الفصل السابع
(١) حَدِيثُ «أُمِّ عَزَّةَ»
وَمَرَّتْ عَلَى «الشَّقْراءِ» سِتَّةُ أَشْهُرٍ — أَوْ قَرِيبٌ — قَضَتْها فِى قَصْرِ الْغِزْلانِ، بَعْدَ أَنْ أَفاقَتْ مِنْ رُقادِها الطَّوِيلِ الَّذِي احْتَواها سَبْعَ سَنَواتٍ كامِلَةً. وَطالَ بِها الْوَقْتُ، أَوْ — عَلَى الْأَصَحِّ — بَدا لَها الْوَقْتُ طَوِيلًا، وَخُيِّلَ إلَيْها أَنَّ ساعاتِ الْيَوْمِ قَدْ أَصْبَحَتْ أَطْوَلَ مِمَّا أَلِفَتْهُ. وَظَلَّتْ تُعاوِدُها ذِكْرَى أَبِيها فِي أَكْثَرِ الْأَوْقاتِ؛ فَتَمْلَأُ قَلْبَها حُزْنًا، وَتُفْعِمُ نَفْسَها أَلَمًا. وَلَمْ يَخْفَ عَلَى أَمِيرَةِ الْغِزْلانِ وَوَلَدِها شَيْءٌ مِمَّا كانَ يَتَرَدَّدُ فِي خاطِرِ «الشَّقْراءِ» وَيَهْجِسُ فِي قَلْبِها. وَلَمْ يَكُنْ «أَبُو خِداشٍ» وَأُمُّهُ يَمْلِكانِ لَها أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلَا. وَآثَرَتِ «الشَّقْراءُ» السُّكاتَ، فَكَتَمَتْ شَكْواها، وَلَمْ تَبُحْ بِها، خَشْيَةَ أَنْ تُسِيءَ إلَى ضِيافَةِ «أُمِّ عَزَّةَ» الَّتِي لَمْ تُقَصِّرْ فِي إكْرامِها.
عَلَى أَنَّ «أُمَّ عَزَّةَ» فاجَأَتْها قائِلَةً: «سَتَرَيْنَ والِدَكِ — يا «شَقْراءُ» — مَتَى بَلَغْتِ الْخامِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمْرِكِ، عَلَى أَنْ تَحْتَفِظِي بِما عَرَفْناهُ عَنْكِ مِنْ مَزايا الصَّبْرِ والتَّعَقُّلِ والاتِّزانِ. وَلَيْتَكِ تَأْخُذِينَ بِنَصِيحَتِي؛ فَلا تَشْغَلِي نَفْسَكِ بِالْمُسْتَقْبَلِ. وَلَوْ عَلِمْتِ — يا «شَقْراءُ» — أَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ أَوانًا، لَما حاوَلْتِ أَنْ تَتَعَجَّلِي مُفارَقَتَنا قَبْلَ أَنْ يَحِينَ الْوَقْتُ.»
(٢) حَدِيثُ الْبَبَّغاءِ
وَفِي صَباحِ يَوْمٍ جَلَسَتِ «الشَّقْراءُ» مَهْمُومَةً مُنْفَرِدَةً بِنَفْسِها، وَهِيَ تُفَكِّرُ فِي حَياتِها الْجامِدَةِ.
ثُمَّ انْتَبَهَتْ منْ تَفْكِيرِها عَلَى صَوْتِ طَرْقاتٍ ثَلاثٍ خَفِيفَةٍ عَلَى نافِذَتِها.
وَحانَتْ مِنْها الْتِفاتَةٌ، فَرَأَتْ بَبَّغاءَ خَضْراءَ جَمِيلَةً، بُرْتُقالِيَّةَ الْعُنُقِ والصَّدْرِ.
وَما رَأَتْ هَذا الطَّائِرَ الْجَدِيدَ الْمَجْهُولَ حَتَّى دَهِشَتْ، وَخَفَّتْ إلَى لِقائِهِ، وَأَسْرَعَتْ إلَى النَّافِذَةِ فَفَتَحَتْها لَهُ. واشْتَدَّتْ دَهْشَتُها حِينَ سمِعَتِ الْبَبَّغاءَ تَتَكَلَّمُ وَتُخاطِبُها بِصَوْتٍ خافِتٍ رَقِيقٍ: «عِمِي صَباحًا، يا «شَقْراءُ». إنِّي أَعْرِفُ أَنَّكِ تَتَضَجَّرِينَ وَتَتَأَلَّمِينَ أَحْيانًا حِينَ لا تَظْفَرِينَ بِلِقاءِ مَنْ تَتَحَدَّثِينَ إلَيْهِ. وَهَأَنَذِي جئْتُ إلَيْكِ لِأُونِسَكِ بِالْحدِيثِ، وَأُزِيلَ وَحْشَتَكِ. وَلَسْتُ أُرِيدُ — عَلَى ذَلِكَ — جَزاءً أَكْثَرَ مِنْ أَنْ تُعاهِدِينِي عَلَى كِتْمانِ سِرِّي، فَلا تَبُوحِي بِهِ إلَى أَمِيرَةِ الْغِزْلانِ، وَلا تُخْبِرِيها بِزِيارَتِي، وَإلَّا قَطَعَتْ رَأْسِي فِي الْحالِ.»
فَقالَتِ «الشَّقْراءُ»: «وَلِماذا تَقْطَعُ رَأْسَكِ أَيَّتُها الْبَبَّغاءُ الْجَمِيلَةُ؟ إنَّها كَرِيمَةٌ عادِلَةٌ، محْسِنَةٌ فاضِلَةٌ، وَهِيَ لا تُسِيءُ إلَى أَحَدٍ، وَلا تَكْرَهُ غَيْرَ الثُّقَلاءِ والْحَمْقَى والْمَجانِينِ.»
فَقالَتْ لَها الْبَبَّغاءُ: «إذا لَمْ تَعِدِينِي — يا «شَقْراءُ» — بِكِتْمانِ أَمْرِي والاِحْتِفاظِ بِسِرِّي، عَنْ أَمِيرَةِ الغِزْلانِ، فالْوَداعَ مُنْذُ الآنَ، وِلَنْ تَرَيْ وَجْهِيَ بَعْدَ ذَلِكِ أَبَدًا.»
فَقالَتِ «الشَّقْراءُ»: «لَكِ عَلَيَّ أَنْ أَكْتُمَ حَدِيثَكِ، وَلا أَبُوحَ لِأَحَدٍ بِزِيارَتِكِ، طاعَةً لِأَمْرِكِ، وَنُزُولًا عَلَى إرادَتِكِ، وتَحْقِيقًا لِرَغْبَتِكِ. فَهاتِي ما عِنْدَكِ مِنَ الْحَدِيثِ — أَيَّتُها الْبَبَّغاءُ الْجَمِيلَةُ — لَعَلَّ فِي حَدِيثِكِ لِي بَعْضَ السَّلْوَى والْعَزاءِ.»
وَطَفِقَتِ الْبَبَّغاءُ تَتَحَبَّبُ إلَيْها، وَتَفْتَنُّ فِي إظْهارِ شَوْقِها إلَى لِقائِها، وَإعْجابِها بِما وَهَبَها اللهُ مِنْ فَضائِلَ، ومَا مَيَّزَها بِهِ مِنْ ذَكَاءٍ. فَسُرَّتِ «الشَّقْراءُ» مِمَّا سَمِعَتْ مِنْ عِباراتِ الْمَدِيحِ والتَّمْلِيقِ. ثُمَ طارَتِ الْبَبَّغاءُ — بَعْدَ أَنْ جَلَسَتْ مَعَها ساعَةً — عَلَى أَنْ تَعُودَ إلَيْها فِي الْغَدِ. وَقَدْ بَرَّتِ الْبَبَّغاءُ بِوَعْدِها، فَعادَتْ — عِدَّةَ أَيَّامٍ مُتَواصِلَةٍ — وَهِيَ لا تُقَصِّرُ فِي التَّوَدُّدِ إلَيْها وَتَسْلِيَتِها، وَرِوايَةِ بَدائِعِ الْقِصَصِ وَطَرائِفِ الْأَحادِيثِ.
وَفِي صَباحِ يَوْمٍ، طَرَقَتِ الْبَبَّغاءُ النَّافِذَةَ، وَهِيَ تَقُولُ فِي لَهْفَةٍ شَدِيدَةٍ: «شَقْراءُ! شَقْراءُ! افْتَحِي يا شَقْراءُ. فَقَدْ جِئْتُ أَحْمِلُ إلَيْكِ نَبَأً عَنْ أَبِيكِ.»
فَفَتَحَتِ «الشَّقْراءُ» النَّافِذَةَ، وَقالَتْ لِلْبَبَّغاءِ. «أَحَقِيقَةً — يا بَبَّغائِي — أَنَّكِ آتِيَةٌ لِي بِأَنْباءٍ عَنْ أَبِي؟ خَبِّرِينِي ماذا يَصْنَعُ الآنَ؟ وَكَيْفَ هُوَ؟»
فَقالَتِ الْبَبَّغاءُ: «إنَّ أَباكِ فِي صِحَّةٍ جَيِّدَةٍ، يا شَقْراءُ، وَلَكِنَّهُ ما يَزالُ يَبْكِيكِ، وَلَمْ يَكُفَّ عَنِ الْحُزْنِ لَحْظَةً واحِدَةً، مُنْذُ فارَقْتِهِ إلَى الآنَ. وَقَدْ وَعَدْتُهُ — وَلَنْ أُخْلِفَ وَعْدِي مَعَهُ — بِأَنْ أَبْذُلَ ما أَمْلِكُ مِنْ نُفُوذٍ ضَئِيلٍ، وَسُلْطانٍ قَلِيلٍ، لِأُنْقِذَكِ مِنْ هَذا السِّجْنِ الطَّوِيلِ. ولَكِنْ لَيْسَ فِي وُسْعِي أَنْ أَقُومَ بِهَذا الْمُهِمِّ كُلِّهِ وَحْدِي. وَلا بُدَّ لِتَحْقِيقِهِ أَنْ تَبْذُلِي شَيْئًا مِنْ مَعُونَتِكِ.»
فَقالَتِ «الشَّقْراءُ»: «لَوْ عَرَفْتِ ما بَذَلَتْهُ «أُمُّ عَزَّةَ» وَوَلَدُها فِي تَثْقيفِي وَتَعْلِيمِي، والسَّهَرِ عَلَى راحَتِي، لَضاعَفْتِ مِنْ شُكْرِهِما، وَلَمْ تُفَكِّرِي — لَحْظَةً واحِدَةً — فِي اتِّهامِهِما. وَلَيْسَ أَشْهَى إلَى نَفْسَيْهِما، وَلا أَبْهَجَ لِقَلْبَيْهِما، مِنْ أَنْ تُتاحَ لَهُما الْوَسِيلَةُ لِيُعِيدانِي إلَى أَبِي فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ. أَلا تَقْبَلِينَ أَنْ أُقَدِّمَكِ لَهُما لِتَنْعَمِي بِمَودَّتِهِما؟»
فَقالَتْ لَها الْبَبَّغاءُ، بِصَوْتِها الْمُنْخَفِضِ: «يا لَكِ مِنْ ساذَجَةٍ طَيِّبَةِ الْقَلْبِ. إنَّكِ لا تَعْرِفِينَ — يا شَقْراءُ — حَقِيقَةَ «أُمِّ عَزَّةَ» و«أَبِي خِداشٍ». وَلا تَسْتَطِيعِينَ أَنْ تُمَثِّلِي لِنَفْسِكِ مِقْدارَ ما يُضْمِرانِهِ لِي مِنْ كَراهِيَةٍ وَبَغْضاءَ وَحِقْدٍ. لِأَنَّهُما يَعْلَمانِ أَنَّنِي — عَلَى ضَعْفِي — طالَما أَنْقَذْتُ الْكَثِيرَ مِنْ صَرْعاهُما، وَفَكَكْتُ الْكَثِيرَ مِنْ أَسْراهُما.
(٣) فَكُّ الطِّلَّسْمِ
واعْلَمِي — يا «شَقْراءُ» — أَنَّكِ لَنْ تَخْرُجِي مِنْ هَذِهِ الْغابَةِ، وَلَنْ تَظْفَرِي بِلِقاءِ أَبِيكِ أَبَدًا، إذا لَمْ تَفُكِّي بِنَفْسِكِ الطِّلَّسْمَ الَّذي يُقَيِّدُكِ هُنا.»
فَقالَتِ «الشَّقْراءُ»: «أَيَّ طِلَّسْمٍ تَعْنِينَ؟ إنِّي لا أَفْهَمُ شَيئًا مِمَّا تَقُولِينَ. ومَا أَدْرِي أَيَّةُ فائِدَةٍ تَعُودُ عَلَيْهِما مِنْ حَجْزِي فِي هَذا الْمَكانِ وَبَقَائِي إلَى جِوارِهِما؟»
فَقالَتِ الْبَبَّغاءُ: «إنَّما يَحْجُزانِكِ لِيَتَسَلَّيا بِكِ فِي عُزْلَتِهما. أَمَّا الطِّلَّسْمُ الَّذِي حَدَّثْتُكِ عَنْهُ فَهُوَ وَرْدَةٌ فِي الْغابَةِ، لا يَقْطِفُها إلَّا أَنْتِ وَحْدَكِ دُونَ غَيْرِكِ، وَلا تَكادِينَ تَقْطِفِينَها حَتَّى تَخْلُصِي مِنْ سِجْنِكِ الْأَبَدِيِّ، وَتَعُودِي إلَى أَبِيكِ سالِمَةً، مُمَتَّعَةً بِلِقائِهِ غانِمَةً.»
فَقالَتِ «الشَّقْراءُ» لِلْبَبَّغاءِ: «أَيَّ وَرْدَةٍ تَعْنِينَ، فَما أَكْثَرَ الْوُرُودَ؟»
فَقالَتِ الْبَبَّغاءُ: «ذَلِكِ ما أُحَدِّثُكِ بِهِ فِي غَيْرِ هَذا الْيَوْمِ؛ فَقَدْ حَانَ مَوْعِدُ قُدُومِهِما. فَإذا شِئْتِ أَنْ تَتَعَرَّفِي قِيمَةَ نَصِيحَتِي! وَتُدْرِكي نَفْعَ الْوَرْدِ لَكِ، فَحاوِلِي أَنْ تَطْلُبِي مِنْ «أُمِّ عَزَّةَ» وَرْدَةً واحِدَةً. والآنَ وَداعًا، يا «شَقْراءُ». وَداعًا إلَى غَدٍ.»
(٤) الزَّهْرَةُ الْخَبِيثَةُ
وَما طارَتِ الْبَبَّغاءُ حَتَّى جاءَتْ «أُمُّ عَزَّةَ» ثائِرَةً مُهْتاجَةً، وَقالَتْ لـِ«الشَّقْراءِ»: «مَعَ مَنْ كُنْتِ تَتَكَلَّمِينَ؟»
فَكَتَمَتْ عَنْها «الشَّقْراءُ» حَدِيثَها مَعَ الْبَبَّغاءِ، وَبَذَلَتْ جْهْدَها لِتُوهِمَها أَنَّها لَمْ تُكَلِّمْ أَحَدًا قَطُّ.
فَقالَتْ لَها «أُمُّ عَزَّةَ»: «لَقَدْ سَمِعْتُكِ تَتَحَدَّثِينَ الآنَ!» فَقَالَتْ لَها: «كُنْتُ أُحَدِّثُ نَفْسِي مُنْذُ قَلِيلٍ.»
فَسَكَتَتْ «أُمُ عَزَّةَ» عَلَى مَضَضٍ، وَبَدَتْ عَلَى وَجْهِها أَماراتُ الْحُزْنِ والْأَلَمِ؛ فَلَم تَسْتَطِعْ أَنْ تَحْبِسَ دَمْعَةً سالَتْ مِنْ عَيْنَيْها.
وَكانَتِ «الشَّقْراءُ» — حينَئِذٍ — مَشْغُولَةَ الْقَلْبِ، شارِدَةَ الْفِكْرِ؛ لِأَنَّ ما حَدَّثَتْها بِهِ البَبَّغاءُ بَلْبَلَ خاطِرَها، وَشَرَّدَ ذِهْنَها، وَأَنْساها كُلَّ ما أَسْلَفَتْهُ إلَيْها الْوَعِلَةُ وَوَلَدُها مِنْ صَنِيعٍ.
وهَكَذا عَمِيَتِ «الشَّقْراءُ» عَنِ الْحَقِّ الْواضِحِ، وَأَطاعَتْ نَصِيحَةَ الْبَبَّغاءِ. فالْتَفَتَتْ إلَى «أُمِّ عَزَّةَ» تَسْأَلُها: «ما بالُكِ — يا مَوْلاتِي — لا تُقَدِّمِينَ لِي — فِيما تُقَدَّمِينَ مِنْ طاقاتِ الْأَزْهارِ — وَرْدَةً واحِدَةً؟»
فَدَهِشَتْ «أُمُّ عَزَّةَ»، وَلَمْ تَتَمالَكْ أَنْ صَرَخَتْ فِي وَجْهِ «الشَّقْراءِ»: «شَقْراءُ! يا شَقْراءُ! حَذارِ أَنْ تُعِيدِي هَذا السُّؤَالَ مَرَّةً أُخُرَى. حَذارِ أَنْ تُفَكِّرِي فِي هَذِهِ الزَّهْرَةِ الْخَبِيثَةِ الْمَلْعُونَةِ، الَّتِي تَخِزُ أَشْواكُها كُلَّ مَنْ يَلْمُسُها. وَحَذارِ أَنْ تُحَدِّثِينِي عَنْها حَتَّى لا تَجْلُبِي عَلَى نَفْسِكِ ما لا قِبَلَ لَكِ بِهِ مِنَ النَّكَباتِ والْكَوارِثِ.»
فَلَمْ تَجْرُؤِ الْفَتاةُ عَلَى أَنْ تَنْطِقَ بِحَرْفٍ واحِدٍ.
(٥) عَوْدَةُ الْبَبَّغاءِ
وَفِي صَباحِ غَدٍ بَكَرَتِ «الشَّقْراءُ» إلَى نافِذَةِ حُجْرَتِها، وَلَمْ تَفْتَحْها حَتَّى دَخَلَتِ الْبَبَّغاءُ، وَبَدأَتْ حَدِيثَها مَعَها ساخِرَةً وَهِيَ تَقُولُ: «أَرَأَيْتِ — يا شَقْراءُ — كَيْفَ اضْطَرَبَتْ «أُمُّ عَزَّةَ» وانْزَعَجَتْ حِينَ ذَكَرْتِ لَها اسْمَ الْوَرْدَةِ؟ أَرَأَيْتِ الآنَ كَيْفَ صَدَقْتُكِ الْقَوْلَ أَمْسِ؟ لَقَدْ وَعَدْتُكِ أَنْ أَدُلَّكِ عَلَى الْوَسِيلَةِ الَّتِي تَحْصُلِينَ بِها عَلَى واحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْوُرُودِ الْجَمِيلَةِ. والْيَوْمَ أُحَقِّقُ لَكِ وَعْدِي، وَأُعِينُكِ عَلَى تَحْقِيقِ رَغْبَتِكِ وَهِيَ — بِعَوْنِ اللهِ — هَيَّنَةٌ غَيْرُ عَسِيرَةٍ، وَلَنْ تُكَلِّفَكِ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ تَخْرُجِي مِنَ الْحَدِيقَةِ، وَتَمْضِي فِي صُحْبَتِي إلَى الْغابَةِ، حَتَّى أَبْلُغَ بِكِ حَدِيقَةَ الْوَرْدِ، حَيْثُ تَرَيْنَ أَجْمَلَ ما يَحْوِيهِ الْعالَمُ مِنْ وُرُودِ.»
فَقالَتِ «الشَّقْراءُ»: «وَلَكِنْ كَيْفَ السَّبيلُ إلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْحَدِيقَةِ، و«أَبُو خِداشٍ» لا يُفارِقُنِي أَيْنَما ذَهَبْتُ؟»
فَقالتِ الْبَبَّغاءُ: «مَتَى صَحَّتْ عَزِيمَتُكِ، فَلَنْ تَعْدَمِي وَسِيلَةً لِإبْعادِهِ عَنْكِ. فَإذا أَلَحَّ عَلَيْكِ فِي الْبَقاءِ فازْجُرِيهِ؛ فَإنُ لَمْ يَزْدَجِرْ فاضْرِبِيهِ، ثُمَّ اخْرُجِي بِرَغْمِ أَنْفِهِ، وَسَتَجِدِينَنِي فِي انْتِظارِكِ.»
فَقالتِ «الشَّقْراءُ»: «أَخْشَى أَنْ تَكُونَ الْوَرْدَةُ بَعِيدَةً، فَتَفْطُنَ الْوَعِلَةُ إلَى غِيابِي.» فَقالتِ الْبَبَّغاءُ: «كَلَّا، فَلَيْسَ بَيْنَكِ وَبَيْنَها أَكْثَرُ مِنْ ساعَةٍ واحِدَةٍ. والْآنَ لا أُوصِيِكِ بِغَيْرِ الشَّجاعَةِ والثَّباتِ وَصِدْقِ الْعَزِيمَةِ؛ حَتَّى يَتَحَقَّقَ أَمَلُكِ فِي الْخَلاصِ مِنَ الْأَسْرِ.»
(٦) ضَرْبَةٌ جائِرَةٌ
وَلَمَّا جاءَ الْيَوْمُ التَّالِي خَرَجَتِ «الشَّقْراءُ» إلَى الْحَدِيقَةِ وَمَعَها «أَبُو خِداشٍ» بَعْدَ أَنْ تَغَدَّيا. وَحاوَلَتْ أَنْ تُفْلِتَ مِنْ صُحْبَةِ «أَبِي خِداشٍ»؛ فَلَمْ تَجِدْ إلَى ذَلِكَ سَبِيلًا.
فَلَمَّا بَلَغَتِ الْمَمْشَى الذَّي يُؤَدِّي إلَى بابِ الْحَدِيقَةِ، حاوَلَتْ أَنْ تُبْعِدَهُ عَنْها، فَطَلَبَتْ إلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَها وَحْدَها لِتَنْفَرِدَ بِنَفْسِها، فَلَبِثَ فِي مَكانِهِ كَأَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ شَيْئًا. فَلَمَّا اشْتَدَّ بِها الضِّيقُ رَكَلَتْهُ بِرِجْلِها غاضِبَةً حانِقَةً، وَضَرَبَتْهُ ضَرْبَةً عَنِيِفَةً. فَصَرَخَ الْمِسْكِينُ مُتَأَوِّهًا، وَعَلَا مُواؤُهُ مِنْ شِدَّةِ الْأَلَمِ. ثُمَّ تَرَكَها عائِدًا إلَى الْقَصْرِ، وَهُوَ لا يَكادُ يُصَدِّقُ بِالنَّجاةِ.
وارْتَعَشَتِ الْفَتاةُ حِينَما سَمِعَتْ صَيْحَةَ الْقِطِّ الْمُفَزِّعَةَ، وَوَقَفَتْ فِي مَكانِها مَحْسُورَةً نادِمَةً عَلَى فَعْلَتِها. وَهَمَّتْ أَنْ تَسْتَدْعِيَهُ وَتَعْتَذِرَ إلَيْهِ عَنْ إساءَتِها، وَتَعْدِلَ عَنْ قَطْفِ الْوَرْدَةِ، وَتُطْلِعَ أُمَّهُ عَلَى ما حَدَّثَتْها بِهِ الْبَبَّغاءُ دُونَ أَنْ تُخْفِيَ عَنْها شَيْئًا؛ وَلَكِنَّها خَجِلَتْ مِنْ إساءَتِها إلَى الْقِطِّ، وَدَفَعَها الْخَجَلُ الطَّائِشُ إلَى الْفِرارِ.
وَكانَتْ قَدْ بَلَغَتْ بابَ الْحَدِيِقَةِ، فَأَسْرَعَتْ إلَى فَتْحِهِ، وَما فَتَحَتِ الْبابَ حَتَّى أَبْصَرَتْ نَفْسَها فِي الْغابَةِ. وَلَمْ تَلْبَثِ الْبَبَّغاءُ أَنْ أَدْرَكَتْها بَعْدَ قَلِيلٍ، وَظَلَّتْ تُقَوِّي مِنْ عَزْمِ الْفَتاةِ؛ فَمَضَتِ «الشَّقْراءُ» فِي الطَّرِيقِ الَّتِي رَسَمَتْها لَها الْبَبَّغاءُ. وَكانَتِ الْبَبَّغاءُ تَسْبِقُها طائِرَةً أَمامَها مِنْ فَنَنٍ إلَى فَنَنٍ، مُتَنَقِّلَةً مِنْ غُصْنٍ إلَى غُصْنٍ، وَتَشْغَلُها بِالْحَدِيثِ لِتُهَوِّنَ عَلَيْها عَناءَ السَّيْرِ وَمَشَقَّتَهُ.
(٧) بَيْنَ الْأَشْواكِ
وَبَدَتِ الْغابَةُ صَعْبَةَ الْمَسالِكِ، مَمْلُوءَةً بِالْحَسَكِ والشَّوْكِ، وَقَدْ كانَتْ تَحْسَبُهَا نُزْهَةً جَمِيلَةً هَيِّنَةً. وَرَأَتْ كُلَّ طَرائِقِها وَعْرَةً مَمْلُوءَةً بِالصُّخُورِ والْأَحْجارِ. وَلَمْ تَعُدْ أُذُناها تَسْمَعانِ تَغْرِيدَ الْأَطْيارِ، واخْتَفَى عَنْ عَيْنَيْها جَمالُ الْأَزْهارِ، وَأَحَسَّتْ أَلَمًا شَدِيدًا؛ فَحاوَلَتْ أَنْ تَرْجِعَ مِنْ حَيْثُ جاءَتْ، وَلَكِنَّ الْبَبَّغاءَ ظَلَّتْ تَحُثها وَتُشَجِّعُها عَلَى السَّيْرِ، قائِلَةً: «عَجِّلِي، عَجِّلِي، يا «شَقْراءُ». وَحَذارِ أَنْ تُفْلِتَ مِنْ يَدَيْكِ هَذِهِ الْفُرْصَةُ النَّادِرَةُ. وَأَسْرِعِي بِانْتِهازِها قَبْلَ أَنْ تَفْطُنَ «أُمُّ عَزَّةَ» إلَى غِيابِكِ، فَتَتْبَعَكِ وَتَحُولَ بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْخَلاصِ.»
وَلَمْ تَلْبَثِ «الشَّقْراءُ» أَنِ اسْتَوْلَى عَلَيْها التَّعَبُ، وَمَزَّقَتِ الْأَشْواكُ ذِراعَيْها وَحِذاءَها. فَحاوَلَتْ أَنْ تَعُودَ مَرَّةً أُخْرَى، وَلَكِنَّ الْبَبَّغاءَ ما زالَتْ بِها تُشَجِّعُها.
وَرَأَتِ «الشَّقْراءُ» حَوْلَ الْمَمَرِّ حَظِيرَةً صَغِيرَةً فَتَحَتِ الْبَبَّغاءُ بابَها، وَكانَتْ أَرْضُها جامِدَةً صَخْرِيَّةً. وَرَأَتْ فِي وَسَطِها شَجَرَةَ وَرْدٍ مُزْهِرَةً، بِها وَرْدَةٌ أَبْهَى ما فِي الْعالَمِ مِنْ وَرْدٍ. فَقالَتْ لَها الْبَبَّغاءُ: «خُذِي الْوَرْدَةَ يا «شَقْراءُ»؛ فأَنْتِ بِها جَدِيِرَةٌ، بَعْدَ ما بَذَلْتِ مِنْ جُهُودٍ جَلِيلَةٍ.»
فَأَمْسَكَتِ «الشَّقْراءُ» بِالْغُصْنِ الَّذِي بِهِ الْوَرْدَةُ، وَقَطَفَتْها بِرَغْمِ ما أَحاطَ بِها مِنَ الْأَشْواكِ الَّتِي أَدْمَتْ يَدَها، وانْغَرَسَتْ فِي أَصابِعِها.
(٨) طالِعُ النَّحْسِ
وَلَمْ تَظْفَرِ «الشَّقْراءُ» بِالْوَرْدَةِ حَتَّى امْتَلَأَ الْجَوُّ بِصَيحاتِ الْفَرَحِ، وَعَلا الضَّجِيجُ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. وَأَفْلَتَتِ الْوَرْدَةُ مِنْ يَدِها فِي الْحالِ، وَقَالَتْ لَها ساكِنَتُها بِلِسانٍ فَصِيحٍ: «شُكْرًا لَكِ، يا «شَقْراءُ»، لِما قَدَّمْتِ إلَيَّ مِنْ مَعْرُوفٍ. لَقَدْ أَطْلَقْتِنِي مِنَ السِّجْنِ الَّذِي حَجَزَتْنِي فِيهِ «أُمُّ عَزَّةَ»، أَمِيرَةُ الْغِزْلانِ. وَهِيَ ساحِرَةٌ قَدِيرَةٌ؛ لَوْ تَعْلَمِينَ. وَقَدِ انْتَصَرَتْ عَلَيَّ بِسِحْرِها، حَتَّى جِئْتِ أَنْتِ فَفَكَكْتِ الطَّلاسِمَ والْأَرْصادَ الَّتِي جَعَلَتْ مِنْ هَذِهِ الْوَرْدَةِ سِجْنًا لِي! وَأَطْلَقْتِ — بِإطْلاقِي — طالِعَ النَّحْسِ الَّذِي يُلازِمُكِ! وَمَصْدَرَ الشَّقاءِ الَّذِي يُطارِدُكِ. وَقَدْ ظَفِرْتُ بِكِ الْآنَ، وَأَصْبَحْتِ أَسِيرَتِي مُنْذُ الْيَوْمِ.»
وهُنا ضَحِكَتِ الْبَبَّغاءُ، بَعْدَ أَنْ نَجَحَ كَيْدُها، وَأَفْلَحَتْ مُؤَامَرَتُها، وَقالَتْ: «ها. ها. ها. شُكْرًا لَكِ — يا «شَقْراءُ» — عَلَى ما هَيَّأْتِهِ لِي مِنْ وَسِيلَةٍ لِلْخَلاصِ مِنْ سِجْنِي. لَقَدْ عَرَفْتُ كَيْفَ أَخْدَعُكِ بِما نَمَّقْتُهُ لَكِ مِنْ أَلْفاظٍ مَعْسُولَةٍ، واتَخَذْتُ مِنْكِ أَداةً لإِهْلاكِ «أُمِّ عَزَّةَ» وابْنِها: صَدِيقَيْكِ اللَّذَيْنِ أَحْسَنا إلَيْكِ صُنْعًا.»
وَما هِيَ إلَّا أَنِ اسْتَخْفَتِ الْبَبَّغاءُ والْوَرْدَةُ، وبَقِيَتْ «الشَّقْراءُ» وَحْدَها فِي غابَةٍ كَثِيفَةٍ مُوحِشَةٍ.