القديم والجديد١
أستأذن القارئ الكريم في العودة إلى هذا الموضوع، فقد بقيت فروق بين المذهبين القديم والجديد لا بد من الإشارة إليها استيفاءً للحديث.
التطور ناموس عام، فما من عنصر من عناصر الحياة إلا خاضع له رضينا أم كرهنا، ومَن لا يؤمن بهذا الناموس فقد جهل كثيرًا.
وإذا كنت قد اطلعت على ما كتبه أكابر كتاب مصر الأعلام في المدة الأخيرة حول المذهبين القديم والجديد في الكتابة، فلا بد أن تكون قد رأيت أن اللُّغَةَ خاضعة لهذا الناموس، وأنه ما من سبيل لإخراجها عن حُكمه، إلا أنهم لم يشيروا إلى آثار هذا التطور في اللُّغَةِ إلا عرضًا.
فما هي هذه الآثار؟
من تلك الآثار أن الناس كانوا يميلون إلى الإكثار في الكلام ولو خرجوا إلى الثرثرة لاعتبارات اقتضتها عقليتهم، فصاروا يميلون في هذا العصر الأخير — الذي انتشرت فيه روح الاقتصاد — إلى الإيجاز، كما رأيت فيما دار بيني وبين الأمير شكيب أرسلان من الجِدَال وليس العهد به ببعيد.
ومن تلك الآثار أن الناس كانوا يميلون إلى التكلف في الكتابة فصاروا يميلون إلى الأساليب الطبيعية فيها، كما كانوا يتكلفون في كلِّ شيء فصاروا طبيعيين في كلِّ شيء.
كان القرُّاءُ قبل اليوم يُجوِّدون تجويدًا، أو يستعملون لهجةَ الوعظِ يقلدون بها خطباء المساجد أو رؤساء الكنائس الأجانب، أو يلزمون نغمة واحدة لا يكادون يسفلون فيها أو يعلون. وأمَّا اليوم فإنهم يمثلون المعنى تمثيلًا، وبعبارة أخرى صاروا يقرءُون كما يتحدثون.
كان المغنون قبل اليوم يلزمون في كل حال نغمة واحدة سواء كان الموقف موقفَ حبٍّ أم حماسةٍ أم بكاءٍ، وأمَّا اليوم فإن لكلِّ موقفٍ نغمة تناسبه.
يقال إن عبده الحمولي الموسيقي المشهور طاف ليلة مع بعض أصدقائه على مجالس الطرب، فما كان يجلس قليلًا في أحد تلك المجالس إلا قال لأصدقائه: «قوموا بنا فإن هذا فقهي» أي إن المغنين في ذلك العصر كانوا يُجوِّدُون لا يغنون.
كان الخطباء قبل اليوم يقلد بعضهم بعضًا في إشاراتهم، وكانوا فيها متكلفين، يشير الخطيبُ بيدِهِ إلى الأمَام أو إلى الوراء وليس في كلامه ما يقتضي تلك الإشارة، وأمَّا اليوم فإن الإشارات جزءٌ من اللُّغَةِ تُقوِّي المعنى أو توضحه أو تستدعي الانتباه إليه.
كان الرقص قبل اليوم تفككًا، فكل حركة فيه كانت رقصًا، وأمَّا اليوم فإن الرقص لُغة أخرى تمثل معاني النفس تمثيلًا، وقد يمثلون بالرقص ما لا يمثله كلام. قد يكون في الرقص خشوع، وقد يكون فيه حماسة، وقد يكون فيه حب، وقد يكون فيه بكاء، وقد يكون فيه وعظ.
فأنت ترى من هذا كله أن الناس صاروا يميلون في كلِّ مظاهر الحياة إلى الأساليب الطبيعية، وليس شيء أثقل على الروح في هذا العصر من التكلف.
فالأسلوب الطبيعي للكتابة أن يكتب الإنسان كما يفكر وكما يتحدث، فمَن حاول أن يكتب ما لا يُفكر فيه أو يتحدث به هو أو غيره، وما لا يلائم الحياة في شيء فقد تكلف، قد يكون تفكيره أو حديثه شيئًا وما يكتبه شيئًا آخر، قد يترجم حديثه نفسه وأما كتابته فلا.
إذا أراد الكاتبُ من أصحاب المذهب القديم أن يكتب فلا يستوحي عقله أو قلبه، ولا يستعمل من الألفاظ ما يؤدي مراده ويناسب المقام ويفهمه الناس، ولكنه يستوحي القدماء، يفتش عَمَّا قالوه في موضوعه في كلِّ مظنة فيستعير معانيهم وألفاظهم ويدَّعيها لنفسه. لا تقرأ شيئًا لهؤلاء الكتَّابِ إلا أحسست أن كلَّ لفظةٍ فيه ليست لهم.
كان القدماء يستحسنون «التضمين» وهو أن يأخذ الشاعر أو الكاتب شطرًا من شعر غيره بلفظه ومعناه، و«الاستعانة» وهي أن يأخذ بيتًا كاملًا، و«الإيداع» وهو أن يصرف معنى ما يأخذه من أقوال غيره عن مراد صاحبه، كما فعل الشيخ صلاح الدين الصفدي والشيخ جمال الدين بن نباتة بإعجاز معلقة امرئ القيس متعاتبين، فقال الأول في أول قصيدته:
فأجابه الثاني بقصيدة قال في أولها:
و«الاقتباس» وهو أن يضمن الكاتبُ أو الشاعرُ كلامَه شيئًا من القرآن والحديث.
و«التلميح» وهو أن يشار في الكلام إلى قصةٍ معلومةٍ أو بيتٍ مشهورٍ أو مَثلٍ سائر.
و«العقد» وهو أن يأخذ الشاعرُ كلامًا منثورًا فينظمه بأن يزيد عليه أو يُنقص منه حتى ينطبق على وزن الشعر.
وأما اليوم فإن أصحاب المذهب الجديد لا يميلون إلى شيء من هذا، فإنك لا تجد فيما يكتبونه آية أو حديثًا أو مثلًا أو شطرًا أو جملة من بيت؛ بل لا تجد كلمة ليست لهم أو لا يعنونها.
إذا لم يكن بدٌّ للكاتب أو الشاعر أن يستعير معاني غيره ويستعين بألفاظه فعلى ألا يُسرِف في ذلك، وإلا كان كلامه صدى مرددًا، هذا إذا لم نعده مسروقًا، وعلى أن يكون ما يستعيره من المعاني وما يستعين به من الألفاظ مِمَّا يعنيه، ويقتضيه الحال الذي هو فيه، وإلا فقد يكون ما يعنيه أو ما يقتضيه الحال شيئًا وما يكتبه شيئًا آخر وهذا هو التكلف، بل الجمود، بل النفاق.
إذا قرأ التلميذُ اليوم فتصنع في لهجته فإن الأستاذ يكلفه أن يطوي كتابه وأن يتحدث بما قرأ، والغالب أنه إذا تحدث يرجع إلى لهجته الطبيعية، ثم يكلفه أن يقرأ باللهجة التي تحدث بها.
وما أحرى الكاتب اليوم إذا خشي أن تغلب عليه الكلفة أن يتحدث بما يكتب لنفسه أو لغيره أولًا ثم أن يكتب كما تحدث.
ومَن أحبَّ أن يرى كيف تكون الكتابة حديثًا على سوقه الطبيعي فليقرأ ما يكتبه الدكتور منصور فهمي، والدكتور طه حسين، والأستاذ مصطفى عبد الرازق، والأستاذ سلامة موسى، فإذا قرأهم فكأنه سمعهم يتحدثون.
بل إن أصحاب المذهب القديم أنفسهم على ولوعهم بالتكلف إذا ردوا على منتقديهم كانت كتابتهم أبعد عن الكلفة وأقرب إلى الطبع، كأن الغضب يخرجهم عن الكلفة ويردهم إلى حالتهم الطبيعية.
كان يجب — على رأي هؤلاء المتكلفين — أن يكون هناك كتاب في كلِّ ما يُعرض للإنسانِ من الشئون وما يتمثل له من الخواطر، على حدِّ تلك الكتب الموضوعة في الرسائل التي تبدأ كلُّ رسالة فيها بقولهم: «غب سؤال شريف خاطركم والاستفحاص عن غالي سلامتكم»، فإذا احتاج الكاتبُ منهم أن يشكر أو يُهنئ أو يُعزي أو يَعتب أو يَبث شوقه مثلًا، فما عليه إلا أن ينسخ ما يريد من ذلك الكتاب بلفظه ومعناه ويوقعه باسمه.
وأرجو القارئ الكريم أن لا يكلفني أن أستشهد بأقوال أحدٍ؛ فإني لا أحبَّ أن أفتح عليَّ باب الخصومة.
•••
ومن آثار هذا التطور أنَّ أصحاب المذهب القديم ينزعون إلى الأرستوقراطية في هذا الزَّمان الذي انتشرت فيه الديموقراطية، فصار الكُتَّابُ فيه يكتبون لا للخاصة، ولا لتسلية الأمراء والكبراء أو التملق لهم أو السخر منهم، ولا للتفصُّح أو التمدُّح؛ بل لعامةِ الناس فيما ينفعهم في هذه الحياة.
من تلك الأرستوقراطية أن الكاتب منهم لا يقول فيما يكتب «أنا قلت» «أنا رأيت» بصيغة المفرد؛ بل «نحن قلنا» «نحن رأينا» بصيغة الجمع؛ تعظيمًا لشأنه، ولولا شيء من الحياة لابتدءوا كلامَهُم بالثناءِ على أنفسهم والإشادة بفضلهم، وختموه بقولهم: «مَن يستطيع أن يأتي بمثل هذا؟» على الطريقة البحترية، تعزيزًا لمكانتهم عند العامة، وما أدرانا أنهم يكلفون غيرهم أن يقرظوهم ويعظموهم.
ومنها أنهم يبالغون في التأنق وتخير الألفاظ ولو خرجوا إلى الكلفة بل السخافة، وقد قسموا الكلام إلى رصين ومبتذل أو سمين وهزيل، وما الرصين السمين في عرفهم إلا الغريب المهجور، وما المبتذل الهزيل إلا المفهوم المأنوس. ولا تشيع لفظةٌ على ألسنةِ الناسِ إلا أصبحت عندهم مبتذلة هزيلة لا يليق بأمثالهم أن يتسفلوا إلى استعمالها، وربما امتنعوا عن الكتابة بتاتًا إذا اضطروا أن يكتبوا بلُغةِ الناس.
لا ننكر التأنق؛ فإنه فطرة في بعض الناس، فقد ترى زيدًا على غناه ووجاهته يخرج من بيته في الصباح بدون أن يغسل وجهه، على حين ترى جاره — على فقره وخموله — لا يخرج من بيته إلا نظيف الجسم والثوب حسن الهندام مسرح الشعر. والتأنق دليلُ علوٍّ في النفس وسلامة في الذوق، وهو مدعاة إلى الرقي، ولكن على أن لا يظهر المتأنق أنه متأنق، وبعبارة أخرى أن لا يتأنق لأجل التأنق، وإلا كان دليلًا على سخافة العقل وفساد الذوق، وكان مدعاة إلى التدني.
كما لا ننكر الابتذال، ولكن الابتذال يكون في الجملة لا في اللفظة، فقولهم: «فلان يصطاد في الماء العكر» من الجمل المبتذلة التي لاكتها الأفواه ومَلَّتها الأسماعُ. وأمَّا كلُّ لفظةٍ في هذه الجملة فلا ابتذال فيها، وإلا فكل ألفاظ اللُّغَةِ المستعملة مبتذلة.
يقول هؤلاء الكتَّابُ الأرستوقراطيون إنهم يكتبون للخاصة لا للعامة، ومنهم من يبالغ في أرستوقراطيته فلا تفهمه العامة ولا الخاصة.
وقف خطيبٌ في حفلةٍ أقيمت لتكريم شاعرٍ كبير، وبعد أن قرأ كلمته «المحبرة»، وقد جاء فيها بالغريب وغريب الغريب، التفت إلى الشاعر — وكان جالسًا إلى جانبه — وقال له: «أظن أنه لم يفهم كلامي إلا أنت وأنا»، فقال له الشاعر: «ولا أنا يا سيدي.»
وتراهم إذا كتبوا اضطروا إلى تفسير ألفاظهم في ذيل كلِّ صفحةٍ، وقد يكون التفسير أطول من المتن وأغمض.
إذا كنتم — أيها السادة الأجلاء — إنما تكتبون للخاصة، فلا حاجة إلى هذا التفسير؛ بل لا حاجة إلى كل ما تكتبون. وإذا كنتم تكتبون للعامة فكلِّفُوا خاطركم غير مأمورين واكتبوا بِلُغةِ الناسِ ولكم الأجر.
نفهم أن الكاتبَ قد يضطر إلى كلمة غريبة لا يجد لها مرادفًا في اللُّغَةِ المألوفة فيفسرها، أمَّا أن يترك الكاتبُ الألفاظ المأنوسة والتراكيب السلسة إلى ألفاظ مهجورة بالية وتراكيب معقدة غامضة على غير اضطرار؛ ليدهش الناس ويحملهم على الإعجاب به واستعظام قدره والثناء عليه، فتلك سخافة ليس بعدها سخافة.
ثم لو فرضنا أن هذه الألفاظ الغريبة التي يسميها الأرستوقراطيون «جزلة فخمة»، وأن تلك التراكيب التي يسمونها «أنيقة الديباجة» أصبحت شائعة فماذا يعملون؟ هل يخترعون ألفاظًا وتراكيبَ جديدةً، أم يغضبون كما غضب الصاحب بن عباد على صاحب كتاب الألفاظ فقال: «لو أدركت عبد الرحمن بن عيسى مُصنِّف كِتَابِ الألفاظ لأمرت بقطع يده»، فسئل عن السبب، فقال: «جمع شذور العربية الجزلة في أوراق يسيرة فأضاعها في أفواه صبيان المكاتب، ورفع عن المتأدبين تعب الدرس والحفظ الكثير والمطالعة الكثيرة الدائمة.»
لم تغضب أيها الصاحب بن عباد على عبد الرحمن بن عيسى لأنه رفع عن المتأدبين تعب الدرس والحفظ الكثير والمطالعة الكثيرة الدائمة، وإنما غضبت لأنه حاول أن يجعل من صبيان المكاتب وعامة المتأدبين أرستوقراطيين مثلك، وليس شيء أثقل وأشد على الأرستوقراطي من أن يدانيه أحدٌ من العامة.
لقد أحسن عبد الرحمن بن عيسى في تقريب منال اللُّغَةِ من المتأدبين، فهو يستحق على ذلك الشكر الجزيل، ولكنه أساء من حيث لا يدري؛ إذ قيَّدَ أقلامَ الكُتَّابِ بعده بتلك الألفاظ التي جمعها، فلم يحيدوا عنها، وإذا استعمل أحدٌ غير ألفاظه قالوا هذا ليس عربيًّا، فكان كتابه هذا أول عهدِ اللُّغَةِ العربيةِ بالجمودِ والتكلُّفِ.