كيف يؤدي تغيير روح العروق إلى تغيير تطور الأمم التاريخي
تدلُّ الأمثلة التي ذكرناها على أن تاريخ الأمة يرجع إلى خُلقها؛ أي إلى عرقها، لا إلى نُظُمها، ونحن حين بحثنا في تكوين العروق التاريخية رأينا أن انحلال هذه العروق يتم بالتوالد، وأن الأمم التي حافظت على وحدتها وقوتها؛ كالآريين في الهند قديمًا وكالإنكليز في مختلف مستعمراتهم، هي التي ابتعدت بعنايةٍ عن كل اختلاط بالأجانب، ووجود الأجانب، وإن قلوا، يكفي لتغيير روح الأمة، ووجود الأجانب يُفقد الأمة أهليتها للدفاع عن أخلاق عرقها وعن آثار تاريخها وعن أعمال أجدادها.
وتلك النتيجة صادرة عما تقدم، وإذا ما وجب عد عناصر الحضارة مظهرًا خارجيًّا لروح الأمة كان من البديهي أن تتغير حضارة الأمة بتغير روحها.
ولنا في تاريخ الماضي أدلة لا جدال فيها، وسيكون لنا في تاريخ المستقبل أدلة أخرى أيضًا.
تَحَوُّلُ الحضارة الرومانية التدريجي هو من أبرز الأمثلة التي يمكن الاستناد إليها، وعلى العموم يُظْهِرُ المؤرخون لنا هذا الحادث نتيجةً لما قام به البرابرة من غارات مخربة، غير أن البحث الدقيق في الوقائع يثبت من جهةٍ أن الغاراتِ التي أوجبت سقوط الإمبراطورية الرومانية كانت سِلْمِيَّةً لا حربية، وهو يثبت من جهة أخرى أن البرابرة كانوا يحترمون هذه الإمبراطورية احترام إعجاب على الدوام، وأنهم لم يألوا جهدًا في انتحالها وإدامتها، والبرابرة هؤلاء قد حاولوا اعتناق لغة تلك الإمبراطورية ونُظُمها وفنونها، والبرابرة هؤلاء قد عملوا حتى أواخر عهد الميروڤنجيين على إدامة الحضارة القوية التي ورثوها، وترى جميع أعمال الإمبراطور العظيم، شارلمان، مُشْبَعَةً من هذه الفكرة.
ولكننا نعلم أن عملًا كهذا مما يتعذر تحقيقه على الدوام؛ فقد تطلَّب تكوين البرابرة لعرق متجانس بعض التجانس مرور قرون قَضَوْها في التوالد المكرَّر وفي أحوال عيش متماثلة، وذلك العرق عندما تكوَّن حاز بسبب تكوُّنه وحده فنونًا جديدة ولغة جديدة ونُظُمًا جديدة وحضارة جديدة من حيث النتيجة، وما انفكَّت ذكرى رومة تشتد على هذه الحضارة، وما بُذل من جهود كثيرة في سبيل إحيائها ذهب أدراج الرياح، ومن العبث أن حاولت (النهضة) بعث فنون رومة وأن جَدَّت الثورة الفرنسية في إعادة نُظُمها.
إذن، لم يفكر البرابرة الذين أغاروا بالتدريج على الإمبراطورية منذ القرن الأول من الميلاد، والذين ابتلعوها مؤخَّرًا، في هدم حضارة هذه الإمبراطورية، بل كانوا يفكرون في إدامتها فقط، حتى إن مجرى التاريخ ما كان ليتغير لو لم يحارب البرابرة رومة ويقتصروا على الاختلاط بالرومان شيئًا فشيئًا ويقل عدد الرومان بذلك يومًا فيومًا؛ أي إن اختلاط الفريقين كان كافيًا لتقويض الروح الرومانية وإن لم يخرب البرابرة رومة، ولذلك يمكن القول بأن الحضارة الرومانية لم تدمَّر قط، بل أُديمت بتحويلها في غضون القرون؛ وذلك لوقوعها في أيدي عروق مختلفة.
وإن أقل نظرة إلى التاريخ غارات البرابرة يؤيد ذلك تأييدًا كبيرًا.
وقد دلت مباحث علماء العصر الحاضر، ولا سيما مباحث فُوستِل دوكلانج، على أن غارات البرابرة السلمية هي التي أدت إلى اضمحلال الدولة الرومانية بالتدريج، لا الغزوات العدوانية التي ردها مرتزقة الإمبراطورية في أكثر الأحايين، وكان من العادات التي اتُّخذت منذ عهد الأباطرة الأولين هو استخدام البرابرة في الجيوش، وكانت هذه العادة تستفحل كلما زاد الرومان ثراءً وزهدًا في الخدمة العسكرية، فلما انقضت بضعة قرون عاد لا يكون في الجيش سوى أناس من الغرباء كما في الإدارة، «وكان القوط والبورغون والفَرَنْج جنودًا مؤتلفين في خدمة القيصر الروماني.»
ولا شيء أقل شبهًا بالفتح من غزوات البرابرة ما دام الأهلون قد حافظوا على أراضيهم ولغتهم وقوانينهم، وما دام هذا لا يقع في الفتوحات الحقيقية كفتح النورمان لإنكلترة.
وإنما التغيير الحقيقي الوحيد، وهو الذي أضحى عميقـًا مع الزمن، هو ظهور عرق جديد وظهور حضارة جديدة كنتيجة لازمة له؛ وذلك وَفْقَ السُّنن التي عرضناها.
وبتكرار الأمور الأبدي، الذي يبدو أنه أقوى سنن التاريخ، ترانا اليوم مدعوين على الأرجح إلى مثل تلك الغزوات السلمية التي أدت إلى تحويل الحضارة الرومانية، وقد يدعو انتشار الحضارة الحديثة العامُّ إلى الاعتقاد بأنه لا برابرة اليوم، أو أن البرابرة التائهين في سواء آسية وإفريقية هم من البعد منا بحيث لا نخشى غزواتهم، وليس لدينا ما نخاف به مغازيهم لا ريب، وأنهم لن يصبحوا خطرين علينا إلا بمزاحمتهم الاقتصادية التي سيوجهونها إلى أوربة ذات يوم كما بينت في كتاب آخر، وليس أولئك هم الذين نقصدهم هنا إذن. والبرابرة قريبون في الحقيقة وإن بدوا بعيدين، وهم أقرب جدًّا مما كانوا أيام أباطرة الرومان؛ وذلك لوجودهم في صميم الأمم المتمدنة بالواقع، وترى كل أمة تشتمل على عدد كبير من العناصر الدنيا العاجزة عن ملاءمة حضارة تفوق مستواها كثيرًا لِما تكلمت عنه من تعقُّد حضارتنا الحديثة ومن تفاوت الأفراد بالتدريج، وهكذا يتكوَّن سِقطٌ كبير لا ينفك يزيد فيكون عمله هائلًا في الأمم التي تُبْتَلى به.
واليوم يتجه أولئك البرابرة الجدد نحو الولايات المتحدة بأمريكة كما لو كانوا مجمعين على ذلك، واليوم ترى أولئك البرابرة يهددون حضارة تلك الأمة العظيمة تهديدًا جِدِّيًّا، ويكون الهضم سهلًا نافعًا ما دامت هجرة الأجانب إلى ذلك البلد نادرة، وما دامت مؤلفة من عناصر إنكليزية على الخصوص، وهجرة كهذه أوجبت عظمة أمريكة، واليوم تخضع الولايات المتحدة لغزو هائل من عناصر منحطة لا ترغب في هضمها ولا تقدر على امتصاصها، وقد دخل الولايات المتحدة نحو ستة ملايين مهاجر من أدنياء العمال المنتسبين إلى جميع الأصول بين سنة ١٨٨٠ وسنة ١٨٩٠، ولا تجد اليوم بين أهالي شيكاغو البالغ عددهم ١١٠٠٠٠٠ شخص غيرَ الربع من الأمريكيين، وتشتمل هذه المدينة على ٤٠٠٠٠٠ ألماني و٢٢٠٠٠٠ إيرلندي و٥٠٠٠٠ بولوني و٥٥٠٠ شيكي إلخ، ولا تبصر أي امتزاج بين هؤلاء المهاجرين والأمريكيين، ولا يبالي أولئك المهاجرون بتعلم لغة وطنهم الجديد، وفي وطنهم الجديد هذا يُنْشِئون مستعمرات بسيطة ذات أعمال زهيدة الأرباح، وأولئك هم من الساخطين إذن، وأولئك هم من الأعداء إذن، وكاد أولئك يحرقون مدينة شيكاغو حين إضراب عمال الخطوط الحديدية الكبير، فقضت الضرورة بضربهم بالمدافع الرشاشة بلا رحمة، ومن أولئك وحدهم يُجمع أشياع الاشتراكية المُسَوية الثقيلة التي قد تحقَّق في أوربة المنهوكة، والتي هي منافية لخلق الأمريكيين الحقيقيين منافاة تامة، وما قد تسفر عنه هذه الاشتراكية من المنازعات فوق أرض تلك الجمهورية العظمى سيكون، بالحقيقة، منازعات عروق بلغت من التطور درجات مختلفة.
ومما يلوح واضحًا أن النصر لا يُكتب للبرابرة في الحرب الأهلية التي تعد بين أمريكةِ الأمريكيين وأمريكةِ الأجانب، ولا ريب في أن هذه الحرب الضَّروسَ ستنتهي بملحمة تقع بمقياس واسع على غرار ملحمة ماريوس حين استأصل شَأْفَةَ السَّنْبر استئصالًا كاملًا، وإذا ما تأخر النزاع قليلًا، وإذا ما استمر الغزو، لم يكن الحل إبادة تامة، بل يصيب الولايات المتحدة مثل ما أصاب الإمبراطورية الرومانية على الأرجح، بل ينفصل بعض ولايات الجمهورية الحاضرة عن بعض فتقوم دول مستقلة منقسمة متحاربة بلا انقطاع كما يقع في أوربة وفي أمريكة الإسپانية.
وليست أمريكة وحدها هي المهددَة بمثل تلك الغارات، فقل مثل ذلك عن فرنسة أيضًا، وفرنسة بلد غني لا يزيد عدد سكانه، وفرنسة محاطة ببلدان فقيرة يزيد عدد سكانها باستمرار، وهجرة هؤلاء الجيران إلينا أمر محتوم، وهو يزيد حتمًا كلما أوجبت مطاليبُ عمالنا المتصاعدة تلك الهجرة قضاءً لاحتياجات زراعتنا وصناعتنا، وما يجده هؤلاء المهاجرون فوق أرضنا من الفوائد أمر واضح، وتتجلى هذه الفوائد في عدم خضوعهم لنظامنا العسكري وفي دفعهم قليلَ ضرائبَ أو في عدم دفعهم ضرائب؛ لأنهم من الغرباء المتنقلين، وفي قيامهم بأعمال أسهل مما يقومون به في بلادهم وأجزل أجرًا مما ينالونه في ديارهم، ولا يقصد أولئك المهاجرون بلادنا لِغِناها العظيم وحده، بل يقصدونها أيضًا لأن معظم البلدان الأخرى يضع كل يوم من التدابير ما يؤدي إلى دحرهم.
والذي يزيد في خطر غارة الأجانب هو أنها تقوم بحكم الطبيعة على عناصر منحطة؛ أي على أناس تعذَّر عليهم أن يعيشوا في وطنهم الذي يهجرونه، وإن من مقتضيات مبادئنا الإنسانية أن يُقضى علينا بمعاناة غزو من الأجانب زائد، وإن عدد هؤلاء كان ٤٠٠٠٠٠ شخص منذ أربعين عامًا فغدا اليوم ١٢٠٠٠٠٠ شخص، ونرى صفوفهم تتراصف كل يوم أكثر من قبل، ولو لم ننظر إلى غير الطلاينة الذين تشتمل عليهم مَرْسيلية لوجدنا هذه المدينة مستعمرة إيطالية، وإذا لم تقف تلك الغارات فإنه لا يمضي غير وقت قصير حتى يكون ثلث سكان فرنسة من الألمان، وثلث آخر من الطليان. وما تكون وحدةُ أمةٍ، وما تكون حياة أمة هذه هي أحوالها؟ ألَا إن أسوأ المصائب في ميادين القتال أخف هَوْلًا من مثل تلك الغارات، ألا إن من الغرائز الصادقة أن كانت الأمم الغابرة تخشى الأجانب، ألا إن هذه الأمم كانت تعرف جيدًا أن قيمة البلد لا تُقاسُ بعدد سكانه، بل بالأصليين من أبنائه.
وفيما تقدم نرى مسألة العروق المحتومة أساسًا لجميع المعضِلات التاريخية والاجتماعية على الدوام، وتلك المسألة هي التي تهيمن على سواها.