اللغة العربية في نهضتها الأخيرة١
لم تستيقظ الأمةُ العربية مُنذ جيلٍ أو أقل من سُباتها الطويل، إلا وقد انقطع عهد الألسنة باللُّغة الفصحى، ولم يبق من صِلةٍ بين الأمةِ والسلفِ الصالح إلا ألفاظٌ قليلةٌ تبدَّلتْ مقاطِعُها وتغيَّرتْ هيئاتُها، وإلا تعبيرات مشوشة مختلة.
ولو أن داعيًا دعا في ذلك العهد إلى استبدال اللُّغَةِ العامية من الفصحى، واعتمادها في الكتابة لم يجد من يُنكر عليه ذلك؛ لأن الأمة بأسرها كانت غريبة عن اللُّغَةِ الفصحى وآدابِها، فكيف تتعصب لها وتذود عنها وهي لا تعرفها؟ وفوق ذلك لم يكن التعليم في يدها، بل كان في يد غيرها.
ولكن من حسن حظ هذه اللُّغَةِ أن جعل التعليم بها، وكان أول ما فعله أولئك الرؤساء الغرباء الكرام أن جمعوا ما وصلت إليه أيديهم من الكتب العربية — وكانت مبعثرة هنا وهناك لا يعرف أحدٌ قيمتها — وأوعزوا إلى من استعانوا بهم من الأساتذة أن يتصفحوها ويستقروا ألفاظها، ويستخرجوا مخبآتها بحيث كانت النهضة لأول عهدها لُغوية.
ومَن تصفَّح أولَ ما وُضِعَ مِن الكُتب المدرسية في اللُّغَةِ والرياضيات والجغرافيا والهيئة والطبيعيات والطب وسائر الفروع؛ رأى مِن صُنعِ أولئك المؤلفين أنهم حرصوا كل الحرص على اقتباس ألفاظ القدماء العلمية والفنية، ومع تقصيهم في التنقيب والاستقراء لم ينزلوا من اللُّغَةِ العربية منزلة أهلها؛ بل كانوا منها مكان الغرباء عنها، عرفوا الشيء الكثير من ألفاظها وتراكيبها وأحكامها، ولكنهم لم يحسنوا استعماله واستثماره، فكنت ترى كتاباتهم خليطًا من الفصيح والركيك، والجيد والرديء، فالفصيح والجيد مِمَّا ينسخونه، والركيك والرديء مِمَّا يمسخونه؛ بل ما كان أشبه اللُّغَةِ الفصحى عندهم باللُّغة اللاتينية أو اليونانية عند الغربيين اليوم؛ يأخذون منهما ألفاظهم العلمية والفنية وهم غرباء عنهما، وهما ميتتان عندهم.
لم يكن هناك عِلم لُغةٍ أو أدبٍ أو شعرٍ؛ إذ لم يكن اللُّغوي لُغويًّا إلا على قدر ما يَعِي في صَدْرِه من ألفاظ اللُّغَةِ وغَرَائِبِها وشوارِدِها، فكان أشبه بالحُفَّاظِ والرواة منه بالعلماء، ولم يكن الأديب أديبًا إلا على قدر ما يغير على ألفاظ المتقدمين فيسردها سردًا ويكيلها جزافًا، فكان أبرعهم في الأدب مَن إذا كَتب في موضوعٍ نسخ كلَّ كلمةٍ فيه من كلام متقدمي الأدباء والكتَّاب، ولو سلخ في تفقد اللفظة والتفتيش عنها في مظانِّها الأسبوع والأسبوعين، فإذا أراد أن يقول: «رجع فلان خائبًا» قال: «رَجَعَ بِخُفَّيْ حُنَيْن»، وإذا أراد أن يقول: «ليس لفلان في الأمر دخل» قال: «لا ناقة له فيه ولا جمل»، وإذا أراد أن يقول: «إن فلانًا استقصى أطراف علم كذا» قال: «ملك عنانه وقياده ورسنه» و«له فيه القدح المعلى»، و«إليه تُشد الرحالُ وتُضرب أكباد الإبل»، وإذا أراد أن يقول: «إن هذه المسألة لا يَختلف فيها اثنان» قال: «لا ينتطح فيها عنزان»، وإذا أراد أن يقول: «إن فلانًا يشبه فلانًا» قال: «حذوك التمرة بالتمرة، والقذة بالقذة، والغراب بالغراب، والنعل بالنعل»، وإذا أراد أن يقول: «إن فلانًا منقطع النظير» قال: «فلان قريع وحده» إذا مدح، و«جحيش وحده» إذا ذمَّ، وإذا هنأ بزواج قال: «بالرفاء والبنين»، وإذا رثى قال: «انقض عليَّ نعيُ فلان انقضاض الصاعقة» و«ثل بموته عرش المجد ونضب معين الأدب»، وإذا وصف قومًا بالإطراق والتفكير، قال: «كأن على رءوسهم الطير»، إلى غير ذلك.
والكلمة التي لا يعرف لها قائلًا لا يتنازل إلى استعمالها ولو وردت في كلِّ مُعجمات اللُغة؛ بل كان من الأدباء ولا يزال منهم إلى اليوم مَن إذا أراد أن يستعمل كلمةً بَحَثَ عن عمرها فإذا لم يُربِ على ألفي سنة أو ألف على الأقل فلا يستعملها؛ بل كان منهم ولا يزال كثيرون إلى اليوم مَن إذا جاء بكلمة أتبعها بمرادفاتها على غير اقتضاء ولا مناسبة؛ تبجحًا بكثرة محفوظه وسِعة معرفته. وقد وقع في يدي من عهد قصير كِتابٌ لكاتبٍ مِن أمثالِ هؤلاء الكُتَّاب لم ترد فيه كلمةٌ إلا ومرادفاتها معها، مِن ذلك قوله: «فلان قصيُّ مدى البصر بعيد مرمى النظر»، وقوله: «لسنا بغاة نصفة ولا عفاة معدلة»، وقوله: «لم نرَ إلا رجلًا مغشيًّا بالغل محنيًّا على الضغينة»، بحيث لو حذفت المترادفات منه لم يبق منه إلا الربع أو الخمس أو أقل، بل كان منهم ولا يزال كثيرون إلى اليوم من أولع بالغريب، فإذا رأى أن كلمة «ورق» مثلًا شائعة معروفة استعمل كلمة «قرطاس»، فإذا شاعت استعمل كلمة «كاغد»، فإذا شاعت استعمل كلمة «مهرق»، فإذا شاعت ولم تبق لديه أو في اللُّغَةِ كلمة غريبة بمعناها؛ تحاشى الكلام في موضوع له علاقة بالورق؛ بل قد يهجر الكتابة بتاتًا إذا كلف أن يكتب بلغة الناس … وقد بلغ من تهافت كاتب في مصر في الجيل العشرين على الغريب أنه قال في كتاب ترجمه عن الإفرنسية: «خِرِّيت سبروت هذه الفكرة هو فولتير» أي: صاحب هذه الفكرة هو فولتير.
أعوذ بالله وأعيذ اللُّغَةَ العربية من مثل هذا، فأنت ترى أن الأديب كان أشبه بالناسخ بل بالماسخ منه بالأديب.
لم يكن الشاعر شاعرًا إلا إذا قلد المتقدمين من الشعراء في المديح والهجاء والتشبيب والرثاء وغير ذلك من أبواب الشعر في ألفاظهم وأساليبهم، فكان أشبه بالوزان منه بالشاعر؛ بل بالصدى منه بالصائت المحكيِّ.
وعلى الجملة لم يكن هناك علماء وأدباء وشعراء بل حُفَّاظ ورُواة ونُسَّاخ ووَزَّانُون، وكلهم مقلدون، والتقليد كما رأيت لا يكون في أوله إلا مشوشًا ثم يصير إلى الإجادة والإتقان، وقد رأينا مِن الكُتَّابِ في العهد الأخير ولا تزال منهم طائفة إلى اليوم مَن إذا كتبوا أحسنوا التقليد وجروا على مناحي العرب، كأنهم من سلالة صاحب الأغاني أو العقد الفريد أو الكامل، أو كأنهم الجاحظ وابن المقفع والزمخشري وبديع الزمان الهمذاني والحريري بُعِثوا في هذا العصر.
ولكن التقليد تقليد؛ سواءٌ أكان مشوشًا أم متقنًا، والمقلد مهما أجاد وأتقن فإنما هو غريب دخيل، وما زمن التقليد في حالتي التشويش والإتقان إلا زمن تعلم وتحصيل لا زمن ابتكار واستثمار.
وقد كان من فائدة هذا التقليد أن تجدد عهد الفصاحة، ولعمري إنها لفائدة عظيمة يستحق عليها كل من اشتغلوا باللُّغة الثناء الطيب ولو كانوا مقلدين، لم تكن للأمة لغة فصارت لها لُغة، وإنها لَلُغةٌ غنيةٌ، ولم تكن لها أدبيات فصارت لها أدبيات، وإنها لأدبيات راقية، وما إحياء لُغة انقطع عهد الألسنة بها منذ أمد بعيد، وما إحياء أدبيات كاد يعفيها الزَّمان؛ بالمطلب السهل الذي يتم في زمن قصير مثل هذا الزَّمن الذي مضى منذ أول هذه النهضة إلى اليوم، لولا هِمَّةُ أولئك الأبطال زعماء النهضة، وما رزقوا من الذكاء والجلد، وهيهات أن يجود الزَّمان بمثلهم، يكفيهم فضلًا أنهم وصلوا ما انقطع من سلسلة نسبتنا إلى السلف الصالح، وأنزلونا منهم منزلة الأبناء من الآباء، بعد أنْ كُنَّا أدعياء لا أصل لنا ولا فصل. ولم يبق لنا بعد أن اجتزنا دوري التقليد — أي دور التشويش ودور الإتقان — إلا أن ننزل من اللُّغَةِ منزلة أبنائها منها.
فعَالِمُ اللُّغَةِ اليوم لا تقاس معرفته بما وعى من ألفاظِ اللُّغَةِ وشواردها وغرائبها، ولكن بما عرف من أصولها وخصائصها، والأديب ليس ذلك الذي إذا كتب استعار ألفاظ غيره؛ سواءٌ أرادها أم لم يردها، ناسبته أم لم تناسبه، ولكن هو الذي يتصرف بألفاظ اللُّغَةِ كما كان يتصرف بها أبناؤها، فكلُّ كلمةٍ يقولها هي له تُترجِم عمَّا في نفسه. والشاعر ليس ذلك المُقلِّد الوزَّان، ولكنه هو الذي يصدر فيما يقوله عن وحي طبعه وإلهام خياله، يتحكم بلفظه لا يتحكم لفظه به … ويسرنا أن نقول إن في مِصر اليوم من أنصار هذا المذهب الجديد عددًا ليس بقليل، ونمسك القلم عند هذا القدر ولعلنا أطلنا.