مقدمة المؤلف في الطبعة الثانية عشرة
تطبيق ما جاء في هذا الكتاب من المبادئ على بعض حوادث الحرب الأوربية
نشر هذا الكتاب للمرة الأولى منذ عشرين سنة، ولم تَنَلْهُ يدُ التغيير قط في تلك الأثناء، وكانت غايته تعيين بعض السنن النفسية لتطور الأمم.
وما كان ليفترض حينئذ أن انقلابًا عالميًّا سيجيء مصدِّقًا لما اشتمل عليه هذا الكتاب من السنن التي استنبطها فيلسوف من عقدة التاريخ.
وتدل تلك السنن على أن عددًا قليلًا من العوامل النفسية الثابتة يسيطر على حياة الأمم فضلًا عن سيطرة بعض المؤثرات التي هي وليدة تقدم الحضارة، ويُرى من خلال الزمان والمكان تأثير تلك السنن في كل زمان ومكان، وكان لتلك السنن الأثر البالغ في قيام أعظم الدول، وسقوط هذه الدول.
ولم تكن القوى النفسية التي لها ذلك التأثير الكبير صادرة عن العقل، وهذه القوى هي التي تسيطر على جميع العقول، وفي الكتب وحدها تجد أن المعقول يقود التاريخ.
وإذ كانت علل ما يملأ حياة الأمم من اصطراع غريبةً عن العقل فإنك ترى أن أي تقدم في العلم لا يلطف ضراوته، وعلى ما تبصر من نمو العقل باتساع أفق المعرفة تجد المشاعر والأوهام والشهوات التي سيرت الناس منذ دَوْرِ الكهوف الأولى ظلت ثابتة كما هي، فالحق أنه لا دَوْرَ للحقد والحب والحرص والطمع والعُجْبِ.
والأمم — وهي لا كبير تأثير للعقل فيها — مسيَّرة بأخلاق عرقها؛ أي بمجموع المشاعر والاحتياجات والعادات والرغبات التي هي دعائم روحها الأساسية، وتَمُنُّ هذه الروح القومية على الأمم بثبات دائم مع تقلبات الحوادث على الدوام.
وهنا نلمس سر التاريخ، وهنا نلمس القوى الخفية التي توجه مجراه.
والعرق بالحقيقة هو الذي يعيِّن الوجه الذي تسير به الأمم بفعل الحوادث وتقلبات البيئة.
وتهيمن روح العروق على مقادير الأمم حين تسيطر على النظم والقوانين وعلى عزائم الطغاة.
وتعين معرفة روح العروق على حل ألغاز التاريخ، وتخبرنا معرفة روح العرق بأسباب العظمة والانحطاط، وبالعلة في نماذج أمم وعجز أمم عن ذلك، والعرق هو حجر الزاوية الذي يقوم عليه توازن الأمم، والعرق هو الذي يعين الحد النفسي لطموح الفاتحين ولما يبتدعونه من أخيلة العظمة والتصدر.
•••
وشأن العرق يرْسُخ في حياة الأمم رسوخًا عظيمًا على الدوام، فلا يجوز جهله، وعلى ما تراه من بيان الكتب الدينية القديمة لقوة هذا الشأن تبصر الثوريين الغافلين عن الماضي يجادلون في هذه القوة.
بَيْدَ أن على من يرغب في اكتناه مبدأ العِرق أن يعرف ما أسفر عنه علم الحياة الحديث من الاكتشافات.
ويكفي الاصطراع الأوربي لإثبات خطأ النظريين الذين يحاولون إنكار روح العروق، ومصدر هذا الاصطراع الرئيس بالحقيقة هو ادعاء إحدى الأمم بالصدارة لما افترضته من خصال عرقها فاعتقدت أنها مدعوة إلى السيطرة على العالم، ومن أسباب هذا الاصطراع أيضًا ما كان من الحقد الموروث المُفَرِّق بين أمم مختلفة الأصول؛ كالنمسويين والصرب والروس على الخصوص.
وينشأ ذلك الاصطراع، بوجه خاص، عن الأوهام التي نبتت في روح مؤرخي الألمان ومؤلفيهم بفعل تصورهم لمبدأ العرق تصورًا خاطئًا.
ووقع ذلك التصور في زمن كان نقص المعارف الأنتروپولوجية فيه يؤدي إلى الظن بأن بعض العروق في أوربة ظل خالصًا من شائبة الاختلاط مع تعاقب القرون.
ولو لم تظل الأفكار التي نشأت عن النظريات الوهمية قائمة بعد نقض هذه النظريات ما وجدتَ خطأ كهذا باقيًا في أيامنا، والحق أن ما أدت إليه الأنتروپولوجية الدقيقة من ملاحظات يُثبت عدم وجود عروق خالصة لدى الأمم المتمدنة.
أجل، لا يزال كثير من البقاع في إفريقية وآسية مشتملًا على عروق خالصة، غير أن أوربة لا تحتوي سوى ما سميته بالعروق التاريخية، وهذه العروق التاريخية هي وليدة انصهارات مختلفة نشأت عن مصادفات الهجرة والفتوح، وإذا كانت صفات هذه العروق النفسية الموروثة قد غدت كثيرة الثبات فلأن حواصل مثل تلك الانصهارات قد خضعت في قرون كثيرة لحياة جامعة منطوية على نظم مشتركة، وعلى مصالح مشتركة بوجه خاص.
وإذ تكررت مؤثرات كتلك منذ الدور الذي تخلصت فيه الأمم من مغازي الفتح، فانتهت إلى الوَحدة السياسية، فإنها أوجبت حدوث أخلاق العروق الحاضرة، واليوم قد توطدت هذه الأخلاق لدى معظم الأمم، وإن لم يرجع زمن ظهورها إلى أجيال ما قبل التاريخ.
وإذ إن صفات العروق النفسية متباينة أشد التباين فإنها تتأثر تأثرًا مختلفًا بفعل المؤثرات الواحدة، وفي الغالب ينشأ عن ذلك عدم تفاهم مطلق، وبدا عدم التفاهم هذا منذ أدت سهولة الصلات السريعة إلى تَمَاسِّ الأممِ.
وكانت النتيجة الأولى لهذا التقارب هي إظهار الفروق النفسية التي تفصل بين الأمم وما ينشأ عن ذلك من تباين في إدراك الأمور.
وأتت الحرب الأوربية بدليل آخر على درجة ما يمكن أن يكون من تباين نفسي بين أمم ذات حضارة واحدة في الظاهر صاحبة أفكار متقابلة منذ طويلِ زمنٍ حائزةٍ لبعض المصالح المتماثلة.
وتلك الأمم غير متعارِفة بالحقيقة، وليست حكوماتها أحسن معرفة لها من ذلك مع ما يزودها به من المعلومات سفراؤها وملحقوها العسكريون ووثائقها الكثيرة.
وكانت ألمانية تجهل روح إنكلترة، ولم يكن جهل فرنسة لروح ألمانية أقل من ذلك، وخفيت نفسية سكان البلقان على معظم السياسيين الأوربيين، فاقترف هؤلاء السياسيون أفدح الأغاليط لما كان من تفسيرهم لتلك النفسية بأفكارهم التي هي أفكار رجال متمدنين، فلروح العروق من الحدود ما يتعذر اقتحامه.
وعدم الإدراك ذلك لأنه يسود ما بين مختلف الأمم من صلات، ونحن لأننا نود أن نحكم في أمر تلك الأمم بمشاعرنا وأفكارنا الشخصية، كان من الصعب أن يُبْصَرَ سَيْرُ الأمم الأجنبية وسادتها في حال ما، ولنا في الحرب الأوربية عدة أمثلة؛ ومنها أن ما لدى أولياء الأمور بألمانية من غفلة نفسية أدى إلى تأليب بلاد كإنكلترة وإيطالية عليها ظانين أن هذه البلاد مما يجب أن يُعْتَمَدَ على صداقته أو حياده.
وما كان لروح التُّوتُون (الألمان) النفعية أن تُبصِر أن احترام إمضاء المعاهدات، الذي هو أساس جميع الحياة التجارية بإنكلترة، مما يوجب قيام هذه الأمة المسالمة ضدَّ ألمانية، وأن اضطرار بلجيكة الضعيفة إلى الدفاع عن نفسها يحملها على الوقوف في وجه قاهرها القوي.
وعدم إدراك مثل هذا تجلى فينا أيضًا؛ فقد نسينا ما قد يكون لروح الأموات من السلطان الهائل على الأحياء، فاعترانا الدَّهَش من صولة تلك الجيوش الهمجية التي حرَّقَت المدن والآثار بدم بارد، وقتلت السكان العزل من السلاح بدم بارد، وما كان الألمان في ذلك إلا مكرِّرين أعمال أجدادهم في ذلك. نعم، لاح أن الحضارة ألانت طبائع الألمان، بَيْدَ أن ما كان منسيًّا من القسوة في أيام السلم، لتعذُّر إبدائه، لم يزُل، فظل التراث سليمًا.
•••
ومن الطبيعي أن تظل المعضلة التي أثارها اختلاف العروق وما يَنجُم عنه من نفورٍ باقيَيْن بعد الحرب، فيكون أشدُّ المصاعب في المستقبل تعديلَ زُمَر الأمم المتحاربة في جميع أوربة، ولا سيما بلاد البلقان.
وتبدو صعوبة تلك المعضلة عند النظر إلى وَحدة الدين واللغة والمصالح بأشدَّ مما قد تبدو في قيام القومية على العرق وإن كان على وجهٍ أبسط من ذلك في هذه الحال، ومما يؤسف عليه في أمر دوام السلم الأوربية القادمة أنْ كان من النادر اجتماع هذه العناصر الأربعة في أمة واحدة.
وسيظل تباين العروق، لطويل زمنٍ، مصدر اصطراع بين الأمم الناقصة التمدن على الخصوص، كأمم البلقان التي لم يَسْطِعْ شيء أن يُسَكِّن أحقادها المتأصلة.
ولا يؤثِّر الزمان في تباين العروق إلا بأقصى البطوءِ، وإذا لاح أحيانًا تغيُّر أمة فإن بعض الأحوال لا يلبث أن يكشف أن هذه التغيرات لم تكن في غير الظاهر، وأنها لم تتناول غير ما في الشخصية من النواحي الثانوية.
ولا تكفي تقلبات البيئة ولا الفتوح لتغيير روح الشعب، ولا يمكن تحوُّل الشعب إلا بالتوالد المكرَّر، وما كانت الأرض ولا النُّظُم ولا الديانة لتغيِّر روح العرق.
على أن التوالد لا يكون مؤثرًا إلا إذا وقع بين أمم ذات نفسية متقاربة، ولا يكون التوالد إلا مضرًّا بين أمم ذات نفسية شديدة الاختلاف، ولا يكون لتزاوج البِيض والسُّود والهندوس والپوروج (أصحاب الجلود الحمر) نتيجةٌ سوى انحلال ما في حصائل هذا التزاوج من عناصر الثبات النفسي الموروث، وذلك من غير إحداث ما يقوم مقامها، وتظل قيادة الأمم المولَّدة؛ كأمم المكسيك، وأمم الجمهوريات الإسپانية الأمريكية، أمرًا متعذرًا؛ لأنها مولَّدة فقط، وقد أثبتت التجربة أن أي نظام أو تربية لم يقْدِر على إخراج هذه الأمم من الفوضى.
•••
قلنا آنفًا إن من أسباب الحرب الأوربية الرئيسة هو ما تسرَّب في أدمغة الألمان بالتدريج من الفكر القائل إن الألمان قوم عالون أُعِدُّوا لفتح العالم.
وإني، حين درست في أحد فصول هذا الكتاب أمر انتشار الأفكار وتأثيرها في حياة الأمم، بيَّنْت كيف أن الفكر لا يُعَتِّمُ أن يكون ذا سلطان على طبقات الأمة العميقة فيغدو كالسيل المنهمر بعد أن يلازم المنطقة النظرية المتحولة للرأي الصرف، وهنالك لا يستطيع الزعماء الذين أَبْدَوْه أن يَسُدُّوا مجراه، والزعماء هم الذين يأتون بناحية الفكر المجردة، والجماعة هي التي تحوِّل الفكر إلى أعمال.
وبذلك الجهاز قام اعتقاد ألمانية الحديثة بأفضليتها كما قامت عبادتها للقوة، وما انفكت كتيبة من الأساتذة والفلاسفة والكتَّاب والجمعيات الوطنية تنشر في ألمانية مَثَلَ الصدارة الأعلى والتعطش إلى الفتح منذ خمسين سنة.
وببطء، ولكن مع قوة، نَفَذَتْ تلك النظريات في روح الشعب الألماني فلم تنشب أن صارت من العقائد ذات المسحة الدينية، وما فتئت ألمانية تبدو قانعة بأن الله دعاها إلى تجديد العالم واستغلاله.
نما ذلك المعتقد، واتفق له من القدرة ما شهر الإمبرطور به الحرب في زمن لو نظر فيه إلى أن أسطوله أدنى من أسطول إنكلترة لرأى عدم استعداده لها، ولوجد أن الانتظار خير من الإقدام عليها لا ريب.
•••
وأظهرت الحوادث الحاضرة صواب كثير من المبادئ الأخرى المعروضة في هذا الكتاب؛ ومن ذلك أنني حين درست ما تم في القرون القديمة من مختلف الفتوح، ولا سيما فتح الرومان لبلاد اليونان، سألتُ عن استطاعة بعض الملكات المتوسطة، إذا ما تصرَّف فيه مثل عالٍ قوي، أن يمنح إحدى الأمم قدرة على تقويض حضارات رفيعة عندما يكون نمو هذه الحضارات الذهني قد أبطل صفات الخُلق.
والمستقبل سيخبرنا بقدرة ألمانية على تحقيق تلك السنَّة التاريخية التي وردها كثير من البلدان القديمة كمصر وفارس واليونان وإيطالية، إلخ.
أجل، إنك لا تجد خلفاء للعظماء الذين شَرُفت بهم ألمانية فيما مضى، بيد أن ألمانية عَلِمت نظام المراتب، وأنها عرفت أن تنتفع بجميع قواها مهما صغرت، وأنها استطاعت بفضل نظامها الحربي الشديد أن تجعل من نَقْع أبنائها المتوسطين كتلة هائلة مهدِّدة لسلم العالم.
وفي المستقبل ستكون معضلة الحياة لدى الأمم ذات الحضارات الرفيعة أن تُنَضِّدَ فوق ثقافتها الذهنية تربية للخلق صارمة وتدريبًا للإرادة على الخصوص، تَيْنِكَ القوتين القادرتين على ضمان استقلال الأمم.
ومما قلتُه غير مرة في هذا الكتاب، وفي كتب لاحقة أخرى، أن قوة الأمم بأخلاقها لا بذكائها، والذكاء يساعد على البحث في أسرار الطبيعة والانتفاع بقواها، والأخلاق تعلِّم السير ومكافحة ضروب الاعتداء بنجاح.
•••
ومن ركام خفي موروث تتكون صفات الخُلق التي يتألف من مجموعها ما للأمة من روح قومية، ومن هذه الصفات تتركَّب مجموعة ثابتة من المشاعر والتقاليد والمعتقدات مشترعة في غضون الأجيال لضرورات تخضع لها حياة كل أمة.
ويتطلب بناء الروح القومية عدة قرون على العموم، وإذا ما رَسَخت الروح القومية ظلت في مأمن من كل مسٍّ طويلَ زمنٍ، وقد حبط عمل الثورة الفرنسية الكبرى في تغيير روح فرنسة على ما تذرَّعت به هذه الثورة من أقسى الوسائل، فلم تُعَتِّم مؤثرات الماضي أن بدت ثانية فأدَّت إلى أكثر من رجعة بعد دور الانقلابات.
وحوادث مهمة كهذه تترك بعض الأثر في روح الأمة لا ريب، غير أن التحولات لا تكون عميقة إلا بفعل تقلبات البيئة.
وقد ألمعتُ إلى سبب ذلك في هذا الكتاب بأن ذكرت وجود عناصر ثانوية بجانب جهاز روح العرق الأساسي توجب ظهور شخصيات جديدة، ولنا في الثورة الفرنسية وفي الحرب الأوربية أمثلة كثيرة على ذلك.
وفي هذه الحرب ظهر تحول الشخصيات ذلك واضحًا إلى الغاية، وبدا ذلك التحول في فرنسة بغتة؛ ففيها صرتَ تُبصر أقسى الثوريين قد غدا من ذوي الحمية الوطنية، وفيها صرت تبصر أشد الناس وجلًا قد غدا من ذوي الإقدام، وفيها صرت تبصر الأحزاب المتناحرة قد جمع بينها فكر عام.
وما كان التحول أقل عمقًا من ذلك في إنكلترة، وإن كان أكثر تُؤَدَةً؛ فقد عَدَلت إنكلترة التي هي أشد تمسكًا بالتقاليد عن كلِّ نَفْرةٍ من الحياة العسكرية، ونسيت منازعها إلى الحرية متخذة روحًا جديدة ملائمة لمقتضيات الساعة، والحق أن ملاءمة أحوال العيش المفاجئة لا تكون إلا وئيدة في أمة استقرت روحها بعوامل موروثة كرِّرت زمنًا طويلًا على معنى واحد.
أجل، يمنح ذلك الثباتُ في الروح القومية الأمةَ قوة عظيمة، ولكنه قد يصبح شؤمًا عليها إذا ما استقر كثيرًا فيها، فالأمم التي لا تَقْدِر على ملاءمة مقتضيات العيش الجديدة تَنْحَطُّ لعدم المرونة.
ومن الطبيعي أن تتضمن الملاءمة اكتساب أفكار جديدة ومشاعر جديدة، ومن ثمَّ طبائع جديدة، والتحولات التي تنشأ على هذا الوجه لا تدوم إلا إذا ثَبَتَتْ ما دامت وليدة تقلبات البيئة، وكلٌّ يعلم درجة انزواء الشخصيات التي صدرت عن تلك الرواية الثورية الفاجعة، فلما هدأت تلك الزوبعة لم يلبث أولئك الذين نعتتهم الأسطورة بالجبابرة؛ لِمَا اقترفوا من أقسى أعمال القتل؛ نصرًا لغرضهم، أن عادوا من أبناء الطبقة الوسطى المسالمين، والتجار الهادئين، والموظفين الوادعين، وبدوا أول من دُهِش من التحول الذي طرأ على روحهم.
ومما لا مراء فيه أن تحوُّل الشخصيات الذي أدت إليه الحرب الأوربية سيكون ذا نتائج أكثر دوامًا من ذلك لمَسِّ جميع المصالح في الحاضر وتهديدها في المستقبل، وسيكون التهديد القادم هذا عاملًا قويًّا في تحويل روح كثير من الأجيال.
وسيظل التهديد قائمًا زمنًا طويلًا لا ريب، وستكرَّر الحروب بين الأمم ذات الروح والأماني والاحتياجات المتباينة حتمًا، وسَتَعْقِب المنافساتُ الاقتصادية المنازعاتِ الحربيةَ في المستقبل مناوبةً.
وقد بدت ضروراتٌ جديدة فتجب ملاءمتها؛ خشية الزوال.
وهل يدوم بعد السلم ما فرضته الحرب من الاتحاد؟ وهل يُغلق إلى الأبد دور الانقسامات السياسية والدينية المقدَّر؟ وهل نرى ظهور الأحقاد الفظيعة التي أوجبها المتفيهقون المشؤومون المضحُّون بمصلحة الوطن في سبيل مآربهم الشخصية؟ إن إلغاء المنازعات الداخلية هو شرط أساسي لحياتنا القومية، ونحن نكون عاجزين عن مقاتلة أعدائنا في الخارج إذا ما وجب علينا أن نقاتل أعداءنا في الداخل.
وإذا ما وازنت خصائلُ عرقنا مساوئَه قرَّر اتجاهُه مصيرَه، ولا حياة لنا بغير محالفات متينة في الخارج وسلْم ثابتة في الداخل، وما ينبغي لمجتمع لا يتمتع بالسلْم الداخلية أن يعيش طويلَ زمنٍ، وارجعِ البصر إلى أغارقة القرون القديمة فإلى بولونيي الزمن الحديث تَجِدِ الأمم التي لم تعرف أن تكفَّ عن انقساماتها قد غرقت في العبودية، وأضاعت حتى حقها في أن تكون ذات تاريخ.