تطبيق المبادئ السابقة على البحث المقارن في تطور الولايات المتحدة بأمريكة والجمهوريات الإسبانية الأمريكية
وإنني آخُذُ هذه الأمثلة من بلدٍ تعيش فيه جنبًا لجنب؛ وذلك في بيئة ذات أحوال قليلة الاختلاف، عروق أوربية متماثلة في الحضارة والذكاء، غير مختلفة في سوى الأخلاق؛ أي آخذها من أمريكة. وتؤلَّف أمريكة من قارتين يجمعهما برزخ، وتتساوى تانك القارتان مساحة تقريبًا، وتتشابهان ترابًا تشابهًا كبيرًا، والعرق الإنكليزي كان قد استولى على إحداهما، والعرق الإسپاني كان قد استولى على الأخرى، وكلا العرقين ذو دساتيرَ متشابهةٍ ما دامت جمهوريات أمريكة الجنوبية قد نقلت دساتيرها من دستور الولايات المتحدة، وهنالك لا ترى، إذن، غير اختلاف عروق متقابل نستعين به على إيضاح مختلف مصاير تلك الأمم، وإليك نتائج هذا الاختلاف:
لنبدأ بتلخيص أخلاق العرق الأنغلوسكسوني الذي عَمَرَ الولايات المتحدة، وذلك في بضع كلمات، وفي العالم لا تجد عرقًا أكثر تجانسًا منه مع اختلاف أصله، وفي العالم قد لا تجد عرقًا ذا مزاج نفسي أسهل تعريفًا من مزاجه في خطوطه الكبرى.
ومن الناحية الخلقية يمتاز ذاك المزاج النفسي بإرادة قلما اتفقت لأمة خلا الرومان، وبهمَّةٍ لا تُقهر، وبقوةٍ مبادرةٍ نامية إلى الغاية، وبضبط نفس وباستقلال يخرج عن حد الأُنس، وبنشاط قوي وبشعور ديني شديد، وبأدب ثابت وبمعرفة جلية للواجب.
ومن الناحية الذهينة لا نجد ما يسهُل بيانه من الصفات الخاصة؛ أي من العناصر الخاصة التي لا يُشاهَد مثلها لدى الأمم المتمدنة الأخرى، ولا نرى غير ذكر ذلك التمييز الصادق الذي تُدرك به ناحية الأمور العملية الإيجابية، ولا يُضل به في المباحث الوهمية، وغيرَ ذكر ذلك الذوق الممتاز للوقائع وذلك التذوق الهزيل للمبادئ العامة، وغير ذكر ذلك البصر الضيق الذي يحول دون تبيُّن ما في المعتقدات الدينية من نواحٍ ضعيفة، والذي يجعل هذه المعتقدات في حمى من الجدل.
وإلى تلك الصفات العامة تُضاف صفة التفاؤل التام التي تبدو بها طريق الرجل في الحياة ممهدة فلا يفترض أنه يقدر على اختيار ما هو أحسن منها، وهو يعلم، دائمًا، ما يطلب منه وطنه وأسرته وآلهته. ويبلغ هذا التفاؤل من الشدة درجة يعد بها كل عنصر أجنبي محتقرًا، والحق أن احتقار الأجنبي وعاداته يجاوز في إنكلترة الحد الذي كان الرومان في إبَّان عظمتهم يحتقرون البرابرة به، ولهذا الاحتقار تبصر زوال كل مقياس أدبي تجاه الأجنبي، واحتقار الأجنبي هذا ينمُّ على شعور متأخر من الناحية الفلسفية لا ريب، غير أنه بالغ الفائدة في تقدُّم الأمم، ومن الإصابة قول القائد الإنكليزي وُلْسلي: إن ذلك الاحتقار من عوامل قوة إنكلترة، ومن الإصابة أن قيل: إن الإنكليز يُعْنَوْن كالصينيين بمنع تسرب أي نفوذ أجنبي فيهم؛ وذلك بسبب رفضهم الصائب إنشاء نفق تحت المانش تَسْهُل العلائق بينهم وبين القارة به.
وإذا ما هاجرت أمةٌ تلك هي حالها إلى أية بقعة من بِقاع الدنيا لم تُعتِّم أن تصير ذات شوكة وأن تؤسِّس دولًا قوية، وإذا كان العرق الذي تغزوه على جانب كبير من الضعف فلا يُنتَفع به، كأصحاب الجلود الحمر (الپوروج) بأمريكة مثلًا، أبادته بانتظام، وإذا كان العرق المقهور كثير العدد وكان يمكن استغلاله، كأهل الهند، أُكرِه على العمل في سبيل سادته، واستُثمر بمهارة مع تركه حرًّا في عاداته ونُظمه.
ويجب، في بلد جديد كأمريكة، تَتَبُّع التقدم العجيب المدين لمزاج العرق الإنكليزي النفسي، ولا أحد يجهل ماذا أصبح هذا العرق، وهو المعتمد على نفسه، فيما نُقل إليه من تلك البقاع العاطلة من الفلاحة والتي لم يكد يسكنها بعض المتوحشين؛ فقد كفاه قرن واحد لينال إحدى المراتب الأولى بين دول العالم العظمى حتى قلَّ من يقدر على مكافحته في الوقت الحاضر، وتراني أوصي بقراءة كتب مسيو روزيه عن الولايات المتحدة أولئك الذين يرغبون في الوقوف على مقدار المبادرة العظيمة والنشاط الفردي اللذين يبذلهما أبناء تلك الجمهورية القوية، فهنالك يبصرون استعداد الناس إلى أقصى حد لإدارة أنفسهم بأنفسهم وللاشتراك في إنشاء المشاريع الكبيرة وبناء المدن وشَيْدِ المدارس والمرافئ والخطوط الحديدية إلخ، وهنالك يبصرون عمل الدولة إلى أدنى حد حتى يمكن القول بعدم وجود سلطات عامة تقريبًا، وما يكون نَفعُ تلك السلطات فيما خلا الشرطة والجيش والتمثيل الدِّبْلُمِيَّ.
ثم إنه لا يُكتب في الولايات المتحدة فلَاحٌ إلا لمن هو حائز للصفات الخُلقية المذكورة سابقًا، ولذلك ترى المُهاجَرَات الأجنبية لا تغيِّر روح العرق العامة أبدًا، ومن شروط الحياة هنالك أن الذي يكون عاطلًا من تلك الصفات يغدو محكومًا عليه بالزوال السريع، والأنغلوسكسوني وحده هو الذي يَقْدِرُ على العيش في ذلك الوسط المُشْبَع من الاستقلال والإقدام، وأما الإيطالي فيموت فيه جوعًا، وأما الإيرلندي والزنجي فيعيشان في الخِدَم الدنيا.
وفيما تقدم رأينا ماذا أحدثه في قسمٍ من أمريكة شعبٌ حائز لمزاج نفسي تغلَّب عليه الثبات والإقدام والعزم، فبقيَ علينا أن نبين ماذا آل إليه بلد مماثل لذلك تقريبًا على أيدي عرق آخر ذكي على الخصوص، ولكن مع عطل من الصفات الخُلقية التي قرَّرتُ نتائجها.
حقًّا إن أمريكة الجنوبية هي من أغنى بقاع الدنيا في حاصلاتها الطبيعية، وأمريكة الجنوبية هذه هي أكبر من أوربة مرتين، وأقل منها سكانًا عشر مرات، وهي لا تعوزها الأرضُ، وهي لمن يثيرها إذن. وأهلوها السائدون هم من أصل إسپاني، ويقسَّمون إلى عدة جمهوريات، ومن هذه الجمهوريات: الأرجنتين والبرازيل والشيلي والپيرو إلخ، وجميعها قد انتحل دستور الولايات المتحدة السياسي، وله قوانين تماثل قوانينها لهذا السبب، والآن، وقد ظهر عرق تلك الجمهوريات مختلفًا عن العرق الذي يَعْمُرُ الولايات المتحدة عاطلًا من صفاته، فإن هذه الجمهوريات كلها تبدو طعمة للفوضى الدامية على الدوام، وهي، مع كنوز أرضها العجيبة، تراها غارقة في ضروب التبذير، غارقة في الإفلاس والطغيان.
وتجد أسباب ذلك الانحطاط كلها في المزاج النفسي لعرق من المولَّدين عاطل من الإقدام والعزم والأدب، وفقدان الأدب على الخصوص يجاوز جميع ما نعرفه من قبائح في أوربة، وقد أوردَت. شيلد مدينةَ بوينوس إيريس، التي هي إحدى المدن المهمة، مثالًا، فصرَّح بأنها لا تصلح لسُكْنَى مَن هو على شيء من رقة الشعور ومن الأدب، وقصد ذلك الكاتب جمهورية الأرجنتين التي هي من أقل تلك الجمهوريات انحطاطًا بقوله: «ليدرس الباحث تلك الجمهورية من الناحية التجارية؛ حتى يظل مبهوتًا من عدم الذمة البادي في كل مكان منها.»
ولا ترى مثالًا أحسن من ذلك دلالة على كون النُّظم وليدة العرق وعلى استحالة نقل هذه النظم من أمة إلى أخرى، ومن الطريف أن يُعلَم ما تصير إليه نظم الولايات المتحدة الحرة بانتقالها إلى عرق متأخر، قال مسيو شيلد مُحَدِّثًا إيانا عن الجمهوريات الإسپانية الأمريكية: «يَقْبِضُ على زمام تلك البلاد رؤساء لا يَقِلُّون استبدادًا عن قيصر روسية، بل هم أشد إطلاقًا منه؛ لبُعْدهم من مُزْعجات الرَّقابة الأوربية ونفوذها، وما الموظفون الإداريون إلا من صنائعهم … ويصوِّت المواطنون كما يَرَوْنَ، ولكن من غير أن يُلتفت إلى أصواتهم، وليست الأرجنتين جمهورية إلا بالاسم، والحقيقة أنها حكومة أناس يجعلون من السياسة تجارة.»
والبرازيل هي البلد الوحيد الذي كان قد نجا من ذلك الانحطاط العميق؛ وذلك بفضل نظام مَلَكي كان يضع السلطة في مأمن من المنافسات، وإذ كان هذا النظام من الحرية كثيرًا على عروق فاقدة الإقدام والإرادة فإنه لم يلبث أن انهار، فغدا ذلك البلد فريسة الفوضى التامة، ولم يمضِ غيرُ قليلِ سنواتٍ حتى بلغ أولياء الأمور من تبديد أموال بيت المال ما قضت الضرورة معه بزيادة الضرائب على نِسَب عظيمة.
ومن الطبيعي ألا يتجلَّى انحطاط العرق اللاتيني الذي يعْمُر جنوب أمريكة في السياسة وحدها، بل يتجلَّى في جميع عناصر الحضارة، وتلك الجمهوريات التعيسة إذا ما تركت هي وشأنَها عادت إلى الهمجية الصِّرْفَة؛ ولذلك أصبحت الصناعة والتجارة فيها قَبْضة الأجانب من إنكليز وأمريكيين وألمان، فصارت ڨالپاريزو مدينة إنكليزية، ولولا الأجانب ما بقي شيء للشِّيلي، وبفضل الأجانب وحدهم تحافظ تلك البقاع على طلاء خارجي للحضارة لا يزال يخدع أوربة.
وإذا ما قيس هذا الانحطاط الهائل الذي يبدو في أولئك السكان، المولَّدين من العرق الإسپاني وأهل البلاد الأصليين، برقي العرق الإنكليزي المقيم ببلد مجاور ظهر من أكثر التجارِب سوادًا وإثارة للحسرة، وكان من أمتع التجارب التي يُستشهد بها لتأييد السُّنَنِ التي عرضتُها.
هوامش
ضعف إيماني بالنُّظم الحرة ضعفًا كبيرًا في هذه السنوات الأخيرة بعد أن كان متينًا في البداءة … ونحن نرجع إلى نظام اليد الحديدية الذي يتجلى في الاستبداد القرطاسي لنظام اشتراكي، ثم يتجلى في الاستبداد العسكري الذي يخلف الاستبداد القرطاسي ما لم يأتنا هذا الاستبداد العسكري فجأة بفعل انقلاب اجتماعي.