الفصل التاسع
(١) حَدِيثُ السُّلَحْفاةِ
وَجَلَسَتِ «الشَّقْراءُ» عَلَى بابِ الْخُصِّ — ذاتَ يَوْمٍ — مَحْزُونَةً، مُسْتَغْرِقَةً فِي التَّفْكِيرِ فِيما جَلَبَتْهُ مِنَ الْمَصائِبِ عَلَى صَدِيقَيْها؛ فَرَأَت سُلَحْفاةً هائِلَةَ الْجِسْمِ تَقْتَرِبُ مِنْها؛ قائِلَةً بِصَوْتٍ مُتَقَطِّعٍ تُخالِطُهُ بُحَّةٌ: «شَقْراءُ! شَقْراءُ! أَتُرِيدِينَ الْخُرُوجَ مِنَ الْغابَةِ؟ إنْ كُنْتِ صادِقَةَ الْعَزْمِ عَلَى الْخَلاصِ، فَأَنا ضَمِينَةٌ لَكِ بِذَلِكِ؛ عَلَى أَنْ تُعاهِدِينِي عَلَى الطَّاعَةِ وَلا تُخالِفِي لِي نُصْحًا.»
فَقالَتِ «الشَّقْراءُ»: «كانَ الْخُرُوجُ مِنَ الْغابَةِ كُلَّ أُمْنِيَّتِي فِي الْحَياةِ؛ أَمَّا الآنَ فَلا.»
فَقالَتِ السُّلَحْفاةُ: «وَلِماذا غَيَّرْتِ رَأْيَكِ؟»
فَقالَتِ الْفَتاةُ: «لَقَدْ جَلَبْتُ الْمَوْتَ والدَّمارَ عَلَى مَنْ أَحْسَنا إلَيَّ، فَلا عَجَبَ إذا عَزَمْتُ عَلَى أَنْ أَمُوتَ فِي الْغابَةِ مَعَهُما، تَكْفِيرًا عَنْ إساءَتِي إلَيْهِما.»
فَقالَتِ السُّلَحْفاةُ: «أَواثِقَةٌ أَنْتِ مِنْ مَوْتِهِما، يا «شَقْراءُ»؟»
فَقالَتْ: «كَيْفَ أَشُكُّ فِي هَذا وَقَدْ رَأَيْتُ قَصْرَهُما خَرابًا، وَسَمِعْتُ الْبَبَّغاءَ تُحَدِّثُنِي أَنَّهُما ماتا؟ وَما أَظُنُّكِ تُرِيدِينَ بِهَذا السُّؤالِ إلا أَنْ تُهَوِّنِي عَلَيَّ مُصِيبَتِي، وَتُخَفِّفِي مِنْ نَكْبَتِي. وَأَنا واثِقَةٌ أَنَّهُما لَوْ بَقِيا عَلَى قَيْدِ الْحَياةِ إلَى الْيَوْمِ، لَما هانَ عَلَيْهِما أَنْ يَتْرُكانِي مُنْفَرِدَةً وَحِيدَةً، لا ناصِرَ لِي وَلا مُعِينَ. وَإنَّ النَّدَمَ لَيَكادُ يَفْتَرِسُنِي كُلَّما ذَكَرْتُ أَنَّنِي كُنْتُ السَّبَبَ فِي مَوْتِهِما.»
فَقالَتِ السُّلَحْفاةُ: «مَنْ قالَ لَكِ — يا «شَقْراءُ» — إنَّ فِراقَهُما إيَّاكِ لَمْ يَكُنْ بِرَغْمِهِما؟» لِماذا لا تُقَدِّرِينَ أَنَّهُما لَمْ يَسْتَخْفِيا عَنْكِ إلَّا بِأَمْرِ سُلْطانٍ قاهِرٍ أَكْبَرَ مِنْ سُلْطانِهِما؟ أَلا تَعْلَمِينَ — يا «شَقْراءُ» — أَنَّ النَّدَمَ يَذْهَبُ بِالسَّيئَّاتِ، وَيَمْحُو الْغَلَطاتِ؟»
فَقالَتِ «الشَّقْراءُ»: «كُلُّ أُمْنِيَّتِي أَنْ يَكُونا عَلَى قَيْدِ الْحَياةِ، يا سَيِّدَتِي السُّلَحْفاةَ، فَماذا وَراْءَكِ مِنْ أَخْبارٍ؟»
(٢) وَصِيَّةٌ وَعَهْدٌ
فَقالَتِ السُّلَحْفاةُ: «لَمْ يُؤْذَنْ لِي أَنْ أُفْضِيَ إلَيْكِ بِشَيْءٍ مِنْ أَخْبارِهِما — أَيَّتُها الْفَتاةُ — وَلَنْ تَظْفَرِي مِنِّي بِذَلِكِ إلَّا إذا ضَمِنْتِ لِي أَمْرَيْنِ: أَوَّلُهُما: أَنْ تَمْكُثِي عَلَى ظَهْرِي سِتَّةَ أَشْهُرٍ كامِلَةً، دُونَ أَنْ تُفَكِّرِي — فِي خِلالِها — فِي النُّزُولِ إلَى الْأَرْضِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَحْبِسِي لِسانَكِ عَنِ الْكَلامِ، فَلا تُوَجِّهِي إلَيَّ سُؤالًا — مَهْما تَشْهَدِي مِنَ الْغَرائِبِ — حَتَّى تَنْتَهِيَ رِحْلَتُنا بِسَلامٍ.»
فَقالَتِ «الشَّقْراءُ»: «لَكِ عَلَيَّ عَهْدٌ بِذَلِكِ لا أَنْقُضُهُ.»
فَقالَتِ السُّلَحْفاةُ: «تَنَبَّهِي جَيِّدًا، يا «شَقْراءُ»، إنَّها سِتَّةُ أَشْهُرٍ لا تَنْزِلِينَ عَنْ ظَهْرِي — فِي أَثْنائِها — لَحْظَةً واحِدَةً، وَلا تُوَجِّهِينَ إلَيَّ — فِي خِلالِها — سُؤالًا واحِدًا، وَلا يُؤْذَنُ لَكِ فِي الْكَلامِ إلَّا بَعْدَ أَنْ تَنْتَهِيَ الرِّحْلَةُ.
وَعَلَيْكِ أَنْ تَتَذَكَّرِي أَنَّكِ سَتَبْقَيْنَ طَوالَ هَذِهِ الْأَشْهُرِ السِّتَّةِ تَحْتَ سُلْطانِ الْبَبَّغاءِ الْغادِرَةِ، وَشَقِيقَتِها الْوَرْدَةِ السَّاحِرَةِ، ثُمَّ لَنْ يَكُونَ فِي وُسْعِي أَنْ أُقَدِّمَ لَكِ أَيَّ مُعاوَنَةٍ، بالِغَةً ما بَلَغَتْ مِنَ التَّفاهَةِ والضَّآلَةِ.»
فَقالَتْ لَها: «لَكِ ما تُرِيدِينَ. فَلْنَبْدَأْ رِحْلَتَنا جادَّتَيْنِ، وَلا تُضَيِّعِي لَحْظَةً واحِدَةً، فِي غَيْرِ فائِدَةٍ.»
فَقالَتِ السُّلَحْفاةُ: «إذا صَحَّ عَزْمُكِ، فَلْيَكُنْ ما تُرِيدِينَ. فاصْعَدِي عَلَى ظَهْرِي، وَلا تَخْشَيْ جُوعًا وَلا ظَمَأً وَلا أَرَقًا، وَلا تَرْهَبِي شَيْئًا طُولَ الرِّحْلَةِ، فَلَنْ يُصِيبَكِ فِيها — إنْ شاءَ اللهُ — أَيُّ مَكْرُوهٍ.»
فَصَعِدَتِ «الشَّقْراءُ» عَلَى ظَهْرِ السُّلَحْفاةِ الَّتِي قالَتْ لَها: «أَلْجِمِي فاكِ — إنِ اسْتَطَعْتِ — بِلِجامٍ. حَذارِ، يا «شَقْراءُ»، أَنْ تَنْبِسِي بِحَرْفٍ واحِدٍ، قَبْلَ أَنْ نَبْلُغَ نِهايَةَ الرِّحْلَةِ. وَسَتَعْرِفِينَ انْتِهاءَها مَتَى بَدَأْتُكِ بِالْحَدِيثِ.»