الفصل الثاني
(١) «شَرْهانُ»
وَلَمَّا بَلَغَتِ «الشَّقْراءُ» السَّابِعَةَ مِنْ عُمْرِها، وَبَلَغَتْ أُخْتُها «السَّمْراءُ» الثَّالِثَةَ، أَحْضَرَ الْمَلِكُ لِلْأُولَى مَرْكَبَةً صَغِيرَةً جَمِيلَةً تُشَدُّ إِلَى نَعامَتَيْنِ، يَقُودُها خادِمٌ فِي الْعاشِرَةِ مِنْ عُمُرِهِ، يُدْعَى: «شَرْهانَ».
وَكانَ «شَرْهانُ» يُحِبُّ «الشَّقْراءَ» وَيُخْلِصُ لَها، كَما تُحِبُّها خالَتُهُ الَّتِي أَرْضَعَتْها، وَما زالَتْ تُخْلِصُ لَها.
وَكانَ لا يَفْتَأُ يَتَفَنَّنُ فِي مُلاعَبَتِها وَإِدْخالِ السُّرُورِ عَلَيْها — مُنْذُ وِلادَتِها — كَما كانَتْ تَرْتاحُ إِلَى لِقائِهِ، وَتَهَشُّ لَهُ فَرْحانَةً مَسْرُورَةً، كُلَّما رَأَتْهُ.
وَلَكِنْ تَجَلَّتْ فِي هَذا الْغُلامِ نَقيِصَةٌ واحِدَةٌ غَطَّتْ عَلَى سائِرِ مَزاياهُ، وَضَيَّعَتْ كُلَّ مَحاسِنِهِ. تِلْكَ: هِيَ أَنَّهُ — عَلَى طِيبَةِ قَلْبِهِ وَتَعَلُّقِهِ بِمَوْلاتِهِ الصَّغِيرَةِ — شَرِهٌ شَدِيدُ النَّهَمِ بِالْفَطائِرِ والْحَلْوَى.
وَهُوَ — لِفَرْطِ شَغَفِهِ بِها — لا يُبالِي شَيْئًا فِي سَبِيلِ الْحُصُولِ عَلَيْها.
فَلا عَجَبَ إِذا أَطْلَقُوا عَليْهِ — لِشِدَّةِ شَرَهِهِ وَنَهَمِهِ — لَقَبَ «شَرْهانَ».
وَكَثِيرًا ما قالَتْ لَهُ «الشَّقْراءُ» فِي أَسَفٍ شَدِيدٍ: «لَقَدْ كَمُلَتْ مَزاياكَ، يا «شَرْهانُ». لَوْلا تِلْكَ النَّقِيصَةُ الْفَظِيعَةُ الَّتِي شَوَّهَتْ فَضائِلَكَ، وأَزْعَجَتْ كُلَّ مَنْ يَعْرِفُكَ.»
فَيُقْبِلُ عَلَيْها «شَرْهانُ» يَتَرَضَّاها، وَيَعْتَذِرُ لَها، وَيَلْتَمِسُ الصَّفْحَ مِنْها، بَعْدَ أَنْ يَعِدَها بِالْإِقْلاعِ عَنْ هَذِهِ النَّقِيصَةِ الْمُخْزِيَةِ، ثُمَّ لا يَلْبَثُ أَنْ يَعُودَ إِلَى سَرِقَةِ الْفَطائِرِ مِنَ الْمَطْبَخِ، وانْتِهابِ الْحَلْوَى مِنَ الْعُلَبِ.
وَطالَما عُوقِبَ «شَرْهانُ» عَلَى ذَلِكَ: صَفْعًا بِالْأَكُفِّ، وَرَكْلًا بِالْأَقْدامِ، وَضَرْبًا بِالْعِصِيِّ، وجَلْدًا بِالسِّياطِ، فَلَمْ يَرْتَدِعْ عَنْ هَذِهِ النَّقِيصَةِ وَلَمْ يَتُبْ.
(٢) الْغـابَةُ الْمَسْحُورَةُ
وَرَأَتْ «سُمَيَّةُ» أَنْ تَسْتَغِلَّ هَذهِ النَّقِيصَةَ، فَتَسْتَخْدِمَهُ فِي الْكَيْدِ لِتِلْكَ الْفَتاةِ؛ بِنْتِ ضَرَّتِها الْمُتَوَفَّاةِ، وَهِيَ تَعْلَمُ أَنَّ الْحَدِيقَةَ الَّتِي تَتَنَزَّهُ فِيها الْأَمِيرةُ «الشَّقْراءُ» فِي مَرْكَبَةٍ صَغِيرَةٍ تَجُرُّها نَعامَتانِ، وَيَسُوقُها حُوذِيُّها «شَرْهانُ»، تَنْتَهِي إِلَى غابَةٍ بَديعَةٍ واسِعَةٍ فَسِيحَةِ الْأَرْجاءِ، هِي: «غابَةُ الزَّنْبَقِ». وَإِنَّما أُطْلِقَ عَلَيْها اسْمُ «غابَةِ الزَّنْبَقِ»، لِأَنَّها غاصَّةٌ — طُولَ الْعامِ — بِأَزْهارِهِ الْعَطِرَةِ، وَلَيْسَ يَفْصِلُها عَنِ الْحَدِيقَةِ إِلَّا سِياجٌ مِنَ الْحَشائِشِ وَالْأَعْشابِ، لا يَصْعبُ اجْتِيازُهُ عَلَى مَنْ أَرادَ.
وَكانَ النَّاسُ يَتَحامَوْنَ هَذِهِ الْغابَةَ — عَلَى قُرْبِها مِنْهمْ — لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّها مُشْتَبِهَةُ الطُّرُقاتِ، مَمْلُوءَةٌ بِالْمَخاوِفِ والْأَخْطارِ. وَلَمْ يَسْلَمْ أَحَدٌ مِنْ رُوَّادِها وَسالِكِيها، مِنَ التِّيهِ والضَّلالِ فِيها، مَهْما بَلَغَتْ مَهارَتُهُ، وَحِذْقُهُ وَبَراعَتُهُ.
وَكانَ «شَرْهانُ» يَعْرِفُ ذَلِكَ أَصْدَقَ الْمَعْرِفَةِ؛ لِأَنَّهُ طالَما سَمِعَ النَّاسَ يُحَذِّرُونَهُ تِلْكَ الْغابَةَ الْمَخُوفَةَ الْمَرْهُوبَةَ.
وَكانَ أَخْوَفَ ما يخافُونَهُ: أَنْ تَدْنُوَ «الشَّقْراءُ» مِنَ الْغابَةِ، فَتَغْفُلَ عَنْها عَيْنُ حُوذِيِّها «شرْهانَ» لَحْظَةً، فَتَحْتَوِيَها الْغابَةُ فِيمَنِ احْتَوَتْهُ، وَتُهْلِكَها فِيمَن أَهْلَكَتْهُ. وَلَطالَما رَغِب الْمَلِكُ فِي أَنْ يُقِيِمَ عَلَى أَطْرافِ هَذِهِ الْغابَةِ سُورًا مُرْتَفِعَ الْبُنْيانِ، لِيُؤَمِّنَ النَّاسَ مِنْ سُلُوكِها والْمُخاطَرَةِ بِأَنْفُسِهِمْ فِيها، وَلَكِنَّ جُهُودَهُ كُلَّها ذَهَبَتْ — فِي هَذا السَّبِيلِ — بِغَيْرِ فائِدَةٍ؛ فَإِنَّهُمْ كانُوا لا يَفْرُغُونَ مِنْ إِقامَة جُزْءٍ مِنْ بناءِ السُّورِ — فِي الْمَساءِ، حَتَّى يَتَهَدَّمَ فِي الصَّباحِ، وتَرْفَعَ أَحْجارَهُ قُوَّةٌ سِحْرِيَّةٌ مَجْهُولَةٌ، ثُمَّ تَنْقُلَها إلَى مَكانِها الأَوَّلِ مِنَ الْجَبَلِ.
(٣) صَنادِيقُ الْحَلْوَى
كانَتْ «سُمَيَّةُ» تَعْلَمُ ذَلِكَ كُلَّهُ؛ فَصَرَفَتْ جُهْدَها كُلَّهُ لِتَسْتَمِيلَ إِليْهَا «شَرْهانَ» وَتَكْسِبَ صَداقَتَهُ. فَلَمْ تُقَصِّرْ فِي التَّوَدُّدِ إِلَيْهِ، وَمَنْحِهِ كُلَّ ما تَشْتَهيهِ نَفْسُهُ، مِنْ لذائِذِ الْفَطائِرِ والْحَلْوَى. حَتَّى إِذا وَثِقَتْ مِنْ إِخْلاصِهِ لَها، وَأيْقَنَتْ أَنَّهُ لَنْ يَعْصِيَ لَها أَمْرًا؛ اسْتَدْعَتْهُ إِلَيْها، وَأسرَّتْ إِلَيْهِ قَوْلَها: «ما رَأْيُكَ فِي صُنْدُوقٍ كَبِيرٍ مَمْلُوءٍ بِالْحَلْوَى، وَمِثْلِهِ مَمْلُوءٍ بِالْفَطائِرِ، وَثالِثٍ مَمْلُوءٍ بِالْجَوْزِ واللَّوْزِ الْمَخْلُوطَيْنِ بِالسُّكَّرِ؟»
فَقالَ لَها مُتَلَهِّفًا: «مَنْ لِي بِهَذِهِ الصَّنادِيقِ الْفاخِرَةِ، يا مَوْلاتِي؟»
فَقالَتْ لَهُ مُتَخابِثَةً: «فَكَيْفَ تَقُولُ فِيمَنْ يَحْرِمُكَ هَذِهِ الصَّنادِيقَ الْفاخِرةَ، وَيُعْطِيها سِواكَ، لِيَهْنَأَ بِأَكْلِها؟!»
فَقالَ لَها مَدْهُوشًا: «لَوْ تَمَّ هَذا لَهَلَكْتُ حُزْنًا. فَخَبِّرينِي — يا سَيِّدتِي — ماذا عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَ حَتَّى لا يَفُوتَنِي هَذا الْغُنْمُ الْعَظِيمُ؟ إِنَّنِي لَأُفَضِّلُ الْمَوْتَ عَلَى الْحِرْمانِ.»
فَحَدَّقَتْ فِيهِ، ثُمَّ قالَتْ: «لَنْ أُكَلِّفَكَ إِلَّا شَيْئًا واحِدًا يَسِيرًا عَلَيْكَ إِنْجازُهُ.» فَقالَ لَها: «لَوْ كَلَّفْتِنِي أَنْ أَنْقُلَ الْجَبَلَ مِنْ مَكانِهِ لَما تَرَدَّدتُ فِي ذَلِك.»
فَقالَتْ لَهُ باسِمَةً: «الْأَمْرُ أَيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ. فَلَنْ أُكَلِّفَكَ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ تَذْهَبَ بِالْأَمِيرَةِ «الشَّقْراءِ» قَرِيبًا مِنْ غابَةِ الزَّنْبَقِ، وَتُشَجِّعَها عَلَى تَرْكِ الْمَرْكَبَةِ، وَدُخُولِ الْغابَةِ.»
فاشْتَدَّ جَزَعُهُ، وَحاوَلَ أَنْ يَعْتَذِرَ؛ فَقالَتْ لَهُ غاضِبَةً: «ما دمْتَ لا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُنْجِزَ ما أَمَرْتُكَ بِهِ، فَلَنْ تَظْفَرَ مِنْ هَذِهِ الصنَادِيقِ بِشَيْءٍ، وَلَنْ أَسْمَحَ لِأَحَدٍ أَنْ يُعْطِيكَ — مُنْذُ الْيوْمِ — شَيْئًا مِنَ الْحَلْوَى.»
فانْزَعَجَ «شَرْهانُ» حَينَ سَمِعَ وَعِيدَها، وَقالَ لَها مُسْتَعْطِفًا باكِيًا: «بِرَبِّكِ لا تَفْعَلِي. مُرِينِي بِأَيِّ شَيْءٍ آخَرَ، فَلَنْ أَتَرَدَّدَ فِي تَنْفِيذِهِ أَبَدًا.»
فَقالَتْ لَهُ مُنْذِرَةً مُتَوَعِّدَةً: «لَيْسَ لِي مَطْلَبٌ غَيْرُ هَذا.»
فَقالَ لَها «شَرْهانُ»، وَقدِ اْمْتُقِعَ وَجْهُهُ: «إِنَّ الْأَمِيرَةَ إِذا دَخَلَتْ غَابَةَ الزَّنْبَقِ هَلَكَتْ، وَلَمْ تَخْرُجْ مِنْها أَبَدًا.»
فَقالَتْ لَهُ: «أَقُولُ لَكَ — آخِرَ الْأَمْر — مَرَّةً ثالِثَةً: أَتُريدُ أَنْ تَصْحَبَ «الشَّقْراءَ» إِلَى غابَةِ الزَّنْبَقِ؟»
فَقالَ لَها مُرْتَبِكًا مُتَحَيِّرًا: «فَكَيْفَ أَنْجُو مِنْ عِقابِ الْمَلِكِ وَقِصاصِهِ؟»
فَقالَتْ «سُمَيَّةُ»: «لا عَلَيْكَ — يا «شَرْهانُ — فَلَنْ يُصِيبَكَ سُوءٌ، وَلَنْ يَلْحَقَكَ أَذًى. ارْجِعْ إِلَيَّ — فِي الْحالِ — مَتَى دَخَلَتِ الْأَمِيرَةُ غابَةَ الزَّنْبَقِ؛ فَإِذا نَجَحْتَ فِي هَذا الْمُهِمِّ، فَأَنا الْكَفِيلَةُ بِحِمايَتِكَ، وَإِرْسالِكَ إِلَى مَكانٍ أَمِينٍ.» فَقالَ لَها ضارِعًا مُتَذَلِّلًا: «رُحْماكِ يا مَوْلاتِي، وَلا تَدْفَعِنَّ بِي إِلَى إِهْلاكِ أَمِيرَتِي الصغِيرَةِ؛ فَإِنَّها طالَما أَحْسَنَتْ إِلَيَّ، وَما أَذْكُرُ لَها إِساءَةً واحِدَةً قَطُّ.»
فَأَجاَبَتْهُ «سُمَيَّةُ»: «أَمُتَردِّدٌ أَنْتَ فِي هَذِهِ الصَّفْقَةِ الرَّابِحَةِ، أَيُّها الْغَبِيُّ الْأَبْلَهُ؟ وَماذا يَهُمُّكَ مِنْ أَمْرِ «الشَّقْراءِ»؟ أَأُخْتُكَ هِيَ؟ أَمْ إِحْدَى قَرِيباتِكَ؟ وَماذا عَلَيْكَ أَنْ تَعِيشَ هِيَ أَوْ تَمُوتَ؟ اِذْهَبْ فَأَنْجِزْ ما أَمَرْتُكَ بِهِ. اِذْهَبْ وأنا ضَمِينَةٌ لَكَ بِمُضاعَفَةِ ما عَوَّدْتُكَ إِيَّاهُ مِنَ الْفَطائِرِ وَالحَلْوَى. وَسَأَجْعَلُكَ خادِمًا لِلْأَمِيرَةِ «السَّمْراءِ» مَتَى كُتِبَ لَكَ النَّجاحُ.»
فَوَقَفَ «شَرْهانُ» بُرْهَةً حائِرًا، يُقَدِمُّ رِجْلًا وَيُؤَخِّرُ أُخْرَى.
وَقَضَى يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ ساهِرًا؛ فَحِينًا يَتَهَيَّبُ الْإِقْدامَ عَلَى تِلْكَ الْجَرِيمَةِ الشَّنْعاءِ، وَحِينًا يَدْفَعُهُ إِلَيْها حِرْصُهُ عَلَى الْحَلْوَى وَخَوْفُهُ مِنْ ضَياعِها إِذا رَفَضَ.
ثُمَّ قَدَّرَ فِي نَفْسِهِ أَنَّ أَمِيرَتَهُ قَدْ تَنْجُو مِنْ أَخْطارِ الْغابَةِ وَلا يُصِيبُها أَذًى؛ فَكانَ ذَلِكَ الْأَمَلُ فِي نَجاتِها يُهَوِّنُ عَلَيْهِ فَظاعَةَ جُرْمِهِ.
وَراح يُقْنِعُ نَفْسَهُ الْغادِرَةَ بِأَنَّ الْأَمِيرَةَ لَنْ تَعْدَمَ نَصِيرًا مِنْ جِنِّيَّاتِ الْغابَةِ الْعارِفاتِ بِمَزاياها، الْمُعْجَباتِ بِفَضائِلِها، الْقادِراتِ عَلَى إِنْقاذِها مِنْ وَرْطَتِها، وَتَخْلِيصِها مِنْ حَيْرَتها.
وَهَكَذا زَيَّنَ لَهُ الطَّمَعُ أَنْ يَغْدِرَ بِمَوْلاتِهِ، وَسَهَّلَ عَلَيْهِ ما أَضْمَرَه مِنْ أَذِيَّةٍ وَشَرٍّ.
(٤) حِوارُ الْأَمِيرَةِ
فَلَمَّا جاءَ الْغَدُ، اسْتَقَلَّتِ الْأَمِيرَةُ مَرْكَبَتَها بَعْدَ أَنْ حَيَّتْ أَباها، مُسْتَأْذِنَةً إِيَّاهُ فِي التَّنَزُّهِ، عَلَى أَنْ تَعُودَ إِلَيْهِ بَعْدَ ساعَتَيْنِ.
وَكانَتِ الْحَدِيقَةُ الْمَلَكِيَّةُ كَبِيرَةً مُتَرامِيَةَ الْأَطْرافِ.
وَقَدِ اتَّجَهَ «شَرْهانُ» — أَوَّلَ ما اتَّجَهَ بِالْمَرْكَبَةِ — فِي طَرِيقٍ لا يَصِلُ سالِكُها إِلَى غابَةِ الزَّنْبَقِ، حَتَّى إِذا بَعُدَ عَنِ الْقَصْرِ حَوَّلَ سَيْرَها صَوْبَ الْغَابَةِ. وَقَدْ ثَقُلَتِ الْجَرِيمَةُ عَلَى قَلْبِهِ وَضَمِيرِهِ، فَجَلَسَ فِي الْمَرْكَبَةِ واجِمًا، حَزِينَ الْقَلْبِ مَهْمُومًا.
فَقَالَتْ لَهُ «الشَّقْراءُ»: «ماذا بِكَ، يا «شَرْهانُ»؟ ما بالُكَ صامِتًا مُسْتَسْلِمًا للْهُمُومِ؟ أَتُراكَ مَرِيضًا؟»
فَقالَ لَها مُتَأَلِّمًا: «كَلَّا — أَيَّتُها الْأَمِيرَةُ — لَسْتُ بِمَرِيضٍ، بَلْ أَنا صَحِيحٌ مُعافًى، لا أَشْعُرُ بِأَيِّ أَلَمٍ جُسْمانِيٍّ.»
فَقالَتْ لَهُ مُتَعَجِّبَةً: «فَماذا بِكَ، أَيُّها الْمِسْكِينُ؟ وَما بالُكَ مُمْتَقَعَ الْوَجْهِ؟ حَدِّثْنِي بِحَقِيقَةِ أَلَمِكَ، وَلا تَخْشَ شَيْئًا؛ فَإِنَّي باذِلَةٌ جُهْدِي لإِسْعادِكَ وَكَشْفِ غُمَّتِكَ.»
فَكادَ قَلْبُ «شَرْهانَ» يَنْفَطِرُ حُزْنًا وَأَسَفًا إِزاءَ هَذا الْعَطْفِ النَّبِيلِ، وَكادَ يَعْدِلُ عَنْ جَرِيمَتِهِ. وَلكِنَّ خَوْفَهُ أَنْ يُحْرَمَ الْحَلْوَى الَّتِي وَعَدَتْهُ بِها مَوْلاتُهُ، أَخْمَدَ فِي نَفْسِهِ رُوحَ الْخَيْرِ.
وَإِنَّهُ لَغارِقٌ فِي تَرَدُّدِهِ، مُسْتَسْلِمٌ لِحَيْرَتِهِ، إِذْ بَلَغَتِ النَّعامَتانِ حاجِزَ الْغابَةِ، وَوَقَفَتَا بِالْقُرْبِ مِنْ سُورِها. فَقالَتِ «الشَّقْراءُ»: «يا لله! ما أَجْمَلَ هَذِهِ الزَّنْبَقَةَ! وَما أَطْيَبَ رائِحَتَها! شَدَّ ما يَبْهَجُنِي أَنْ أَجْمَعَ طاقَةً كَبِيرَةً مِنَ الزَّنْبَقِ الْبَدِيعِ، لِأُهْدِيَها إِلَى والِدِيَ العَزِيزِ. بِرَبِّكَ — يا «شَرْهانُ» — إِلا ما أَسْرَعْتَ بإحْضارِ هَذِهِ الطَّاقَةِ!»
فَقالَ لَها واجِمًا: «كَلاَّ، لا أَسْتَطِيعُ النُّزُولَ — يا أَمَيرَةُ — فَرُبَّما مَشَتِ النَّعامَتان بِالْمَرْكَبَةِ.»
فَقالَتِ «الشَّقْراءُ»: «لا عَلَيْكَ مِنْ ذلِكَ، يا «شَرْهانُ». فَما أَيْسَرَ أَنْ أَعُودَ بِالْمَرْكَبَةِ وَحْدِي إِلَى الْقَصْرِ.»
فَقالَ «شَرْهانُ»: «لَوْ تَسَمَّحْتُ فِي ذَلِكِ لَعَنَّفَنِيَ الْمَلِكُ أَشَدَّ تَعْنِيفٍ عَلَى تَرْكِي إِيَّاكِ وَحِيدَةً. فاذْهَبِي بِنَفْسِكِ — إِذا شِئْتِ — لِتَتَخَيَّرِي ما يَحْلُو لَكِ مِنْ أَزْهارٍ». فَقَفَزَتِ «الشَّقْراءُ» مِنْ الْمَرْكَبَةِ فِي الْحالِ.
(٥) نَجاحُ الْمُؤَامَرَةِ
وَما اجْتازَتِ «الشَّقْراءُ» قَوائِمَ الْحاجِزِ حَتَّى انْدَفَعَتْ إِلَى أَزْهارِ الزَّنْبَقِ تَقْطِفُ مِنْها ما تَشاءُ.
وَسَرَتِ الرِّعْشَةُ فِي جِسْمِ «شَرْهانَ» فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، وَداخَلَ قَلْبَهُ الْوَخْزُ والتَّأْنِيبُ. وَأَرادَ أَنْ يَتَلافَى خَطِيئَتَهُ؛ فَأَسْرَعَ إِلَيْها يُنادِيها، ولَكِنَّها — وَهِيَ عَلَى مَسافَةِ خُطُواتٍ قَلِيلَةٍ مِنْهُ — لَمْ تَسْمَعْ صَيْحاتِهِ الْعالِيَةَ، كَأَنْما أُصِيبَتْ بِالصَّمَمِ. وَظَلَّتْ تَتَقَدَّمُ فِي سَيْرِها قَلِيلًا قَليِلًا؛ وَرآها — مُدَّةً طَوِيلَةً — تَقْطِفُ الزَّنْبَقَ، ثُمَّ غابَتْ عَنْ عَيْنَيْهِ.
فَغَلَبَهُ الْبُكاءُ حِينَ تَمَثَّلَتْ لَهُ شَناعَةُ جُرْمِهِ، ورَاحَ يَلْعَنُ الشَّرَهَ والْحِرْصَ، وَيَحْقِدُ عَلَى «سُمَيَّةَ» الَّتِي أَغْرَتْهُ بِاقْتِرافِ هَذا الْجُرْمِ الْفَظِيعِ.
وَلَمَّا حانَ الْوَقْتُ الَّذِي تَعُودُ «الشَّقْراءُ» فِيهِ إِلَى الْقَصْرِ، لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنَ الرُّجُوعِ بِمُفْرَدِهِ. فَدَخَلَ الْإِصْطَبْلَ مِنَ الْبابِ الْخَلْفِيِّ، وأَسرَعَ إِلَى لِقاءِ الْمَلِكَةِ. وَكانَتْ تَرْقُبُهُ وَهِيَ عَلَى أَحَرَّ مِنَ الْجَمْرِ؛ فَلَمَّا رَأَتْهُ مُمْتَقَعَ الْوَجْهِ، زائِغَ الْبَصَرِ، وَقَدِ احْمَرَّتْ عَيْناهُ مِنَ الدُّمُوعِ؛ عَرَفَتْ أَنَّ «الشَّقْراءَ» قَدْ فُقِدَتْ.
فَسَأَلَتْهُ مُتَلَهِّفَةً: «لَعَلَّكَ أَنْجَزْتَ الْوَعْدَ؟»
فَاكْتَفَى بِهَزِّ رأْسِهِ، عَجْزًا عَنِ الْكَلامِ.
فَلَمَّا اطْمَأَنَّتْ إِلَى نَجاحِ كَيْدِها، أَحْضَرَتْ لَهُ ما وَعَدَتْهُ بِهِ مِنْ صَنادِيقِ الْحَلْوَى. ثُمَّ أَمَرَتْ بَعْضَ خَدَمِها أَنْ يَحْمِلَ الصَّنادِيقَ عَلَى بَغْلٍ مِنْ بِغال أَبِيها الَّتِي حُمِلَتْ عَلَيْها نَفائِسُها وَحُلِيُّها. ثُمَ أَهْدَتْ إِلَيْهِ نَفائِسَ مِنَ السَّبائِكِ الذَّهَبِيَّةِ، وَبَعَثتْ بِرِسالَةٍ مَعَهُ إِلَى أَبِيها تُوصِيهِ بِهِ خَيْرًا.
ثُمَّ أَمَرَتْ «شَرْهانَ» أَنْ يَعُودَ إِليْها بَعْدَ شَهْرَيْنِ، لِتُعْطِيَهُ نَفَائِسَ أُخْرَى مِنْ هَداياها وَحَلْواها.
(٦) عِقـابُ الْحِرْصِ
فَرَكِبَ ظَهْرَ الْبَغْلِ، وَراحَ يَحُثُّه عَلَى الْإِسْراعِ فِي عَدْوِهِ. وَلَكِنْ سُرْعانَ ما أَعْجَزَ الْبَغْلَ ثِقْلُ ما يَحْمِلُ؛ فَحَرَنَ وَظَلَّ يَقْفِزُ قَفَزاتٍ عَنِيفَةً.
وَكان «شَرْهانُ» لا يُحْسِنُ رُكُوبَ جَوادٍ وَلا بَغْل؛ فَلَمْ يَتَمالَكْ أَنْ سَقَطَ عَلَى صَخْرَةٍ عاتِيَةٍ، وَسَقَطَتْ مَعَهُ الْأَحْمالُ؛ فَتَحَطَّمَ رَأْسُهُ، وماتَ عَلَى الْفَورِ؛ بَعْدَ أَنْ خَسِرَ مُكافَأَتَهُ، وَشَرَفَهُ وَحَياتَه!