تطور اللُّغَةِ في ألفَاظِهَا وأسَالِيبِهَا (٢)١
كنت نشرت في أحد أعداد الأربعاء السابقة من جريدة السياسة الغرَّاء في صفحة الأدب منها مقالًا عنوانه «تطور اللُّغَةِ في ألفاظها وأساليبها» تكلمت في آخره عن فرق من فروق كثيرة بين المذهبين القديم والجديد في الكتابة، وهو أن أصحاب المذهب القديم أولعوا بالمترادفات يكيلونها جزافًا على غير حاجة إليها ولا فائدة منها. وقدمت على ذلك مثلًا من رسالة لكاتب كبير لم أذكر اسمه، من ذلك قوله: «أيها الإخوان إن الصارخة القومية، والنعرة الجنسية، قد بدأت مع الأقوام ونشأت مع الأمم، مذ الكيان، ومنذ الاجتماع البشري، وتساكن الإنسان مع الإنسان … إلخ.» فالصارخة هي النعرة، والقومية هي الجنسية، وبدأت هي نشأت، والأقوام هي الأمم، ومُذ الكيان هي منذ الاجتماع البشري، ومنذ الاجتماع البشري هي منذ تساكن الإنسان مع الإنسان.
فأنت ترى أنه ما من كلمة إلا ومرادفتها معها على غير حاجة إليها ولا فائدة منها. ثم قلت إن هذا النوع من الكتابة غير طبيعي، أو غير عربي، أو على الأقل لا يستمرئه ذوق هذا العصر. فلما وصلت جريدة السياسة الغرَّاء إلى ذلك الكاتب الكبير الذي نعرف فضله — وإنْ كُنا ننكر عليه مذهبه هذا — غضب جدًّا، لا لأن انتقادي جاء في غير محله؛ بدليل أنه لم يتصدَّ أحدٌ للرد عليَّ منذ نشرت رسالتي إلى أن تفضل هو بالردِّ عليها، والفترة ليست قصيرة، وبدليل أن جريدة السياسة الغرَّاء — ومكانها في الصحافة الراقية مكانها — قد شرفتني فجعلت مقالي في صدر صفحة الأدب وهو المكان المعد لرسائل الأستاذ طه حسين، ولم يكن ذلك منها إلا لأنها رضيت عن رسالتي، ورأت أن ما شرعت في الكلام عنه من الفروق بين المذهبين القديم والجديد في الكتابة، مِمَّا تمس إليه الحاجة تعزيزًا للمذهب الجديد الذي تدعو هي إليه.
نعم إن الأمير لم يغضب لأن انتقادي المذهب القديم جاء مباينًا لوجه الصواب، وإنما غضب لأني استشهدت بأقواله، ولم أستشهد بها إلا لأني اخترت أن أستشهد بأقوال كاتب كبير يوثق به «أشفقت» أن يقلده غيره في أسلوبه هذا بلا بحث ولا انتقاد.
نعم لم يغضب لأني انتقدت وإنما غضب لأني استشهدت بأقواله، فلو تركته ولم أترك أحدًا من المتقدمين والمتأخرين إلا انتقدته واستشهدت بأقواله، لكان الخطب عنده هينًا، ولكان انتقادي حينئذٍ في محله، ولكفى نفسه مَئُونة هذا الردِّ الطويل العريض، الذي أرجو أن لا يتعجل في الغضب علي إذا قلت إن هذا الردَّ من أوله إلى آخره جاء دليلًا جديدًا على أن الأمير من أصحاب المذهب القديم، وأنه لا يزال مولعًا بالمترادفات على غير حاجة إليها ولا فائدة منها.
وإليك شيئًا من كثير مِمَّا جاء في ردِّه قال: «كلُّ دور من أدوار اللُّغَةِ العربيةِ سواء دور الجاهليين أو المخضرمين أو العهد الأموي أو العصر العباسي أو القرون التي بعده» فالدور والعهد والعصر والقرون مترادفات، أجمل بقوله كل دور من أدوار اللُّغَةِ العربية ثم فصل بقوله: سواءٌ دور كذا أو عهد كذا أو عصر كذا، ثم أجمل بقوله: والقرون التي بعده، لا لأنه يريد الإجمال فالتفصيل فالإجمال، ولكن ليأتي بمترادفاته وقد كان التفصيل على قدر ما عنده من تلك المترادفات. وقال: «فللأندلس منزع ولليمن مذهب ولمصر لهجة وللشام أسلوب وللعراق نمط» فالمنزع والمذهب واللهجة والأسلوب والنمط مترادفات، ولو بقيت لديه بقية من المترادفات ولو من الألفاظ الغريبة المهجورة لقال: ولفلسطين كذا وللسودان كذا ولأهل المدر كذا ولأهل الوبر كذا. وقال: «في كلِّ لُغةٍ وكلِّ منطقٍ.» وقال: «إذا أراد الكاتبُ أن يَجولَ في المواضيع الحديثة والمعاني المستجدة.» وقال: «إن اللُّغَةَ الفرنساوية التي هي أفصح لُغات أوروبا لها أسلوب خاص ونمط قائم بها». وقال: «لإثبات فضله وإظهار طوله.» إلى غير ذلك مِمَّا لو شِئت تتبعه لجاء ردي مثل رده طويلًا عريضًا بل أطول وأعرض … ما قول الأمير — أعزه الله — لو شئنا أن نترجم عباراته هذه إلى لُغةٍ أجنبية، ولم يكن فيها من المترادفات ما في اللُّغَةِ العربية، أفلا نضطر إلى تكرار اللفظ بعينه في غير مواطن تكراره؟ فنقع في عيبٍ حاول الأمير أن يتجنبه بذكر مرادف اللفظ، وإن لم يكن فرق في الحقيقة بين تكرار اللفظ بعينه وتكراره بمرادفه، ثم ما الفائدة من تكرار اللفظ بلفظه أو بمرادفه؟ وليس رده علي كلامًا عن سلطان ولا هو في فتح إذا جاز الإتيان بالمترادفات تكال كيلًا في الكلام عن سلطان أو فتح على رأي الأمير. أما كان الأولى بأدبه وعلمه أن يلزم نفسه قاعدة «خير الكلام ما قلَّ ودلَّ؟» ولكنه يظهر أنه لم يراع هذه القاعدة لا في منشوره الذي «طبعت منه ألوف وألوف من النسخ ليوزع على ملايين وملايين من الأمة العربية في المدر والوبر» أو «الأمة العربية جمعاء في آفاق الأرض ومناكبها ومشارق الشمس ومغاربها» أو «الأمة العربية قاصيها ودانيها وحاضرها وباديها وخاصيها وعاميها» نعم لم يراعِ هذه القاعدة لا في منشوره ذاك، ولا في ردِّه هذا.
إذا كان لكلِّ مقامٍ مقال فما باله — أعزه الله — يجعل المقال الواحد لكل مقام؟! ولست أظن أن كاتبًا كبيرًا مثله يتعذر عليه أن يتنكب هذا الأسلوب من الكتابة لولا أنه ألفه واتخذه مذهبًا في كل ما يكتب سواء أكان منشورًا تقرؤه الأمة العربية جمعاء في المدر والوبر وفي آفاق الأرض ومناكبها … إلخ، أم ردًّا ينشر في صفحة الأدب ولا يقرؤه إلا من يهمه أمره، وقليل ما هم. فصار إذا أمسك القلم انهالت عليه المترادفات كأنه يتناولها عن حبل ذراعه فلا يتركها حتى يجيء على آخرها. وليس هذا أسلوب الأمير، ولكنه أسلوب قديم أكل الدهرُ عليه وشرب، ولعله يتصل بعصر الكُهَّان، وليس الأمير فيه إلا مقلدًا، وإني أعرف كثيرين من أدباء عصر الأمير وخريجي مدرسته وأستاذه ينحون نحوه في الإكثار من المترادفات يكيلونها كيلًا على غير حاجة إليها ولا فائدة منها … ولولا خوفي أن يغضبوا كما غضب الأمير لاستشهدت في هذا المقام بأقوالهم كما استشهدت في رسالتي تلك بأقوال … ما أدراني أنهم هم أيضًا يغضبون عليَّ ولو لم أستشهد بأقوالهم، لأنهم قد يكونون حسبوا أن تعرضي لأحد زعماء مذهبهم تعريض بهم، على أني لم أكتب ما كتبت لأغضب فلانًا وفلانًا، أو كما قال الأمير — أعزَّهُ اللهُ: «لم يكن مقصدي الانتقاد لأجل الانتقاد» ولكن لأقرر مذهبًا جديدًا، فإذا لم يقبلوه فهم وشأنهم، لهم مذهبهم ولي مذهبي.
اعتمد الأمير في ردِّهِ عليَّ على أصول اقتبسها من كلام صبح الأعشى وعلى شواهد اقتبسها من أقوال من يسميهم بلغاء وفصحاء … ويظهر أنه أجهد نفسه ونقب في تضاعيف الكتب كثيرًا. أما الأصول فليسمح لي الأمير أن أقول إنها ليست مِمَّا يصحُّ الاستشهاد به فيما نحن فيه، فهي من وادٍ ومسألتنا من وادٍ، ولولا خوفي أن أمِلَّ القارئَ الكريم، وأن أشغل من صفحة الأدب على حسابي ما لا يجوز لي أن أشغله، لحللت تلك الأقوال وأظهرت أنها لا تعني ما يريد الأمير أن تعنيه؛ لأنها لم تزد على أن للإيجاز مقامًا وللإطناب مقامًا، وقد سبقت فقلت في رسالتي تلك إن للإيجاز والإطناب مواطن وشرائط نصَّ عليها البيانيون أمسكتُ عن ذكرها؛ تأدبًا مع الأمير، ولو فرضنا أنها تعني ما يريد فأرجو أن أُنبه من الأمير غير غافل أننا نتكلم عن مذهب جديد لا مذهب قديم.
انتقدت على الأمير إكثاره من المترادفات على غير حاجة إليها ولا فائدة منها، فأحالني على المواطن التي يكرر فيها الكلام بلفظه أو بمرادفه عن حاجة إليه وفائدة منه. هذا ليس موضع الانتقاد يا سيدي، التكرار لا يكون إلا لنكتة كزيادة التوكيد؛ نحو كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ؛ ونحو: «إن بني هاشم بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم عليًّا فلا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن.» وزيادة التوكيد هذه لا يقتضيها إلا المعاني التي يراد بيان شدتها وعظم تأثر النفس بها. فهل قولك: «إن الصارخة القومية والنعرة الجنسية نشأت مع الأمم وبدأت مع الأقوام مذ الكيان ومنذ الاجتماع البشري وتساكن الإنسان مع الإنسان»، وقولك: «في كل لُغةٍ وكلِ منطقٍ»، وقولك: «إذا أراد الكاتب أن يجول في المواضيع الحديثة والمعاني المستجدة»، وقولك: «لِلُّغة الفرنساوية أسلوب خاص ونمط قائم بها» هل كل ذلك من المعاني التي يراد بيان شدتها وعظم تأثر النفس بها؟
انتقدت على الأمير إكثاره من المترادفات على غير حاجة إليها ولا فائدة منها، فقال إن منشوري للعامة، إن العامة يا سيدي الأمير لا تفهم منشورك، أكثرت فيه من المترادفات أم أقللت. إذا أردت أن تخاطب الجمهور فلا إخالك تنكر عليَّ أنه يجب أن تخاطبه بلغة مفهومة تتجنب فيها مثل قولك: «الشقص الأوفر» إلا إذا كان قصدك أن تنومه لا أن تفهمه. إذا أردت أن تكثر فليس الإطناب إكثارًا، كما أنه ليس الإيجاز اختصارًا، قد توجز مع الإكثار، وقد تطنب مع الاختصار، فإذا أردت أن تكثر فلا دخل للإطناب والإيجاز في إكثارك، وإنما الإكثار أن تضاعف معانيك ما شئت وشاء المقام، لا أن تضاعف ألفاظك على غير حاجة إليها ولا فائدة فيها.
انتقدت على الأمير إكثاره من المترادفات على غير حاجة إليها ولا فائدة منها فأحالني على صبح الأعشى في كلامه على التفاضل بين المساواة والإيجاز والإطناب. ليسمح لي الأمير أن أتجرأ على فضله فأقول: لا تفاضل بينها؛ لأن كلًّا منها غير الآخر ولأن لكل منها محلًّا لا يجوز أن يحل فيه غيره. وأما الكلام الوجيز الذي لا يؤمن وقوع الإشكال فيه، فهذا من الإيجاز المخِلِّ الذي أشار إليه البيانيون، ولا يجوز لعربي أن يعتمده لا مع العامة ولا مع الخاصة …
أما الشواهد التي جاء بها على ذمة راويها دليلًا على أن أسلوبه عربي، فلست أظن أنه يجهل أني لا أعجز عن أن أورد له أضعاف أضعافها لا ترادف فيها ولا تكرار من كلام من يوثَق بعربيته.
كان الأولى بالأمير أن يقول إنه قد ورد في بعض أقوال العرب المنقولة إلينا على ذمة راويها شيء من الترادف، لا أن هذا أسلوب العرب، وإلا فكان يجب — على رأيه — إذا قبل رأس الحكمة مخافة الله، أن يقال ودليل العقل تقوى الخالق، وعنوان الفضل خشية الباري.
أعيذ اللُّغَةَ العربيةَ مِن مثل هذا.