المقدمة
مبادئ المساواة في الزمن الحاضر وعوامل التاريخ النفسية
تقوم حضارة كل أمة على عدد قليل من المبادئ الأساسية، ومن هذه المبادئ تُشْتَقُّ نُظُمُها وآدابها وفنونها، وهذه المبادئ تتكون ببطء كبير كما أنها تزول ببطء كبير، وهي إذا غدت من الأغاليط الواضحة لدى أصحاب النفوس المثقفة منذ زمن طويل ظلت عند الجماعات من الحقائق التي لا جدال فيها، واستمرت على عملها في أعمق طبقات الأمم، والمبدأ الجديد، وإن صعب فرضه، لا يقل فرضه هذا صعوبة عن القضاء على مبدأ قديم، فالبشر يتشبثون تشبثًا قاطعًا بالمبادئ الميتة والآلهة الميتة على الدوام.
ولم يكد يمر قرن ونصف قرن على الزمن الذي قَذَف العالمَ فيه بمبدأ المساواة بين الأفراد والشعوب فلاسفةٌ جاهلون كلَّ الجهل لتاريخ الإنسان الفطري واختلاف مزاجه النفسي وسنن الوراثة.
وقد انجذبت الجماعات إلى ذلك المبدأ كثيرًا فلم يلبث أن رسخ في نفوسها وآتى أكله؛ أي إنه زعزع أسس المجتمعات القديمة وأدى إلى أشد الثورات هولًا، ورمى العالم الغربي في سلسلة من الاضطرابات العنيفة التي تستحيل معرفة مداها.
ومما لا ريب فيه أن بعض الفروق التي تفصل بين الأفراد والعروق كانت من الوضوح بحيث لا تحتمل الجدل الجدي، ولكنه اعتُقد بسهولة أن هذه الفروق هي وليدة اختلاف في التربية، وأن الناس يولدون متساوين صالحين، وأن النُّظُم هي التي أفسدتهم، ولذلك بدا الدواء بسيطًا، وهو أن تُجَدَّدَ النظمُ ويُمنح الناسُ تعليمًا واحدًا، وهكذا لم تُعتِّم النظمُ والتعليم أن صارا تِرْياقَ الديموقراطيات الحديثة ووسيلة معالجة التفاوت المناقض للمبادئ الخالدة التي هي آخر الآلهة في الزمن الحاضر.
وقد تقدَّم العلم بالحقيقة فأثبت فساد نظريات المساواة وأنه لا يمكن ملء الهُوَّة النفسية التي أوجدها الماضي بين الأفراد والعروق إلا بتراكم الوراثة البطيء إلى الغاية، ومما دلَّنا عليه علم النفس الحديث بجانب دروس التجربة القاسية هو أن النُّظم والتربية التي تلائم بعض الأفراد والأمم تكون بالغة الضرر لأفراد آخرين وأمم أخرى، وليس مما يقدر عليه الفلاسفة أن يبطلوا مبادئ سَرَتْ في العالم إذا ما قالوا بفسادها، فالفكر يتبع سيره المخرِّب، ولا شيء يعوق مجراه، وهو في ذلك كالنهر الزاخر الذي لا يحبسه سدٌّ.
ومبدأ مساواة الناس الوهمي ذلك هو الذي قلب الدنيا، وأحدث في أوربة ثورة عظيمة، وأوقع أمريكة في حرب الانفصال الدامية، وساق جميع المستعمرات الفرنسية إلى حال محزنة من الانحطاط، ولا تجد عالمًا نفسيًّا ولا سائحًا ولا رجلًا سياسيًّا على شيء من الثقافة لا يعلم خطأ ذلك المبدأ، وقليل من هؤلاء من يجرؤ على مكافحته مع ذلك.
ويداوم مبدأ المساواة على نموه، وهو لا يزال بعيدًا من دخوله دور الأفول، وباسم هذا المبدأ تزعم الاشتراكية — التي تُعَبِّدُ معظم أمم الغرب عما قليل كما يظهر — أنها تنشر ألوية السعادة بين هذه الأمم، وباسم هذا المبدأ أيضًا تطالب المرأة بمثل حقوق الرجل وبمثل تعليمه، غافلةً عن الفروق النفسية العميقة التي تفصلها عنه، والمرأة إذا ما كُتب لها النصر في ذلك جعلت من الأوربي بدويًّا؛ لا منزل له ولا أسرة.
ولا تبالي الأمم بما أسفرت عنه مبادئ المساواة من الانقلابات السياسية والاجتماعية مطلقًا، كما أنها لا تبالي بما تتمخض عنه هذه المبادئ من نتائج أشد خطرًا من تلك، واليوم غدت الحياة السياسية لرجل الدولة من القِصَرِ بحيث لا يبالي هذا الرجل بها أكثر من مبالاة الأمم تلك، على أن الرأي العام صار صاحب السيادة، فأصبح من المتعذر عدمُ اتباعه.
وليس لأهمية الفكر الاجتماعية مقياسٌ حقيقيٌّ غير ما يكون له من السلطان على النفوس، وليس لدرجة ما في الفكر من الصواب أو الخطأ نفعٌ إلا من الناحية الفلسفية، والفكر الصائب أو الخاطئ، إذا ما اكتسب في الجماعات طور المشاعر، وجب أن يخضع بالتتابع لجميع النتائج التي تصدر عنه.
إذن، يُسَار إلى تحقيق خيال المساواة الحديث بطريق التعليم والنُّظم، ونحن، حين نزعم تقويم ما في سنن الطبيعة من جَوْر بفضل التعليم والنظم، نحاول أن نصبَّ في قالب واحد أدمغة زنوج المارتينيك والغوادلوپ والسنغال، وأدمغة عرب الجزائر، وأدمغة سكان آسية، ومما لا شك فيه أن تحقيق هذا الخيال أمر متعذر، ولكن التجربة وحدها هي التي تكشف عما في الأوهام من خطر، والعقل يبدو عاجزًا عن تحويل عقائد الناس على الدوام.
وغاية هذا الكتاب هي وصف الأخلاق النفسية التي تتألف منها روح العروق، وبيان كيفية اشتقاق تاريخ الأمة وحضارتها من هذه الأخلاق، ونحن؛ إذ ندع الجزئيات جانبًا، أو لا نلجأ إليها إلا عند الضرورة، تسويغًا للمبادئ المعروضة، نبحث في تكوين العروق التاريخية ومزاجها النفسي؛ أي في العروق المصنوعة التي تكوَّنت منذ أزمنة ما قبل التاريخ بفعل مصادفات الفتوح أو بفعل الهجرة أو بفعل التحولات السياسية، ونسعى في إثبات صدور تاريخها عن ذلك المزاج النفسي، وسنحاول اكتشاف سير الأفراد والأمم نحو المساواة، أو ميل الأفراد والأمم إلى التفاوت مقدارًا فمقدارًا، وسنرى بعد ذلك: هل تكون العناصر، التي تتألف منها الحضارة؛ أي: الفنون والنُّظم والمعتقدات، مظاهر مباشرة لروح العروق، وأن هذه العناصر لا تستطيع أن تنتقل من أمة إلى أخرى لهذا السبب؟ ثم نختم كتابنا بأن نسعى في تعيين الضرورة التي تذوي بها الحضارات وتنطفئ، وقد أسهبت في إيضاح هذه المسائل في كتبي عن حضارات الشرق؛ فلا أصنع في هذا الكتاب غير إجمالها.
وأوضحُ انطباعٍ اتفق لي من سياحاتي البعيدة في مختلف البلدان هو أن لكل أمة مزاجًا نفسيًّا ثابتًا ثبات صفاتها التشريحية، فتُشتقُّ منه مشاعرها وأفكارها ونظمها ومعتقداتها وفنونها، ومما اعتقده تُوكْڨيل وغيره من المفكرين المشهورين وجود سبب تطور الأمم في نُظُمها، وتراني أرى العكس فأرجو أن أثبت أن للنُّظم في تطور الحضارات تأثيرًا ضعيفًا إلى الغاية، فالنُّظم معلولات في الغالب، وهي قلما تكون عللًا.
ولا مِراء في أن هنالك عوامل مختلفة تعيِّن تاريخ الأمم، وأن التاريخ مملوء بأحوال خاصة وبعوارض كانت وكان من الممكن ألَّا تكون، بيد أنه يوجد بجانب هذه المصادفات وهذه الأحوال العارضة سنن عظيمة ثابتة توجِّه سَيْر كل حضارة، وأكثر هذه السنن شمولًا وأشدها قسرًا هو ما يصدر عن مزاج العروق النفسي، وما حياة الأمة ونظمها ومعتقداتها وفنونها إلا لُحْمَة ظاهرة لروحها الخفية، وما على الأمة التي تودُّ تحويل نُظُمها ومعتقداتها وفنونها إلا أن تحوِّل روحها في بدء الأمر، وما على الأمة التي ترغب في دخول حضارة إلا أن تُدخِل إلى هذه الحضارة روحها أيضًا، وليس هذا ما يعلِّمه التاريخ لا ريب، غير أننا سنثبت بسهولة أن التاريخ يكون قد خُدِعَ بظواهرَ باطلةٍ حينما يسجِّل مزاعم مخالفة لهذا.
وقد حاول المصلحون الذين تعاقبوا منذ قرن أن يبدِّلوا كل شيء؛ أي أن يبدلوا الآلهة والأرض والناس، وهم لم يستطيعوا صنع شيء فيما أثبته الزمان من الأخلاق المتأصلة في روح العروق.
ويخالف مبدأ الفروق الثابتة التي تَفصِل بين الأشخاص مبادئ الاشتراكيين المعاصرين مخالفة تامة، وليس مما تستطيعه معارف العلم أن تحمل رسل العقيدة الحديثة على ترك الأوهام، وما جهود هؤلاء الرسل إلا وجهٌ جديدٌ لما تَشُنُّه البشرية من حرب صليبية لنيل السعادة: لنيل كنز هسپريد الذي ما فتئت الأمم تبحث عنه منذ فجر التاريخ، وربما لم تكن أوهام المساواه أقل قيمة من الأوهام القديمة التي سيَّرتنا فيما مضى لو لم تصطدم بصخرة التفاوت الطبيعي المنيعة، والتفاوت مع الهرم والموت جزء من المظالم الظاهرة التي ترى الطبيعة مملوءة بها فلا بد للإنسان من معاناتها.