لغة الجرائد١
مع انتشار صناعة القلم، وإحسان الكثيرين من كُتَّابِنا الألبَّاء مَلَكَة اللُّغة، وإتقانهم عُلوم اللِّسان، لا نزال نرى حتى في كلامِ الراسخين في اللُّغَةِ والإنشاءِ شذوذًا عن القياس أو السماع في ألفاظ اللُّغَةِ وأحكامِها وتعلقًا بأساليب وتراكيب لا يحكمها طبعٌ، ولا يُعينها ذوقٌ، ولا تلائم الحياة، ولا تنطبق على ما تقتضيه الحالة، مِمَّا تدعو معه الحاجة إلى أن يكون هناك من الجهابذة المحققين من يتفرغ لإصلاح الخطأ، والإهابة بالكتَّاب إلى اتباع المنهج السديد … فإن الاستمرار على ذلك والتهاون به مِمَّا يفسد اللُّغَةَ ويَذهب برونقها.
فهل لجريدة السياسة الغرَّاء أن تُعنَى بِسَدِّ هذه الحاجة ورأيها موفق وهمتها عالية.
•••
ولعل القارئ الكريم يذكر أن علَّامتنا المرحوم الشيخ إبرهيم اليازجي صاحب مجلة «الضياء» كان أول مَن تصدى للتنبيه على الغلط، فأنشأ في ذلك الفصول الطوال في مجلته في لُغة الجرائد، وفصولًا أخرى في أغلاط العرب وأغلاط المولدين؛ مِمَّا يجدر بكل أديب الرجوع إليه والاستبصار به. وقد مات — رحمه الله — وفي نفسه حزازات من لُغةِ الجرائد، كما مات قبله الفرَّاء وفي نفسه شيء من «حتى». وقد حاول المَجْمَعُ العلميُّ في دمشق في المدة الأخيرة أن يخلفه فلم يزد على تكرار ما قاله، وكان الأولى به أن يُعيد نشر مقالات شيخنا اليازجي ويكفي نفسه مئونة هذا العناء.
ومن العجب أن ترى الأغلاط التي نبَّه عليها لا تزال متفشية إلى اليوم.
•••
وهنا أتطفل على القارئ الكريم بإيراد شيء — على سبيل المثال — من تلك الأغلاط التي لا يخلو منها كِتابٌ أو جريدةٌ، وبذكر بعض تلك التراكيب والأساليب التي أرى أن الأجدر بنا أن نتجافاها، ولا سيما ونحن ندعي أن اللُّغَةَ العربية لُغتنا، وأننا نزلنا منها منزلة أبنائها، وأترك التبسط في ذلك كله إلى أربابه.
من تلك الأغلاط قولهم: «فلان كفؤٌ لهذا الأمر» أي: أهل له أو قوَّام به، وهو من ذوي الكفاءَةِ بالهمز، وإنما الكفؤ النظير، تقول: هو كفؤ لفلان أي: معادل له، والكفاءة المصدر من ذلك، تقول: لا كفاءة بيننا. وأما المعنى الذي يريدونه فهو من معاني «كفى» المعتل، يقال: استكفيته أمرَ كذا أي: كلفته القيام به فكفانيه، وهو كافٍ لهذا الأمر وكفيٌّ له أي: قوَّام به، وهو من أهل الكفاية.
وقولهم: «أمكن له أن يفعل كذا، ولا يمكن له أن يفعل كذا» يعدونه باللام وهو متعدٍّ بنفسه.
وقولهم: «عودته على الأمر وتعود عليه واعتاد عليه»، والصواب حذف الجار في الكل.
وقولهم: «أمرٌ هامٌّ» بصيغة الثلاثي، والأفصح: «مُهِمّ» بالرباعي.
وقولهم: «هل سنفعل كذا؟ وهل سيؤدي هذا إلى كذا؟» يريدون النصَّ على الاستقبال في الفعل فيأتون بالسين بعد «هل»، وهو خطأ؛ لأن «هل» إذا دخلت على المضارع خصصته للاستقبال مثل السين، وحينئذ يجتمع حرفان لمعنى واحد، والصواب حذف السين.
وقولهم: «هل لا يجوز أن يكون الأمر كذا؟ وهل لم تزر زيدًا؟ وهل ليس عمرو في الدار؟ وهل إذا فعلت كذا كان كذا؟» فيدخلون «هل» على النفي والشرط، والصواب استعمال الهمزة في كل ذلك.
وقولهم: «حديث مستفاض»، ومنه قول أبي تمام:
والصواب: حديث مستفيض أو مستفاض فيه.
وقولهم: «سواءٌ عليه فعل كذا أو كذا»، والصواب: فعل كذا أم كذا، وقد لحن في «المغني» قول الفقهاء: سواءٌ كان كذا أو كذا.
وقولهم: «قرأت هذا في صحيفة كذا من الكتاب»، يعنون الصفحة، وهي أحد وجهي الصحيفة، وإنما الصحيفة الورقة بوجهيها، ومنه قول السياسة وغيرها «صحيفة الأدب» و«صحيفة السيدات» وليس هناك إلا صفحة واحدة.
ومن ذلك تأنيث البلد، وأبشع منه تأنيث الرأس، والصواب التذكير فيهما، ومنه تذكير السن والصواب تأنيثها، ومنه «رجل عجوز» ولفظة «عجوز» من الصفات الخاصة بالمرأة، إلى غير ذلك مِمَّا ليس من غرضنا تتبعه وتعداده من إنزال الكلمة في غير منزلها، واستعمال صيغة في موضع صيغة أخرى، أو حرف جرٍّ في موضع حرف جرٍّ آخر، مِمَّا نراه كل يوم في جرائدنا حتى في أكبرها وأرقاها، ولا يجوز السكوت عنه.
أما التراكيب التي ورثناها عن الأجيال الماضية ولم يبق مسوغ لها في عصرنا هذا؛ إما لهجنتها، وإما لأنها لا تنطبق في شيء على حياتنا، فكثيرة.
من التراكيب المستهجنة قولهم: «رفع فلان عقيرته» أي: صوته، والعقيرة: الساق المقطوعة، وليس في هذه المادة ما يدل على الصوت، وإنما الأصل في ذلك أن رجلًا قطعت إحدى ساقيه فرفعها ووضعها على الأخرى وصرخ، فقيل بعدُ لكل رافع صوته: قد رفع عقيرته.
ومن ذلك قولهم: «كأن على رءوسهم الطير» أي: ساكنون هيبةً، وأصله فيما يزعمون أن الغراب يقع على رأس البعير فيلقط منه القراد فلا يتحرك البعير؛ لئلا ينفر عنه الغراب، وغير ذلك … ومن التراكيب التي لا تنطبق على حياتنا قولهم: «ألقى فلان عصا التسيار» و«فلان تُشدُّ إليه الرحال، وتضرب إليه أكباد الإبل»، و«ملك عنان الأمر وقياده»، و«له فيه القدح المعلى»، وهل للعصا والرحال والإبل والأعنة والمقاود والقداح دخل في حياتنا؟
يقولون إن اللُّغَةَ مرآةُ الأمَّةِ، وسِجِلُّ تاريخها، وصورةُ أحوالِها في كلِّ أدوارها، بحيث إن مَن تفقد ألفاظَها، وتدبَّر معانيها واستقصى تاريخَها، وجد فيها آثارًا تدلُّ على ماضي الأمَّةِ وتطورها مِن حالٍ إلى حال، كما تدلُّ الأحافيرُ والعَادِيَاتُ على حالةِ الأُمَمِ الغابرة. ولكن ما لنا لا نزال نستعمل لُغة البداوة، وقد انفسح بيننا وبينها الأمدُ، وانقطعت بيننا كل صلة؟! وإذا تفقد الناس في المستقبل البعيد لغة هذا العصر أفلا يقولون إننا كنا في الجيل العشرين عصر الحضارة الراقية عصر السيارات والترامات والطيارات والسكك الحديدية بدوًا رحلًا، وافقنا الوحش في سكنى مراتعها، وخالفناها بتقويض وتطنيب كما قال المتنبي؟!
لا تكون لُغة حَيَّة إلا إذا انطبقت على حياة الأمة التي تستعملها، وما استعمال لُغة البداوة في عهد الحضارة إلا من قبيل إنزال الشيء إحلال غير محله.
ثم إن هناك تراكيب أخرى لاكتها الأفواه حتى كادت تمجها، ومع ذلك لا نزال حريصين على استعمالها، لا نتحول عنها يمنة أو يسرة، من ذلك قولهم: «نشد فلان ضالته»، و«هذه هي الضالة المنشودة»، و«فلان يصيد في الماء العكر» و«تلك حال تنذر بالويل والثبور وعظائم الأمور»، و«مزق فلان فروة فلان ونحت أثلته» مِمَّا أجتزئ منه بهذا القدر.
أمَّا الأساليب فيحتاج الكلام عنها إلى مقالة برأسها نرجئها إلى فرصة أخرى.
تطور الصحافة٢
إنَّ صحافةَ كل أمَّةٍ تابعة لها، لا تجد صحافة راقية في أمَّةٍ منحطة، ولا تجد صحافة منحطة في أمَّةٍ راقية. ومَن قابل صحافة اليوم بما كانت عليه إلى عهد قريب رأى أنها قد دبت فيها الحياة، وأخذت تترقى يومًا فيومًا تبعًا لنهوض الأمة وتطورها.
- (١)
نزل إلى ميدان الصحافة كبار الناس أصحاب الجاه العريض والثروة الطائلة من زعماء السياسة، يستعملونها للتبشير بمذاهبهم، ينفقون عليها عن سعة، فصارت أكثر الصحف تعيش على أصحابها، بعد أن كان أصحابها يعيشون عليها؛ بل يبتذلونها في سبيل التعيش والتكسب، فأثرى القليلون، وأدركت الكثيرين حرفة الأدب.
- (٢)
جعلت الصحافة تُعنى بالعلم والأدب عنايتها بالسياسة، فكانت السياسة سببًا لترويج العلم والأدب، وكان العلم والأدب سببًا لترويج السياسة، فهي أولٌ وهما المحل الثاني أو هما أولٌ وهي المحل الثاني.
وقد كانت جريدة السياسة الغرَّاء في طليعة هذا الدور، فهي تعيش على أصحابها، وفيهم أصحاب الجاه العريض والثروة الطائلة، وهي تبحث في السياسة والعلم والأدب والاجتماع وغير ذلك، وفيها من الكُتَّابِ من أصحابِ مذهبها مَن انتهت إليهم الرياسةُ في صناعة القلم؛ مِمَّا اضطر غيرها إلى متابعتها فاختارت هذه الدكتور منصور فهمي، وغيرها المازني، وغيرها العقاد، وخصَّصت بعضها صفحة في الأسبوع للأدب، وأخرى للألعاب الرياضية، وأخرى لغير ذلك. فنهضت الصحافة بأولئك الزعماء وهؤلاء الكتَّاب إلى مستوى راقٍ تتراجع دونه سوابق الهمم … كان الكاتب الواحد يتولى بنفسه كتابة الجريدة من أولها إلى آخرها، فيضطر إلى السرعة ويرضى بما يجيء لا بما يجب، وإذا تولاه الفتور أو أخذه الإعياء شغل القسم الأكبر من جريدته بفضول القول ومستهجن البحث، فصار اليوم لأكثر الجرائد كتابٌ عديدون، قد لا يصيب الواحد منهم في الأسبوع غير مقالة واحدة يتبسط فيها ما شاء علمه وأدبه.
وكانت الجريدة الواحدة لا تعنى إلا بالسياسة على غير علم ولا حنكة فَتُبْرِم قراءها، فأصبحت اليوم معرضًا لشتى الأغراض مما ينفع الناس ويهمهم الاطلاع عليه.
كانت أكبر جريدة قبل اليوم ذات أربع صفحات يشغل القسم الأكبر منها الإعلانات، فأصبحت اليوم ذات ثماني صفحات كبيرة لا تشغل الإعلانات منها قسمًا كبيرًا.
وأمَّا القراء فقد كانوا قبل اليوم يكتفون من قراءة الجريدة بإمرار النظر، ولا يقرءون شيئًا إلا أدركهم الضجر، فصاروا اليوم يراقبون وقتها مراقبة المشوق المستهام، ولا يقرءونها إلا بتدبر واهتمام، ولو كانت سياستها على غير مذهبهم، ولعل الناس لا يقرءون اليوم غير الجرائد.
ولا بُدَّ أنْ يَقِلَّ عددُ المتطفلين على الكِتابة بعد اليوم، ولا بُدَّ أنْ يرتقي ذوقُ القرَّاءِ فلا تقرأ جريدة لا يشترك في كتابتها صاحب كفاية.
لن يكتب بعد اليوم في السياسة إلا الاختصاصي في السياسة، ولن يكتب في الأدب إلا الاختصاصي في الأدب، ولن يكتب في العِلم إلا الاختصاصي في فرعٍ من فروعه، ولن يكون صاحب كفاية إلا مقدورًا قدره.
ومتى كان أصحاب الكفايات وكبار السن هم أساتذة الأمة وزعماءها، سارت في طريقها على هدى إلى الأحسن والأعلى، إلا أن هناك موضعَ نظرٍ لا بُدَّ مِن الإشارةِ إليه استيفاءً للحديث.
يظهر أن الصحفَ اليومية على ارتقائها لا تحتمل متابعة البحث في موضوع واحد أو التقصي فيه، ومن تتبع آثار الأستاذ طه حسين في جريدة السياسة الغرَّاء، رأى أنه طرق أبحاثًا كثيرة طريفة لم يسبقه إليها أحدٌ في اللُّغَةِ العربية، وكلها تشفُّ عن بصيرةٍ نَيِّرَةٍ وعِلْمٍ نضيج؛ بل تدل على أنه أكتب مِمَّا يُكتب وأعلم مِمَّا تَقرأ له، لا تقرأ له شيئًا إلا تركك تشعر أن الذي قرأته ليس إلا قليلًا من كثير، على حين لا تكاد تقرأ شيئًا لكثيرين غيره إلا شعرت أن ما قرأته هو كل ما عندهم؛ بل أكثر مِمَّا عندهم؛ بل قد تشعر أنهم قد عدوا طورهم وتعرضوا لما ليس من شأنهم أو اختصاصهم، وأنه كان الأولى بهم أن لا يتعرضوا له.
ولكن الأستاذ على إعجاب القراء بكل ما يكتب، وتطلعهم إلى المزيد منه، لا يكاد يتناول بحثًا إلا طواه إلى غيره فغيره، ولا يعود إلى بحثه الأول إلا بعد أن يعتقد القراء أنه لن يعود إليه، وقد يكتفي من البحث بما لا يرضيه، وعذره أنه يكتب في صحيفة يومية، فلو ألَّفَ كِتابًا أو كَتَبَ في مجلة علمية لكانت أبحاثه أوفى، مِمَّا يجوز معه أن يقال إن العِلمَ في الصحف اليومية هو في المحل الثاني، وإن السياسة هي في المحل الأول. وإن الصحافة لم تُعْنَ بالعِلم إلا خدمةً للسياسة، إغراءً للقراءِ على اختلاف مذاهبهم بالإقبال عليها، واستدراجًا لهم من حيث يشعرون ولا يشعرون إلى انتحال مذهبها. ولم يكن هذا التنقل في البحث على غير استيفاء ولا استقصاء إلا لأنه أشوق للقراء وأدعى لاهتمامهم، فيكون مثل الصحافة اليوم مثل المبشرين بالدين يؤسسون المدارس ويقيمون المستشفيات ويعنون بالألعاب الرياضية، لا للتعليم ولا للعناية بالمرضى ولا لترويج الألعاب الرياضية، ولكن تذرعًا بذلك كله إلى نشر الدعوة.
إن استخدام العِلم للسياسة ينفع السياسة، ولكن لا يرقي العلم بل يحط من شأنه.
لِتَشْتَغِل الصحافةُ بالسياسةِ، ولِيدْعُ كُلٌّ إلى مذهبه، ولكن لِتعطِ العِلْمَ والأدبَ حَقَّهُما، ولتُجِلَّهُمَا عن أن يكونا وسيلة في يد السياسة.