لأول مرة في التاريخ!
نظر «أحمد» في الساعة المعلَّقة أمامه، ثم أغلق الكتاب الذي يقرؤه، وأطفأ «الأباجورة» الموجودة بجوار السرير، ثم أغلق عينَيه ونام.
كانت الساعة قد تجاوزَت منتصف الليل بقليل، وكان المقر السري، يسوده الهدوء التام، وبرغم أنَّ أجهزة الاستقبال كانت تعمل الآن، إلا أنَّها لم تكن تُصدِر صوتًا يمكن أن يعتدي على هذا السكون الشامل.
لقد كان كل مَن بالمقر السري مستغرقًا في النوم إلا رقم «صفر»، فقد كان يقرأ رسالةً ينقلها إليه أحد أجهزة الاستقبال … وكانت الرسالة من عميلِ رقم «صفر» في المكسيك … كانتِ الرسالة تتحدَّث عن حدَثٍ علمي خطير … حَسبَ العلماء حسابه، وهم في انتظار الموعد المحدَّد لوقوع الحدَث.
ظلَّ رقم «صفر» يتابع الرسالة التي كان ينقلُها الجهاز، فتُسجَّل فوق شاشةٍ كبيرة، يقرؤها الزعيم وهو في حُجرته السرية … وعندما انتهت ضغط عدة مرات فوق زرٍّ خاص، فسجَّلَت أجهزة التليفزيون في حُجرات الشياطين تعليماتٍ تقول: «الاجتماع غدًا في العاشرة صباحًا.»
في نفس الوقت، ضغط مرةً أخرى، فوق زِرٍّ آخر، فسجَّل تعليماتٍ في قسم المعلومات، لإعداد تقريرٍ خاص، يتصل بنفس الرسالة التي جاءت من عميل المكسيك، وعندما استيقظ الشياطين في الصباح، كان أول شيءٍ واجهوه، هو موعد الاجتماع.
شَرد «أحمد» لحظة يفكِّر، ثم قال لنفسه: إنَّها مهمةً ليست عاجلة. ما دام الاجتماع في العاشرة …
دقَّ جرس التليفون بجوار سريره، فضغَط زرًّا، وبدأ يسمع، كان صوت «إلهام» يأتيه: «لقد كَسبتُ الرهان.»
ابتسم وهو يَرُد: نعم، ولكِ ما كسبتِ!
قالت «إلهام»: إذن استعد، لا زال أمامنا وقتُ تدريبات الصباح، التي تنتهي في التاسعة.
ودون أن يرُد، قفز من سريره، وأسرع إلى الحمَّام … ولم تَمضِ دقائق، حتى كان يغادر حجرته إلى صالة الاجتماعات الصغيرة، حيث يلتقي الشياطين يوميًّا، قبل بداية التدريبات. كان المدرب قد وصل هو الآخر، وفي دقائق، كان قد شرح لهم تدريب اليوم، وفي لحظاتٍ كانوا يغادرون المقر السري، إلى حيث تُجرى التدريبات.
عندما أعلنَت الساعة الثامنة والربع، كانت التدريبات قد انتهت. وبسرعة، غادروا المكان … وقبل أن تدُق الساعة العاشرة، كانوا يأخذون طريقهم إلى قاعة الاجتماعات الكبرى، حيث يُعقد اجتماع رقم «صفر».
كانت القاعة تغرق في ضوءٍ خافت … فأخذ الشياطين أماكنهم في هدوء، وإن كانت أعينهم تلتقي بابتساماتٍ لها معنًى؛ فقبل يومَين كانوا في جلسةٍ مسائية، دار فيها رهانٌ حول المغامرة القادمة.
قال «باسم»: أظن أنَّ المغامرة القادمة سوف تتأخر بعض الوقت؛ فالهدوء يسيطر على كل شيءٍ في العالم.
ردَّت «إلهام»: إنني أعتقد غير ذلك؛ فالعالم يغلي في كل مناطقه، وصراعات القوى العظمى لا تتوقَّف.
أضافت «زبيدة»: إنَّ منطقتنا العربية أيضًا تغلي … والصراعات حولها شديدة.
قال «باسم»: إذن نطرح رهانًا.
واتفق الجميع على الرهان، وقد وقف «أحمد» بجوار «إلهام»، حيث أضاف: إنَّ القاعدة الفضائية العربية التي تُقام الآن، تجعل إمكانية الصراع أعنف؛ فالعالم لا يريد لمنطقتنا أن تنطلق إلى المستقبل … لقد كنا أوَّل منطقة علَّمتِ العالم في ميادينَ كثيرة؛ مثل الكيمياء، والحساب، والفلك، والطب. لكننا مع الأسف تخلفَّنا بتأثيرِ عواملَ كثيرة … وعندما بدأنا نستعيد مكانتنا ظَهرتِ المؤامرات والصراعات حولنا، وهذا يجعل مغامرتنا القادمة، ربما أسرع مما نتصور.
مع ذلك قال «باسم»: أظن أننا سوف ندخل حالة من الهدوء، قد يستمر بعض الوقت، وهذا ما يجعلني أقول إنَّ المغامرة القادمة سوف تتأخر.
لكن لم يمضِ سِوى يومَين، إلا وكانت تعليمات الزعيم بعقد اجتماع الساعة العاشرة … وبذلك كَسبَت «إلهام» الرهان.
فجأةً ظهرت الخريطة الإلكترونية، ولكن لم يكن عليها ما يُشير إلى مكان المغامرة. إلا أنَّ أعين الشياطين تعلَّقتْ بها، وظلَّت مشدودة إليها في انتظار أن تظهر أي تفاصيل. فجأةً مرةً أخرى، انسحب الضوء من القاعة، وغَرقَت في الظلام. تحفَّز الشياطين، وقد ظنَّوا أنَّ شيئًا قد حدث، إلا أنَّ الخريطة كانت لا تزال مضاءة، وكان الشياطين يستطيعون رؤية بعضهم … لكن فجأةً انسحب ضوء الخريطة وتلاشت كل التفاصيل في الظلام.
همس «خالد»: هل حدث شيء؟
ردَّت «ريما»: لا أظن أنَّه يمكن أن يحدث شيء هنا في مقرنا السري.
صمت الجميع، وظلَّ الظلام ممتدًّا، كانوا لا يزالون في انتظار أن يحدُث شيء.
قال «بو عمير»: هل نستخدم مصابيحنا الإلكترونية؟
ردَّ «أحمد» بسرعة: لا أظن أنَّنا في حاجة إليها، فأنتم تعرفون المقر السري، وتعرفون نظام الحراسة فيه. إنَّ أحدًا لا يستطيع أن يهاجمه، أو ينال منه أي شيء.
سأل «قيس»: هل هي تجربةٌ مقصودة، وهل لها علاقة بمغامرتنا القادمة؟
ردَّ «أحمد»: ربَّما.
مرةً أخرى، صمتوا جميعًا … مرَّت الدقائق بطيئةً ثقيلة، كان الشياطين خلالها يتوقَّعون حدوث شيء، إلا «أحمد»، الذي كان يفكِّر في كلمات «قيس»، فيرى أنَّها الأقرب إلى الصواب. فجأةً أُضيئَت الخريطة الإلكترونية، فانعكس الضوء الخافت على الشياطين، فبدَوا كالأشباح. نظر «أحمد» في ساعة يده، فقالت «ريما»: لقد مرَّ وقتٌ طويل.
ردَّ «أحمد»: سبع دقائقَ فقط.
صمتوا من جديد، إلا أنَّ صوت رقم «صفر» تردَّد في هدوء: «هل تكفي هذه الدقائق لخطف إنسان؟»
سَمِع الشياطين كلمات الزعيم، فبدءوا يفكِّرون فيها بسرعة: إنَّ المغامرة القادمة، سوف تكون حول عملية خطف. إلا أنَّ بعضهم كان يفكِّر بطريقةٍ أخرى: إنَّ ذلك مجرد تجربة، وليس لها علاقة بأيَّة مغامرة، فقد تكرَّرت مغامرات الخطف كثيرًا قبل ذلك، دون أن يمرُّوا بتجربةٍ مثل هذه.
انتظَروا قليلًا، لعل صوت الزعيم يضيف شيئًا، إلا أنَّ رقم «صفر» لم يُضِف كلمةً واحدة. وفجأة، ظهرت على الخريطة عدة دوائر متفاوتة الأحجام … وتحوَّلتْ أعين الشياطين إلى الخريطة في محاولة لفهم تلك الأمور التي ظَهرتْ. كان «أحمد» يبتسم، غير أنَّ الضوء الخافت لم يكن يَكشفُه. تحرَّكَت الدوائر المضيئة، وبدأَت تأخذ مساراتٍ محددة لا تخرج عنها، وغطَّت إحدى الدوائر دائرة أخرى، حتى كادت تُخفيها.
قطع الصمتَ صوتُ «بو عمير»، عندما قال: إنَّها تشبه المجموعة الشمسية في تكوينها وحركتها.
ابتسم «أحمد» ابتسامةً عريضة، فقد أعجبه تفكير «بو عمير» … مرَّت دقائق، والشياطين يتابعون حركة الدوائر، التي انسحَبتْ بعد قليل … ثم بدأَت تفاصيل خريطة أمريكا الشمالية في الظهور، وتحدَّدتْ فوق القارة المتسعة، ثلاثةُ ألوان، تُحدِّد: كندا، الولايات المتحدة الأمريكية، المكسيك. بعد قليل، اختفت تفاصيل كندا، ثم الولايات المتحدة، وبقِيَت المكسيك. كان يحدُّها من الشرق خليج المكسيك، ومن الغرب خليج كاليفورنيا، ومن الشمال الولايات المتحدة، ومن الجنوب المحيط الهادي، وتقع بين خطَّي طول ٩٠ درجة و١١٠ درجة، وبين خطَّي عرض ٨ درجات و٣٢ درجة، ويقطعها مدار السرطان بين خطَّي عرض ٢٠ و٣٠؛ أي إنَّها تكاد تكون على نفس الخطوط الجغرافية التي تقع عليها مصر.
لمعَت دائرةٌ حمراء، وحدَّدتْ مكان مدينة «مكسيكو»، ثم ظهرت دائرةٌ حمراء أخرى، حدَّدتْ مكان مدينة «مكسيكية» صغيرة … هي مدينة «سان لويس بوتوس». وحول مدينة «سان لويس»، استدارت دائرةٌ أخرى أكبر، ثم توقَّف كل شيء. لم تظهر بياناتٌ أخرى، ولم تختفِ الخريطة.
قال «مصباح»: إذن هذا هو مسرح مغامرتنا القادمة.
في نفس اللحظة، عاد الضوء من جديد يغطِّي القاعة الكبيرة، فالتقت أعين الشياطين في نظرة تُعطي معنى الارتياح. ولم تَمضِ دقيقة، حتى كان صوت أقدام الزعيم يقترب شيئًا فشيئًا، حتى توقَّف، فرحَّب بالشياطين، ثم قال: «أظن أنكم عرفتم الآن مكان مغامرتكم القادمة. إنَّه مدينة «سان لويس بوتوس». وهي مدينةٌ صغيرة تظهر أمامكم على الخريطة.»
صمت قليلًا، بينما كان صوتُ أوراقٍ تُقلَّب يصل إلى سمع الشياطين، قال: «لقد أظلمَت القاعة لمدة سبع دقائق، كما حدَّد «أحمد»، ولقد سألتكُم سؤالًا، ولا أدري إن كنتم قد فكَّرتم في إجابته أم لا.
«هل تكفي هذه الدقائق السبع لخطف رجل؟»
إنني أطرح عليكم السؤال الآن مرةً أخرى، وأترك لكم الإجابة إلى ما بعد التفاصيل.»
سكَت من جديد، بينما كانت نظرات الشياطين تلتقي في صمت، وكأنَّها تتفق على إجابة. جاء صوت رقم «صفر» بعد قليل: «سوف يُعقد في شهر مايو، وبالتحديد يوم ٣٠ منه، مؤتمرٌ عالمي علمي، لرصد ظاهرة قد لا تتكرَّر مرةً أخرى على مدار التاريخ كله، وإن كانت قد حدثَت ١٥ مرة من قبلُ طَوال هذا القرن الذي نعيشه، لكنَّها لم تكن مراتٍ طويلة.»
سكَت، والشياطين يحاولون أن يفهموا عمَّا يتحدَّث. لقد كان حديثه غامضًا. بعد لحظاتٍ أضاف: «قد لا تفهمون شيئًا مما قلتُه الآن، لكني سوف أُوضح لكم، خصوصًا وأنَّ «بو عمير» قد وضع يده على معنى الدوائر التي كانت تسبَح فوق الخريطة.
إنَّ الشمس يحدث لها كسوفٌ كلي، يمتد لدقيقة أو دقيقتَين. وكما تعرفون، عندما يحدث الكسوف يتحول النهار إلى ليل، فتُظلِم الدنيا تمامًا؛ لأنَّ الشمس تكون قد وقعَت في ظل القمر، وأنتم تعرفون أنَّ القمر جسمٌ مظلم بارد، وهو الذي يعكس أشعة الشمس التي تجعل الدنيا نهارًا، وتمدُّنا بالدفء. إنَّ العلماء، بعد حساباتهم العلمية الدقيقة، يتوقَّعون أن تمتد فترة الكسوف الكلي للشمس إلى سبع دقائق، وهذه أول مرة في التاريخ يحدُث هذا الكسوف الطويل!»
كان الشياطين يسمعون حديث الزعيم في دهشة، لكنهم فجأةً اهتزُّوا، فقد أظلمَت القاعة من جديد، إلا أنَّ الخريطة كانت لا تزال مضاءة … وبسرعة ركَّز الشياطين انتباههم، فعرفوا أنَّ تجربةً جديدة سوف تحدُث أمامهم الآن، ولكن بعد لحظاتٍ أخرى، أظلمَت الخريطة أيضًا، ثم ظهرت المجموعة الشمسية تسبح في الفضاء. وتتبَّع الشياطين حركة المجموعة، كانت الشمس والقمر يتحركان، حتى وقع ظل القمر على الشمس فأخفاها، في نفس اللحظة، جاء صوت «رقم صفر»: «أنتم تُتابعون التجربة العملية التي يُحرِّكها أمامكم معمل التجارب في المقر السري الآن.»
عندها وقع ظل القمر على قرص الشمس، فأخفاها، فأظلمَت القلعة تمامًا، وأكمل الزعيم: هذا ما سوف يحدُث تمامًا، سوف يسود الظلام الأرضَ في وضح النهار؛ ولذلك، فسوف تَهبِط الحرارة تمامًا، ولن يُسمع صوت طائرة، وتختفي الحيوانات، فهي تظن أنَّ الليل قد هبط، وفي هذه الحالة، سوف يظهر كوكبا الزهرة والمريخ، ويمكن رؤيتهما بالعين المجردة … بدأَت الدائرة التي تُمثِّل القمر تبتعد من أمام الشمس، التي ظهرت … وعاد الضوء من جديد ليغمر القاعة.
التقت نظرات الشياطين، فقد كانت تجربةً مثيرة فعلًا، في نفس اللحظة، جاء صوت رقم «صفر»: «إنَّ ظلام النهار سوف يمتد لمدة سبع دقائق، كما يتوقَّع العلماء، تبعًا لحساباتهم الفلكية؛ ولهذا طرحتُ عليكم السؤال: «هل تكفي سبع دقائق لاختفاء إنسان؟»»
تَردَّد صوتٌ متقطِّع، فقال رقم «صفر»: «سوف أتركُكُم لحظة، توُجد هناك رسالة من مكانٍ ما …»
أخذَت أقدامه تبتعد حتى اختفَت … التقت أعين الشياطين، كانت هناك عشرات الأسئلة تُطِل منها. لكن رقم «صفر» لم يكن قد أنهى حديثه بعدُ.