أدلةُ البيانِ في اللُّغَة العربية١
مَنْ تدبر العلومَ اللسانية في اللُّغَة العربية؛ كالصرف والنحو، رأى أنه قد مرَّ بها حتى الآن ثلاثة أدوار: الأول دور الاستقراء والتطبيق، استخرج النحاةُ الأولون فيه الجزئيات من الكليات ثم طبقوا الكليات على الجزئيات طردًا وعكسًا؛ مثال ذلك: استقرى النحاةُ الفاعل في جملٍ كثيرةٍ، فقالوا الفاعل مرفوع، ثم قالوا إن لفظة «رجل» في قولنا «جاء الرجلُ» مثلًا مرفوع؛ لأنه فاعل. الدور الثاني: دور التبويب والترتيب، كان هَمُّ كلِّ مؤلفٍ في هذا الدور تتبع الأحكام الكلية في مظانِّها، وترتيبها في فصولٍ وأبوابٍ أشبه بالفهارس، ضموا فيه النظير إلى نظيره والفرع إلى أصله، ولكن لم يجئ أحدٌ منهم بشيء جديد من عِنْدِهِ؛ بل اقتصروا على مذاهب البصريين والكوفيين، وذِكْرِ الراجح والمرجوح منها بلا بحث ولا نكير. الدور الثالث: دور الاجتهاد، حاول بعضُ المؤلفين فيه أنْ يخرجوا من عهدة ذلك التقليد بأن يذكروا هنا وهناك بعضَ آراءٍ لم يسبقهم إليها أحدٌ، ففتحوا بذلك باب الاجتهاد.
ولا شك أننا أصبحنا اليوم في زمان لا بد فيه من إعادة النظر في كل ما وضعه الأولون وتسلمناه منهم قضايا مقررة لا تقبل الاعتراض، وبناء ذلك على مبادئ جديدة علمية، فإن عندنا من الوسائل ما لم يكن عندهم. كان علماء اللُّغَة في قديم الزمان لا يعرفون غير اللُّغَة العربية، ولم يكونوا يعرفون ما يسمى اليوم بعلم مقابلة اللغات بعضها ببعض، أو ما يسمى علم تحليل اللغات أو فلسفتها؛ بلى حاول بعضهم التعرض لهذه الأبحاث، منهم أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي في كتابيه «الخصائص في اللغة» و«سر الصناعة في النحو»، ولكن أبحاثهم كانت في عهد طفوليتها، وأما اليوم فقد ارتقت هذه العلوم وصارت خصائص اللُّغَة وأسرارها علمًا بأصول، وأصبح عالِم اللُّغَة لا غنى له عن تعلم أخوات تلك اللغة؛ بل لغات أخرى عديدة قديمة وجديدة. وقد عرفت في بلاد الإنكليز وأميركا أساتذة كثيرين من علماء اللغات الشرقية يعرف الواحد منهم إلى اللُّغَةِ العربيةِ، العبريةَ والسريانية والحبشية والتركية والفارسية والسنسكريتية، فضلًا عن اللغات الأوروبية الحديثة والقديمة إلى ما يجاوز العشر لغات. وقد لقيتُ في كمبردج شيخًا مصريًّا وهو أستاذ في إحدى المدارس العالية في القطر المصري، رأى سعة معرفة أولئك الأساتذة وتبحرهم في علم اللغات، فقال في قصيدة أرسلها إلى أحد العلماء في مصر:
ولأولئك العلماء الأعلام مؤلفات غزيرة المادة مشبعة الفصول في تاريخ اللغات وفلسفتها ومقابلتها بعضها ببعض. استبطنوا اللغات واستخرجوا منها حقائق بُنيت عليها العلوم اللسانية في لغاتهم، وأول مَن طرق هذه الأبحاث الجديدة في اللُّغَة العربية — على ما أذكر — أحمد فارس الشدياق، والشيخ إبرهيم اليازجي، وجورجي زيدان، وروحي الخالدي المقدسي، وجبر ضومط، وبندلي الجوزي المقدسي، وأنستاس الكرملي، ثم انقطع العهد بتلك الأبحاث ولم تترتب عليها فائدة عملية، ولعل لذلك سببين: الأول؛ تراجع النهضة وقلة المشتغلين بها، والثاني؛ عدم الجرأة على إبداء رأي جديد، وقد خطر لي أثناء معالجتي هذه المواضيع من النظرات والخواطر ما أتجرأ على عرضه عليكم شيئًا بعد شيء، وأنا لا أجهل أن رأس مالي نزر، وسأقتصر في حديثي هنا على الكلام عن أدلة البيان التي تتميز بها وظيفة الكلمة في الجملة، فأقول: تُعرف وظيفة الكلمة في الجملة إما بالقرينة المعنوية، نحو: «فهم موسى المعنى»، أو «فهم المعنى موسى»، فإن الفاهم هو موسى والمفهوم هو المعنى؛ إذ لا يصح غير ذلك. وإما بالترتيب، نحو: «سبق أخي غلامي»، ولما كان كل منهما يصح أن يكون سابقًا أو مسبوقًا ذكرنا السابق أولًا والمسبوق ثانيًا؛ لأن علاقة الفعل بالفاعل سابقة لعلاقته بالمفعول. وإما بالإعراب، نحو: «ضرب زيدٌ عمرًا» أو «ضرب عمرًا زيدٌ»، فالضارب هو زيد والمضروب هو عمرو في الجملتين، وقد عرفنا ذلك ليس من المعنى لأنه يصح أن يكون كلاهما ضاربًا أو مضروبًا، ولا من الترتيب لأن كلمة زيد جاءت قبل كلمة عمرو في الجملة الأولى وبعدها في الجملة الثانية، وإنما عرفنا أن زيدًا هو الضارب لأنه مرفوع، وأن عمرًا هو المضروب لأنه منصوب، فأدلة البيان ثلاثة: القرينة والترتيب والإعراب، وهذا آخر ما وصلت إليه اللُّغَة العربية، ولا بد أن تكون هذه الأدلة قد مرت على أدوار مختلفة قبل أن وصلت إلى صورتها الحاضرة التي ورثناها من عهد التدوين جريًا على ناموس النشوء والارتقاء كما سنبينه فيما يلي.
القرينة
لا شك أن القرينة هي أقدم هذه الأدلة، وقد مرَّ زمانٌ طويل على اللُّغَة كان الاعتماد في بيان المعنى فيها على القرينة وحدها، وذلك قبل أن يكون في اللُّغَة ترتيب معلوم أو إعراب بياني، فكانوا يقدمون أو يؤخرون، وكانوا يرفعون أو ينصبون أو يخفضون أو يجزمون أو يبنون كما يجيء معهم اتفاقًا لغير قصد. وإذ كان اعتمادهم في هذا الدور على القرينة وحدها فلا بد أنه كانت هناك قرائن كثيرة تختلف وضوحًا أو خفاءً يستدلون بها على المعنى، ولاعتيادهم الاعتماد على القرينة فلا بد أنهم كانوا يتنبهون لأدق القرائن وأخفاها، ومع ذلك فإن التفاهم كان صعبًا لما يقع فيه من اللبس أو الغموض أحيانًا، أو أن مواضيع الكلام كانت بسيطة يُدرَك المعنى منها بأقل لمحة، من تلك القرائن طبقة الصوت وهيئة إطلاقه بين أن يكون لينًا أو خشنًا، عاليًا أو سافلًا مما هو بالصوت الموسيقي أشبه منه بالصوت المنطقي كما قال اليازجي، ولا تزال آثار ذلك في اللُّغَة إلى اليوم كاختلاف اللهجة في الاستفهام أو التعجب عنها في الخبر؛ بل لولا اختلاف اللهجة لأصبح كثير من الكلام لغوًا. نكرر الألفاظ للتأكيد، مثل: «جاء الأميرُ الأمير»، ولكنْ إذا لم نرفع الصوت قليلًا في اللفظة الثانية فلا تأكيد فيها ولو كررناها عشر مرات، نتبع اللفظة بأخرى لبيانها، مثل: «جاء أخوك زيد»، لكن إذا لم تكن الثانية أعلى نغمة من الأولى فلا تفيد بيانًا. نستعمل «إن» للتأكيد ولكن إذا لم نجعل النبرة شديدة على النون فلا تفيد تأكيدًا، إلى غير ذلك مما لا يتسع المجال للإفاضة فيه؛ بل إن اللهجة قد تقلب المعنى إلى ضده، يقال إنه حُكِمَ مَرَّةً على رجلٍ أنْ يقف أمام الناس ويقول «أيها الناس أنا لص»، فلما وقف قال «أيها الناس أنا لص؟» بلهجة استفهام، فانقلب المعنى من إقرار إلى إنكار.
ومن القرائن الإشارات وحركات الوجه، يقال إن بعض زنوج أفريقيا إذا غابت الشمس سكنت جلبتهم؛ لأنهم لا يستطيعون أن يتفاهموا بالكلام وحده، وبسبب ظلمة الليل لا يستطيعون أن يستعينوا بالإشارات وحركات الوجه؛ بل إنك اليوم لا تجد أحدًا يتكلم بدون أن يستعين بالإشارات وحركات الوجه على تقوية معناه أو إيضاحه أو استدعاء الانتباه إليه، مما يدل على أن اللغات على ارتقائها واتساعها لا تزال ناقصة، وأنها دون التصوير والموسيقى، فإن المصوِّرَ قد يصوِّرُ بريشته ما تعجز أرقى اللغات عن الغناء فيه، والموسيقي قد يترجم بنغماته عمَّا لا يؤديه كلامٌ، هذا على ارتقاء اللغات في هذا العصر فكيف يوم كانت في أول عهدها. من هذا تعلم أن ألفاظ اللُّغَة ليست هي اللُّغَة كلها؛ بل هي جزء منها تتممه الإشاراتُ وحركاتُ الوجهِ وطبقةُ الصوتِ وقرائنُ أخرى، وهذا سرُّ أن التشبيه أبلغ من الحقيقة. إذا أردت أن تصور شخصًا غريبًا لغيرك فمهما دققت في وصف تقاطيعه وأعضائه وبيان لونه وطوله وعرضه فإنك لا تستطيع أن تعطي الصورة الحقيقية عنه، ولكن يكفي أن تذكر شخصًا يعرفه ثم تقول إنه يشبهه شبهًا تامًّا، فإنه يستطيع حينئذٍ أن يتصور ذلك الشخص في ذهنه، فلو كانت اللُّغَة كافية لما كانت هناك حاجة إلى التشبيه.
ومَن تدبر اللُّغَة العربية وجد فيها شيئًا كثيرًا من لغة الإشارات وحركات الوجه ولونه؛ مثل قولهم في الخوف: «امتقع لونُ فلان، واقشعر جلدُه، واصطكت ركبتاه، وارتعدت فرائِصُه، وأرعشت مفاصِلُه»، ومثل قولهم في الغضب: «قطب وجهه، وزوى ما بين عينيه، وانتفخت أوداجُه، وتزبد فُوهُ، واحمرت عيناه»، إلى غير ذلك مما يصور المعنى تصويرًا، ولا شك أن هذا من آثار ذلك العهد الذي كانت فيه حركات الوجه والإشارات قرائن على المعنى، وهو أيضًا سرُّ أن الخطابة والإنشاد والتمثيل والغناء أوقع في النفس من القراءة الفكرية.
الترتيب
مرَّ على اللُّغَة زمانٌ طويلٌ والترتيب فيها مشوش لغير سبب؛ اعتمادًا على القرائن التي تقدم ذكرها، ولا يزال في اللُّغَة آثار هذا التشويش؛ إذ لا نزال نقدم تارة الموصوفَ على الصفةِ؛ فنقول: «ليس في المسألة أمرٌ كبير»، وتارة الصفةَ على الموصوفِ؛ فنقول: «ليس في المسألة كبير أمر.» ثم دخلت اللُّغَة في دورٍ ثانٍ لزم الترتيب فيه صورة معلومة؛ كذكر الفاعل قبل المفعول، وذكر المسند إليه قبل المسند لاعتبارات خصوصية عندهم ليس هذا محل بسطها، ولا نزال نراعي هذا الترتيب إذا لم تكن هناك قرينة معنوية أو قرينة إعرابية. وبعد أن تولَّدَ الإعرابُ في اللُّغَة دخلنا في دور ثالث تحررنا فيه من قيود الترتيب وعدنا إلى التشويش، والفرق بين هذا الدور والدور الأول أن التشويش كان في الدور الأول اعتباطيًّا فصار في الدور الثالث لأغراض بيانية مقصودة، وهذا أرقى ما وصلت إليه اللغات في البيان حتى الآن، وقد ساعدنا على ذلك أمران: القرينة والإعراب، ولولا الإعراب للزم الترتيب صورة معلومة لا يتعداها على ما نراه في اللغات الأخرى، فإن الفاعل في اللُّغَة الإنكليزية مثلًا لا يجيء إلا قبل المفعول به سواء دلت عليه القرينة أم لا؛ بسبب أنها ليست لغة إعرابية، وكما نراه في اللُّغَة العربية نفسها إذا كانت الكلمات لا تقبل إعرابًا أو لم تكن هناك قرينة معنوية، فإننا نلزم الترتيب فنذكر الفاعل قبل المفعول به، مثل: «سبق أخي غلامي»، ونذكر المسند إليه قبل المسند إذا استويا في التعريف والتنكير ولم تكن هناك قرينة للتمييز بينهما، مثل: «أخي رفيقي» و«أفضل منك أفضل مني.» فالأدوار التي مرَّت على الترتيب ثلاثة: الأول؛ الدور المشوش لغير قصد اعتمادًا على القرينة، والثاني؛ الدور المرتب لاعتبارات خصوصية، والثالث؛ الدور المشوش لأغراض بيانية اعتمادًا على الإعراب والقرينة.
الإعراب
مَن تتبع الدرجات التي مرَّت عليها اللغاتُ في انتقالها من الدور التقليدي إلى الدور النطقي — أي من تقليد الأصوات تقليدًا بسيطًا إلى ألفاظ مستقلة يدل بها على المعاني دلالةً صمَّاء لا تظهر فيها صبغة التقليد كما قال المرحوم جورجي زيدان — يَرَ أن الإعراب هو آخر ما وصلت إليه اللغاتُ حتى الآن، فهو عنوان رقيها، وهذا يَحتمل كلامًا طويلًا ليس من غرضنا في هذه العجالة التعرض له، وإنما غرضنا هنا هو أن نشير إلى الأدوار التي مرَّت على الإعراب إلى أن وصل إلى حالته الحاضرة، ثم نتبع ذلك بكلمةٍ في الإعراب نفسه نجعلها خاتمةَ هذا البحث.
كان الإعراب في دوره الأول مشوشًا، فكانوا يرفعون أو ينصبون أو يخفضون أو يجزمون اعتباطًا لغير قصد بياني؛ اعتمادًا على القرينة والترتيب، ولعل الغرض من الإعراب في هذا الدور كان تزيين الكلام وزخرفته، فقولك: «جاء الضاربُ» بضم الباء آنَقُ من قولك: «جاء الضارب» بإسكانها، ولعلهم استعملوه في أول الأمر في الشعر لما يتوخونه فيه من الزخرفة والتأنق، وَلَمَّا ألفوه استعملوه في النثر أيضًا.
ومَن تدبر الشعرَ في اللُّغَة المحكية ليومنا هذا رأى أنهم قد يحركون من أواخر الكلم فيه ما لا يحركونه في كلامهم العادي، وتلك حالة في اللُّغَة — أي الإعراب المشوش بدون ضابط — لا بد أن يَئُول أمرها إما إلى الإلغاء بتاتًا، وإما إلى الدخول في دور ثانٍ يستخدم فيه الإعراب لغرضٍ آخر لا لمجرد الزينة أو الضرورة الشعرية، والواقع أن الإلغاء ابتدأ في اللُّغَة — ولكن في الوقف — ولولا القليل لسقط في كل المواطن، والواقع أن اللُّغَة دخلت في دور ثانٍ استُخدم فيه الإعراب لبيان وظيفة الكلمة في الجملة، ولكن وقفت اللُّغَة في أول هذا الدور قبل أن ينضج الإعراب ويتم إحكامه في كل مواطنه كما سترى، ففي دوره الأول كان شيئًا خارجًا عن اللغة، فإذا ألغي لم تتأثر؛ لأن الاعتماد في بيان المعنى كان على القرينة والترتيب؛ ولذلك نرجح أن إلغاءه في الوقف ابتدأ في هذا الدور.
وأما في دوره الثاني — وهو الدور الذي تشوش فيه الترتيب لأغراض بيانية نص النحاة والبيانيون على مواطنها — فقد صار من مقومات اللُّغَة وخصائصها؛ لأن هناك مواطن كثيرة في الكلام لا دليل على المعنى فيها غير الإعراب، فإذا ألغي رجعت اللُّغَة إلى اللبس والغموض، فأنت ترى أن الإعراب قد ساعد العرب على أن يستفيدوا من الترتيب المشوش في الدلالة على معانٍ تعجز اللغات الأخرى عن أدائها، إلا أن اللُّغَة وقفت قبل أن يتم نضجه، أي وصل إلينا وفيه آثار التشويش، وهذا التشويش نوعان: نوع استعمل قديمًا ثم أهمل، ومَن تفقَّدَ كُتب النحو وقع على شيء كثير من هذا، فقد أجازوا نصب الاسم عند أمن اللبس، نحو: «خرق الثوب المسمار» و«كسر الزجاج الحجر» بنصب المسمار والحجر، ومنه قول الشاعر:
برفع «نجران وهجر» ونصب «سوءات»، وقاسه ابن الطراورة عملًا بقراءة: فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ بنصب «آدم» ورفع «كلمات»، ومنه أن بعض العرب كان ينصب بأن أو إحدى أخواتها المبتدأ والخبر، نحو:
ونحو قوله:
وقوله: «يا ليت أيام الصبى رواجعًا»، ونحو قولهم: «لعل أباك قادمًا»، ومثله جزم الفعل بعد «لن» مع أنها من النواصب، كقول الشاعر:
ومثله جزم الفعل بأن الناصبة، نحو قوله:
ومثله إهمال «لم» الجازمة، نحو قوله:
وقوله:
وقال ابن مالك: إنها لغة، وزعم اللحياني أن بعض العرب ينصب بها كقراءة بعضهم: أَلَمْ نَشْرَحْ بفتح الحاء.
وقوله:
بفتح الراء في «يقدر»، ومثله إهمال «لا» الناهية، نحو:
وإن أَوَّلَها النحاة بتقدير نون التوكيد الخفيفة، ومثله إعمال «إذا» الشرطية في الشعر وإهمالها في النثر، ومثله جزم الفعل المرفوع في قوله:
ومثله قوله:
ومثله قوله:
بإسكان الباء في «أشرب» إلى غير ذلك … ومنه نوع لا يزال مستعملًا في اللُّغَة إلى اليوم، وإليك البيان: يقول النحاةُ: إن المُسنَد إليه والمُسنَد يُرفعان؛ لأنهما عُمدة، ولكننا نراهم ينصبون الأول بعد «إن» أو إحدى أخواتها، وينصبون الثاني بعد «كان» أو إحدى أخواتها، فلماذا نُصبا إذا كانا عُمدة؟ لا شك أن ذلك أثرٌ من آثارِ التشويش في الإعراب. ومثله بناء «أي» على الضمِّ في مثل قولهم: «سلم على أيهم أفضل»، وبناء الظروف المنقطعة عن الإضافة في مثل قولهم: «الحمد لله من قبل ومن بعد»، ومثل بناء بعض الألفاظ المبنية. فإذا كانت اللُّغَة إعرابية فما معنى بناء بعض ألفاظها؟ ومثل إعمال «ما» على لغة أهل الحجاز وإهمالها على لغة أهل تميم؛ بل إعمالها على لغة أهل الحجاز بشرط أن تكون متصلة ولم ينتقض نفي خبرها بإلا، نحو: «ما زيد شاعرًا»، وإهمالها إذا لم تكن كذلك، نحو: «ما قائم زيد»، و«ما غلامك عمرو ضارب»، و«ما زيد إلا شاعر»، و«ما إن عمرو كريم»، بخلاف «ليس» في ذلك كله مع أنها نافية مثلها، ومثل نصب جمع المؤنث السالم بالكسر، ومثل إعراب الفعل المضارع — ولا سيما في حالتي الرفع والنصب — فقد حار النحاةُ في سبب إعرابه، وغير ذلك مما ليس من غرضنا تعداده وإحصاؤه. وهذا النوع الثاني من التشويش أصبح قياسيًّا في اللغة، وأكبر لذة في درس اللغات تكون في هذا المزيج من المعقول وغير المعقول، والقياسي والشاذ، وقد قال أحدُ علماءِ اللُّغَة: إن اللُّغَة مثل صديقٍ هفواته تعززه لدينا وتزيدنا حبًّا له.
تكلمنا عن الأدوار التي تدرج فيها الإعراب، وبقيت لنا كلمة في الإعراب نفسه، هل دلالة العلامات الإعرابية كالضَّمَّةِ والفتحةِ والكسرةِ والسكونِ على الحالات الإعرابية كالفاعليةِ والمفعوليةِ والإضافيةِ والطلبيةِ اعتباطية أو وضعية؟ أي هل رفع الفاعل ونصب المفعول وخفض المضاف إليه وسكن الفعل الطلبي اتفاقًا، أو هل هناك أسباب طبيعية لذلك؟
هذا بحثٌ دقيق يحتمل كلامًا طويلًا نوافق في بعضه النحاة فنثني عليهم، ونخالفهم في البعض الآخر فنستميحهم العفو.
يقول النحاةُ: إن علاماتِ الإعراب حركاتٌ وحروف، وهم يعتبرون الألف والواو والياء حروفًا، والصحيح أن الألف حركة طويلة بالنسبة إلى الفتحة مثل الألف في «كتاب»، وممدودة مثل الألف في «سماء» و«مادة» فهي حركة لا حرف. وأما الواو والياء؛ فقد تكونان حركتين طويلتين بالنسبة إلى الضمة والكسرة، مثل: الواو والياء في «عود» و«عيد»، وحركتين ممدودتين مثل الواو في «وضوء» والياء في «مسيء»، وقد تكونان حرفين مثل الواو في «ثوب» والياء في «بيت»، فهما من الأشكال المشتركة بين الحروف والحركات، وهما تستعملان كعلامتي إعراب تارة باعتبار أنهما حركتان، وتارة باعتبار أنهما حرفان، وعلى ذلك فالأسماء الخمسة من المعربات بالحركات لا بالحروف، وجمع المذكر السالم والمثنى من المعربات بالحركات إلا جمع المذكر السالم من المنقوص، فإنه يعرب بالحروف، نحو: «جاء المصطفَون»، و«رأيت المصطفَين»، و«مررت بالمصطفَين»، وإلا المثنى في حالتي النصب والخفض، نحو: «رأيت الرجلين»، و«مررت بالرجلين»، وعليه فجمع المذكر السالم والمثنى من المعربات بالحركات والحروف معًا لا بالحروف وحدها كما يقول النحاة، ومما يعرب بالحروف — غير المثنى وجمع المذكر السالم المنقوص — الأفعال الخمسة من الفعل المضارع؛ فإثبات النون فيها يدل على حالة، وحذفها يدل على حالة أخرى. ولا يعرب بالحركات القصيرة — أي الضمة والفتحة والكسرة — من الأسماء غير الاسم المفرد وجمع التكسير وجمع المؤنث السالم، ويستثنى من ذلك الأسماء الخمسة في حالة الإضافة إلى غير ياء المتكلم؛ فإنها تعرب بالحركات الطويلة بدلًا من الحركات القصيرة؛ ولعل السبب في ذلك أن اللُّغَة العربية القديمة كانت تعرب بالواو والألف والياء، مثل: اللُّغَة النبطية، ثم استبدلت الحركات الطويلة بحركات قصيرة للتخفيف في كل الأسماء إلا في الأسماء الخمسة فكان ذلك فيها أثرًا باقيًا من ذلك العهد.
وأما الفعل فلا نتعرض له الآن بل نترك الكلام عنه إلى محاضرة أخرى. إذا عرفنا علامات الإعراب يبقى علينا أن نعرف صفة كل منها، فالضمُّ سواء كان بالضمةِ أم بالواوِ أقوى الحركاتِ وأفخمها، والفتحُ سواء كان بالفتحةِ أم بالألفِ أخفُّ الحركاتِ لسهولة إخراج الصوت والفم مفتوح، والخفض سواء كان بالكسرةِ أم بالياءِ أثقل الحركات؛ لما يقع من التعاند بين إخراج الصوت وخفضه، وقد تنبَّه النحاةُ إلى شيء مثل هذا في مواضع مختلفة. واللغات التي يكثر فيها الضمُّ تكون فخمة جزلة، والتي يكثر فيها الفتح تكون خفيفة رشيقة، والتي يكثر فيها الخفض تكون ثقيلة مستبشعة ولا تناسب الغناء؛ لأن رفع الصوت مع الضمِّ أو الفتح أسهل منه مع الخفض، ويكثر هذا الصوت في لغةٍ دون ذاك لأسباب عديدة أهمها الإقليم، فالذين يَسكنون الأماكن الباردة يميلون في ألفاظهم إلى الضمِّ والخفض، وبعبارة أخرى لا يفتحون أفواههم خوف البرد، والذين يسكنون الأماكن الحارة يميلون في ألفاظهم إلى الفتح استبرادًا، ولما كان العرب سكان قفر حارٍّ يعيشون في الهواء الطلق كَثُرَ الفتحُ في لغتهم سواء كان حركة بنائية أم حركة إعرابية، وفي كل ذلك كلام لا يتسع له المقام. وأما إذا كانت علاماتُ الإعراب بالحروف، فالواو في جمع الذكور السالم من المنقوص، والألف في المثنى أفخم من الياء فيهما، فعلامات الإعراب في الاسم تُقَسَّمُ بحسبِ ما تقدم إلى ثلاثة أقسامٍ: قوية، وخفيفة، وثقيلة.
لنأتِ الآن إلى البحث في الحالات الإعرابية، يقول النحاةُ: إن حالات الاسم الإعرابية ثلاث: رفع، ونصب، وخفض؛ لأن الاسم لا يخلو أن يكون — على رأيهم — إما عُمدة، وإما فضلة، وإما مشتركًا بينهما، فحالة العمدة الرفع، وحالة الفضلة النصب، وحالة المشترك بينهما الخفض. وما هي العمدة؟ قالوا: هي ما لا ينعقد الكلام بدونه؛ كالفاعل في نحو: قام زيدٌ. وما هي الفضلة؟ قالوا: هي ما زاد عن القدر المطلوب لانعقاد الكلام؛ كالمفعول به في نحو: ضرب زيدٌ عمرًا، وإن لم يكن فضلة في المعنى لاحتياج العبارة إليه في إتمام المراد منها. وما هو المشترك بينهما؟ قالوا: هو ما يكون تارة مكملًا للعُمدة، نحو: جاء غلامُ زيدٍ، وتارة مكملًا للفضلة، نحو: رأيتُ غلامَ زيدٍ، ويقع تارة في موضع العُمدة، نحو: سرَّني قدومُ زيدٍ، وتارة في موضع الفضلة، نحو: هذا ضاربُ زيدٍ، وقد ألحقوا من العُمد بالفضلات المنصوب في باب النواسخ، وبالمضاف إليه المجرور بالحرف، هذا ما يقوله النحاةُ. ولكن إذا كانت العُمدة ما لا ينعقد الكلام بدونه؛ فكل جزءٍ من الكلام عُمدة لا يستغنى عنه، سواء في ذلك الأسماء والأفعال والحروف، وسواء كان الاسم فاعلًا أم مفعولًا به، أم مضافًا إليه، أم ظرفًا، أم حالًا، أم غير ذلك؛ لاحتياج العبارة إلى كل جزء من أجزائها في إتمام المراد منها، وإذا كانت الفضلة ما زاد عن القدر المطلوب لانعقاد الكلام فأحرى بذلك الزائد أن يصبح لَغْوًا يجب حذفه لاستغناء العبارة عنه، وإذا كان المشترك بينهما ما كان مكملًا للعُمدة أو للفضلة فهل التكميل حالة إعرابية؟ وإذ كان حالة إعرابية، أَمَا كان يجبُ أن تكون للاسم المكمل للعُمدةِ علامةٌ خصوصيةٌ غير علامتِهِ إذا كان مكملًا للفضلة ليتميز الواحد عن الآخر؟! ثم إذا كان يقع تارة في موضع العُمدة وتارة في موضع الفضلة، فلماذا لا يكون عُمدةً في الأول وفضلةً في الثاني؟! وهنا ليسمحْ لنا النحاةُ أن نبدي رأيًا آخر.
الاسم في الجملة قد يكون عُمدة؛ ليس لأنه لا ينعقد الكلامُ بدونه؛ بل لأحد سببين آخرين: إما لأهميته، نحو: «الولد مجتهد»، الأول مُسنَد إليه والثاني مُسنَد، وكلاهما عُمدة لا يستغني الواحد عن الآخر؛ إذ لا يكون مُسنَد إليه بدون مُسنَدٍ، ولا مُسنَد بدون مُسنَد إليه ولو تقديرًا، وإما لقوته بالنسبة إلى غيره في الجملة، نحو: «ضرب زيدٌ عمرًا»، لزيدٍ وظيفتان: عمل الفعل والدلالة عليه، ولعمرو وظيفتان: قبول أثر الفعل والدلالة عليه؛ فلأنهما يشتركان في الدلالة على الفعل لخروجه من الأول ووقوعه على الثاني، فهما مهمان لا يستغني الواحدُ عن الآخر؛ إذ لا يكون ضاربٌ بدون مضروبٍ، ولكن لأن الأول عمل الفعل فهو قوي؛ ولأن الثاني وقع عليه الفعل فهو ضعيف، فهما يتساويان في الأهمية ولو لم يكن غير هذا الاعتبار لكان كلاهما عُمدة، ولكن لأنهما يختلفان في القوة والضعف وَجَبَ أنْ يُنظر إليهما باعتبار هذا الاختلاف؛ فالقوي منهما نعتبره عُمدة لقوته وليس لأهميته، وإذا حذف الضاربُ وبقي المضروبُ لم يبق دليلٌ آخر على وقوع الفعل غيره، ولأنه الدليل الوحيد فإنه يكتسب أهمية فينظر إليه باعتبارها ونعده عُمدة، ويسقط عنه اعتبار الضعف؛ لأننا إنما نظرنا إليه باعتبار الضعف لوجود قويٍّ بإزائه، فإذا ذهب القويُّ لم تبقَ حاجة إلى هذا الاعتبار، وسُمي نائبُ فاعلٍ لأنه ناب عنه في الدلالة على الفعل وليس في عمله. وقد يكون فضلة إما لضعفه بالنسبة إلى غيره ﮐ «عمرًا» في قولنا: «ضرب زيدٌ عمرًا» وإن كان مثل «زيد» في الأهمية كما قدمنا، وإما لكثرة دورانه في الكلام كالحال، نحو: «جاء زيدٌ راكبًا»، والظرف نحو: «جاء زيدٌ صباحًا»، وغير ذلك من المنصوبات، فإذا كان الاسم عُمدة أخذ العلامة القوية الإعرابية للتناسب بين أهمية الكلمة في الجملة أو قوتها وبين قوة العلامةِ الإعرابية، وإذا كان فضلة اختاروا له العلامةَ الخفيفة، ولعلهم راعوا في ذلك الخفة لكثرة دورانِ الفضلةِ في الكلام.
وأمَّا ما يُسمى في اصطلاحِ النحاةِ مُشتَرَكًا بينهما فاختاروا له العلامةَ الثقيلة؛ لِقلة دورانه على اللسان. والذي يلوح لنا أنه لم يكن للاسم في الأصل إلا حالتان: عُمدة وفضلة، أو رفع ونصب، وأن الحالة الثالثة — أي حالة الخفض — طارئة على اللغة، أو أنها ثقيلٌ مستبشعٌ، يرفع الاسم لأنه مهم أو قوي، وينصب لأنه ضعيف أو كثير الدوران على اللسان، وأما خفضه فلماذا؟!
- (١)
أن الفعل المضارع — الذي يشبه الاسم في الإعراب — يُرفع ويُنصب ويُجزم ولكنه لا يُخفض.
- (٢)
أن أكثر الأسماء ليس لها إلا علامتان إعرابيتان: الأولى الرفع والثانية النصب والخفض معًا؛ كجمع المذكر السالم، فتقول: «جاء المعلمون» و«رأيت المعلمِين» و«مررت بالمعلمِين»؛ وكالمثنى، فتقول: «جاء المعلمان» و«رأيت المعلمَين» و«مررت بالمعلمَين»؛ وكالممنوع من الصرف، فتقول: «جاء إبرهيمُ» و«رأيت إبرهيمَ» و«مررت بإبرهيمَ»؛ وكجمع المؤنث السالم، نحو: «جاءت المؤمناتُ» و«رأيت المؤمناتِ» و«مررت بالمؤمناتِ»، فلو كان هناك فرقٌ بين النصبِ والخفضِ في الاعتبار لوجب أن يكون لكل منهما علامة خصوصية تُميز الواحد عن الآخر في هذه الأنواع من الاسم، وهي كثيرة.
- (٣)
أن الظروف التي تُجرُّ بحرف «في» يجوز أن يسقط حرفها فترجع إلى النصبِ، فتقول: «جئت في الصباح» و«جئت صباحًا»، فلو كان الخفض لِبيان حالةٍ إعرابيةٍ لَخُفض الظرفُ بحرفِ جرٍّ وبدونه.
- (٤)
أنَّ كثيرًا من الأفعال المتعدية بواسطة حرف خفضٍ قد تتعدى بنزع الخافض فيُنصب الاسمُ المخفوض بذلك الحرف على المفعولية الصريحة؛ لأن الفعل حينئذٍ قد وصل إليه بنفسه، ومنه قول الشاعر:
تمرون الديار ولم تعوجواكلامكم عليَّ إذن حرامأي: تمرون على الديار، فحذف الحرف ونصب المخفوض به، ولا فرق بين نصب الاسم أو خفضه، وإذا لم يرد نزع الخافض في بعض الأفعال، مثل: «بصرتُ بزيدٍ» فقد يستبدل الفعل بآخر يتعدى رأسًا، نحو: «أبصرتُ زيدًا، أو نظرته أو رأيته»، فلو كانت الرؤية لا تتم إلا بالخفض لوجب أن يُستعمل حرف الجرِّ مع كلِّ الأفعال التي تدل على الرؤية.
- (٥)
المفعول لأجله المخفوض بحرف التعليل، نحو: «هربت للخوف أو من الخوف» يجوز فيه إسقاط حرف الخفض، وحينئذٍ يعود إلى النصبِ، فلو كان للخفض معنًى إعرابيٌّ للزم المفعول لأجله الخفضُ سواء جُرَّ بحرفٍ أم لا.
- (٦)
مُمَيَّزُ «كم» الاستفهامية يجوز فيه النصبُ على الأصل، والجرُّ بحرفِ «مِن»، نحو: «كم كتابًا قرأت؟» و«كم من كتابٍ قرأت؟» ومُمَيَّزُ «كم» الخبرية يخفض على الأصل وينصب إذا فصل بينهما، نحو: «كم صديق لي!» و«كم لي صديقًا!» فالخفض والنصب متعاقبان هنا.
- (٧)
أنَّ بعضَ الظروفِ تلزم البناء على الفتحِ ولو تقدمها حرفُ خفضٍ، نحو: مِن الآن، ومِن أين، ولا شك أن ذلك أثر من آثار النصب حين لم يكن الخفض مستعملًا.
- (٨)
أنَّ قسمًا مما يُعتبر اليوم حرف جر كان في أصله فعلًا، مثل: «على»، فإنها مأخوذة من «علا، يعلو»، وكذلك «خلا، وعدا، وحاشا»، وهذه الثلاثة الأخيرة لا تزال إلى اليوم تنصب وتخفض.
- (٩)
ضمائرُ النصبِ والجرِّ واحدةٌ، إلا للشخصِ المتكلم المفرد، فتقول: كتابك، ورأيتك، وكتابه، ورأيته.
الخلاصة أن الاسم لا يكون إلا عُمدة أو فضلة، فالعُمدة أخذت الرفع لأنه أقوى الحالات أو أشرفها كما يقول النحاةُ، والفضلة كانت تُنصب ثم طرأ على بعضها الخفض، أو كانت تُنصب وتُخفض على السواء ثم مالت اللُّغَة إلى النصبِ، ولولا القليل لزال الخفضُ كما زال من الفعل المضارع، والله أعلم.