نُتْفَةٌ مِن الشَّواهِدِ على المُتَرَادِفِ
إن هذا ليس بالشيء الذي لا يحصى حتى يُجهد الإنسانُ نفسَه في إحصائِه؛ بل قلَّما أخذتْ يَدُكَ كتابًا عربيًّا إلا وجدت هذا المذهب فيه مستفيضًا يحاول فيه فصحاء العرب تمكين المعنى في نفس السامع، والتأثير على المخاطب بإبراز المُرادِ في صور متعددةٍ، وليس هذا هو من قبيل: لا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن؛ بل هو من قبيل: لا آذن ولا أسمح ولا أرخص، إذا كان المقصود شِدَّة النهي والمبالغة في المنع.
وإنما نأخذ على وجهِ المصادفةِ بعضَ الشواهِدِ من الأولين والمحدثين ليزداد القارئ بصيرة.
وما هي إلا صفات مُبتدئ مُبتدع، وسمات مُنشئ مُخترع.
أنشأ كتابًا ساطعًا تبيانه قاطعًا برهانه.
أفحم به مَن طُولِبَ بمعارضتهِ مِن العربِ العرباءِ، وأبكم به من تحدى به من مصاقع الخطباء، فلم يتصد للإتيان بما يوازيه أو يدانيه واحد من فصحائهم، ولم ينهض لمقدار أقصر صورة منه ناهض من بلغائهم على أنهم كانوا أكثر مَن حصى البطحاء، وأوفر عددًا من رمال الدهناء، إن أتاهم أحدٌ بمفخرةٍ أتوه بمفاخر، وإن رماهم بمأثرةٍ رموه بمآثر.
المثبت بالعصمة، المؤيد بالحكمة، الشادخ الغرة، الواضح التحجيل، النبي الأمي المكتوب في التوراة والإنجيل.
اعلم أن مَتنَ كُلِّ عِلْمٍ، وعمود كل صناعة.
طبقات العلماء فيه متدانية متدانية، وأقدام الصُّنَّاعِ فيه متقاربة أو متساوية، إن سبق العَالِمُ العَالِمَ لم يسبقه إلا بخطًى يسيرة، أو تقدم الصَّانِعُ الصَّانِعَ لم يتقدمه إلا بمسافة قصيرة.
ما في العلوم والصناعات من محاسن النكت والفقر، ومن لطائف معان تدق فيها مباحث الفكر، ومن غوامض أسرار محجبة وراء أستار لا يكشفه عنها من الخاصة إلا أوحدهم وأخصهم.
ثم إن إملاء العلوم بما يغمر القرائح وإنهاضها بما يُبهر الألباب القوارح كثير المطالعات طويل المراجعات.
مسترسل الطبيعة منقادها مشتعل القريحة وقادها.
تمهل في ارتيادهما آونة وتعب في التنقير عنهما أزمنة.
يقظان النفس دراكًا لِلَّمْحَة، وإن لطفَ شأنها، منتبهًا على الرمزة، وإن خفي مكانها، لا كَزًّا جاسيًا ولا غليظًا جافيًا.
قد علم كيف يرتب الكلامَ ويؤلِّف، وكيف ينظم ويرصف.
كثير السؤال والجواب، طويل الذيول والأذناب.
فهز ما رأيت من عطفي، وحرك الساكن من نشاطي.
مع تزاحم ما هو فيه من المشادة بقطع الفيافي وطي المهامه، ووفق الله وسدد. انتهى.
هذا ما قبسناه من كلامِ الإمام جاد الله الزمخشريِّ في مُقدمة الكشَّاف التي لا تزيد على خمس أو ستِّ صحائف، وهذا ما يقول عنه الأديبُ السكاكيني «غير عربي» أو «غير طبيعي»، ومتى أعيته الحيلة في إبطال عروبيته أو تهجين أسلوبه التجأ إلى كلمة «لا يستمرئه ذوقُ هذا العصر.»
إن كان جاد الله الزمخشري لا يعرف أسلوب العرب في الكتابة فمِن العبثِ أن نُنشد هذه الضالةِ عند آخر وإن كان مِمَّن أسميهم أنا وحدي بلغاء وفصحاء ولا يسلم لهم الأستاذُ السكاكيني بالفصاحة والبلاغة فيا ضيعة العرب والعربية؛ لأن الناس سلَّموا للزمخشريِّ بأنه من أقطاب العربية ومثلها العليا.
فانظر كيف لا يجوز لي أنا أن أقول في منشور للجمهور أكثر قرائه من العوام أو مِمَّن شدا شيئًا من العربية «مُنذ وجِدَ الكيانُ وتساكن الإنسانُ مع الإنسانِ» ويجوز للإمامِ الزمخشريِّ أن يقول للخواص الذين يقرءون تفسيرًا مثل الكشاف «مسترسل الطبيعة منقادها مشتعل القريحة وقادها.»
وانظر كيف يسمج قولي «الحظ الأكمل والشقص الأوفر»، ويُستحسن قول الحُجَّة القدوة الزمخشري: «قطع الفيافي وطي المهامه.» وتأمل أي كبيرة ارتكبتُ في قولي: «لها أسلوبٌ خاص ونمطٌ قائم بها»، ومثل الزمخشري مَن يقول: «يرتب ويؤلف وينظم ويرصف» ولا يرى ذلك علماء البيان من الكبائر، وهَلُمَّ جرًّا.
نجتزئ من كلام العامة المشار إليه بهذا القدر عن أن نتتبع هذا النمط في سائر مقالاته.
فعلى مذهبِ الأدبِ السكاكيني لا يكون محل لقول طه أفندي حسين: «وستحب هذا الأمر وترغب فيه»؛ بل كان عليه أن يقول: «ستحب هذا الأمر» ولا يتخطى هذه الجملة في هذا المعنى. وبعد أن ذكر الحزن فلا يجوز إردافه بالكآبة، وكذلك فأي ضرورة للتصنُّعِ بعد قوله «التكلف»، وما هو السائق لقوله «السرور» بعد قوله «الابتهاج»؟ وما هي زيادة المعنى في «سمح طلق سهل القياد»؟ أو في «فرحة» بعد «مبتهجة»؟ ثم لماذ يقول الكاتب العصري صدقي «السخرية» ويردفها ﺑ «الاستهزاء»؟ وكيف يؤكل الطاووس ولا تحتويه المعدة؟ ولماذا يقول «المترفين» بعد قوله «المنعمين»؟ وهلم جرًّا.
ومِمَّن يَصِحُّ الاستشهاد به البيان الصادر عن الوفد الفلسطيني، وأغلب الظن أنه بقلم الأستاذ المعترض نفسه؛ لأنه كاتبُ سرِّ اللجنة التنفيذية، وقد اطلعت عليه في جريدة «الحقيقة» بتاريخ ٢٩ جمادى الآخرة.
فقد جاء فيه: ذلك الماضي الفخم الضخم الذي كانت فيه الأمة العربية … إلخ.
وفي اللُّغة: فخم الشيء فخامة: ضخم، فما هو الداعي إلى إرداف «فخم» ﺑ «ضخم» إذن؟
فنحن في غنى عن إيضاح ما في هذه العبارات من الترادف بدون نكتة جديدة سوى تقوية المعنى في نفس القارئ. ومن سوءِ الحظِّ أننا لم نطلع على شيء من نثر الكاتب المعترض لنحاكمه إلى نفسه من نفس كلامه، وكلُّ ما وقع لدينا من فصوله ومقالاته من بعد أن تعرض لانتقادنا وانتقاد فحول العربية الذين لا نصلح أن نكون من تلاميذهم على استعمال المترادف هو سطور معدودة تجنب فيها جهد الطاقة استعمال المترادف، ولكن الأسلوب العربي غلبه كما مرَّ بك من كلامه؛ إذ ليس قوله الملجأ المنيع بعد قوله الحصن الحصين إلا من الترادف الصرف، والذي يضعف ويذل والذي يذل ينحط والتعلق والإخلاص مترادفان … إلخ. فقد اتبع المذهب الذي أنكره وأعاذ العربية منه. وزعم الأستاذُ في أول مقالةٍ تصدى فيها لهذا البحث أن بعضَ الكُتَّابِ يكيلون المترادف جزافًا ظانين أنهم بذلك يحتذون على مثال أحمد فارس في الساق على الساق مع أن مذهب أحمد فارس في هذا الكتاب هو الإتيان بالمترادف عمدًا لتعليم الألفاظ التي هي في معنى واحد وليس ذلك بأسلوبه في الكتابة إذا لم يقصد هذا الغرض.
فنحن إن شاء المعترضُ نأتي له بمترادف يتراكم منه كتاب مستقل من كلام أحمد فارس في كشف المخبأ وسر الليال والجاسوس على القاموس ومجاميع الجوائب في المواضع التي لا يقصد بها ذلك الغرض لنفسه؛ بل يكتب على عادته ويكفي أن نسرد له المقالة التي أولها: من الناس مَن تخالج صدره من فنون الاقتراح خوالج، وتعالج فكره من شجون الاجتراح لواعج … إلخ.
ومسرور الأستاذ السكاكيني أنَّه بفضلِ إرشادِه قد مصح ما بي من مرض وصرت أتجافى عنه كما ظهر من مقالاتي الأخيرة، ولا عجب أن يقوم الأستاذ أسلة قلمي بعد أن تجاوزت الخمسين لا الأربعين وأن أصير عنده تلميذًا ناجحًا … فقد ورد: اطلب العِلْمَ من المهدِ إلى اللَّحدِ، ولكنه إن كان الله قد تداركني بالتوبة قبل الرحيل فلا أستطيع إلا أن أحزن على أولئك الأعلام من جاهليين ومخضرمين وإسلاميين ومولدين ومتأخرين، ومن خلفاء وصحابة وتابعين، وعلماء وكُتَّابِ وخُطباء ومُصنِّفين كيف جاءوا في فترة لم يقيض الله لهم فيها من يهديهم طريق العربية الصحيحة وماتوا وهم على أغلاطهم.
ولم يقتصر الأستاذ — جزاه اللهُ عني خيرًا — على تثقيف ملكتي في الإنشاء بل تجاوز ذلك إلى النحو، ووقفني على دقائق من هذا الفنِّ لم أكن أعرفها، أفلا تراه كيف نبهني إلى الخطأ الذي أخطأته في إشارتي إلى عليِّ بن أبي طالب — رضي اللهُ عنه — والجاحظ بكلمةِ «هؤلاء» مع أن «هؤلاء» هي للجمع لا للمثنى، فمَن يعرف هذه الدقيقة الجليلة غيره … وفوق كل ذي عِلْمٍ عليم.