الفصل الثامن
(١) خَرائِبُ وَأَطْلالٌ
وَجَزِعَتِ «الشَّقْراءُ» مِنْ سُلُوكِها الْخاطِئِ، الَّذِي جَمَعَ بَيْنَ التَّسَرُّعِ والْإساءَةِ. وَراحَتْ تُسائِلُ نَفْسَها مُتَعَجِّبَةً: «تُرَى ماذا تَعْنِيهِ الْبَبَّغاءُ حِينَ قالَتْ: لَقَدِ اتَّخَذْتُكِ أَداةً لإهْلاكِ صَدِيقَيْكِ اللَّذَيْنِ أَحْسَنا إلِيْكِ صُنْعًا؟»
وَحاوَلَتِ «الشَّقْراءُ» أَنْ تَعُودَ إلَى قَصْرِ أَمِيرَةِ الْغِزْلانِ، فَوَجَدَتِ الطَّرِيقَ شائِكَةً وَعْرَةً، وَقَدْ مَزَّقَتِ الْأَشْواكُ ذِراعَيْها، وَأَدْمَتْ ساقَيْها.
وَما زالَتْ تَضْرِبُ فِي الْغابَةِ، سائِرَةً فِي وَضَحِ النَّهارِ بَيْنَ الْحَشائِشِ والْأَعْشابِ حَتَّى انْتَهَتْ إلَى قَصْرِ أَمِيرَةِ الْغِزْلانِ بَعْدَ ثَلاثِ ساعاتٍ.
وَلَكِنْ: أَيْنَ الْقَصْرُ؟ وَأَيْنَ حَدِيقَتُهُ؟ أَمَّا الْقَصْرُ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ إلَّا خَرائِبُ وَأَطْلالٌ، وأَمَّا الْحَدِيقَةُ فَلَمْ يَبْقَ مِنْها إلَّا أَشْواكٌ وَأَعْقابُ أَشْجارٍ يابِسَةٌ. أَما أَشْجارُها الْباسِقَةُ وَأَزْهارُها النَّضِيرَةُ الْعَطِرَةُ، فَقَدْ زالَتْ وَامَّحَتْ.
(٢) مُفاجَأَةٌ
وَأَرادَتِ «الشَّقْراءُ» أَنْ تَقْتَحِمَ هَذِهِ الْخَرائِبَ والْأَشْواكَ، فَلَمْ تَرَ إلَّا حَيَوانًا كَبِيرًا يَخْرُجُ لَها مِنْ بَيْنِ كُومَةِ الْأَحْجارِ، ثُمَّ يَقْتَرِب مِنْها قائِلًا: «عَمَّ تَبْحَثِينَ؟ أَعَنْ غِزْلانِ الْغابَةِ وَأَمِيرَتِهِنَّ وَوَلَدِها تُفَتِّشِينَ؟ وَيْحَكِ! أَلَسْتِ أَنْتِ السَّبَبَ فِي هَلاكِهِنَّ. فَماذا تَبْتَغِينَ بَعْدَ ذَلِكَ؟ خَيْرٌ لَكِ أَنْ تَرْجِعِي مِنْ حَيْثُ أَتَيْتِ وَلا تُلَوِّثِي ذِكْراهُنَّ بِالتَّحَدُّثِ عَنْهُنَّ.»
فَصَرَخَتِ «الشَّقْراءُ» مُتَفَجِّعَةً: «آهٍ لَكُما، أَيُّها الصَّدِيِقانِ، وَواهٍ عَلَيْكُما، أَيُّها الْمُحْسِنانِ. أَلا سَبِيلَ إلَى افْتِدائِكُما، والتَّكْفِيرِ عَمَّا أَسْلَفْتُ مِنْ إساءَةٍ إلَيْكُما؟»
وَهَوَتْ إلَى الْأَرضِ مُتَخاذِلَةً جاثِيَةً، نادِمَةً بَاكِيَةً.
وَلَمَّا أَفاقَتْ مِنْ غَشْيَتِها، أَجالَتِ النَّظَرَ فِيما حَوْلَها، لَعَلَّها تَكْشِفُ مَوْئِلًا تَلُوذُ بِهِ، أَوْ دارًا تَأْوِي إلَيْها، فَلَمْ تَرَ أَمامَها غَيْرَ أَحْجارٍ مُتَناثِرَةٍ، وَغُصُونٍ شائِكَةٍ مُبَعْثَرَةٍ. فَقالَتْ فِي نَفْسِها: «وَماذَا يُخِيفُنِي إنْ كانَ يُمَزِّقُنِي سَبُعٌ مِنَ السِّباعِ الْمُفْتَرِسَةِ، أَوْ يَأْكُلُنِي ضارٍ مِنَ الضَّوارِي الْفاتِكَةِ، أَوْ أَهْلِكُ جُوعًا وَعَطَشًا؟ إنَّ هَذا أَيْسَرُ ما أَسْتَحِقُّ مِنْ جَزاءٍ عَلَى ما جَلَبْتُهُ عَلَى «أُمِّ عَزَّةَ» وَوَلَدِها وَغِزْلانِها مِنَ الْإساءَةِ والْأَذَى.»
(٣) حَدِيثُ الْغُرابِ
وَلَمْ تَنْتَهِ «الشَّقْراءُ» مِنْ هَذِهِ الْكَلِماتِ حَتَّى سَمِعَتْ صَوْتًا يَقُولُ: «هَوِّنِي عَلَيْكِ أَيَّتُها الْأَمِيرَةُ، وَخَفِّفِي مِنْ جَزَعِكِ؛ فَإنَّ النَّدَمَ يَمْحُو الْإساءَةَ، والتَّوْبَةَ تُصْلِحُ الْخَطَأَ، وَتَغْفِرُ الذَّنْبَ الَّذِي لا يُغْتَفَرُ.»
فَرَفَعَتْ رَأْسَها فَلَمْ تَرَ إلَّا غُرابًا كَبِيرًا يَطِيرُ فَوْقَ رَأْسِها. فَقَالَتْ مُتَلَهِّفَةً: «أَحَقًّا تَقُولُ؟ أَيَسْتَطِيعُ النَّدَمُ اللَّاذِعُ أَنْ يَمْحُوَ إساءَتِي، وَيُعِيدَ الْحَياةَ إلَى أَمِيرَةِ الْغابَةِ وابْنِها وَغِزْلانِها؟»
فَقالَ لَها الصَّوْتُ: «لا رَيْبَ أَنَّ النَّدَمَ يَمْحُو الذُّنُوبَ مَهْما تَكْبَرْ، فاعْتَصِمِي بِالشَّجاعَةِ، وَلا تَرْكَنِي إلَى الْيَأْسِ.»
فَذَهَبَتِ «الشَّقْراءُ» إلَى مَكانٍ قَفْرٍ مِنَ الْغابَةِ، خالِيَةٍ أَشْجارهُ مِنَ الشَّوْكِ.
(٤) حَدِيثُ الضِّفْدِعِ
ثُمَّ جَلَسَتْ إلَى جِذْعِ شَجَرَةٍ كَبِيرَةٍ، وَظَلَّتْ تَبْكِي بُكاءً مُرًّا؛ فَطَرَقَ سَمْعَها صَوْتٌ آخَرُ يَقُولُ لَها: «تَجَلَّدِي، يا «شَقْراءُ»، وابْعَثِي الْأَمَلَ فِي نَفْسِكِ مِنْ جَدِيدٍ.»
وَنَظَرَتِ «الشَّقْراءُ» فَرَأَتْ أَمامَها ضِفْدِعًا عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنْها، فَقالَتْ لَها «الشَّقْراءُ»: «هَلْ تَعْرِفِينَ — بِرَبِّكِ — وَسِيلَةً أَسْلُكُها، بَعْدَ أَنْ أَصْبَحْتُ وَحِيدَةً فِي هَذا الْعالَمِ؟»
فَقالَتْ لَها الضِّفْدِعُ: «الشَّجاعَةَ والْأَمَلْ.»
(٥) حَدِيثُ الْبَقَرَةِ
فَتَنَهَّدَتِ «الشَّقْراءُ» وَنَظَرَتْ فِيما حَوْلَها، لَعَلَّها تَجِدُ فاكِهَةً تَسُدُّ بِها جوعَها، وَتَرْوِي ظَمَأَها، فَلَمْ تَقَعْ عَيْناها عَلَى شَيْءٍ؛ فَعاوَدَها الْحُزْنُ والْبُكاءُ. ثُمَّ سَمِعَتْ صَوْتَ جَلاجِلَ وأَجْراسٍ نَبَّهَتْها مِنْ آلامِها.
وَنَظَرَتْ، فَإذا بَقَرَةٌ سَمِينَةٌ تَدْنُو مِنْها — عَلَى مَهْلٍ — حَتَّى إذا بَلَغَتْ مَكانَها، وَقَفَتْ أَمامَها، وَحَنَتْ رَأْسَها، ثُمَ أَشارَتْ إلَى وِعاءٍ مُعَلَّقٍ فِي عُنُقِها.
وَقَدْ تَعَوَّدَتِ «الشَّقْراءُ» أَمْثالَ هَذِهِ النَّجَداتِ الْمُفاجِئَةِ الْمَحْمُودَةِ؛ فَفَهِمَتْ ما تَعْنِيهِ الْبَقَرَةُ، وانْتَزَعَتِ الْوِعاءَ مِنْ عُنُقِها، وَحَلَبَتْ مِلْءَ الوِعاءِ. فَلَمَّا ارْتَوَتْ مِنْ لَبَنِها السَّائِغِ اللَّذِيذِ، أَشارَتِ الْبَقَرَةُ إلَيْها أَنْ تُعِيدَ الْوِعاءَ إلَى عُنُقِها. فَأَعادَتْهُ حامِدَةً، ثُمَّ قالَتْ لَها: «شُكْرًا لَكِ — يا «أُمَّ جَوْذَرٍ» — عَلَى مَعْرُوفِكِ، وَرَحْمَةُ اللهِ عَلَى أَمِيرَةِ الْغِزْلانِ وابْنِها. فَما أَشُكُّ فِي أَنَّ هَذا الْإسْعافَ الْكَرِيمَ إنَّما جاءَنِي عَنْ طَرِيقِهِما. وَلَعَلَّهُما لَمْ يَنْسَيانِي بَعْدَ أَنِ انْتَقَلا إلَى الْعالَمِ الآخَرِ.»
فَسَمِعَتِ الصَّوْتَ يُرَدِّدُ قَولَهُ: «إنَّ النَّدَمَ يَمْحُو الْإساءَةَ، والتَّوْبَةَ تُصْلِحُ الْخَطَأَ، وَتَغْفِرُ الذَّنْبَ الَّذِي لا يُغْتَفَرُ.»
فَقالَتِ «الشَّقْراءُ»: «لَوْ صَحَّ ما قُلْتَ؛ لَوَجَبَ عَلَيَّ أَنْ أَقْضِيَ طُولَ عُمْرِي مُكَرِّرَةً نَدَمِي، مُسْتَغْفِرَةً لِذَنْبِي.»
وَلَمَّا أَقْبَلَ اللَّيْلُ جَلَسَتِ «الشَّقْراءُ» — بِرَغْمِ حُزْنِها — تُفَكِّرُ كَيْفَ تَنْجُو بِنَفْسِها مِنَ الضَّارِياتِ الْفاتِكَةِ الشَّرِسَةِ، والسِّباعِ الْعادِيَةِ الْمُفْتَرِسَةِ. وَقَدْ خُيِّلَ لَها أَنَها تَسْمَعُ عُواءَ الذِّئابِ، وَزَئيرَ أُسُودِ الغابِ.
(٦) بَيْنَ الْغُصُونِ
وَرَأَتْ — عَلَى قَيْدِ خُطُواتٍ مِنَ الْمَكانِ الَّذِي هَبَطَتْ إلَيْهِ — مَحَلَّةً تَصْلُحُ أَنْ تُنْشِئَ فِيها خُصًّا تَأْوِي إلَيْهِ بَيْنَ الْأَشْجارِ. فانْحَنَتْ شَيْئًا (قَلِيلًا) لِتَستَطِيعَ الدُّخُولَ بَيْنَ الْغُصُونِ الْمُلْتَفَّةِ، والْأَفْنانِ الْمُشْتَبِكَةِ، ثُمَّ وَصَلَتْ بَعْضَها بِبَعْضٍ، فَأَلَّفَتْ مِنْها مَنْزِلًا صَغِيرًا. وَقَضَتْ ما بَقِيَ مِنْ يَوْمِها فِي تَهيِئَةِ هَذا الْمَسْكَنِ؛ فَأَحْضَرَتْ قَلِيلًا مِنَ الْأَعْشَابِ والْغُصُونِ، فَجَعَلَتْ مِنْها فِراشًا وَمِخَدَّةً وَغِطاءً.
ثُمَ كَسَرَتْ طائِفَةً أُخْرَى مِنَ الْغُصُونِ، وَغَرَسَتْها فِي الْأَرْضِ؛ فَجَعَلَتْ مِنْها بابًا وَحاجِزًا يَحْجُبُ مَدْخَلَ الْخُصِّ. وَيَصُدُّ عَنْهُ غارَةَ الْمُغِيرِينَ. ثُمَّ رَقَدَتْ مَجْهُودَةً مِنَ التَّعَبِ.
وَلَمَّا اسْتَيْقَظَتْ فِي الْيَوْمِ التَّالِي، قَضَتْ نَهارَها أَلِمَةً، حَزِينَةً نادِمَةً، حَتَّى إذا شَعَرَتْ بِالْجُوعِ، سَمِعَتْ جَلاجِلَ الْبَقَرَةِ، وارْتَوَتْ مِنْ لَبَنِها الشَّهِيِّ، كَما ارْتَوَتْ أَمْسِ.
وَجَلَسَتِ «الشَّقْراءُ» راجِيَةً أَنْ تَعُودَ إلَيْها الْبَقَرَةُ كُلَّ يَوْمٍ. وَقَدْ تَحَقَّقَ رَجاؤُها، وَلَمْ يُخْطِئْ ظَنُّها، وَلَمْ تَتَخَلَّفْ عَنْها الْبَقَرَةُ يَوْمًا واحِدًا، وَظَلَّتْ مُواظِبَةً عَلَى زِيارَةِ «الشَّقْراءِ» صُبْحًا وَظُهْرًا وَمَساءً؛ لِتُغَذِّيَها بِلَبَنِها الشَّهِيِّ!
وَكانَتِ «الشَّقْراءُ» تُمْضِي وَقْتَها باكِيَةً، تُسائِلُ نَفْسَها: «لَقَدْ جَلَبْتُ بِعِصْيانِي وَعِنادِي كُلَّ هَذِهِ الْمَصائِبِ والنَّكَباتِ، وَلَيْسَ فِي مَقْدُورِي أَنْ أُصْلِحَها أَوْ أُكَفِّرَ عَنْها، بَعْدَ أَنْ فَقَدْتُ أَمِيرَةَ الْغِزْلانِ وابْنَها. وَفَقَدْتُ — بِفَقْدِهِما — كُلَّ أَمَلٍ فِي لِقاءِ أَبِي الَّذِي طالَ شَوْقُهُ إلَى رُؤْيَةِ بِنْتِهِ التَّاعِسَةِ.»
وَبَذَلَتِ «الشَّقْراءُ» كُلَّ ما فِي وُسْعِها لِتَنْسَى أَحْزانَها وَهُمُومَها، فَراحَتْ تَشْغَلُ نَفْسَها بِتَنْظِيمِ الْخُصِّ — الَّذِي أَنْشَأَتْهُ — وَتَرْتِيبِهِ وَإعْدادِ أَثاثِهِ وَأَدَواتِهِ؛ مِنَ الْحَشائِشِ والنَّباتِ وَأَوْراقِ الشَّجَرِ. فَرَبَطَتِ الْغُصُونَ بَعْضَها بِبَعْضٍ، وَهَيَّأَتْ مِنْها مَقْعَدًا، وَاتَّخَذَتْ مِنَ الْأَشْواكِ الدَّقِيقَةِ الطَّوِيلَةِ إبَرًا وَدَبابِيسَ وَمَشابِكَ، وَغَزَلَتْ مِنْ سُوقِ الْكَتَّانِ الدَّقِيقَةِ خُيُوطًا مَتِينَةً، أَصْلَحَتْ بِها ما تَقَطَّعَ مِنْ حِذائِها الَّذِي مَزَّقَتْهُ الْأَشْواكُ.
وَظَلَّتْ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوالِ سِتَّةَ أَسابِيعَ كامِلَةً، لَمْ يَنْقُصْ حُزْنُها يَوْمًا، وَلَمْ يَفْتُرْ نَدَمُها ساعَةً.
وَقَدْ أَنْساها الْحُزْنُ والنَّدَمُ ما كانَتْ تُقاسِيهِ فِي عُزْلَتِها مِنَ الْغُرْبَةِ والْوَحْشَةِ والأَلَمِ.