الرحيل إلى الشمس!
ظلَّ الشياطين في حالة انتظار … بينما كانوا مستغرقين في أفكارهم … كلٌّ منهم يحاول أن يصل إلى شيءٍ ما … إلى طبيعة المغامرة، أو نوعيَّتها … في نفس الوقت كانوا يفكِّرون … هل يزال هناك وقتٌ طويل حتى تبدأ المغامرة؟ أم أنَّها سوف تبدأ مباشرة؟
نظر «قيس» في ساعته، ثم ظَهرتْ على وجهه الدهشة، وقال: إنَّ اليوم هو الثامن والعشرون من شهر مايو، وهذا يعني أنَّ اللحظة الحاسمة التي يتحدث عنها الزعيم، موعدها بعد غدٍ!
نظر حوله إلى الشياطين، وتركَّزتْ عيناه على وجه «أحمد» الذي كان مستغرقًا تمامًا في التفكير، ثم همس: في أي شهرٍ نحن؟
قالت «زبيدة»: في شهر مايو.
سأل مرةً أخرى: واليوم … كَم في الشهر؟
فجأة لمعَت أعين الشياطين، ونظروا جميعًا إلى «قيس»، إلا «أحمد»، الذي ابتسم …
قال «قيس»: هل فكَّرتَ في هذه الحكاية؟
ردَّ «أحمد» بهدوء: نعم، إنَّ الزعيم ذكر التاريخ، حتى يرى إن كنا نذكُره أم لا.
قالت «إلهام» بسرعة: «إنَّ هذا يعني أنَّ علينا أن نتحرك بسرعة، فالمؤتمر سوف يُعقد غدًا.»
ردَّ «أحمد»: نعم، وأظن أننا سوف نتحرك اليوم؛ لأنَّ الموعد لا يحتمل التأجيل.
ثم ابتسم قائلًا: إننا لا نستطيع أن نطلب من الشمس أن تنتظر قليلًا، ولا نستطيع أن نطلب من القمر أن يغيِّر موعده!
ابتسم الشياطين، في نفس اللحظة التي تردَّد فيها صوت أقدام رقم «صفر» وهو يقترب، وعندما توقَّف، جاء الصوت يقول: «إنَّ «أماندوليون» قد وصل مدينة «سان لويس بوتوس» فعلًا!»
ثم سكت. سمع الشياطين اسم «أماندوليون»، لكنهم لم يفهموا شيئًا، إلا «أحمد»، الذي ابتسم، لأنَّه يعرف جيدًا ماذا يعني هذا الاسم.
قال الزعيم بعد قليل: «قد لا تعرفون «أماندوليون». إنَّه عالمُ فضاءٍ معروف، وهو الذي يُشرِف على إنشاء قاعدة الفضاء العربية، وأنتم تعرفون أنَّ منطقتَنا تتعرَّض دائمًا لصراعاتٍ لا تنتهي … فهي تُمثِّل منطقةً هامةً في وسط القارَّات … بجوار أنَّها يُوجد بها في بطن الأرض احتياطيٌّ ضخمٌ من البترول، وهذا يُمثِّل ثروةً هائلة … بجوار أنَّها كتلةٌ متَّسعة يمكن أن تُشكِّل خطورة على التوازن الدولي والقوى العظمى، إذا اتَّحدَت واتفقَت؛ ولهذا، فإنَّ جهاتٍ متعددة تعمل دائمًا على تفكُّكها وتخلُّفها، وعندما فكَّرتِ الدول العربية في إنشاء قاعدةٍ فضائية، بدأَت المؤامرات تزداد. وإحدى هذه المؤامرات تدور الآن لخطف العالم الشهير «أماندوليون»؛ لأنَّ ذلك سوف يُعطِّل برنامج الفضاء العربي. إنَّ «أماندو» سوف يشترك في المؤتمر العلمي الذي سوف يُعقد في المكسيك، في ٣٠ مايو.»
توقَّف رقم «صفر»، في اللحظة التي ابتسم فيها الشياطين جميعًا. إنَّه يحاول مرةً أخرى أن يختبر ذكاءهم.
عاد يقول: «إنَّ مهمتنا أن نحمي «أماندوليون»، ففي الدقائق السبع التي سوف تُظلِم فيها الدنيا، ستكون عصابة «سادة العالم» قد خطفَت العالم الشهير، وساعتها سوف يحدث واحدٌ من اثنَين؛ إما أن تتخلَّص العصابة منه، أو أنَّها سوف تطلب فديةً ضخمة حتى تعيده إلينا.»
صمت لحظة، ثم قال: «إنني أعرف أنَّكم سوف تطرحون أسئلةً كثيرة حول هذا المؤتمر … ولماذا يُعقد في المكسيك؟ … ولماذا لا يُعقد في دولةٍ أخرى تكون الحماية متوفرة فيها أكثر؟ أعرف أنَّكم سوف تسألون كثيرًا، ولكنَّ أسئلتكم كلها سوف تجدون الإجابة عليها مع «أحمد»؛ فقد أعدَّ له قسم أبحاث المعلومات في المقر السري تقريرًا مُفصَّلًا.»
توقَّف عن الكلام، في نفس اللحظة التي كان الشياطين يتمنَّون فيها أن يبدءوا حركتهم، فإنَّ الوقت ضيق. إنَّ أمامهم يومًا واحدًا فقط … كان «أحمد» يفكِّر: إنَّ الزعيم يؤخر عملية انطلاقهم، حتى يصلوا في الموعد المناسب تمامًا، حتى لا يصلوا مبكرين ويحدث خطأٌ ما. إنَّ وصولهم ليلة المؤتمر يُعتبر هو الموعد المناسب.
قال رقم «صفر»: «الآن بعد أن عرفتم مهمتكم … ستجدون عملينا في المكسيك في انتظار وصولكم.»
صمت لحظة، ثم سأل: هل من أسئلة؟
لم يسأل أحد، فقال: إنَّ مجموعة المغامرة تضم: «أحمد»، «باسم»، «زبيدة»، «فهد»، «رشيد»، والآن أتمنى لكم التوفيق.
تحرَّكَت أقدامه، ثم أخذَت تبتعد حتى اختفت، ومعها كان الشياطين يغادرون مقاعدهم إلى خارج القاعة.
وعندما دخل «أحمد» حجرته كان هناك تقريرٌ مُطوَّل فوق السرير، أمسك به بسرعة، ثم فتح أول صفحة وقرأ: «تقرير عن المغامرة التالية. سري، يُحرَق بعد القراءة.»
نظَر في ساعة يده، وفكر: هل يقرؤه الآن، أو يصحبه معه في الرحلة الطويلة إلى المكسيك؟
اتخذ قرارًا: إنَّ من الأصوب أن يقرأه في الطائرة، ثم يتخلَّص منه عندما يصل إلى هناك.
وبسرعة، بدأ يُعِد حقيبته السرية، ثم رفع سماعة التليفون يتحدَّث إلى «فهد»: سوف نلتقي عند السيارات بعد ربع ساعة.
وقبل أن ينتهي الوقت، كان يحمل التقرير والحقيبة الصغيرة في طريقه إلى حيث تقف السيارات عند المصعد، وجد الشياطين هناك، دخلوا، فضغط «باسم» زِرَّ الطابق الأخير تحت الأرض، فهبط المِصعَد بسرعة، ثم توقَّف، غادَروه بسرعة، واتجَهوا إلى حيث تقف السيارة في انتظارهم، ركبوا، فجلس «فهد» إلى عجلة القيادة.
وعندما أغلقوا الأبواب، انطلق «فهد» بسرعة، فغادَروا المقر السري، وعندما اقترب من البوابات الصخرية، انفتحَت وحدها، فانطلقَت السيارة، ثم أُغلقَت من جديد.
كان الخلاء ممتدًّا بلا نهاية، ولم يكُن أحد من الشياطين يشعُر بالرغبة في الكلام، إلا أنَّ «زبيدة» ابتسمَت وهي تقول: إنَّها مغامرةٌ نادرة، فسوف يكون صراعنا في النهار المظلم.
فضحكوا جميعًا، وعلَّق «فهد»: لأول مرة ندخل في نهارٍ ليلي.
ضحكوا … إلا «أحمد»، فقد كان يفكِّر في التقرير الذي يحمله، كان يتمنى في هذه اللحظة أن يقرأه، خصوصًا تلك التأشيرة التي قرأها فوق التقرير، والتي تقول: «سري، يُحرَق بعد القراءة.»
قال في نفسه: إنَّ القراءة الآن سوف تكون أحسن؛ لأنَّ الشياطين سوف يشاركونني، ومن ناحيةٍ أخرى، فهنا أكثر أمانًا من الطائرة.
في نفس اللحظة التي وصل فيها إلى هذا القرار كانت «زبيدة» تسأل: تُرى ماذا يضُم التقرير الذي أرسلَه إليك رقم «صفر»؟
ابتسم «أحمد»، وأخرج التقرير، وبدأ يقرأ، إلا أنَّه ما كاد يفتح فمه، حتى كان «رشيد» يسأل: لماذا يُعقد المؤتمر العلمي في المكسيك بالذات والأرض فيها متسَع لمكانٍ آخر؟
ردَّ «أحمد»: أعتقد أننا سوف نجد الإجابة عندما نقرأ التقرير.
منذ قديم الأزمان، وسكان المكسيك من الهنود الحمر يهتمون برصد النجوم والشمس والقمر، وكان بعضهم من قبائل «الآزتيك» يقيمون الأعياد عندما يقع كسوف الشمس، كما كانوا يتنبَّئون بوقوع الكسوف. وقد عُثر مؤخرًا على مخطوطاتٍ تؤكد أنَّهم برعوا تمامًا في عملية الرصد. وقد ورث المكسيكيون الحاليون هواية أجدادهم، فأقاموا المراصد الفلكية، واهتموا بشكلٍ خاص برصد كسوف الشمس، وقد لمع من بينهم عددٌ من العلماء منهم «جوسيه جارسيا باريتو».
ومن المعتقدات التي كانت منتشرة عند قبائل «الآزتيك» أنَّ الشمس إله، ويعتبرون هذا الإله دمويًّا، فكانوا يتقرَّبون إليه بالهدايا والقرابين، ويرصدونه دائمًا … وهذا ما دعاهم إلى بناء مرصدٍ فلكي، يُعتبر من أقدم المراصد في العالم؛ ولذلك يُعتبر رصد الشمس وتسجيل ما يحدث لها من كسوف، قديمًا تمامًا. ومع الزمن تغيَّرتْ معتقدات القبائل وأصبحَت الشمس كوكبًا يملأ حياة الإنسان بالخير والنور …
سكت «أحمد» قليلًا، ونظر إلى «رشيد»، ثم قال: أظن أنَّ إجابة السؤال قد وضَحَت الآن!
لم يكن الاهتمام برصد الشمس مقصورًا على قبائل «الآزتيك» فقط، بل كانت قبائل «المايا» التي تسكن جنوب المكسيك قد سبقَتْها في ميدان الاهتمام بعلم الفلك، وكانت لهم جهودٌ كبيرة، وأسَّسوا حضارةً مزدهرة، ووضعوا تفسيرًا علميًّا لظاهرة كسوف الشمس. وقد وُجدت مخطوطات تُوضِّح بالرسم كيف يُحجب قرص الشمس بمرور بعض الكواكب الأخرى بينها وبين الأرض. كما استطاعوا أن يُحدِّدوا مواعيد الكسوف بمنتهى الدقة. وقد سجَّلوا بالفعل كسوف الشمس حتى عام ٨٢٤ بعد الميلاد. وقد قام العالم الفلكي الشهير «أماندوليون» بدراسة الجداول الحسابية التي وضعَتْها قبائل «المايا»، واستطاع أن يصل إلى نتيجةٍ تقول: إنَّ هذه القبائل كان باستطاعتها أن تتنبأ بهذا الكسوف الجديد للشمس.
توقَّف «أحمد» عن القراءة، وقال: من الغريب فعلًا أن تتوصل هذه القبائل البدائية إلى مثل هذه العمليات المعقَّدة.
ردَّ «فهد»: أعتقد أنَّه ليس غريبًا تمامًا … فقدماء المصريين قد حقَّقوا في بعض الميادين العلمية ما عجز العلم عن تحقيقه حتى الآن …
«أحمد»: هذا صحيح.
كانت قبائل «المايا» تتصور أنَّه عندما يحدث كسوف للشمس فإنَّ «التنين»، وهو حيوانٌ خرافي، هو الذي ابتلَع قرص الشمس؛ ولذلك بقيت ظاهرة كسوف الشمس حدثًا يثير الرهبة لدى عامة الناس … فإنَّ البعض منهم يحبس نفسه في غرفةٍ مظلمة حتى ينتهي وقت الكسوف، كما أنَّ بعض النساء الحوامل يعتقدن أنَّهن سوف يلدن أولادًا يشبهون الأرانب. وقد بقِيَت لدى سكان المكسيك عادة الاحتفال بعيد الشمس في ربيع كل سنة، حيث تجتمع جماهيرُ غفيرة من السكان، يلبسون الملابس القديمة، التي كان يلبسها شعب «الآزتيك» القديم، فيُغنُّون ويرقصون احتفالًا بعيد الشمس.
كان «فهد» مستغرقًا في الاستماع إلى ما يقوله «أحمد» الذي توقَّف فجأة، مع صرخةٍ عالية ﻟ «زبيدة»، فجذب فرامل السيارة لتقف في هذه اللحظة، عند حافة منطقةٍ عالية. ولو أنَّ «زبيدة» لم تصرخ، ولو أنَّ «أحمد» لم يجذب فرامل اليد، لكانت السيارة والشياطين قد انتهَوا إلى الأبد.
نظر «أحمد» إلى «فهد»، الذي كان يُخفي وجهه بيدَيه، ثم مدَّ يدَه وربَّت على كتفه، فرفع يدَيه عن عينَيه، وهمس: كنتُ سأتسبَّب في كارثة …
قال «رشيد» ضاحكًا: يبدو أنَّ كسوف الشمس قد أثَّر عليكَ، فرأيتَ النهار مظلمًا فعلًا!
تنهَّد «فهد»، ثم قال: أرجو أن يحُل أحد مكاني. إنني مضطرب تمامًا.
قفز «رشيد»، وأخذ مكان «فهد»، الذي جلَس في الخلف مع «باسم» و«زبيدة».
قال «أحمد» ضاحكًا: إذن، فلنؤجل قراءة التقرير، حتى نستطيع أن نُتم المغامرة. وإلا فسوف يضيع عالمنا «أماندو»، وسوف نضيع نحن أيضًا.
أخذ «رشيد» الاتجاه الصحيح للسيارة، ثم انطلق بها. نظر «أحمد» في ساعة يده، ثم قال: لا يزال لدينا وقتٌ حتى نصل إلى المطار.
في نفس اللحظة، ارتفعَت ضحكةٌ عالية، كان مصدرها «باسم»، الذي قال: لأول مرة يفقد «فهد» وعيه، ويفقد طريقه أيضًا …
قالت «زبيدة»: الحقيقة أنَّ ما سمعناه عن تاريخ كسوف الشمس يجعل الإنسان يَشْرد كثيرًا. إنني أيضًا قد شَردتُ، ولولا أنَّ «أحمد» قد توقَّف عن القراءة ما كنتُ صرختُ …
قال «أحمد»: لا بأس، إنَّ على الشياطين أن يمرُّوا بلحظاتٍ مخيفة لأنَّ هذه أعمالهم، فكَم من مواقفَ صعبة تعرَّضنا لها دون أن نهتز …
قال «رشيد»: نعم، لكن ليس بهذه الطريقة. لقد كدنا أن نضيع بلا ثمن!
ضحكوا جميعًا. وعندما كان الغروب يوشك أن يغطِّي الوجود، قال «فهد»: هل هو غروبٌ حقيقي، أو إنَّه كسوف أيضًا؟
ومن بعيد، ظَهرتْ أضواء المطار لتكون الخطواتِ الأخيرةَ في الطريق إلى الكسوف الحقيقي للشمس.