مؤتمر الإسلام في ألمانيا
على الرغم من وجود بعض المعارضة في داخل حزبه ووزارته نجح وزير الداخلية الألماني فولفجانج شويبله في أكتوبر ٢٠٠٦ في إطلاق مؤتمر الإسلام في ألمانيا. وكما هو معهود في مثل تلك المؤتمرات ذات التمثيل عالي المستوى، يجلس المشاركون حول طاولة بحجم ملعب كرة اليد، يلقي كل واحد كلمته وبعدها يُعرَض الأمر أمام الصحافة على أنه كان مؤتمرًا غنيًّا بالنقاشات المكثفة والحيوية، بل نجح أيضًا في التوصل إلى قرارات. إلا أننا إذا أمعنا النظر في تركيبة مثل تلك المؤتمرات، لوجدنا على الجانب الحكومي سياسيين محافظين متشددين من حزب «الاتحاد المسيحي الاجتماعي» وصولًا إلى مدافعين متشددين عن مجتمع التعددية الثقافية، أما على ما يسمى بالجانب الإسلامي فيجلس ممثلون لما هو فعلًا إسلام تقليدي محافظ جدًّا وصولًا إلى ناقدين للإسلام ممن يجدون أن كل ما في الإسلام سيئ. في مثل هذه التركيبة لا يمكن الإجماع على ورقة نتائج إلا إذا كانت شديدة العمومية وذات صياغات غير محددة. غير أن مؤتمر الإسلام في ألمانيا يُعد على الرغم من ذلك أمرًا رائعًا. أن تتحدث الدولة الألمانية بصورة رسمية مع الإسلام، وأن تجعل له اعتبارًا، وأن تجلس مع خمسة عشر مسلمًا إلى طاولة واحدة، وأن يقف وزير الداخلية، وزير من الحزب المسيحي الاجتماعي، أمام الصحافة ويقول: إن الإسلام جزء من ألمانيا وجزء من مستقبل ألمانيا وجزء من مستقبل أوروبا؛ هذه كلها أحداث ذات دلالات رمزية عالية. قبل عقد من الزمان، بل حتى في عهد أوتو شيلي الذي سبق شويبله في هذا المنصب ما كان ممكنًا تصور هذه الأحداث.
أدرك الحزب المسيحي الديمقراطي في ألمانيا، متأخرًا عن الأحزاب الأخرى، أنه لا يمكن أن يتجاهل عملية الهجرة بهذه البساطة. لذا اتخذ الحزب في سنوات شغله مقعد المعارضة القرار الصحيح بعدم التهويل من المشاكل، بل مواجهتها، حتى أصبح الحزب المسيحي الديمقراطي يسعى اليوم من أجل اكتساب صورة الحزب صاحب سياسة الهجرة الناجحة، حتى يكاد المرء ينسى أن سياسة الهجرة قد بدأت في ألمانيا بوصول الائتلاف الذي جمع الحمر والخضر (الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني وحزب الخضر) في عام ١٩٩٨ إلى الحكم. وخصوصًا الخضر ومحيطهم الثقافي كانوا هم الذين أدركوا مبكرًا أنه لا يصح ترك عملية الهجرة تسير دون توجيه إذا أراد المرء أن يُصبح المهاجرون مواطنين. بصرف النظر عن بعض الأقوال الحالمة، فإن أي اتهام لذلك بالسذاجة يكون اتهامًا ليس فقط رخيصًا بل أيضًا خاطئًا. من يقرأ الكتب الألمانية من ثمانينات القرن الماضي عن المجتمع متعدد الثقافات، التي كتبها مثلًا السياسي دانيل كون-بنديت أو عالم الاجتماع كلاوس ليجيفي، ومن يتذكر النقاشات التي دارت وقتها في ساحة الخطاب البديل أو النسوي، ومن يتصفح أولى الكتب الناجحة بأقلام كتاب ألمان-أتراك مثل إمين أوتسدامار أو فريدون زايموجلوا — فإنه سرعان ما سيثبت أنهم قد ذكروا جميع النواقص التي تمثل اليوم تحديًا أمام مجتمع التعددية الثقافية: ضعف المستوى التعليمي، ونقص الإلمام باللغة الألمانية، واضطهاد المرأة في كثير من أوساط المهاجرين. كانت بالدرجة الأولى حكومات المحليات والولايات التي شارك فيها الخضر أو الحزب الاشتراكي الديمقراطي هي التي أسست مساكن لإيواء النساء واستحدثت وظائف للأخصائيين الاجتماعيين وقدمت دورات لتعلم اللغة الألمانية. لقد نجح الخضر في أثناء فترة حكمهم في تطبيق بعض التغييرات الحاسمة في قانون الجنسية على الرغم من أن وزير الداخلية في حكومة شرودر، أوتو شيلي، كان يعرقل بكل قواه تنفيذ إصلاحات واسعة المدى. لقد نجح الائتلاف بين الخضر والاشتراكيين الديمقراطيين بالدرجة الأولى في إحداث تغيير في عقلية المجتمع حيال هذا الأمر، لا يقل عن الوعي المتنامي بقضية الحفاظ على البيئة.
لم يكن ممكنًا تصور التوجه الجديد للحزب المسيحي الديمقراطي في كلا الحقلين السياسيين دون هذا التغير في المناخ الاجتماعي. على الرغم من جميع الاختلافات في التفاصيل، فإنه يوجد اليوم في ألمانيا إجماع أساسي بين جميع الأحزاب العريقة على ضرورة إدماج المهاجرين في الكيان العام بدلًا من عزلهم. يومًا ما ستعد مساعي الحزب المسيحي الديمقراطي التي جعلت مثل هذا الإجماع ممكنًا من أهم الإنجازات التاريخية في سنوات حكم ميركل، على الرغم من أن الإجراءات الملموسة لا تتماشى مع كل الأقوال النبيلة والقمم ذات التأثير الإعلامي التي تُعقد. لا يوجد مثل هذا الإجماع بين الأحزاب العريقة في دول مثل إيطاليا وسويسرا والدنمارك، فهناك يسعى اليمين السياسي إلى تأجيج نار الكراهية وليس إلى مواجهتها. وهناك يضطلع بعض السياسيين الذين لا يكادون يخفون ازدراءهم للآخر بمسئوليات حكومية، حتى إنهم جعلوا من المقبول استخدام شعارات ما زال استخدامها في ألمانيا — ولحسن الحظ — مقصورًا على بعض مستخدمي الإنترنت وبعض الأحزاب الصغيرة وبعض الكتاب. فضلًا على أن قطبي العملية السياسية كلٌّ منهما بعيد عن الآخر بنفس الطريقة: اليسار مع الاندماج واليمين ضده، في حين أن سياسية الاندماج يجب أن تكون بعيدة عن مثل تلك التصورات النمطية، وتكوين المعسكرات بتلك الصورة التقليدية. من يرغب في إدماج الناس، فعليه أن يدعو إلى قيم وتصورات مجتمعه بنفس الحماس الذي يُنسب عادة إلى اليمينيين، وأن يكون في الوقت نفسه منفتحًا على الآخر كما يدَّعي عن نفسه اليسار دائمًا. لا يتعلق الأمر بإعلان قيام المجتمع متعدد الثقافات، بل بأن نقوم في آخر الأمر بتشكيله. أما أن يكون المجتمع أحادي الثقافة فإن هذا يُعد كابوسًا.
يُعد مؤتمر الإسلام في ألمانيا بما يضمه من مجموعات عمل متعددة دون النظر إلى نتائجه اللاحقة عملية يكتشف المشاركون فيها — بوصفهم ممثلين عن مجتمعهم — مدى تعقيد التعامل مع قضية الهويات. يجلس على أحد جانبي الطاولة خمسة عشر مسلمًا؛ وتحدث بينهم مشادات كلامية تضطر فولفجانج شويبله إلى تكرار التدخل لتهدئة الأجواء. بينما يجلس على الجانب الآخر خمسة عشر ممثلًا للدولة الألمانية، أي الوزارات الألمانية والولايات والمحليات، ولا يصلون إلى اتفاق في الرأي وهم يحاولون تحديد مفهوم الثقافة الألمانية التي يجب على المسلمين أن ينخرطوا ويندمجوا فيها. أي أن النقاشات لا تدور بين المسلمين على جانب والدولة الألمانية على الجانب الآخر، وإنما تسير طولًا وعرضًا. يشهد مؤتمر الإسلام في أوروبا كثيرًا من الشد والجذب حول تحديد ما هو الإسلام، ويستهلك هذا جزءًا كبيرًا من الوقت ويدور بصورة عاطفية جدًّا. عند النطق بجملة تبدأ ﺑ «الإسلام هو …» أو «المسلمون يكونون …» تظهر المعارضة. الأمر نفسه كان يحدث كلما حاول ممثل عن الدولة، لنقل مثلًا من الحزب المسيحي الاجتماعي، تعريف «الثقافة الموجهة» التي يجب على المسلمين أن يندمجوا فيها. جاءت أول معارضة من ممثل وزارة العدل الذي وضح له أن مثل هذا التوحيد المعياري للمجتمع لا يتوافق مع الدستور. بينما أخذ المسلمون مرة هذا الجانب ومرة ذاك. لم يوجد حتى الآن اختلاف كانت فيه الدولة الألمانية على جانب والمسلمون على الجانب الآخر. وبعد فترة قصيرة تلاشت الجبهات والانتماءات الجامدة والهويات واضحة المعالم التي يروج لها المتطرفون أيضًا في الصفحات الثقافية لدينا مثل: الإسلام … أو المسلمون … أو ثقافتنا الغربية!
ولكن عندما كنا نشرع في الحديث عما يجب أن يكون، كان يسود الموقف توافق كبير في الرأي بصورة ملحوظة. اتضح لي أن هناك ما هو أكثر من مجرد معالم توافق اجتماعي في الرأي حول ما يجب أن يكون عليه الإسلام حتى يتمكن من الاندماج، وما يجب على الدولة القيام به حتى يتسنى للمسلمين الاندماج. إن الأمر يبدأ بالاعتراف الواضح بالدستور وبما ينطوي عليه من قيم، وهو الاعتراف الذي يُتوَقَّع من جميع المسلمين، ولا يتوقف عند رفض أي نسبية ثقافية، فالمعايير القانونية والمعايير المدنية يجب ألا تتعرض لإضعافها من أجل مراعاة الخصوصيات الثقافية. إن ضرب والد لأولاده أو زوج لزوجته لا يكون أقل إيلامًا فقط لأنه يستند إلى تقاليد عريقة. إعطاء من يفعلون ذلك حوافز ثقافية، كما يحدث في بعض قاعات المحاكم، هو الوجه الآخر للعنصرية. يجب ألا تكون هناك حقوق استثنائية للمسلمين، لا سلبًا ولا إيجابًا. من الواضح جدًّا أن قانون الدولة يرتفع في ألمانيا على الشريعة الدينية. ولكننا كنا إلى حد بعيد متفقين في الرأي على أنه من البديهي أيضًا أن يكون للمسلمين الحق في ممارسة شعائر دينهم بحرية، بما في ذلك بناء المساجد والمطالبة بتدريس الدين في المدارس وتدريب علماء الدين المسلمين باللغة الألمانية.
هذه كلها مجالات عامة، إلا أن التوافق الذي يمكن أن نصل إليه في مجتمعنا يمكن أن يصل إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، كما رأيت قبل فترة وجيزة. واحدة من المشاركات في مؤتمر الإسلام هي المحامية التركية التي تقطن في برلين سايران أتيش التي أختلف معها عادة في تحليلاتها للإسلام ونقدها الذي يتسم بالتعميم لسياسة الاندماج التي ينتهجها الخضر والاشتراكيون الديمقراطيون. ولكن عندما قرأت كتابها الأخير الذي يحمل عنوانًا محيرًا قليلًا «خطأ التعدد الثقافي» لم أقتنع بكثير من تحليلاتها، ولكني اكتشفت أني أوافق تقريبًا على كل ما تطالب به بصورة محددة وتتمناه، أوافق حتى على التفاصيل من قضايا دعم تعلم اللغة وصولًا إلى قضية مساواة المرأة. وأعتقد أنه يمكن كسب تأييد معظم الاتحادات الإسلامية وغالبية المسلمين لكثير من مواقفها. ربما يجب علينا في مؤتمر الإسلام أن نقلل من حجم النزاع حول مدى سوء الأوضاع، وأن نفكر فيما يجب عمله حتى نتمكن من حل المشاكل سواء الصغيرة منها أو الكبيرة. وأوضح ذلك عن طريق موضوع محدد: سواء كان معظم أو فقط قليل من النساء المسلمات في ألمانيا يتهددهن الزواج القسري فإن هذا أمر ستختلف حوله الاتحادات الإسلامية وناقدوها، بينما سيقل اختلافهم تمامًا حول أن الإجبار على اختيار الزوج أو الزوجة أمر مرفوض تمامًا. ومن ثم يكون ممكنًا التفكير في طريقة لمنع الزيجات القسرية سواء كانت كثيرة أو قليلة، بدلًا من الشكوى في كل مناسبة من أن يهول هذا الطرف من المشكلة أو يتهاون فيها ذلك الطرف. وفي المقابل يجب بالضرورة ألا يوجد اتفاق في الرأي حول مدى تعرض المسلمين للاضطهاد حتى نتمكن معًا من مكافحة شتى ألوان الاضطهاد. كما يحدث في معظم النقاشات يضيع في الحديث حول الإسلام للأسف معظم الوقت والطاقة في إثبات خطأ الطرف الآخر بدلًا من إنعام التفكير فيما يجب عمله.
جدير بالملاحظة أن الإسلام هو عامل فقط من عوامل الاندماج المتعددة، فلا كل المهاجرين مسلمون ولا كل الأشخاص الذين يأتون من دول إسلامية متدينون. إن المشاكل الاجتماعية مثل ضعف المستوى اللغوي أو اضطهاد المرأة أو العنف بين الشباب لا تسير بحال من الأحوال في خطوط متوازية مع الدين. وأذكر هنا مثالين على ذلك: طبقًا لجميع الدراسات، فإن أبناء المهاجرين الإيطاليين لديهم صعوبات في المدارس أكثر من أبناء المهاجرين الأتراك، ولا يمكن إرجاع ذلك إلى أسباب تتعلق بعقيدتهم الدينية. لا يُعد العنف الأسري أمرًا نادر الحدوث في الأسر التركية، وهو ما يجب الحديث عنه، ولكن يجب أيضًا ألا نغفل أن هذه الحقيقة تقوم على إحصاءات عن العنف لدى أسر المهاجرين التي سُمِح لها بالعودة إلى ألمانيا عام ١٩٥١.
إذا كنت بصدد تأليف كتاب عام عن قضايا الاندماج لكان التعليم هو أهم مواضيعه وليس الإسلام. المؤسسات التعليمية هي أكثر ما يمكن لألمانيا أن تنجح فيه في التغلب على تحديات التعددية الثقافية في المجتمع أو تفشل في ذلك. تحسنت بعض الأمور في أعقاب «اختبار البرنامج الدولي لتقييم الطلبة» المعروف ﺑ «بيزا»، مثل توسيع إمكانيات الإشراف في رياض الأطفال والمدارس الابتدائية، أو إدخال اختبارات تحديد المستوى اللغوي في وقت مناسب قبل دخول المدرسة، على الرغم من وجود بعض المشاكل في التطبيق. وهذا ما ستستفيد منه أكبر استفادة الأسر التي لا تكون قادرة — بسبب ضعف قدراتها اللغوية أو مؤهلاتها — على تقديم المساعدة العلمية اللازمة لأبنائها، التي أصبحت ضرورية في ظل النظام التعليمي الحالي. إلا أن السياسة التعليمية تظل المجال الذي يمثل تهديدًا لمستقبل ألمانيا. تكفي حقيقة أن الأطفال الذين لا يحققون المستوى المطلوب في المدرسة يُرحَّلون بعد أربع سنوات دراسية فقط إلى مدارس التعليم المهني (أو حتى التعليم الخاص)، وهذه فضيحة تربوية واجتماعية ستتضح آثارها شيئًا فشيئًا ليس فقط في الأحياء التي تمثل مشكلة في المدن ولكن أيضًا في المناطق الريفية في شرق ألمانيا. بصورة تنافي كل عقل وإنسانية تسمح ألمانيا لنفسها بإزاحة جزء كبير من شبابها منذ البداية لينضموا إلى طابور القوى المعطلة.
بصرف النظر عن جميع التدخلات السياسية والإجراءات الاجتماعية سيظل هذا المصدر المكتشف للنزاعات في المجتمع قائمًا لأن الهجرة ستستمر مهما زادت القوانين حدة ومراقبة الحدود دقة. سيجد اللاجئون الفارون من الفقر والحروب، وهم في العادة غير متعلمين ونادرًا ما تعنيهم الثقافة الجديدة في شيء، طريقهم إلى واحات الرخاء في العالم. استبعاد قدومهم بصورة كلية يتطلب التغلب على الأسباب التي تدفعهم إلى الهرب وهذا أمر يُعد وهميًّا في الوقت الحالي تمامًا مثل افتراض أن مثل هذه الهجرة المستمرة لا تتسبب في مشاكل حقيقية. التغلب على هذه المشاكل يحتاج إلى معلمي لغة ألمانية أكثر من احتياجه إلى متخصصين في العلوم الإسلامية.
إذا أمعنا النظر في القضايا الدينية الخاصة في عملية الاندماج، فإننا سنكتشف أن هناك ميزة في أن معظم المهاجرين المسلمين يأتون من تركيا، تلك الدولة العلمانية ذات الديمقراطية الناجحة بصوة أو بأخرى، والتي لا تعاني من كثير من المشاكل التي تعانيها الدول العربية. هذا يختلف عن الوضع في فرنسا التي استوردت مع مهاجريها العرب أيضًا النزاع الشرق أوسطي وتسييس الإسلام، فالمسلمون في ألمانيا ملتزمون عادة بتعاليم دينهم ولكنهم بالمقارنة بفرنسا وبريطانيا العظمى نادرًا ما يكونون أصوليين. لذلك فإن مقومات وجود إسلام ذي توجه علماني ونظرة تعددية في ألمانيا جيدة. وتبقى أكبر مشكلة للمسلمين في ألمانيا هي التعليم، لأنه على خلاف الدول التي كانت إمبراطوريات استعمارية كبيرة في الماضي، فإن المهاجرين إلى ألمانيا نادرًا ما يكونون من الصفوة، وإنما بالدرجة الأولى عمالًا على مستوى ضعيف جدًّا من التعليم، ومن وضع اجتماعي منخفض. لذلك يحتاج الأمر إلى وقت حتى يخرج من بين صفوف المسلمين أشخاص متميزون قادرون على الحديث عن الدين بصورة مناسبة، وقادرون على الحديث مع ممثلي الأديان الأخرى حديث الأكفاء.
يلاحظ المسلمون الآن بالفعل أن هياكلهم الدينية غير منظمة مقارنة بالكنيسة، وأن عليهم استحداث هياكل تنظيمية جديدة، وإعداد جيل جديد من الممثلين والممثلات — نتمنى أيضًا — لهم. سيحتاج الإسلام إلى هياكل جديدة خاصة بالمجتمع الألماني كي يتمكن من الدخول في النسيج الديني الاجتماعي في جمهورية ألمانيا الاتحادية، ولكن هذه الهياكل لا تُستحدَث عن طريق إصدار مرسوم، بل يجب أن تأتي نتيجة تطور. وهذه العملية قد أخذت دفعة جعلت وتيرتها أسرع من خلال مؤتمر الإسلام الذي نشأت في أثنائه معسكرات مختلفة. ولا أعني بذلك فقط تأسيس مجلس تنسيق يجمع الاتحادات الإسلامية، لكني ألاحظ أيضًا أن المسلمين غير المنخرطين في أي اتحاد أو منظمة والذين يمثلون ما بين ٨٠٪ و٩٠٪ من المسلمين في ألمانيا لم يعودوا يتحدثون بوصفهم مواطنين أو كُتابًا أو مخرجين سينمائيين أو أطباء فحسب، بل أصبحوا يتكلمون بوصفهم مسلمين بصورة متزايدة. هذا لا يعني أنهم قد أصبحوا أكثر تدينًا عما كانوا من قبل، وإنما يعني أنهم يقومون الآن باضطراد بمسئوليتهم تجاه الجماعة الاجتماعية التي ينتمون إليها بسبب أصلهم أو تربيتهم أو اعتقادهم، وهو الأمر الذي لا يختلف كثيرًا عن وضع اليهود العلمانيين في أوروبا الذين لا يكونون متدينين متشددين بالضرورة حتى يتكلموا في الحياة العامة بوصفهم يهودًا. على المدى المتوسط سيقوم المسلمون الليبراليون أيضًا باتخاذ شكل جماعي حتى لا يتركوا تفسير دينهم وتمثيل مصالحهم إما لمتشددين في جانب، أو أتراك كماليين من ناقدي الإسلام في الجانب الآخر. سيصبح الأمر تمامًا كما هو أيضًا في الولايات المتحدة الأمريكية حيث لا يوجد الإسلام الواحد وإنما أشكال كثيرة تناسب كل شخص؛ فرق الراب الموسيقية المسلمة، والمسيحي الديمقراطي المسلم، بل والمثلي الجنسي أو المثلية الجنسية من المسلمين، الذين يقول الكتاب إنهم يجب ألا يُوجدوا، وهم موجودون على الرغم من ذلك.
توجد صعوبة ألمانية خاصة فيما يتعلق بتجنيس الإسلام تتمثل في العلاقة بين الدولة والدين، إذ إنها أكثر تعقيدًا مما هي عليه في كثير من دول أوروبا، فالدولة الألمانية ليست دولة علمانية. هذا يزيد من صعوبة المساواة التامة بين الأديان، ويجعل من الصعب على أي دين جديد أن يجد لنفسه مكانًا. الدولة الفرنسية تعامل — بشيء من المبالغة في التعبير — جميع الأديان نفس المعاملة السيئة، فهي تمنع مثلًا جميع الرموز الدينية في المدارس: لا حجاب ولا طاقية يهودية (كيبا) ولا زي كَنَسي. ربما لا يعجب ذلك الجميع، ولكن لا يمكن لأحد أن يشكو من الاضطهاد، والأكثر من ذلك أن المساواة تحقق التماهي حتى عندما تكون المساواة مؤلمة. لذلك خرجت بعد اختطاف مواطنين فرنسيين في العراق مظاهرات كبيرة شارك فيها مسلمون — وبصورة ملفتة كثير من الفتيات المحجبات — وأكدوا في أثنائها انتماءهم للدولة العلمانية. يجد كثير من المسلمين الفرنسيين أن العلمانية تحميهم من الاضطهاد، لذلك يتابعون ببالغ القلق كيف يحاول الرئيس الفرنسي الحالي نيكولا ساركوزي عن طريق مشروعه «العلمانية الإيجابية» وضع الفصل التام بين الدولة والدين موضع التساؤل.
في مقابل ذلك توجد علاقة تقليدية وثيقة بين الدولة الألمانية والكنائس، ومنذ ١٩٤٥ بينها وبين الجالية اليهودية أيضًا. ولأسباب تتعلق بعملية تاريخية طويلة تفضل جماعة دينية معينة. والآن يأتي دين جديد ويطالب بالمساواة، ليس بالضرورة في صورة أيام عطلات إسلامية أو تمويل بناء المساجد من الموازنة العامة، ولكن بداية المساواة من خلال تقبله في الرأي العام، وهو الأمر الذي لم يتحقق بعد كما توضح النقاشات التي تدور حول بناء مساجد جديدة. غير أن مثل تلك النقاشات ليست سيئة في حد ذاتها، إذ إنها تجبر المسلمين المشاركين فيها على تحديد موقف، مما قد يسهم في عملية التنوير. هناك احتياج إلى تفكير جماعي في الشكل الذي يمكن أن تكون عليه المساجد في ألمانيا. في كثير من مشاريع البناء تضيع المجتمعات المحلية فرصة استخدام لغة الأشكال المعمارية المعاصرة للتعبير الملموس عن المكسب الذي تمثله التعددية الثقافية للمدن. للأسف يُعد كثير من المساجد المبنية حديثًا كارثة من الناحية الجمالية، وهذا أمر الحديث فيه ليس فقط مسموحًا به وإنما أيضًا مطلوب.
الأمر الأسوأ هو أن ينص القانون على عدم المساواة، فهناك ولايات ألمانية تسمح بالرموز الدينية المسيحية واليهودية وتمنع بوضوح الرموز الخاصة بالإسلام. ولكن من الإنصاف أيضًا أن نقول إن المسلمين ليسوا منظمين بنفس درجة المسيحيين واليهود، لذلك تجد الدولة التي ترغب في تدريس الدين الإسلامي في المدارس صعوبة في تحديد الجهة التي يمكن التحدث معها. يحتاج الأمر إلى وقت، وربما إلى عملية تمتد سنوات حتى يتمكن المسلمون من تكوين أشكال تنظيمية قادرة على التوافق مع المجتمع الألماني. وهذا تحديدًا ما يكسب مؤتمر الإسلام أهميته، لأنه يشكل في البداية منتدى مؤقتًا تدخل فيه الدولة لأول مرة في حوار رسمي مع المسلمين.
على الرغم من وجود بعض الأصوات في مؤتمر الإسلام تنادي بتحديد حرية ممارسة الشعائر الدينية عن طريق منع بناء المساجد أو منع تدريس الدين الإسلامي في المدارس الألمانية، فإنه لا يوجد لا في مؤتمر الإسلام ولا في المجتمع حاليًّا أي قوة سياسية مهمة تسعى لكسب الأصوات من خلال الدعوة إلى عزل الإسلام أو اضطهاد الأقليات. هذا ليس أمرًا بديهيًّا، وهو ما يتضح إذا نظرنا إلى هولندا أو إلى النمسا وتقدم السياسيين الجماهيريين اليمينيين فيهما، أو الدنمارك وقوانينها الفاضحة بشأن الزيجات بين أصحاب الأديان المختلفة، أو سويسرا حيث فاز «حزب الشعب السويسري» باستخدام لوحات دعائية تُذكِّر بلغة الصور التي كان النازيون يستخدمونها. أما في ألمانيا فالحزب الوحيد الذي يمكن أن يكون مناسبًا لمثل هذه السياسة القائمة على تحديد الهوية هو «الحزب المسيحي الديمقراطي». شهد عام ٢٠٠٨ في ولاية هيسن وبقيادة رئيس وزراء الولاية رونالد كوخ آخر محاولة يائسة وعجيبة لخوض معركة انتخابية تهدف إلى فصل الأغلبية الألمانية والمهاجرين في قطبين مختلفين، إلا أن هذه الاستراتيجية لم تنجح لا في داخل الحزب ولا في اللجان الانتخابية. لا، ألمانيا ليست بمعزل عما يمكن ملاحظته من رغبة تجتاح العالم في الرجوع إلى الهوية الخاصة. ولكن هناك سببًا وجيهًا يجعلنا نأمل ألا تتحول تلك الموجة إلى فيضان عارم لدينا.