الفصل الأول
(١) «حَبُّ الرُّمَّانِ»
عاشَ فِي قَديمِ الزَّمانِ، مَلِكٌ عَظِيمُ الشَّأنِ، اسْمُهُ «حَبُ الرُّمَّانِ». وَكانَ الْأَخْيارُ يُحِبُّونَهُ وَيحْتَرِمُونَهُ لِعَدْلِهِ وَطِيبَتِهِ، وَالْأَشْرارُ يَخافُونَهُ ويَرْهَبُونَهُ لِحَزْمِهِ وَقُوَّتِهِ. وَكانَتْ زَوْجُهُ الْمَلِكَةُ «لُؤْلُؤَةُ» مِثْلَهُ بَراعَةً وَعَقْلًا، وَطِيبَةً وَعَدْلًا، وَسَماحَةً وَفَضْلًا.
(٢) «الشَّقْراءُ»
وَقَدْ رَزَقَهُما اللهُ — سُبْحانَهُ — أَمِيرَةً صَغِيرَةً، أُشْرِبَ بَياضُ وَجْهِها بِحُمْرَةٍ صافِيَةٍ؛ فَأَطْلَقا عَلَيْها لَقَبَ «الْأَمِيرَةِ الشَّقْراءِ».
وَكانَ شَعْرُها الْبَديِعُ الْأَصْفَرُ مَضْرِبَ الْمَثَلِ فِي الْجَمالِ، وَقَلْبُها الطَّاهِرُ مَضْرِبَ الْمَثَلِ فِي الطِّيبَةِ والسَّماحَةِ. وَكانَتْ — إلَى ذَلِكَ — آيَةً فِي حُسْنِ الْمُحاضَرَةِ، وَبَدِيعِ الْمُسامَرَةِ، وَلُطْفِ الْمُعاشَرَةِ.
وَكانَ مِنْ سُوءِ الْحَظِّ أَنْ قَضَتِ الْمَلِكَةُ «لُؤْلُؤَةُ» نَحْبَها — بَعْدَ أَشْهُرٍ قَلِيلةٍ مِنْ مِيلادِ «الشَّقْراءِ» — وَخَلَّفَتْها يَتِيمَةً. فَجَزِعَ الْمَلِكُ «حَبُّ الرُّمَّانِ» لِفَقْدِها، وَطالَ حُزْنُهُ وَبُكاؤُهُ عَلَيْها.
وَلَمْ تَشْعُرِ «الشَّقْراءُ» بِفَقْدِ أُمِّها حِينَئذٍ، وَلَمْ تَدْرِ بِالْخَسارَةِ الْفادِحَةِ الَّتِي مُنِيَتْ بِها. وَلَها الْعُذْرُ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ طِفْلَةً فِي مِثْلِ سِنِّها لا يُمْكِنُ أَنْ تَشْعُرَ بِما حَوْلَها. فَلا عَجَبَ إذا قَضَتْ أَيَّامَها ضاحِكَةً مُسْتَبْشِرَةً، وَلَمْ يَشْغَلْها ذَلِكَ الرُّزْءُ الْفادِحُ عَنِ الرَّضاعَةِ الْهَنِيَّةِ، والنَّوْمِ الْهادِئِ الْمُطْمَئِنِّ.
وَكانَ «حَبُّ الرُّمَّانِ» يُحِبُّ طِفْلَتَهُ الْحُبَّ كُلَّهُ، كَما كانَتِ الطِّفْلَةُ مَشْغُوفَةً بِأَبِيِها شَغَفًا لا نَظِيرَ لَهُ.
وَكانَ الْمَلِكُ يُهْدِي إِلَيْها أَجْمَلَ اللُّعَبِ، وَأَفْخَمَ الْمَلابِسِ، وَأَطْيَبَ الْفاكِهَةِ. وَكانَتِ السَّعادَةُ تَغْمُرُها، وَأَسْبابُ الْهَناءَةِ تَحُوطُها مِنْ كُلِّ جانِبٍ.
(٣) «سُمَيَّةُ»
وَلَمْ تَمْضِ سَنَتانِ حَتَّى اجْتَمَعَ رَأْيُ الشَّعْبِ عَلَى تَزْوِيجِ الْمَلِكِ، رَجاءَ أَنْ يَكُونَ لَهُ غُلامٌ يَخْلُفُهُ فِي مُلْكِهِ.
فَحَزِنَ الْمَلِكُ لِهَذا الْقَرارِ، وَقابَلَ هَذا الْإجْماعَ — أَوَّلَ الْأَمْرِ — بِالرَّفْضِ، وَفاءً لِزَوْجِهِ الرَّاحِلَةِ، وَبِرًّا بِابْنَتِها «الشَّقْراءِ».
ثُمَّ انْتَهَى إلَى الْقَبُولِ والْإذْعانِ نُزُولًا عَلَى إرادَةِ شَعْبِهِ، وَتَحْقِيقًا لِرَغْبَتِهِ؛ فَقالَ لِوَزِيرِهِ «عِمادٍ»: «لَقَدِ اجْتَمَعَ رَأْيُ الشَّعْبِ — أَيُّها الصَّدِيقُ الْعَزِيزُ — عَلَى أَنْ أتَزَوَّجَ. وَقَدْ تَرَكْتُ لَكَ أَنْ تَخْتارَ مَنْ تَأْنَسُ فِيها الطِّيبَةَ وَكَرَمَ النَّفْسِ مِنَ الْأَمِيراتِ. فَلَيْسَ يَعْنِينِي — مِنَ الزَّوْجِ الْجَدِيدَةِ — إلَّا أَنْ أَثِقَ بِأَنَّها لَنْ تُسِيءَ إلَى «الشَّقْراءِ».»
فَقالَ لَهُ الْوَزِيرُ «عِمادٌ»: «السَّمْعُ والطَّاعَةُ لَكَ.»
وَسافَرَ — عَلَى الْفَوْرِ — يَجُوبُ الْبِلادَ، وَرَأَى كَثِيرًا مِنَ الْأَمِيراتِ، ثُمَّ انْتَهَى بِهِ الْمَطافُ — آخِرَ الْأَمْرِ — إلَى الْمَلِكِ «نَوْفَلٍ» وَكانَتْ لَهُ ابْنَةٌ جَمِيلَةٌ ذَكِيَّةٌ لَطِيفَةٌ اسْمُها «سُمَيَّةُ». وَهِيَ — فِيما يَبْدُو مِنْ مَظْهَرِها — طَيِّبَةُ الْأَخْلاقِ، أَمَّا وَجْهُها فَهُوَ آيَةٌ فِي الْجَمالِ. فَأَسْرَعَ الْوَزِيرُ إلَى أَبِيها يَسْأَلُهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي تَزْوِيجِ ابْنَتِهِ بِمَلِيكِهِ «حبِّ الرُّمَّانِ».
وَهَكَذا انْخَدَعَ بِها الْوَزِيرُ مأْخُوذًا بِمَظْهَرِها، دُونَ أَنْ يُعْنِّي نَفْسَهُ أَوْ يُتْعِبَها بِالتَّثَبُّتِ مِنْ أَخْلاقِها، وَتَعَرُّفِ حَقِيقَةِ أَمْرِها، ناسِيًا قَوْلَ الْقائِل الْحَكِيمِ:
وَكانَتِ الْفَتاةُ — عَلَى جَمالِ مَظْهَرِها — غايَةً فِي الشَّراسَةِ والْغَيْرَةِ وَسُوءِ الْخُلُقِ؛ فَلَمْ يَتَرَدَّدِ الْمَلِكُ «نَوْفَلٌ» فِي إِجَابَةِ طَلَبِ الْوَزِيرِ، وَهُوَ فَرْحانُ بِالتَّخَلُّصِ مِنِ ابْنَتِهِ الْحَمْقاءِ. وَسُرْعانَ ما أَمَرَها الْمَلِكُ «نَوْفَلٌ» بِالذَّهابِ مَعَ الْوَزِيِر «عِمادٍ» مُزَوَّدَةٌ بِنَفائِسَ مِنَ الْأَمْتِعَةِ، وَغَوالٍ مِنَ الْحُلِيِّ، حُمِلَتْ عَلَى أَرْبَعَةِ آلافِ بَغْلٍ.
وَما نَظَرَ الْمَلِكُ إِلَى زَوْجِهِ الْجَدِيدَةِ حَتَّى رَأَى فِي وَجْهِها جَمالًا فاتِنًا. وَلـِكنَّهُ لَمْ يَرَ عَلَى سِيماها شَيْئًا مِنَ الْمَظاهِرِ السَّامِيَةِ النَّبِيلَةِ الَّتِي كانَتْ تَلُوحُ عَلَى مُحَيَّا زَوْجِهِ الْمُتَوَفَّاةِ.
وَلَمْ يَقَعْ بَصَرُها عَلَى الْأَمِيرَةِ «الشَّقْراءِ» حَتَّى نَظَرَتْ إِلَيْها نَظْرَةً شَزْراءَ، مَمْلُوءَةً بِشَراسَةٍ وَحِقْدٍ، فَلَمْ تَتَمالَكِ الَطِّفْلَةُ الْمِسْكِينَةُ — الَّتِي لَمْ تَتَجَاوَزِ الثَّالِثَةَ مِنْ عُمْرِها — أَنْ تَفَزَّعَتْ مِنْ هَذِهِ النَّظْرَةِ الْمُنْكَرَةِ. واشْتَدَّ الْخَوْفُ بِها فَبَكَتْ. وَسَأَلَها الْمَلِكُ عَمَّا يَحْزُنُها وَيُبْكِيها، فَقالَتْ، وَهِيَ تَخْتَبِئُ بَيْنَ ذِراعَيْهِ: «أبِي … أبِي الْعَزِيزَ، بِرَبِّكَ لا تَتْرُكْنِي لِهَذِهِ الْأَمِيرَةِ؛ فإِنِّي أَخافُها. وَإِنَّ نَظْرَتَها لَتُفَزِّعُنِي.»
فَدَهِشَ الْمَلِكُ مِمَّا سَمِعَ، وَنَظَرَ إِلَى «سُمَيَّةَ»؛ فَأَسْرَعَتْ إِلَى كِتْمانِ غَيْظِها، وَكَبْتِ عَواطِفِها، وتَغْيِيرِ قَسِماتِ وَجْهِها، وَتَصَنَّعَتِ الْهُدُوءَ، وَتَكَلَّفَتْ الاِبْتِسامَ.
وَلَكِنَّ الْمَلِكَ فَطَنَ — بِرَغْمِ ذَلِكَ — إَلَى حَقِيقَتِها؛ فَأَمَرَ بِإبْعادِ «الشَّقْراءِ» عَنْ «سُمَيَّةَ» حَتَّى تَسْلَمَ مِنْ أَذاها. وَأَشارَ بِأَنْ تَعِيشَ «الشَّقْراءُ» فِي كَفالةِ مُرْضِعَتِها «أَنِيسَةَ» وَمُرَبِّيَتِها «حَزامِ،» فَكَانَتْ كِلْتاهُما تَتَعَهَّدُ الطِّفْلَةَ بِالرِّعايَةِ، وَتَحُوطُها بِالْحَنانِ والْعَطْفِ. وَلذَلِكَ كانَتْ الْمَلِكَةُ «سُمَيَّةُ» لا تَرَى «الشَّقْراءَ» إِلَّا نادِرًا. وَكانَتْ — إِذا لَقِيَتْها مُصادَفَةً — لا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُخُفِيَ ما تُبْطِنُهُ لَها مِنْ كَراهِيَةٍ وَحِقْدٍ.
(٤) الْأُخْتانِ
وَبَعْدَ سَنَةٍ، رُزِقَتِ الْمَلِكَةُ «سُمَيَّةُ» ابْنَةً سَمَّوْها «السَّمْراءَ». وَكانَتِ «السَّمْراءُ» عَلَى قِسْطٍ كَبِيرٍ مِنَ الْجَمالِ، يَزِينُها شَعْرٌ فاحِمٌ «شَدِيدُ السَّوادِ»، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ — فِي الْجَمالِ — مَبْلَغَ أُخْتِها «الشَّقْراءِ».
وَكانَتِ «السَّمْراءُ» مِثالًا لِلْحَماقَةِ والطَّيْشِ والاِنْدِفاعِ إِلَى الشَّرِّ.
وَكَأَنَّما وَرِثَتْ ذَلِكَ عَنْ أُمِّها، كَما وَرِثَتْ عَنْها كَراهِيَةَ «الشَّقْراءِ» والْإِفْراطَ فِي بُغْضِها، فَكانَتْ تَعَضُّ أُخْتَها وَتَقْرُضُها، وَتَخْمِشُها بِأَظافِرِها، وَتَشُدُّ شَعْرَها، وَتَحْطِمُ لُعَبَها، وَتُلَوِّثُ الْغالِيَ مِنْ ثِيابِها، والْجَمِيلَ مِنْ حُلَلِها.
وَلَمْ تَكُنِ «الشَّقْراءُ» الصَّغِيرَةُ تُبْدِي التَّأَفُّفَ أَوْ تُظْهِرُ الْغَضَبَ، بَلْ كانَتْ تَلْتَمِسُ الْعُذْرَ لِأُخْتِها «السَّمْراءِ» وَتَسْأَلُ أَباها أَنْ يَصْفَحَ عَنْها، وَيَغْفِرَ لَها إِساءَتَها، لِصِغَرِ سِنِّها وَبلاهَتِها. وَلِذَلِكَ كانَتْ مَحَبَّةُ الْمَلِكِ «لِلشَّقْراءِ» تَزْدادُ؛ فأَمَّا مَحَبَّتُهُ «لِلسَّمْراءِ» فَكانَتْ تَنْقُصُ شَيْئًا فَشَيْئًا.
وَلَمَّا رَأَتِ الْمَلِكَةُ «سُمَيَّةُ» ذَلِكَ، اشْتَدَّ حِقْدُها عَلَى الطِّفْلَةِ الْبَرِيئَةِ حِينًا بَعْدَ حِينٍ.
وَلَوْلا أَنَّ الْمَلِكَ عادِلٌ حازِمٌ، وَأَنَّ «سُمَيَّةَ» تَخْشَى غَضَبَهُ، لَصَيَّرَتِ «الشَّقْراءَ» أَتْعَسَ الْأَطْفالِ جمِيعًا.