الفصل الخامس
(١) غِزْلانُ الْغابَةِ
وَدَخَلَ السِّنَّوْرُ الْجَمِيِلُ مِنْ مَمَرِّ صَغِيرٍ، لَعَلَّهُ صُنِعَ لِأَجْلِهِ وَحْدَهُ. وَلَعَلَّ السِّنَّوْرَ قَدْ أَبْلَغَ حارِساتِ الْقَصْرِ — مِنَ الْغِزْلانِ — أَنَّ ضَيْفًا جَدِيدَةً قَدْ وفَدَتْ عَلَيْهِ. فَلَمْ يَدْخُلِ السِّنَّوْرُ حَتَّى فُتِحَ الْحاجِزُ قَبْلَ أَنْ تُفَكِّرَ «الشَّقْراءُ» فِي نِداءِ أَحَدٍ مِنْ ساكِنِيهِ. فَدَخَلَتْ فِناءَ الْقَصْرِ مِنْ فُرْجَتِهِ، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا.
ثُمَّ فُتِحَ بابُ الْقَصْرِ — مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِهِ — فَدَخَلَتِ «الشَّقْراءُ» سِرْدابًا مُشَيَّدًا بِالرُّخامِ الْأَبْيَضِ النَّادِرِ. ثُمَّ فُتِحَتِ الْأَبْوابُ كُلُّها مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِها، فَرَأَتْ كَثِيرًا مِنَ الْقاعاتِ الْفاخِرَةِ وَالْأَفْناءِ الرَّحْبَةِ.
(٢) أَمِيرَةُ الْغِزْلانِ
ثُمَ رَأَتْ — آخِرَ الْأَمْرِ — قاعَةً كَبِيرَةً، بَدِيعَةَ الْهَنْدَسَةِ، تَنْتِهِي بِمَخْدَعٍ أَزْرَقَ مُحَلًّى بِالذَّهَبِ، وَعَلَيْهِ أَمِيرَةُ غِزْلانِ الْغابَةِ، وَهِيَ وَعِلَةٌ بَيْضاءُ راقِدَةٌ علَى سَرِيرٍ مِنَ الْحَشائِشِ الرَّقِيقَةِ الْمُعَطَّرَةِ. وَحانَتْ مِنَ «الشَّقْراءِ» الْتِفاتَةٌ، فَرَأتْ «أَبا خِداشٍ» جاثِمًا بِالْقُرْبِ مِنْها.
وَلَمْ تَرَ أَمِيرَةُ الْغِزْلانِ الْأَمِيرَةَ «الشَّقْراءَ» مُقْبِلَةً عَلَيْها، حَتَّى وَقَفَتْ لِتَحِيَّتِها، واسْتَقْبَلَتْها مُبْتَهِجَةً بِمَقْدَمِها، قائِلَةً بِلِسانٍ فَصِيحٍ: «أَهْلًا وَسَهْلًا وَمَرْحَبًا بِالْأَمِيرَةِ «الشَّقْراءِ» بِنْتِ الْمَلِيكِ الْعَظِيمِ: «حَبِّ الرُّمَّانِ». أَلا تَعْلَمِينَ أَنَّ وَلَدِي «أَبا خِداشٍ» الْجَمِيلَ يَنْتَظِرُ قُدُومَكِ بِفارِغِ الصَّبْرِ، مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ؟»
وَلَمَّا رَأَتِ «الشَّقْراءَ» مُتَرَدِّدَةً يَبْدُو عَلَى سِيماها الْخَوْفُ، قالَتْ لَها: «كُونِي مُطْمَئِنَّةً، يا «شَقْراءُ»، فَإنَّما أَنْتِ — هُنا — مَعَ أَصْدِقاءَ. وَأَنا أَعْرِفُ أَباكِ مُنْذُ نَشَأَ، وَقَدْ أَحْبَبْناهُ جَمِيعًا لِعَدْلِهِ وَحَزَامَتِهِ، وَكَرَمِهِ وَأَرْيَحِيَّتِهِ.»
فَقالَتِ «الشَّقْراءُ»، وَقَدْ عادَتْ إلَيْها الطُّمَأْنِينَةُ، وَغَمَرَتْها الدَّهْشَةُ: «أَعارِفَةٌ أَنْتِ والدِي؟ فَبِاللهِ عَلَيْكِ — يا أَمِيرَةَ الْغِزْلانِ — إلَّا ما أَسْرَعْتِ بِي إلَيْهِ؛ لِتُخَفِّفِي مِنْ قَلَقِهِ عَلَيَّ، وَحُزْنِهِ لفِراقِي!»
(٣) ساحِرُ الْغابَةِ
فَقالَتِ الْوَعِلَةُ وَهِيَ تَتَنَهَّدُ مُتَحَسِّرَةً: «لَيْسَ فِي قُدْرَتِي — يا عَزِيزَتِي «الشَّقْراءَ» — أَنْ أَرُدَّكِ إلَى أَبِيكِ الآنَ. فَإنَّ مَنْ يَدْخُلُ هَذِهِ الْغابَةَ يُصْبِحُ — فِي الْحالِ — تَحْتَ سُلْطانِ ساحِرِها الْغَلَّابِ الَّذي يَمْلِكُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ — وَحْدَهُ — فِي غابَةِ الزَّنْبَقِ هَذِهِ. وَما بِيَ قُدْرَةٌ عَلَى مُعارَضَتِهِ لِأَنَّ سُلْطانَهُ فَوْقَ سُلْطانِي. عَلَى أَنَّنِّيِ أَسْتَطِيعُ أَنْ أُرْسِلَ إلَى أَبِيكِ أَحْلامًا سارَّةً بَهِيجَةً، تُطَمْئِنُهُ عَلَيْكِ، وَتُعَرِّفُهُ أَنَّكِ عِنْدِي، وَتَمْلَأُ نَفْسَهُ ثِقَةً وَرَجاءً.»
فَقالَتِ «الشَّقْراءُ» جازِعَةً: «وَهَلْ أَظَلُّ بَعيِدَةً عَنْ أَبِي إلَى الْأَبَدِ، لا أَنْعَمُ بِلُقْياهُ؟»
فَقالَتِ الْوَعِلَةُ: «لا حاجَةَ بِنا إلَى التَّكَهُّنِ بِالْمُسْتَقْبَلِ؛ فَهُوَ غَيْبٌ لا يَعْلَمُهُ إلَّا اللهُ سُبْحانَهُ. عَلَى أَنَّ للْحِكْمَةِ والرَّزانَةِ والاجْتِهادِ دائِمًا عاقِبَةً مَحْمُودَةً. فَلا يَدْخُلَنَّ الْيَأْسُ إلَى قَلْبِكِ، وَلا بُدَّ مِنَ الْإذْعانِ لِقَضاءِ اللهِ. فاعْتَصِمِي بِفَضائِلِكِ وَمَزاياكِ النَّبِيلَةِ حَتَّى يَأْتِيَ الْفَرَجُ.»
فَتَنَهَّدَتِ «الشَّقْراءُ» وَلَمْ تَتَمالَكْ أَنْ ذَرَفَتْ عَيْناها دَمْعَتَيْنِ، حُزْنًا عَلَى هَذا الْمَصِيرِ. ثُمَّ اسْتَعادَتِ «الشَّقْراءُ» شَجاعَتَها، وَتَجَلَّدَتْ مُتَأَسِّيَةً، فَلَمْ تَلْبَثِ الطُّمَأْنِيِنَةُ أَنْ حَلَّتْ مَحَلَّ الْجَزَعِ.
وَأَقْبَلَتْ عَلَيْها أَمِيرَةُ الْغِزْلانِ وابْنُها يُؤَسِّيانِها، وَيُرِيانِها الحُجْرَةَ الَّتِي أَعَدَّاها لَها فِي الْقَصْرِ، وَقَدْ فُرِشَتْ كُلُّها بِالْحَرِيرِ الْوَرْدِيِّ الْمُطَرَّزِ بِالذَّهَبِ. وَقَدْ صُنِعَ أَثاثُ الْحُجْرَةِ مِنَ الْمُخْمَلِ الْأَبْيَضِ مُوَشًّى بِأَلْوانِ الْحَرِيرِ الْمُتَأَلِّقَةِ الَّتِي تُمَثِّلُ جَمِيعَ أَنْواعِ الْحَيَوانِ والطُّيُورِ والْفَراشِ والْحَشَراتِ. وَرَأَتْ بِالْقُرْبِ مِنْ حُجْرَةِ الْأَمِيرَةِ حُجْرَةً أُخْرَى، وَهِيَ مَفْرُوشَةٌ بِالدِّمَقْسِ السَّماوِيِّ اللَّوْنِ، الْمُطَرَّزِ بِاللَّآلِئِ الصَّغِيرَةِ، وَقَدْ صُنِعَ أَثاثُها مِنْ نَسِيجٍ ثَمِينٍ تَتَمَوَّجُ فِيهِ أَبْراجٌ فِضِّيَّةٌ مُثَبَّتَةٌ بِمَسامِيرَ كَبِيرَةٍ ثَمِينَةٍ. وَعُلِّقَتْ عَلَى الْجُدْرانِ صُورَتانِ بَدِيعَتانِ تُمَثِّلانِ فَتاةً جَمِيلَةً فِي مُقْتَبَلِ شَبابِها، وَفَتًى جَمِيلًا فِي مُقْتَبَلِ شَبابِهِ، وَتَدُلُّ مَلابِسُهُما عَلَى أَنَّهُما أَخَوانِ شَقِيقانِ، مِنْ سُلالَةٍ مُلُوكِيَّةٍ عَرِيقَةٍ فِي الْمُلْكِ والسُّلْطانِ. فَسَأَلَتِ «الشَّقْراءُ» أَمِيرَةَ الْغِزْلانِ: «لِمَنْ هاتانِ الصُّورَتَانِ، يا سَيِّدَتِي «أُمَّ عَزَّةَ»؟»
فَأَجابَتْها الْوَعِلَةُ: «مَحْظُورٌ عَلَيْنا — نَحْنُ: جَماعَةَ الْوُعُولِ والْغِزْلانِ — أَنْ نُجِيبَ عَنْ أَمْثالِ هَذا السُّؤَالِ، وسَتَعْلَمِينَ جَوابَهُ بَعْدَ حِينٍ. وَها قَدْ حانَ وَقْتُ الْعَشاءِ. فَهَلُمِّي، يا «شَقْراءُ» إلَى الطَّعامِ، فَما أَظُنُّكِ إلَّا جائِعَةً.»
وَلَقَدْ صَدَقَتْ أَمِيرَةُ الْغِزْلانِ؛ فَقَدْ كادَتِ «الشَّقْراءُ» حِينَئِذٍ تَمُوتُ جَوْعًا. وَذَهَبَتِ «الشَّقْراءُ» — عَلَى أثَرِ «أُمِّ عَزَّةَ» — إلَى حُجْرَةٍ فاخِرَةٍ، بِها مائِدَةٌ حافِلَةٌ، جُهِّزَتْ بِطَرِيقَةٍ غَرِيبَةٍ. وَكانَتْ بِها وِسادَةٌ كَبِيرَةٌ مِنَ الدِّمَقْسِ لِجُلُوسِ «أُمِّ عَزَةَ»: أَمِيرَةِ الْغِزْلانِ، وَطَنافِسُ وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ «بُسُطٌ مَنْشُورَةٌ»، وَأَمامَها — عَلَى الْمائِدَةِ — طاقَةٌ مِنَ الرَّياحِينِ الْفَوَّاحَةِ، وَبِالْقُرْبِ مِنْها إناءٌ مِنْ خالِصِ الذَّهَبِ مَمْلُوءٌ بِالْماءِ الْبارِدِ الْعَذْبِ. وَكانَ بِالْقُرْبِ مِنْ «أُمِّ عَزَّةَ» كُرْسِيٌّ صَغِيرٌ مرْتَفِعٌ لِجُلُوسِ «أَبِي خِداشٍ»، وَأَمامَهُ إناءٌ مُجَوَّفٌ بِهِ سَمَكٌ مَشْوِيٌ وَأَفْخاذٌ مَقْلِيَّةٌ بِالسَّمْنِ. وَإلَى جانِبِهِ إناءٌ — مِنْ بِلَّوْرٍ — مَتِينٌ مَمْلُوءٌ بِاللَّبَنِ الْحَلِيبِ. وَرَأَتِ الْأَمِيرَةُ كُرْسِيَّها بَيْنَ مَقْعَدَيْ «أَمِيرَةِ الْغِزْلانِ» وابْنِها، وَقَدْ أُعِدَّ للسِّنَّوْرِ «أَبِي خِداشٍ» — عَلَى الْمائِدَةِ — كُرْسِيٌّ صَغِيرٌ مِنَ الْعاجِ، عَلَيْهِ بَدائِعُ مِنَ النَّقْشِ. وامْتَلَأَتِ الصَّحْفَةُ بحَساءٍ لَذِيذٍ، وَإلَى جِوارِها كُوبٌ ثَمِينٌ، وَإناءٌ بَدِيعُ الصُّنْعِ مَمْلُوءٌ بِالْماءِ، وَكِلاهُما مِنَ الْبِلَّوْرِ الصَّخْرِيِّ النَّفِيسِ، وَإلَى جانِبِ ذَلِكَ ما شِئْتَ مِنْ لَذِيذِ الْأَطْعِمَةِ. وَرَأَتْ مِلْعَقَةً وَشَوْكَةً مِنَ الذَّهَبِ، وَمِنْشَفَةً مِنَ النَّسِيجِ الرَّقيقِ الثَّمِينِ، لَمْ تَرَ لَها — فِي قَصْرِ أَبِيها — مَثِيلًا قَطُّ.
وَكانَ يَقُومُ عَلَى خِدْمَةِ الْمائِدةِ سِرْبٌ رَائِعُ الْجَمالِ مِنْ غِزْلانِ الْغابَةِ فِي مَهارَةٍ فائِقَةٍ، يُبادِرُ إلَى خِدْمَةِ «الشَّقْراءِ»، وَيُسْرِعُ إلَى تَلْبِيَةِ إشارَتِها. وَقَدِ احْتَوَتِ الْمائِدَةُ — إلَى ذَلِكَ — أَشْهَى ما يَشْتَهِي الآكِلُونَ مِنْ لَحْمٍ وَطَيْرٍ وَسَمَكٍ وَفَطائِرَ وَحَلْوَى وَفالُوذَجٍ وَلَطائِفَ مَحْشُوَّةٍ بِالْجَوْزِ واللَّوْزِ والسُّكَّر الْماذِيِّ، وَما إلَى ذَلِكَ مِنْ لَذائِذِ الْأَطْعِمَةِ الْمُرْتَقِياتِ.
وَكانَتِ «الشَّقْراءُ» جائِعَةً؛ فَأَكَلَتْ مَعَ «أَمِيرَةِ الْغِزْلانِ» وَوَلَدِها ما شاءَتْ مِنْ هَذِهِ الْمائِدَةِ الدَّسِمَةِ! حَتَّى إذا فَرَغَتْ مِنْ تَناوُلِ الْعَشاءِ صَحِبَتْها «أُمُّ عَزَّةَ» و«أَبُو خِداشٍ» إلَى حَدِيقَةِ الْقَصْرِ. فَرَأَتْ فِيها — مِنَ الْفاكِهَةِ النَّاضِجَةِ، والْمُتَنَزَّهاتِ الْبَدِيعَةِ — ما لا عَهْدَ لَها بِمِثْلِهِ فِي قَصْرِ أَبِيها وَحَدِيقَتِهِ. فَلَمَّا أَتَمَّتْ نُزْهَتَها، عادَتْ مَعَ صَدِيقَيْها الْجَدِيدَيْنِ.
وَكانَ التَّعَبُ قَدِ اسْتَولَى عَلَيْها — حِينَئِذٍ — فَأَشارَتْ عَلَيْها أَمِيرَةُ الْغِزْلانِ أَنْ تَذْهَبَ إلَى مَخْدَعِها لِتَنامَ. فَلَبَّتِ اقْتِراحَها مَسْرُورَةً.
وَما دَخَلَتْ حُجْرَةَ نَوْمِها حَتَّى وَجَدَتْ فِيها غَزالَتَيْنِ — مِنْ غِزْلانِ الْغابَةِ — تَستَقْبِلانِها مُتَأَهِّبَتَيْنِ لِخِدْمَتِها. وَقَدْ أَسْرَعَتا إلَى ثِيابِها فَنَزَعَتاها — فِي مَهارَةٍ — ثُمَّ سَهِرَتا إلَى جِوارِ سَرِيرِها، تَرْعَيانِها وَتُلَبِّيانِ كُلَّ ما تَأْمُرُهُما بِهِ.
ثُمَّ أَغْمَضَتِ «الشَّقْراءُ» عَيْنَيْها دُونَ أَنْ تُلْهِيَها تِلْكَ الْمَناظِرُ الرَّائِعَةُ وَالْأَمْتِعَةُ النَّفِيسَةُ عَنِ التَّفْكِيرِ فِي أَبِيها، مُتَحَسِّرَةً مُتَأَلِّمَةً تَرْجُو لِقاءَهُ.