عناصر الحضارة مظهر خارجي لروح الأمة
يجب أن يُعَدَّ مختلف العناصر التي تتألف منها الحضارة، من لغات ونُظُم وأفكار ومعتقدات وفنون وآداب، مظهرًا خارجيًّا لروح الذين أبدعوها، بَيْدَ أن أهمية هذه العناصر تبدو متفاوتة إلى الغاية بتفاوت الأزمان والعروق ما دامت عنوان روح الأمة.
واليوم لا تجد كتابًا باحثًا في الآثار الفنية من غير أن يبدي هذه الآثارَ ترجمانًا صادقًا لأفكار الأمم ومعبرًا مهمًّا عن حضارتها.
ولا ريب في أن الأمر على هذا الوجه في الغالب، ولكن الأمر بعيدٌ من أن يكون قاعدة مطلقة فيطابقَ رُقِيُّ الفنون رُقِيَّ الأمم الذهني في كل وقت، فإذا كانت الآثار الفنية لدى بعض الأمم أهمَّ مظهر لروحها فإن من الأمم من بلغت درجة رفيعة جدًّا في سلَّم الحضارة مع بقاء شأن الفنون ثانويًّا عندها، ولو قُضي علينا بأن نكتب تاريخًا لحضارة كل أمة غير ناظرين إلى غير عنصر واحد لوجدنا اختلاف هذا العنصر بين أمة وأمة؛ أي لوجدنا الفنون أحسن وسيلة لمعرفة بعضها كما نجد النُّظم أو الجندية أو الصناعة أو التجارة أظهر ما نتبين بها غيرها، وهذا أمر يجب تقريره قبل كل شيء لما نستطيع أن ندرك به، فيما بعد، ما السبب في أن مختلف عناصر الحضارة كان عُرضةً لتحولات متفاوتة بانتقاله من عرق إلى آخر.
ولنا في المصريين والرومان من أمم القرون القديمة عدة أمثلة بارزة على ذلك التفاوت في نشوء مختلف عناصر الحضارة، حتى في مختلف الفروع التي يتألف منها كل واحد من هذه العناصر.
وانظر إلى المصريين، قبل كل شيء، ترَ الآداب عندهم ضعيفة جدًّا في كل وقت، وترَ فن التصوير عندهم هزيلًا جدًّا، وترَ فن البناء وصنع التماثيل أسفر عندهم عن أنفس الآثار، فلا تزال مبانيهم تثير إعجابنا، ويَصلُح ما تركوه لنا من التماثيل؛ كتماثيل الكاتب وشيخ البلد وراحوتب ونفرت آرى وغيرِ ذلك، أن يُتخذ نماذجَ حتى في زماننا، وما استطاع الأغارقة أن يجاوزوا مستوى تلك التماثيل إلا لوقت قصير.
وبجانب المصريين نذكر الرومان الذين مثَّلوا دورًا كبيرًا في التاريخ، والرومان لم يكن ليعوزهم المربُّون ولا النماذج ما وُجد المصريون والأغارقة خلفهم، والرومان لم يستطيعوا أن يبتدعوا فنًّا خاصًّا بهم مع ذلك، ومن المحتمل أنك لا تبصر أمة أبدت من قلة الإبداع ما أبداه الرومان في منتجاتهم الفنية، والرومان كانوا لا يبالون بالفنون إلا قليلًا، والرومان كانوا لا ينظرون إلى الفنون إلا من جهة النفع فلا يرونها إلا ضربًا من سلع الاستيراد المشابهة للمحاصيل الأخرى كالمعادن والعطور والأبازير التي كانوا يلتمسونها من الأمم الأجنبية، والرومان على ما اتفق لهم من سيادة العالم لم يكن لهم فن قومي، حتى إنهم في دور السلْم العام لم يؤدِّ ثراؤهم واحتياجهم إلى النفائس إلى غير نمو قليل في مشاعرهم الفنية، فكانوا يطلبون النماذج والمتفننين من الأغارقة، وما كان تاريخ فن البناء والنحت لدى الرومان غير فصل تالٍ لتاريخ العمارة والحفر عند الأغارقة.
بيد أن أمة الرومان العظيمة، المتأخرة في الفنون كثيرًا، أوجبت نهوض ثلاثة عناصر أخرى من عناصر الحضارة؛ فقد كان عندها من النُّظم الحربية ما سيطرت به على العالم، وكان لديها من النُّظم السياسية والقضائية ما لا نزال نسير على غِراره حتى اليوم، وكان لها من الآداب المبتكرة ما استوحيناه في قرون كثيرة.
إذن، نرى تفاوتًا يَقِفُ النظرَ في نشوء عناصر الحضارة لدى أمَّتين لا جدال في سمو ثقافتهما، ونستطيع أن نبصر الأغاليط التي نكون عرضة لها عندما نقتصر على اتخاذ عنصر واحد مقياسًا كالفنون مثلًا، وها نحن أولاء قد وجدنا الفنون لدى المصريين مبتكرة ممتازة إلى الغاية مع استثناء التصوير، ووجدنا الآداب لديهم هزيلة، وها نحن أولاء وجدنا الفنون عند الرومان هزيلة عاطلة من أي إبداع كان، ووجدنا الآداب عندهم رائعة، ووجدنا النُّظم السياسية والحربية عندهم من الطِّراز الأول.
والأغارقة أنفسهم، وهم من الأمم التي أبدت من التفوق في مختلف الفروع ما لم يبدِهِ غيرها، يمكن الاستشهاد بهم لإثبات فُقدان المطابقة بين نمو مختلف عناصر الحضارة، وبيان الأمر أن آدابهم في العصر الأوميري كانت ساطعة إلى الغاية ما دام الناس لا يزالون يَعُدُّون أغاني أوميرس نماذج قضي على الشبيبة الجامعية بأوربة بأن تُشْبَع منها منذ قرون، وأن الحفريات الأثرية الحديثة أثبتت كون فن العمارة وفن النحت لدى الأغارقة في العصر الأوميري على جانب كبير من الغلظة ما تألفا من تقليد مشوَّه لمصر وآشور.
والهندوس، على الخصوص، هم الذين يُتَّخذون دليلًا على ما في نشوء مختلف عناصر الحضارة من تفاوت، والهندوس لم تَفُقْهم أمةٌ في فن العمارة إلا قليلًا، والهندوس، من الناحية الفلسفية، بلغوا من عمق التأمل درجة لم يصل إليها الفكر الأوربي إلا في زمن حديث جدًّا، والهندوس أنتجوا في الآداب قِطَعًا تقضي بالعجب وإن لم يساووا الأغارقة واللاتين في ذلك، والهندوس ظلوا متأخرين في صنع التماثيل وبقوا دون الأغارقة بمراحل، والهندوس ظهروا صِفرًا من العلوم والمعارف التاريخية ومن الدقة ما لا تبصره عند أية أمة أخرى، والهندوس لم تكن علومهم سوى تأملات طِفْلِيَّة، ولم تكن كتب تاريخهم غير أساطير صبيانية عاطلة من أي توقيت، ومن أي حادث صحيح على ما يحتمل، وهنا أيضًا ترى أن دراسة الفنون وحدها لا تكفي لتَبَيُّن مستوى الحضارة عند هؤلاء القوم.
ويمكن سرد كثير من الأمثلة دعمًا لهذه القضية، ومن ذلك أن هنالك عروقًا لم تبلغ قط أعلى درجة، فاستطاعت أن تبدع فنًّا خاصًّا غير ذي صلة ظاهرة بالفنون التي ظهرت قبله، شأن العرب الذين استولوا على العالم اليوناني الروماني القديم فحوَّلوا فن العمارة البزنطي الذي انتحلوه في بدء الأمر حتى غدا من المستحيل أن يُعرف المثال الذي استوحوه لو لم تكن أمامنا سلسلة المباني التي تخلَّلته.
ويمكن أمة أن تبتدع حضارة رفيعة وإن لم تكن ذات استعداد فني أو أدبي، وذلك كما اتفق للفنيقيين الذين لم يكن لهم من التفوق غير حذقهم التجاري، وبالفنيقيين تمدَّن العالم القديم لما كان من جعلهم بعضَ أقسامه يتصل ببعض، ولم يُنْتِجْ هؤلاء الفنيقيون شيئًا تقريبًا، ولم يكن تاريخهم غير تاريخ تجارتهم.
ثم إن هنالك أممًا ظلت جميع عناصر الحضارة متأخرة عندها خلا الفنون، وذلك كما اتفق للمغول الذين شادوا مباني في بلاد الهند لا تجد فيها أثرًا من الطراز الهندي، وهذه المباني هي من الروعة بحيث عدَّ متفننون ماهرون بعضَها من أجمل ما صنعته يد الإنسان، ويصعب عدُّ المغول من العروق العليا مع ذلك.
على أنه يلاحَظ، حتى لدى أكثر الأمم حضارة، أن أعلى درجة في نشوئها الفني لم تكن في زمن بلوغ حضارتها أعلى مراتبها، فارجِعِ البصر إلى المصريين والهندوس تجد أن أكمل مبانيهم هو أقدمها على العموم، وارجِعِ البصر إلى أوربة تجد أن فنها القوطي الرائع، الذي لم يعدله عجيب الآثار قط، ازدهر في القرون الوسطى التي يُنظر إليها كدورٍ شبه متوحش.
ومن المتعذر، إذن، أن يُحْكم في مستوى الأمة برقي فنونها فقط، فالفنون ليست غير عنصر واحد من عناصر حضارة الأمة كما قلت غير مرة، ولم يقُمْ دليلٌ على أن هذا العنصر والآداب أعلى العناصر، وبالعكس تكون الآثار الفنية، في الغالب، أضعف الآثار لدى الأمم البالغة ذروة الرقي المادي؛ كالرومان في القرون القديمة والأمريكيين في الوقت الحاضر، وفي الغالب أيضًا — وذلك كما قلناه منذ هُنَيْهَة — تُبْدِعُ الأمم في أجيالها شبه المتوحشة أنفسَ آثارها الأدبية وأنفسَ آثارها الفنية على الخصوص، والذى يلوح هو أن دورَ تجلِّي شخصيةِ الأمة في الفنون هو دور تَفَتُّحِ طفولتها أو فنونها لا دور نضجها، وإذا نظرنا إلى مناحي العالم الجديد النفعية التي نُبصر فجرها وجدنا شأن الفنون لا يكاد يكون باديًا فيها، وأمكننا أن نُبصر اليوم الذي تُصَنَّفُ فيه هذه الفنون بين مظاهر الحضارة الثانوية إن لم تُعدَّ من أدنى مظاهرها.
وهنالك عدة أسباب تحول دون سير الفنون في تطورها سيرًا موازيًا لتقدم عناصر الحضارة الأخرى ومؤديًا إلى الاطلاع على حال هذه الحضارة دائمًا، وسواءٌ علينا أَنَظرنا إلى مصر أم إلى الإغريق أم إلى مختلف أمم أوربة لم نرَ سوى سُنَّة عامة واحدة؛ وهي: أن الحضارة عندما تبلغ مستوى معينًا؛ أي حينما تظهر بعضُ الآثار النفيسة، يبدو دورٌ من الانحطاط في الفنون مستقلٌّ عن سير عناصر الحضارة الأخرى، وطور الانحطاط في الفنون هذا يبقى إلى الزمن الذي يُدخِل فيه انقلابٌ سياسي أو غزوٌ أجنبي أو اعتناقُ معتقَدٍ جديد أو أيُّ عامل آخر عناصرَ جديدة إلى الفن، وذلك كما وقع في القرون الوسطى حين أسفرت الحروب الصليبية عن جلب معارف وأفكار جديدة قفزت بالفنون إلى الأمام، فنشأ عن ذلك تحويل الطِّراز الروماني إلى الطراز القوطي؛ وذلك كما وقع بعد بضعة قرون حين أوجبت النهضةُ تحويلَ الفن القوطي؛ وذلك كما وقع في بلاد الهند حين أدَّت المغازي الإسلامية إلى تغيير الفن الهندوسي تغييرًا تامًّا.
وإذا كانت الفنون — كما نلاحظ أيضًا — تعبِّر بوجه عام عن بعض ضرورات الحضارة، وكانت تلائم بعض المشاعر، فإنها مقضيٌّ عليها بأن تعاني من التحولات ما يلائم هذه الضرورات، كما أنها محكوم عليها بالزوال تمامًا عند تحوُّل الضرورات أو المشاعر التي أوجبت حدوثها أو زوال هذه الضرورات، ولا يدل هذا على أن الحضارة تكون في دور الانحطاط إذ ذاك، وهنا أيضًا نلمس فقدان الموازاة بين تطور الفنون وتطور عناصر الحضارة الأخرى، وما تقدمت الحضارة في أي دور من أدوار التاريخ كتقدمها الآن، وما كانت الفنون أكثر ابتذالًا وأقل شخصية مما هي عليه اليوم على ما يحتمل، وبيان ذلك أن غياب المعتقدات الدينية والأفكار والاحتياجات، التي تجعل من الفن عنصرًا جوهريًّا من عناصر الحضارة في الدور الذي كانت المعابد والقصور فيه محاريب لها، أسفر عن صَيْرِ الفن أمرًا ثانويًّا؛ أي موضوع تسلية يتعذَّر تخصيص وقت كبير ومال كثير من أجله، وإذ صار الفن أمرًا غير ضروري فإنه لا يكون إلا مصنوعًا أو أثر تقليد، واليوم لا ترى أمة ذات فن قومي، وكل أمة تركن اليوم إلى نسخ ما كان في غابر الأدوار نسخًا موفقًا أو غير موفق سواءٌ أكان ذلك في فن العمارة أم في فن النحت.
نعم، إن فن العمارة وفن النحت وليدا احتياجات وأهواء لا ريب، ولكن من الواضح أنهما لا يعبران عن أفكارنا الحديثة، ومما يثير عجبي ما كان يأتي به متفننونا في القرون الوسطى من الآثار الساذجة حين كانوا يصوِّرون القديسين ويسوعَ والجنَّات وجهنمَ، حين كانوا يصوِّرون أمورًا أساسية في ذلك الزمن، أمورًا كانت تُعدُّ أغراض الحياة الرئيسة آنئذ، بيد أن المصورين الذين أصبحوا عاطلين من تلك المعتقدات، إذا ما ستروا جُدُرنا بالأساطير الابتدائية أو بالرموز الصبيانية محاولين الرجوع إلى فن زمن آخر، لم يكونوا قد صنعوا بذلك غير تقليد هزيل لصور لا فائدة منها للحاضر وتكون عرضة للازدراء في المستقبل.
والفنون الحقيقية الوحيدة، والفنون الوحيدة التي تعبِّر عن دور ما، هي التي يَعرِض بها المتفنن ما يشعر به وما يراه بدلًا من اقتصاره على تقليد أشكال تلائم ما لا وجود له في الساعة الحاضرة من الاحتياجات أو المعتقدات، وما في أيامنا من تصوير صادق وحيد يقوم على نقل الأشياء التي تحيط بنا، وما في أيامنا من فنِّ عمارةٍ صادق أيضًا هو شَيْدُ بيتٍ ذي طبقات خمس، وإنشاء قنطرة، وإقامة محطة لخط حديدي، ويلائم هذا الفن النفعي احتياجات حضاراتنا وأفكارها، وهذا الفن هو من مميزات هذا الدور كما كان الفن الذي شِيدَتْ به الكنيسةُ القوطية والقصر الإقطاعي من مميزات الماضي، وسيكون للفنادق العصرية الكبرى وللكنائس القوطية القديمة فائدةٌ متساوية عند عالِم الآثار في المستقبل؛ لِما ستُعَدَّان به صفحات متعاقبة لتلك الكتب الحجرية التي يتركها كل عصر خلفه، على حين يزدري هذا العالِم ما يأتي به المتفننون المعاصرون تقليدًا من الآثار الهزيلة؛ لأنه ليس من الوثائق المفيدة.
وكل فن يلخِّص ما لأحد الأدوار وأحد العروق من المثل الأعلى، ولما بين الأدوار، وكذلك العروق، من اختلاف وَجَبَ اختلافُ المثل الأعلى باستمرار، وإذا ما نظرتَ إلى المثل العليا من الناحية الفلسفية وجدتها متساوية، وسبب هذا التساوي هو في كونها ليست سوى رموز مؤقتة.
إذن، تمثِّل الفنون المظهر الخارجي لروح الأمة التي ابتدعتها كما تمثِّلها جميعُ عناصر الحضارة الأخرى، غير أن الفنون هي — كما قلت غير مرة — بعيدة من أن تكون أصدق مظهر لروح الأمم.
وكان البرهان ضروريًّا؛ وذلك لأن أهمية أحد عناصر الحضارة هي مقياس لقدرة الأمة على تحويل العنصر عندما تقتبسه من أمة أجنبية، وإذا ما تجلَّت شخصية الأمة، مثلًا، في الفنون على الخصوص، فإنها لا تنقل النماذج المستوردة من غير أن تطبعها بطابعها الخاص، وهي، بالعكس، لا تحوِّل العناصر التي لا تعبر عن عبقريتها غير تحويل قليل؛ ومن ذلك أن الرومان حينما انتحلوا فن عمارة الأغارقة لم يحولوه تحويلًا أساسيًّا؛ لعدم تجلِّي روحهم في المباني.
ومع ذلك فإنه لا مناص للفن من معاناة تأثير البيئة في قليلِ قرونٍ، ومن أن يكون على الرغم منه تقريبًا عنوانَ العرق الذي انتحله حتى عند مثل تلك الأمة العاطلة من فن عمارة خاص، والمضطرة إلى البحث عن نماذجها ومتفننيها في الخارج، ولا ريب في أن المعابد والقصور وأقواس النصر والنقوش البارزة في رومة القديمة هي مِن صُنع الأغارقة أو من صنع تلاميذ الأغارقة، غير أن سمة هذه المباني وغايتها وزخارفها، وسعتها أيضًا، لا تُثير فينا ذكريات العبقرية الأَثَنِيَّة الشعرية اللطيفة، بل تثير فينا فكر القوة والتغلب والروح الحربية الذي كان يقيم رومة ويقعدها، وهكذا ترى أن العرق، حتى في الميدان الذي لا تبدو فيه شخصيته كثيرًا، لا يخطو خطوة من غير أن يترك أثرًا خاصًّا به فينِمُّ هذا الأثر على شيء من مزاجه النفسي وفكره الباطني.
وبيان ذلك أن المتفنن الحقيقي، معماريًّا كان أو أديبًا أو شاعرًا، ذو مَلَكة سِحرية يعبِّر بها في تراكيبه عن روح أحد العروق أو أحد الأزمان، وإذ كان المتفننون كثيري الانفعال، غزيري اللاشعور، مفكرين بالصور على الخصوص، قليلي التعقل؛ فإنهم يكونون في بعض الأدوار مرايا صادقة للمجتمع الذي يعيشون فيه، فتكون آثارهم أصحَّ الوثائق التي يستند إليها في تصوير إحدى الحضارات، وهم يظلون من كثرة اللاشعور بحيث يَبْدُون صادقين شديدي التأثر بالبيئة التي تحيط بهم فيعبِّرون بإخلاص عن الأفكار والمشاعر والاحتياجات والمناحي، وليس لدى المتفننين حرية، وفي هذا سر قوتهم، والمتفننون مسجونون في شبكة من التقاليد والأفكار والمعتقدات التي يتألَّف من مجموعها روح أحد العروق وأحد الأزمنة؛ أي مسجونون في تراث من المشاعر والآراء والإلهامات العظيمة التأثير فيهم؛ لسيطرتها على مناطقهم اللاشعورية الغامضة حيث تنضج أعمالهم، ولو لم تكن هذه الآثار لدينا لاقتصرت معارفنا بالقرون الغابرة على ما جاء في الأقاصيص السخيفة، وعلى ما ورد في كتب التاريخ من تلفيق مصنوع، ولغدا ماضي كل أمة بذلك أمرًا خافيًا علينا تقريبًا كأمر هذه الأطلنتيد الحافلة بالأسرار والتي غمرتها الأمواج فتكلَّم عنها أفلاطون.
إذن، مَزِيَّةُ الأثر الفني الصحيح هي في التعبير بإخلاص عن احتياجات الزمن الذي وُلِد فيه وعن أفكاره، ولا تزال الآثار الفنية؛ ولا سيما المباني، أبلغ من جميع اللغات التي تخبرنا بالماضي، وتلك الآثار هي أصدق من الكتب وأقلُّ تصنُّعًا من الديانات واللغات، وهي تعبِّر عن المشاعر والاحتياجات معًا، والبَنَّاء هو المنشئ لمنزل الإنسان وبيت الآلهة، والواقع هو أن في سواء المعبد والدار تنضج الأسباب الأولى للحوادث التي يتألف التاريخ منها.
ومن الملاحظات السابقة يمكننا أن نستنتج أن العناصر المختلفة التي تتألف منها الحضارة إذ كانت عنوان روح الأمة التي ابتدعها يعبِّر بعض هذه العناصر الذي يتغير بحسب العروق، ويتغيَّر بحسب الأزمنة أيضًا، عن روح العرق أحسن من سواه.
ولكن طبيعة هذه العناصر، إذ كانت تختلف بين أمة وأمة وبين دور ودور، لا نجد منها عنصرًا واحدًا يصلح أن يكون مقياسًا عامًّا لتقدير مستوى مختلف الحضارات.
ومن المستحيل، أيضًا، أن نصنف هذه العناصر تصنيفًا مرتَّبًا؛ وذلك لأن أهمية هذه العناصر إذ كانت تختلف باختلاف الأدوار فإن التصنيف يختلف بين قرن وقرن.
وإذا ما قُدِّرت عناصر الحضارة المختلفة من حيث المنفعة الصرفة أمكننا أن نقول إن أهم عناصر الحضارة هو الذي يؤدي إلى تعبيد أمة للأمم الأخرى؛ أي إن أهم عناصر الحضارة هو النظام الحربي، ولكنه يجب إذ ذاك أن نضع مرتبة الأغارقة المتفننين والفلاسفة والأدباء تحت كتائب رومة الشديدة الوطأة، وأن نضع مرتبة المصريين الحكماء والعلماء تحت شِباه البرابرة الفرس، وأن نضع مرتبة الهندوس تحت أنصاف البرابرة المغول.
ولا يكترث التاريخ لتلك التقسيمات أبدًا، ولا يخرُّ التاريخ راكعًا إلا أمام المَزِيَّةِ الحربية وحدها، غير أن المزيَّة الحربية لا تصاحب مزية مقابلة لها في عناصر الحضارة الأخرى إلا نادرًا، أو أنها لا تدع هذه المزية بجانبها لطويل زمن، ومن المؤسف أن كانت المزية الحربية لا تضعف لدى أمة من غير أن يُقضى على هذه الأمة بالزوال في أقرب وقت، والأمم حينما تصل إلى ذروة حضارتها تترك مكانها، دائمًا، لمن هم دونها ذكاء من البرابرة، ولكن مع حيازة هؤلاء البرابرة لِما تؤدي الحضارات الرفيعة إلى تقويضه من بعض الصفات الخلقية والقيمة الحربية.
إذن، لا بد من الانتهاء إلى النتيجة المحزنة القائلة إن ما في الحضارات من العناصر الدنيا فلسفيًّا هو أهم العناصر اجتماعيًّا، وإذا كانت سنن الماضي سننًا للمستقبل أمكننا أن نقول إن أسوأ حالٍ تُصاب بها أمة هو أن تبلغ هذه الأمة درجة عالية من الذكاء والثقافة، فالأمم تهلك عندما تأخذ الصفات الخُلقية التي هي لُحمة روحها في الفساد، وهذه الصفات تفسد عندما تسمو حضارة هذه الأمة وذكاؤها.