فإن انتماء الشخص لجماعته يكون أقوى ما يكون عندما تتعرض الجماعة للعداء. إلا أني لم أفكر كثيرًا في الأمر. فأنا لم أشعر بأني معزول ولا أضطر دائمًا إلى تعريف هويتي. فقط منذ عدة سنوات أُسأل دائمًا: هل أشعر بأني ألماني أم إيراني، أوروبي أم مسلم. وهذا يدفع المرء في لحظة ما إلى التفكير في الأمر. لكني لا أريد أن أحصر نفسي في هوية حتى وإن كانت هويتي.
عندما دار النقاش قبل أعوام عن موضوع الهوية الثقافية في ألمانيا وعلاقتها بازدواج الجنسية لاحظت وجود تصور مشئوم وغير واقعي لنقاء الجنس في أدمغة كثير من السياسيين. عندما كنت أسمعهم يتحدثون، كنت أشعر بأنهم لا يعرفون عما يتكلمون تمامًا، سواء السياسيين أو المعلقين أو المواطنين الذين تُجرى معهم الحوارات الصحفية، أو يرسلون بمقالاتهم إلى الصحف، أو الذين وقعوا على «إعلان الرفض» الذي أصدره الحزب المسيحي الديمقراطي في ولاية هِسِّن (أذكر جيدًا أنهم كانوا بعد ذلك يقولون أمام كاميرات التلفاز «نحن ضد الأجانب»). أي إنسان نشأ في ظل ثقافتين أو حتى أكثر سيجد أن القول بأن الشخص الذي لديه جوازا سفر لديه صراع هوية هو قول نظري بل وغير منطقي. لا يمكن دائمًا الإجابة عن السؤال عن انتماء المرء إلى هؤلاء أم إلى هؤلاء، فربما انتمى المرء إلى كليهما. لن أقع في صراع داخلي إذا كنت أتحرك بين هويتين (وكأنهما كرسيان يجب على المرء أن يجلس عليهما) ولكني سأقع في هذا الصراع إذا كان عليَّ أن أختار هوية واحدة. إن حقيقة الحياة، كل حياة، أكثر تعقيدًا ودقة من أن تختزل في هذا المفهوم المجرد، مفهوم الهوية، بل والأكثر عندما يُطلب من شخص أن يختار هوية ويتخلى عن الأخرى. إن هذا المطلب مستحدث، ولم يصبح ممكنًا إلا بعد أن حاولت أوروبا في حربين عالميتين أن تدمر اختلاط الأنساق الثقافية، وهو ما يُعد في حقيقة الأمر أمرًا بديهيًّا، وذلك عندما دُمرت الحياة اليهودية في برلين والحياة الألمانية في تشيرنيفتسي الأوكرانية، ولأنه وقع طرد الأتراك من سالونيك واليونانيين من إزمير؛ وما هذه إلا أربعة أمثلة من مئات الأمثلة لجنون الهوية الذي طالما حول أوروبا إلى جحيم. الإنسان ليس لوحة رسم، وإن لمن القسوة والبشاعة أن يمنح قانون الجنسية الجديد جميع الأطفال الألمان الأجانب في ألمانيا جوازي سفر، ثم يجبرهم بعد ذلك عندما يبلغون عامهم الثامن عشر على أن يختاروا إحدى الجنسيتين. وإن كان يوجد صراع هوية، فالمتسبب فيه هو هذا الإجبار. جوازات السفر ليست أيقونات وإنما أوراق. لم أشعر بالفخر بألمانيا قدر ما شعرت به يوم منحي الجنسية بوصفي مواطنًا مزدوج الجنسية، وهو الأمر الذي حدث دون طقوس، وإنما بمصافحة بسيطة ورقيقة في قاعة التسجيل بمصلحة الأحوال الشخصية في كولونيا. كان الأمر هادئًا مثل كلمة الوطنية الدستورية، ورزينًا بصورة مدهشة كما أراه.
إن وطني ليس ألمانيا بل هو أكثر من ألمانيا: وطني أصبح كولونيا. وطني هو الفارسية المتكلمة والألمانية المكتوبة، فعندما أكون في الخارج أشعر على الفور أني بين مواطني عندما أسمع الفارسية؛ وليس عندما أسمع الألمانية. ولكن أول ما أفعل هو البحث عن جريدة ألمانية. أتجنب قدر الإمكان قراءة أي شيء مكتوب بلغة أجنبية، لأني أحب أن أقرأ الألمانية، ولا أستمتع أبدًا بقراءة شيء مكتوب بالإنجليزية ولا بالفارسية، حتى وأنا أفهمه. ولا أود الكتابة أبدًا إلا باللغة الألمانية، وهذا هو الأمر الذي أعتبر نفسي فيه وطنيًّا جدًّا. يُطلب مني دائمًا بوصفي عالمًا أن أصدر كتبي باللغة الإنجليزية، ولا أعرف عالمًا آخر يصر هذا الإصرار على الكتابة باللغة الألمانية. اللغة الألمانية المكتوبة هي وطني، هي وحدها التي أتنفسها، فقط من خلالها أستطيع أن أقول ما عليَّ أن أقوله. لكن هذا ينطبق فقط على اللغة المكتوبة، فقد تكلمت مع أولادي منذ اللحظة الأولى ودون أن أفكر في ذلك باللغة الفارسية. لا ترتبط عندي اللغة الألمانية المنطوقة بمشاعر الألفة والدفء والأمان، حتى إني أتكلم الألمانية أسرع مما يجب. لا أشعر بالارتياح فيها. على العكس من ذلك، فعندما أسمع الفارسية أشعر وكأني في بيتي. صحيح أني لا أتقنها تمامًا، لكنها على أي حال لغتي الأم.
أما في الشعر فيختلف الأمر بالكلية. فعندما أستمع إلى قصيدة باللغة الإسبانية، فإنها تكون تلقائيًّا أقرب لي من أي قصيدة أستمع إليها بالألمانية أو الفارسية؛ هذا على الرغم من أني بالكاد أتكلم الإسبانية. إلا أن كتابًا لنيرودا أو بورجيس أو أوكتافيو باز لا تكون له قيمة في رأيي ما لم يكن بلغتين؛ إذ يجب أن أستمع إلى رنين الكلمات بالإسبانية. بالتأكيد يتعلق هذا الأمر بأن أول أشعار أنشدتها كانت لبابلو نيرودا. وعندما كنت شابًا أعيش قصة حب، كنت أحمل معي دائمًا كتبًا باللغتين، وكنت أقرأ دائمًا الألمانية أولًا ثم الإسبانية. ما زلت أحب ترديد الأشعار الإسبانية، لكن بالتأكيد لو سمعني إسباني لتعجب من ذلك لأني بالكاد أعرف اللغة الإسبانية. وطني ليس فقط ألمانيا أو إيران بل أيضًا شعر بابلو نيرودا الذي رافقني وأنا أتعلم الحب.
توجد في ألمانيا أماكن أشعر فيها بأني غريب مثل شخص أتى من غابة موحشة، مثل الحانات الألمانية التي تقع على نواصي الشوارع. أما الطعام الألماني التقليدي فهو أيضًا في رأيي غريب تمامًا مثل اللحم المخلل المحمر أو السجق بالكبد المفروم أو أرجل الخنزير، بعض هذه المأكولات يعجبني طعمه ولكنه يعجبني كشيء غريب وغير مألوف، كما يحب المرء مثلًا المطبخ البالي. فضلًا على ذلك يوجد أيضًا الأدب الألماني الذي نشأت معه والذي أصبح يسكن بداخلي وأصبح الأدب الخاص بي (وليس الأدب الفارسي الذي لم أتعرف عليه جيدًا إلا في أثناء الدراسة الجامعية). عندما أرى كتبي موضوعة في إحدى المكتبات بجوار الأدب الشرق أوسطي، أذهب على خلاف عادتي وعلى الرغم من خجلي إلى موظف المكتبة وأقدم له نفسي وأرجوه أن يضع كتبي في أرفف الأدب الألماني. من المفهوم طبعًا أني لا أحب أن يوضع عليَّ شعار أدب المهاجرين. أدبي هو أدب ألماني، ولا شيء غير ذلك؛ ألماني مثل كافكا، كما أحب أن أقول بشيء من الخيلاء، وأنا أعترف بذلك. عندما أُدعى لأتحدث في حلقة نقاشية حول موضوع مهم مثل إثراء الأدب الألماني عن طريق كُتاب لهم خلفيات مهاجرة (هناك بدائل أخرى لهذا الموضوع مثل التعددية اللغوية والأدب، أو المنفى والأدب أو ما شابه) كنت أعتذر قائلًا: شكرًا جزيلًا ليس عندي وقت، ولكن أرجو معاودة الاتصال بي عندما توجد حلقة نقاش عن جوته أو هولدرلين. نعم هولدرلين وطن في رأيي وبكل وضوح؛ وفريق «إف سي كولونيا ١» هو أيضًا وطن لي منذ كنت في الرابعة، إن النشيد غير الرسمي لهذا الاتحاد به مقطع يقول: نحن متعددو الثقافات. أشعر بشعور رائع عندما يغني ٥٠٠٠٠ ألماني قبل كل مباراة: «نحن متعددو الثقافات.» هذا يجعلني إلى حدٍّ ما ألمانيًّا أيضًا. عندما تتكون هذه اﻟ «نحن» من عدة ثقافات يمكنني أن أقول بلهجة كولونية: «هذا رائع، تحيا كولونيا.» نعم، الوطن يعني لي استاد منجرسدورف، إلا أن هذا لا ينطبق على كل الكرة الألمانية، فأنا لم أشارك الألمان معاناتهم في بطولات كأس العالم قط، على أقصى تقدير كنت أشجع لاعبي كولونيا في المنتخب الوطني مثل فولفجانج أوفيرات في كأس العالم عام ١٩٧٤، أو ديتر مولر وهاينس فلوه في بطولة أوروبا عام ١٩٧٦، وأخيرًا توماس هاسلر وبودو إيلجنر، وطبعًا اللاعب بولدي الذي لم يصبح قط بافاريًّا. لكن في المرات الثلاثة التي تأهلت فيها إيران لكأس العالم كنت أعرف اسم كل واحد من اللاعبين. ولم يسألني أحد أي فريق أشجع. كنت أود أن أقول لأولئك السياسيين الألمان ما هو صراع الهوية الحقيقي فيما أرى؛ ليس أن أمتلك بطاقتي هوية، ولكن إذا لعب فريق «إف سي كولونيا ١» ضد المنتخب الوطني الإيراني. ولكني كنت في حل من ذلك، إذ كان أداء لاعبي كرة القدم الإيرانيين في مباريات كأس العالم الأخيرة سيئًا، وكولونيا تتأرجح منذ سنوات بين دوري الدرجة الأولى والثانية. مما يذكرني بهويتي الأخرى والأهم بكثير؛ هويتي الشيعية، فلا أحد يعاني مثلنا.
لا أحب في الحقيقة أن أتخلى عن وضع الشخص الذي ينتمي للمكان تمام الانتماء ويحتفظ على الأقل ببعض سمات الغريب. حتى في كولونيا حيث أستمتع بحياتي، نادرًا ما أتحلى بالوطنية المحلية كما أفعل وأنا في رحلاتي، حيث أشعر بارتياح عندما أقابل أحدًا من وستفاليا حيث تقع كولونيا. أن يكون المرء غريبًا لا يعني أنه مريض. أرى لدى السياسيين والناشرين، حتى الذين يبذلون جهودًا صادقة ومتحمسة من أجل المهاجرين، تصورًا عن الاندماج يختلف عن تصوري. تتضح صراحتهم عندما يقولون إنه يجب أن يُسمح لنا أن نصبح مثلهم. أحد نواب البرلمان الألماني قال لي ذات مرة وبحماس، وكان حسن النية فيما يقول: في يوم من الأيام سيصبح هؤلاء الأتراك جميعهم ألمانًا حقيقيين! ولكن ربما لا يريدون ذلك تمامًا. ربما تكون الخسارة أن يصبحوا ألمانًا بحسب تصور النائب. ربما لا يريدون شيئًا غير الذي أراده من قبلهم اليهود، ألا وهو أن ينتموا لهذا المجتمع بكل ما فيه من حقوق وواجبات دون أن يتخلوا عن خصائصهم واختلافاتهم. على أي حال لن تخسر ألمانيا إذا تعودت مجددًا على ازدواجية اللغات وتعدد الهويات.
لقد نشأت معظم الدول القومية في أوروبا على خلاف الولايات المتحدة الأمريكية على أساس من عمليات توحيد الأجناس، ويقوم ذلك من الناحية التاريخية على أساس نموذج وحدة الدم والثقافة واللغة والدين. كان هذا الاتجاه إلى التوحيد أقوى ما يكون في ألمانيا، لأن الأمة تكونت في عصر متأخر، ولم تكن الألمانية مرجعية طبيعية أو مسلمًا بها، مثل إنجلترا للإنجليز أو فرنسا للفرنسيين. فقد وسع هؤلاء بوصفهم قوى استعمارية مفهوم الأمة من خلال تعريف مواطن الدولة. أما قانون الجنسية الألماني فقد ظل حتى إصلاحه من خلال الائتلاف بين الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر عام ٢٠٠٠ في أجزاء جوهرية منه متطابقًا مع قانون عام ١٩١٤ الذي كان يقوم فقط على مبدأ السلالة. ما زال حفيد الألماني الروسي الذي لا يتحدث الألمانية مطلقًا ولم يعش قط في ألمانيا ألمانيًّا أكثر من حفيد المهاجرين الأتراك الذي لا يعرف لغة أخرى غير الألمانية. لا أعتقد أن هناك دولة أخرى في العالم تقدس أوراقها الثبوتية مثل ما تفعل ألمانيا. والحالة الهستيرية التي تنتاب بعض السياسيين عند الحديث عن إمكانية ازدواج الجنسية لا يمكن فهمها في أي مكان خارج ألمانيا. الانتماء العرقي له هنا ثِقل أكبر بكثير من أي دولة قومية أخرى. لا يُعد الألمان على الرغم من كل دعاوى الثقافة الموجِّهة مجتمعًا قيميًّا. إذا ولد المرء ألمانيًّا، فسيشعر دائمًا أنه ينتمي إلى الثقافة الموجِّهة حتى لو كانت قناعاته تؤهله لأن يكون عدوًّا للدستور. وفي المقابل فإن المهاجرين الذين يمكن وصفهم بأنهم وطنيون دستوريون يتم تذكيرهم دائمًا عن طريق مفهوم الثقافة الموجِّهة بأن عليهم أن يتوجهوا تبعًا لشيء لا ينتمي إليهم ولكنه يقود خطاهم. هذا يخلق فورًا علاقة هرمية لأنه على خلاف المفهوم الدقيق للدستور الذي يرى الجميع سواسية نجد هنا أن الألماني العرق بصرف النظر عن آرائه وقيمه ينتمي إلى الشعب الذي له حق القيادة فقط لأنه ألماني.
من هذا تحديدًا تنبع أهمية المشروع الأوروبي وأهميته للمسلمين خاصة، فهو مهم لعلاقة أوروبا بالإسلام. ولحسن الحظ فإن كل ما يطالب به السياسيون الذين ينادون بالثقافة الموجِّهة أوروبي وليس ألمانيًّا خاصًّا. إذا وُجِد كيان سياسي من الأقليات الدينية والعرقية ينشد مشاركة تتسم بالمساواة، فإن ما يحتاجونه هو أوروبا الموحدة. فعلى النقيض من الدول القومية تحدد أوروبا مجموعة من القيم التي يمكن للمرء بصرف النظر عن قوميته أو عرقه أو دينه أو ثقافته أن يعترف بها أو لا يعترف بها. هذا لا يلغي الفروق، بل العكس. فأوروبا ليست دولة قومية موسعة، ولكنها حالةٌ تحدُّ سياسيًّا من الاختلافات كي تحافظ عليها. الذي يحدد مَن ينتمي إلى «نحن» الأوروبية ليس محل ميلاد الجَدين ولكن تصورات الحاضر. ربما يرفض ألماني القيم الأوروبية، وربما يتبناها مواطن تركي لتصبح قيمه الخاصة أو العكس. إلا أن كلا الشخصين لا يمكن أن يغيرا الدولة التي يأتيان منها.
إن الإصرار على الحيادية الدينية الواضحة للمشروع الأوروبي التي يستمدها من التنوير ومن الثورة الفرنسية لا يعني التركيز على الأصول المسيحية لكثير من القيم الأوروبية، لأنها أصبحت مع الوقت قيمًا علمانية لها تبرير دنيوي. كون القيم الأوروبية علمانية هو تحديدًا ما يجعلها غير مرتبطة بوطن أو دين، بل يجعلها من حيث المبدأ قابلة للتطبيق في أماكن أخرى. يُعد الوضوح المتطرف من السمات الجوهرية في المشروع الأوروبي والسر الحقيقي وراء نجاحه. إن المؤرخ الذي يعتبر المسلمين «غير أوروبيين» بسبب دينهم يكون من ناحية أغفل التاريخ الأوروبي الذي عرف الدولة العثمانية على أنها فاعل أساسي في أوروبا وأنها خلَّفت دولتين إسلاميتين على الأرض الأوروبية، ويكون من ناحية أخرى قد جعل من أوروبا دينًا بل وعرقًا مما يقلب مشروع التنوير رأسًا على عقب.
إن المعنى الحقيقي للفكرة الأوروبية هو فكرة مجتمع غائي علماني، عابر للحدود الوطنية، متعدد الأديان والأجناس، وتُعد العالمية هي جوهر هذه الفكرة. إنها فكرة لا تقبل النسبية ولا تقف عند حدود جغرافية، إذ لا يمكن أن تتوقف عند حدود جبل طارق أو أيرلندا، ولا تنتهي عند حدود بولندا أو بلغاريا. لم يكن عبثًا أن يرى إمانويل كانت أن السلام الدائم لن يتحقق إلا في ظل فيدرالية عالمية تجمع الدول الجمهورية. بالطبع هذه فكرة يوتوبية، وهو الأمر الذي لا يعرفه أحد أفضل من إيمانويل كانْت، وإن كان أكثر الفلاسفة الأوروبيين عقلانية. لكن في اللحظة التي ستتوقف فيها أوروبا عن وضع هذه اليوتوبيا أمام عينيها وتسعى إلى تحقيقها، فإن فكرة أوروبا ستصبح في طي النسيان. هل المؤسسات الأوروبية الحالية غير شفافة بما يكفي ولا تتمتع بالشرعية السياسية الكافية؟ نعم! إذن يجب الكفاح من أجل جعلها ديمقراطية وترسيخها من الناحية الدستورية القانونية؛ وليس من أجل إضعافها. ألم تحقق تركيا معايير كوبنهاجن التي تُعد وبحق شرطًا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؟ هذا أيضًا صحيح! إذن يجب على المرء بذل كل القوة من أجل أن تحقق تركيا تطورًا في اتجاه تلك المعايير؛ وأن يكون فخورًا عندما تصبح تركيا يومًا ما أوروبية.
إن أفق الانتماء إلى أوروبا كان في رأي مجتمعات جنوب وشرق القارة محركًا أساسيًّا في اتجاه زعزعة ديكتاتوريات قائمة وتطبيق إصلاحات جذرية. بالتأكيد مثَّل توسيع الاتحاد الأوروبي الذي أصبح يضم الآن ٢٧ دولة عضوًا في كل مرة تحديًا جديدًا أمام الاتحاد، إلا أنه يجب التفكير في البديل الآخر إذا كانت كل دولة أوروبية قد تقاعست في داخل حدودها. ماذا لو قام الاتحاد الأوروبي ليس فقط بخفض سرعة محرك الإصلاح الأوروبي (ربما يكون خفض سرعة المحرك في بعض الأحيان مهمًّا وخصوصًا عند ارتفاع درجة حرارته) بل أيضًا بإيقاف هذا المحرك وبصورة دائمة، وقتها لن تكون التطورات التي يمكن أن تحدث وتستمر في أوروبا الشرقية وفي تركيا مريحة للأوروبيين القدامى تمامًا، بل ستكون تطورات مأساوية.
حضر والداي من إيران للدراسة في ألمانيا قبل خمسين عامًا. إنهما مندمجان كأفضل ما يكون ويسعيان دائمًا من أجل تحقيق التسامح والتفاهم فضلًا عن مشاركتهما في المجتمع، وهما يتكلمان الألمانية بصورة جيدة، كما أنهما مسلمان متدينان بالمفهوم الأوروبي. وهما سعيدان بحياتهما في ألمانيا، وشاكران لذلك. إلا أنهما وبعد خمسين عامًا لا يقولان عن نفسيهما إنهما ألمانيان. لا أعتقد أن السبب في ذلك هما والداي فقط، فربما رجع السبب إلى ألمانيا أيضًا. حتى أنا نادرًا ما أقول عن نفسي إنني ألماني، مع أني مولود هنا ولديَّ منذ عدة أعوام الجنسية الألمانية إضافة إلى الإيرانية، واللغة الألمانية هي اللغة التي أعيش فيها ومنها. أحيانًا أقولها بصورة مزدوجة: ألماني-إيراني، وكأني أقولها معتذرًا. أما ابن عمي الذي يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية منذ ثماني سنوات فإنه يقول الآن إنه أمريكي. إن المرء لا يُصبح ألمانيًّا. المهاجر يبقى إيرانيًّا أو تركيًّا أو عربيًّا حتى في الجيلين الثاني والثالث. ولكن يمكن أن يُصبح المرء أوروبيًّا. يمكن أن يتبنى المرء المبادئ الأوروبية لأن أوروبا مجتمع غائي ولا يحمل اسمًا يعبر عن دين أو عرق بعينه.
لقد أوضحت الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الولايات المتحدة الأمريكية للعالم كيف يمكن للقيم الموحدة أن تعبر حدود العرق والأصل والدين والثقافة وأن تتسامى بها. لم يكن فقط نجاح مرشح في الانتخابات ينتمي لأقلية من عدة أوجه (ابن لعائلة مهاجرة، وأسمر البشرة، ويحمل اسم حسين) هو ما أذهل العالم، وإنما أذهله أيضًا ذلك الاعتزاز الذي أظهره هذا المرشح تجاه وطنه «أمريكا»، وما جسَّده في الوقت نفسه عن مفهوم الاختلاف. لم يكن نجاحه في الانتخابات متعارضًا مع الظروف الأمريكية، بل كان نتاجًا لها. كان ترشح أوباما في الانتخابات الرئاسية الأمريكية أمرًا «مستبعدًا» كما وصفه بنفسه في خطبة الفوز عشية الرابع من نوفمبر. وجدير بالذكر أن مثل هذا الترشح في أي بلد آخر لن يكون مستبعدًا، بل مستحيلًا. إن أوروبا في ظل جنون السعي وراء خلق مجتمع موحد ومتجانس، ذلك الجنون الذي تحاول بصعوبة التحرر منه حتى بعد مضي ستين عامًا على حروبها الكبرى التي سعت فيها إلى تحقيق ذلك التجانس، ما زالت تحتاج إلى وقت طويل حتى تسجل قصص نجاح تشبه قصة أوباما. ولكنها ربما تتعلم منذ الرابع من نوفمبر ٢٠٠٨ بوتيرة أسرع أن التماهي ينجح عندما لا يكون هدفه توحيد الهوية.