الفصل الرابع
(١) يَقَظَةُ الْأَمِيرَةِ
نامَتِ «الشَّقْراءُ» طُولَ اللَّيْلِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِأَذاها كائِنٌ كانَ، مِنْ سِباعِ الطَّيْرِ والْحَيَوانِ، وَعَفَارِيـتِ الإِنْسِ والْجانِّ. واسْتَيْقَظَتْ فِي الضُّحَى، وَفَرَكَتْ عَيْنَيْها.
وَلا تَسَلْ عَنْ دَهْشَتِها حِينَ رَأَتْ أَشْجارَ الْغابَةِ تُحِيطُ بِها مِنْ كُلِّ جانِبٍ.
وَتَلَفَّتَتْ حائِرَةً، فإِذا هِيَ بَعِيدَةٌ عَنْ حُجْرَتِها الَّتِي أَلِفَتْ أَنْ تَبِيتَ فِيها. واشْتَدَّتْ بِها الْحَيْرَةُ؛ فَصَرَخَتْ تُنادِي مُرَبِّيَتَها، فَسَمِعَتْ مُواءً لَطِيِفًا بِالْقُرْبِ مِنْها.
(٢) أَبُو «خِداشٍ»
وَنَظَرَتْ فإِذا قِطٌ بَدِيعٌ جالِسٌ عِنْدَ قَدَمَيْها، يَنْظُرُ إِلَيْها مُتَوَدِّدًا مُتَعَطِّفا. وَكانَ بَياضُ شَعْرِهِ الْجَمِيلِ فِي مِثْلِ نَصاعَةِ الثَّلْجِ، وَقَدْ تَجَلَّتْ فِي عَيْنَيْهِ نَظَراتُ الْعَطُفِ والْإِشْفاقِ، وانْبَعَثَ مِنْ مُوائِهِ صَوْتُ الْحَفاوَةِ والاشْتِياقِ. فاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ، وَرَبَّتَتْ ظَهْرَهُ، وَأَمَرَّتْ يَدَها مُتَرَفِّقَةً عَلَيْهِ، ثُمَّ قالَتْ لَهُ: «ما أَجْمَلَكَ، يا «أَبا خِداشٍ» الْجَمِيلَ! شَدَّ ما أَنا مَسْرُورَةٌ بِرُؤْيَتِكَ. فَهَلْ أَجِدُ فِيكَ مُرْشِدًا يَهْدِيِنِي سَبِيلَ العَوْدَةِ إِلَى بَيْتِي؟ عَلَى أَنَّنِي — وا أَسَفاهُ — جائِعَةٌ، وَلَمْ يَبْقَ لِي قُوَّةٌ عَلَى السَّيْرِ قَبْلَ أَنْ آكُلَ.»
(٣) مائِدَةُ الْقِطِّ
وَما انْتَهَتْ مِنْ هَذِهِ الْكَلِماتِ، حَتَّى أَخَذَ السِّنَّوْرُ الْجَمِيلُ يَمُوءُ مُواءً لَطِيفًا، وَيُشِيرُ بِيَدِهِ الصَّغِيرَةِ إِلَى رَيْطَةٍ (مُلاءَةٍ) مِنَ النَّسِيجِ الْأَبْيَضِ الرَّقِيقِ، مَلْفُوفَةٍ بِإِحْكامٍ إِلَى جانِبِها. فَلَمَّا فَتَحَتْها وَجَدَتْ فِيها شَطائِرَ لَذِيذَةً مِنَ الْخُبْزِ والزُّبْدِ. فَقَضَمَتْ واحِدَةً مِنْها، فَأَلْفَتْها سائِغَةً لَذِيذَةَ الطَّعْمِ. فَلَمْ تَشَأْ أَنْ تَنْفَرِدَ بِها، وَأَبَتْ إِلا أَنْ تَشْرَكَ مَعَها السِّنَّوْرَ فِي أَكْلِها، فَقاسَمَتْهُ إيَّاها.
وَلَمَّا انْتَهَيا مِنَ الطَّعامِ، أَقْبَلَتْ عَلَى السِّنَّوْرِ حانِيَةً قائِلَةً: «أَلْفُ شُكْرٍ لَكَ عَلَى ما قَدَّمْتَهُ لِي مِنْ فَطُورٍ شَهِيٍّ يا «أَبا خِداشٍ» الْجَمِيلَ. فَهَلْ أَجِدُ فِيكَ مُعِينًا يَهْدِينِي إلَى بَيْتِ أَبِي؟»
فَهَزَّ السِّنَّوْرُ الْجَمِيلُ رَأْسَهُ مَحْزُونًا وَهُوَ يَمُوءُ فِي حَسْرَةٍ وَأَلَمٍ.
فَقَالَتِ «الشَّقْراءُ»: «ما دُمْتَ قَدْ فَهِمْتَ ما أَقُولُ، فَلا تَتَرَدَّدْ فِي الذَّهابِ مَعِي إِلَى الْمَنْزِلِ، رَحْمَةً بِي، وَبِرًّا بِأَبِي.»
فَنَظَرَ إلَيْها «أَبُو خِداشٍ» وَهَزَّ رَأْسَهُ الْأَبْيَضَ هِزَّةً عَرَفَتْ مِنْها أَنَّهُ قَدْ فَهِمَ حَدِيثَها. ثُمَّ وَقَفَ السِّنَّوْرُ لَحْظَةً، وَمَشَى عِدَّةَ خُطُواتٍ.
ثُمَ الْتَفَتَ إلَى الْخَلْفِ، لِيَرَى هَلْ فَهِمَتِ «الشَّقْراءُ» ما عَناهُ بِإشارَتِهِ، وَهَلْ تَبِعَتْهُ واقْتَفَتْ أَثَرَهُ.
فَقالَتْ لَهُ: «شُكْرًا لَكَ، يا «أَبا خِداشٍ» الْجَمِيلَ. هَأَنَذِي مُقْتَفِيَةٌ خُطُواتِكَ، مُهْتَدِيَةٌ بِهَدْيِكَ، وَإنْ كُنْتُ لا أَدْرِي: كَيْفَ نَسْتَطِيعُ اخْتِراقَ هَذِهِ الْأَشْجارِ الْمُلْتَفَّةِ، وَلَيْسَ فِيها مَنْفَذٌ كَما تَرَى؟»
فَطَمْأَنَها السِّنَّوْرُ بِإشارَةٍ لَمْ يَخْفَ عَلَيْها مَعْناها. ثُمَ انْدَفَعَ بَيْنَ الْأَعْشَابِ الْمُلْتَفَّةِ والْأَشْجارِ الْمُشْتَبِكَةِ؛ فانْفَرَجَتْ — مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِها — لِتُفْسِحَ الطَّرِيقَ للسِّنَّوْرِ وَضَيْفِهِ، وَما اجْتازا الأَعْشابَ حَتَّى تَشابَكَتْ خَلْفَهُما كَما كَانَتْ مِنْ قَبْلُ. وَكانا كُلَّما تَقَدَّما فِي سَيْرِهِما زادَتِ الْغابَةُ وُضُوحًا وَضَوْءًا، وَرَقَّتِ الْحَشائِشُ، وَتَعَطَّرَ الزَّهْرُ، وَغَرَّدَ الطَّيْرُ، واسْتَوْلَى الْمَرَحُ علَى السَّناجِيبِ، فَراحَتْ تَتَسَلَّقُ الْغُصُونَ مُبْتَهِجَةً ناشِطَةً.
وَقَدِ امْتَلَأَتْ نَفْسُ «الشَّقْراءِ» سُرُورًا بِما رأَتْ، وأَيْقَنَتْ أَنَّ بَقاءَها فِي الْغابَةِ لَنْ يَطُولَ، وَأَنَّها عَلَى وَشْكِ أَنْ تَنْعَمَ بِلِقاءِ أَبِيها. فَنَسِيَتْ هُمُومَها، وَشَغَلَها جَمالُ الْأَزْهارِ عَنْ آلامِها؛ فَوَقَفَتْ — بَيْنَ حِينٍ وآخَرَ — لِتَقْطِفَ مِنْ بَدائعِ الزَّهْرِ ما يَحْلُو لَها أَن تَقْطِفَهُ.
وَكانَ «أَبُو خِداشٍ» يُتابِعُ مُواءَهُ يَسْتَحِثُّها عَلَى السَّيْرِ قُدُمًا، وَيَتَعَجَّلُها كُلَّما أَبْطَأَتْ.
(٤) قَصْرُ الْغِزْلانِ
وَلَمْ تَنْقَضِ عَلَيْهِما ساعَةٌ حَتَّى بَلَغا قَصْرًا عَظِيمًا مَكْتُوبًا عَلَى بابِهِ: «قَصْرُ الْغِزْلانِ»؛ فَوَقَفَتِ «الشَّقْراءُ» أَمامَ سُورِهِ الذَّهَبيِّ، وَهِيَ لا تَدْرِي: كَيْفَ السَّبِيلُ إلَى الدُّخُولِ، وَلَيْسَ بِالْقَصْرِ حَرَسٌ، وَلا جَرَسٌ، والْحاجِزُ الْخارِجِيُّ مُقْفَلٌ؟
وَهُنا اسْتَخْفَى السِّنَّوْرُ الْجَمِيلُ، وَبَقِيَتِ «الشَّقْراءُ» وَحْدَها أَمامَ بابِ الْقَصْرِ مُنْفَرِدَةً.