النظارات والعيون: ثقافتان في الفلسفة
لا يحتاج الأمر إلى جهد كبير لإدراك أنه توجد مشاكل خطيرة في التمييز بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية. الفلسفة القارية عبارة عن سلسلة انتقائية ومتباينة للغاية من التيارات الفكرية التي من الصعب أن يقال إنها تمثِّل تقليدًا فلسفيًّا موحدًا. على هذا النحو، فإن الفلسفة القارية مصطلح «ابتدعه» الفكر الأنجلو أمريكي الأكاديمي ليميِّز نفسَه عن الفكر الفلسفي لأوروبا القارية، الذي لم يكن في الوقت نفسه ليقرَّ بشرعيته وتميُّزه؛ ما يشبه قليلًا طلب إفطار قاري (كونتينينتال) في باريس.
ومع ذلك، إذا أُخِذ مفهوم الفلسفة القارية بمعناه الظاهري كتصنيف جغرافي، فحينها ستنشأ مشاكل أخرى. فيوجد فلاسفة من أوروبا القارية، مثل فريجه وَكارناب لا يتبعون فكر الفلسفة القارية، وفلاسفة من خارج أوروبا القارية يتبعونه. وأيضًا، من الناحية الجغرافية، يمكن أن تصبح الأمور مختلطةً إلى حدٍّ كبير، كما هي الحال عندما يدَّعِي دوميت على نحوٍ صحيح أن مصطلح «الأنجلو أمريكية» (وهو تسمية جغرافية أخرى ليس لها مدلول أكثر وضوحًا من «القارية») تَسبَّبَ في ضرر أكبر مما تَسبَّبَ فيه من نفع؛ لأنه تجاهَلَ جذورَ الفلسفة التحليلية التي نشأتْ في الدول الناطقة بالألمانية. بدلًا من ذلك، اقترح دوميت — على نحوٍ عابث ولكن دقيق — استبدالَ مصطلح «الأنجلو نمساوية» به.
ثمة اعتراض أعمق على التمييز بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية أثاره برنارد ويليامز، عندما يدَّعِي أن التمييز يقوم على خلطٍ بين الجوانب الجغرافية والمنهجية، كما لو كان المرء يصنِّف السيارات إلى سياراتِ دفعٍ أمامي وسياراتٍ يابانيةٍ. فعلى الرغم من أن الفلسفة التحليلية كثيرًا ما ترتبط بقوةٍ بأماكن معينة — أكسفورد أو برنستون مثلًا — فإنها تدل على التزامٍ بأسلوب تفلسُفٍ معين، وبمعايير معينة للمحاججة والوضوح والصرامة المنهجية، في حين أن الفلسفة القارية يبدو أنها تدل على التزامٍ بمكان معين، بغضِّ النظر عن المنهجية. وهكذا، فإنه بالنسبة إلى ويليامز، التمييز بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية يقوم على مقارَنة تخلط بين الجوانب المنهجية والجغرافية.
ومع ذلك، لن يُصحَّح هذا الالتباس عن طريق إعادة صياغة المصطلحات المتقابلة بدقةٍ اعتمادًا على تصنيفٍ جغرافيٍّ (أيْ أنجلو أمريكية في مقابل قارية)، أو منهجيٍّ (أيْ تحليلية في مقابل فنومينولوجية). إذا أُعِيدت صياغة المصطلحات المتقابلة جغرافيًّا، فإن هذا سيزيد الأمور سوءًا؛ لأن ذلك يعني خطأً أن الفلسفة في المملكة المتحدة وأمريكا الشمالية وأسترالاسيا غيرُ قارية بحكم التعريف، وأن الأب المؤسِّس للفلسفة التحليلية (فريجه) وأن أكبر ممثل لها (فيتجنشتاين) كانا من أصحاب فكر الفلسفة القارية. إذا تم إعادة صياغة المصطلحات المتناقضة منهجيًّا، فبالكاد سيكون ذلك مسئولًا عن حقيقة أنه على أحد جانبي التقسيم، يمكن أن يقال إن عددًا قليلًا جدًّا من الفلاسفة يتَّبِعون الأشكال التقليدية للتحليل الفلسفي (فضلًا عن الحديث عن الفلسفة «ما بعد التحليلية» في السنوات الأخيرة)، وعلى الجانب الآخر، لن توجد ببساطة فئة يمكن أن تغطِّي كافةَ الأعمال المتنوعة التي أنتجها مفكرون مختلفون منهجيًّا وموضوعيًّا مثل هيجل وَكيركجارد، أو فرويد وَمارتن بوبر، أو هايدجر وَتيودور أدورنو، أو جاك لاكان وَدولوز.
إن ويليامز مُحِق في كونه متشكِّكًا حيال أي تصوُّر من هذا النوع للتمييز بين المدارس والمذاهب الفلسفية؛ لأنه يخفي جدلًا ممكنًا أكثر عمقًا وإثارةً للاهتمام حول هوية الفلسفة نفسها. وعلى الرغم من أنه من الواضح، من خلال نقد ويليامز، أن هوية الفلسفة بالنسبة إليه تُمثَّل على نحو أفضل من خلال الفلسفة التحليلية، التي تتمثَّل مزيتها الأساسية إلى حدٍّ ما في «الصدق البارع»، والتي تبدو مستندة إلى مقارَنة محل جدل إلى حدٍّ كبير بين الفلسفة وإجراءات العلوم الطبيعية؛ فإنه من الواضح أن لديه وجهة نظر حيال هذا الموضوع، والذي سأعود إليه في ختام هذا الكتاب. يوجد شيء محدود الأفق وجبان على المستوى الفكري حيال تحديد المرء لانتمائه لأحد طرفَيْ تقسيم فلسفي متصور؛ لأن ذلك يمنع ظهور التحديات الفكرية الممكنة التي قد تنتج عن حوار خارج نطاق الفلسفة التي يتبنَّاها المرء.
(١) نظرة على بعض الأفكار النمطية عن التمييز بين الفلسفتين
مع ذلك، لا ينبغي تنحية التمييز بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية جانبًا دون محاولة تشخيصِ بعض الأفكار النمطية الثقافية العالقة في داخله وتخليصه منها. وتواصِلُ نطاقات الفلسفات وجودَها، ويتمثَّل الأمر الآن في محاولة معرفة سبب كون الحال كذلك، من خلال تناول بعض الأمثلة.
يلخِّص ستانلي روزن، بسخرية شديدة وبمهارة، التمثيلَ النمطي للتمييز بين الفلسفة التحليلية والقارية على النحو التالي: «الدقة والوضوح المفاهيمي والصرامة المنهجية هي سمات الفلسفة التحليلية، في حين أن الفلسفة القارية تستغرق في الميتافيزيقا التأملية أو التأويلية الثقافية؛ أو بدلًا من ذلك، واعتمادًا على مدى تعاطُف المرء معها، تستغرق في الاستسلام للأوهام والسخافات.» وأخشى أن هذه الأفكار النمطية تتأكَّد فقط من خلال المناقشات في الصحافة وملاحظات بعض الفلاسفة الأكاديميين الذين ينبغي أن يكونوا على دراية أكبر بالأمور. ولضرب مثل على هذا النوع الأخير من الفلاسفة، لا يجب علينا النظر إلى أبعد مما حدث مع دريدا في جامعة كامبريدج في عام ١٩٩٢؛ حيث عارَضَ بعض الأعضاء البارزين في الجامعة ترشيحَ جاك دريدا للحصول على الدكتوراه الفخرية. وفي اليوم التالي لخسارة المعارضة في التصويت، نشرت صحيفةٌ بريطانيةٌ ذات منزلة رفيعة خبرًا تحت عنوان «العدمية المعرفية تغزو مدينةً إنجليزية».
ولكن ربما تم التعبير عن الهوة التي تفصل بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية على نحو أكثر إحكامًا أثناء المناقشة العصبية والسيئة السمعة التي تلتْ تقديمَ جيلبرت رايل لبحثه في مؤتمرٍ حول الفلسفة التحليلية في فرنسا في عام ١٩٦٠، والتي أجاب فيها رايل عن سؤال موريس ميرلو-بونتي «أليس برنامجنا واحدًا؟» قائلًا: «آمل ألا يكون كذلك.» إن هذه العبارة، هذه اﻟ «لا» الثابتة في وجه الغرابة الملحوظة في أوروبا القارية، هي الكاشفة بوضوحٍ لتحامُل أيديولوجي ينبغي بالتأكيد ألَّا يكون له مكانٌ في الفلسفة. كانت هذه اﻟ «لا» هي نفس اﻟ «لا» التي قالتها البارونة تاتشر لخطط جاك ديلور الخاصة بالاتحاد الأوروبي، والتي كانت بداية سقوطها السياسي في عام ١٩٩٠. والمفارقة هنا هي أن رايل الشاب بدأ حياته بوصفه مؤيدًا للفنومينولوجيا، فكان أول عمل منشور له هو مراجعة دقيقة جدًّا لكتاب هايدجر «الوجود والزمان»، الذي نُشِر في دورية «مايند» في عام ١٩٣٠، وألقى الكثير من المحاضرات في جامعة أكسفورد في ثلاثينيات القرن العشرين حول بولزانو وَبرنتانو وَفريجه وَماينونج وَهوسرل. وكما أشار دوميت على نحوٍ أضعف مما تقتضيه الحقيقة: «إنه لأمر مُؤسِف حقًّا أن قليلًا فحسب من علمه حول هؤلاء المبدعين حُفِظ مطبوعًا، وبالمثل — من وجهة نظري — أنِ استمرَّ قليلٌ مما تعلَّمَه منهم في أعماله اللاحقة.»
ربما كان من المتوقَّع أن نجد أنا وَميرلو-بونتي أرضيةً مشتركة للنقاش. ولقد حاولنا فعْلَ ذلك حقًّا في عدة مناسبات، ولكن لم نمضِ كثيرًا قبل أن نبدأ في النزاع حول نقطةٍ ما لم يكن أيٌّ منا على استعداد للتنازُل عنها. وبما أن هذه المناقشات تميل إلى أن تكون حادة، اتفقنا ضمنيًّا على إيقافها واللقاء على مستوًى اجتماعي خالص، وهو الأمر الذي ترك لنا مادة كافية للحديث عنها.
أود أن أقول إن محادثة الأمس كان لها تأثيرُ الصدمة؛ إذ يوجد بين الفلاسفة الفرنسيين والإنجليز نوعٌ من الهوَّة التي لا نجدها بين الفلاسفة الفرنسيين والألمان.
من أجل رؤية مثال كاشف على التحامُل الذي ما زالتْ تُعامَل به الفلسفةُ القارية، يمكن للمرء أن يأخذ كدراسةِ حالةٍ مقالتين كتبهما اللورد أنتوني كوينتن حول الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية، ونُشِرتا على التوالي في كتاب «أكسفورد كومبانيون تو فيلوسوفي» مؤخرًا في عام ١٩٩٥. تُعَدُّ مقالة كوينتن حول الفلسفة التحليلية ملخَّصًا مُنصِفًا لمفهومَي الذرية المنطقية والوضعية المنطقية، على الرغم من أنها وجيزة جدًّا لدرجةٍ تمنعها من أن تكون مفيدة حول التطوُّرات التي حدثتْ فيما بعد الحرب في هذا المجال. ويختتمها بالإشارة إلى الفيلسوفين التحليليين هيلاري بوتنام وَروبرت نوزيك بقوله: «هما يفكِّران ويكتبان بروح تحليلية، تحترم العلم، باعتباره نموذجًا للمعتقدات المعقولة، وبما يتفق مع صرامته الجدلية ووضوحه وتصميمه على أن يكون موضوعيًّا.» ومع ذلك، فإن نفس هذا التصميم على الموضوعية ليس واضحًا في مقالة كوينتن حول الفلسفة القارية. تبدأ المقالة — على نحو معقول بما فيه الكفاية — بإشارة كوينتن الصحيحة إلى كيفية ارتباط المعنى الحالي بالفلسفة القارية حديثًا في بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية. وتَعْرض أيضًا ملاحظاتٍ مفيدةً حول وحدة المسعى الفلسفي، الذي اتسمت به العصور الوسطى اللاتينية وعصر النهضة، وهو حوار لم يمثِّل إشكاليةً على نحوٍ باهر بين الفلاسفة من بريطانيا وأوروبا القارية، امتدَّ لفترة طويلة حتى وصل إلى عصر التنوير؛ حيث كان لوك قارئًا لأعمال ديكارت وَجاسندي وَمالبرانش، وكان هيوم قارئًا لأعمال بايل وعَرَفَ روسو، ودرس مِل أعمال كونت، إلى آخِره. الأمور حتى الآن جيدة جدًّا، ولكن يدَّعِي كوينتن أنه «لا يوجد حقًّا أيُّ تقارُب ملحوظ بين عالمَي الفلسفتين»، ولكي يثبت وجهة نظره (عن غير قصد، بالطبع)، يقدِّم ملخصات صادمة جدًّا للوجودية والبنيوية والنظرية النقدية؛ فالأولى مرفوضة، من دون إشارة كافية إلى الفنومينولوجيا، وذلك لاعتمادها «على الأسلوب الدرامي، وحتى الميلودرامي، بدلًا من الحجج العقلانية المثبتة». ويقال إن الثانية قد «بلغتْ ذروتها مع فوكو، وأنها تجاوزت نفسها، وانطلقت إلى فضاءٍ فكري خارجي مع دريدا». أما الثالثة، فرُفِضت بنحو غريب على النحو التالي: «أبطلتِ النوايا السياسيةُ الواضحة لمُنظري النظرية النقدية أيَّ اهتمام من جانب الفلاسفة التحليليين الملتزمين بالحياد.» إذا كان يمكن أن يقال إن مثل هذه التعليقات تُظهِر التزامًا بالحياد، فضلًا عن الفضائل المذكورة أعلاه المتمثِّلة في الصرامة الجدلية والوضوح والتصميم على أن يكون موضوعيًّا، فربما يكون اعتقاد كوينتن بأنه لا يوجد أي تقارُبٍ ممكنٍ بين عالمَي الفلسفتين مبرَّرًا على نحو جيد. ولا داعي للقول إن مثل هذه الملاحظات ليست خاطئةً فحسب، ولكنها — كما أرى — متعصِّبة فكريًّا، وتعمل ببساطة على استمرار الأفكار النمطية الثقافية الضارة.
(٢) الفلسفة القارية: وصفٌ ذاتي أكاديمي وسمةٌ ثقافية
إذن، كيف نفسِّر هذه الهوَّةَ بين الفلسفتين القارية والتحليلية وفلاسفتهما؟ تثير صفة «قارية» — على الأقل بالنسبة إلى القارئ البريطاني — ارتباطاتٍ بالاستخدامات الأخرى لها، مثل الإفطار القاري أو ما كانت والدتي تدعوه «لحاف قاري»؛ وهذا يعني أنه مصطلح جغرافي أو «اسم مكاني» يشير إلى شيء يحدث في مكان معين، وهو أوروبا القارية. والصفة تكشف عن تمييز بين القاري وما هو غير قاري؛ أي تمييز، من وجهة نظر البريطاني، غالبًا ما يخاطر بتوطيد اختلاف بين البريطاني والقاري؛ حيث يُعرَّف هذا الأخير على أنه أجنبي وغريب ودخيل، ويعرف الأول على أنه غير أجنبي ووطني ومألوف. على هذا النحو، فإن مفهوم «قاري» يشير إلى المسائل التي تبدو مستعصية على الحل ومزعجة إلى حدٍّ ما، والخاصة بالجغرافيا السياسية، والتي تتمثَّل تحديدًا فيما إذا كانت بريطانيا هي المنفصلة عن أوروبا القارية أم العكس (تذكر العنوان الرئيسي السيِّئ السمعة الذي ظهر بإحدى الصحف: «ضباب على القناة الإنجليزية، وانعزال عن أوروبا القارية»).
أرغب الآن في تقديم ادِّعاءين حول المعنى التاريخي للفلسفة القارية؛ أولهما هو أنه «وصف ذاتي أكاديمي» على نحو أساسي؛ أيْ إنه وسيلة ينظم بها الفلاسفة وأقسام الفلسفة أبحاثهم ومحاضراتهم، ويشيرون من خلالها لانتماءاتهم الفكرية. وبهذا المعنى، الفلسفة القارية هي سمة لإضفاء الطابع الأكاديمي على الفلسفة. وبهذا المعنى المحدد، مفهوم الفلسفة القارية هو مفهوم حديث. وعلى الرغم من عدم وجود إجماع بشأن الأصل الدقيق لمفهوم الفلسفة القارية كوصف ذاتي أكاديمي، فإنه لم يظهر كتوصيفٍ للدورات الدراسية الجامعية وتلك الخاصة بالدراسات العليا في الفلسفة قبل سبعينيات القرن العشرين. ومن الواضح أن هذا حدث في الولايات المتحدة الأمريكية قبل بريطانيا؛ حيث قدمت أول دورات دراسية في مرحلة الدراسات العليا في الفلسفة القارية في جامعة إسكس وجامعة وريك في أوائل ثمانينيات القرن العشرين. في السياق الأمريكي، وإلى حد أقل في بريطانيا، حلَّ مصطلح «الفلسفة القارية» محلَّ المصطلحات الأقدم «الفنومينولوجيا» أو «الفنومينولوجيا والفلسفة الوجودية». وحُفِظت هذه المصطلحات في أسماء الجمعيات الأكاديمية المرتبطة على نحوٍ وثيقٍ بالفلسفة القارية في العالَم الناطق بالإنجليزية؛ «جمعية الفنومينولوجيا والفلسفة الوجودية» التي تأسَّست في عام ١٩٦٢، و«الجمعية البريطانية للفنومينولوجيا» التي تأسَّست في عام ١٩٦٧. إذن، يبدو أنه في فترةِ ما بعد الحرب كانت الفلسفة القارية مرادِفةً على نطاق واسع للفنومينولوجيا (في رداء وجودي في كثير من الأحيان)، وهي الحقيقة التي تنعكس أيضًا من خلال بعض عناوين الكتب الأمريكية التقديمية من ستينيات القرن العشرين: «دعوة للفنومينولوجيا» (١٩٦٥)، و«الفنومينولوجيا في أمريكا» (١٩٦٧). وربما يدلِّل على ذلك أن العنوان الأخير خضع لمحاكاةٍ وتغييرٍ في عام ١٩٨٣ بظهور كتاب آخَر حول نفس الموضوع ولكن بعنوان «الفلسفة القارية في أمريكا». والسبب في أنْ حلَّ مصطلحُ «الفلسفة القارية» محلَّ مصطلح «الفنومينولوجيا» ليس واضحًا تمامًا، ولكن يبدو أنه قُدِّم للأخذ في الاعتبار الحركات الفكرية الفرنكوفونية ما بعد البنيوية العديدة، التي كانت مختلفة على نحوٍ كبير عن الفنومينولوجيا وغالبًا ما كانت معارضةً لها؛ إلى حدٍّ أقل في أعمال جاك لاكان وَدريدا وَجان فرانسوا ليوتار، وإلى حدٍّ أكبر في أعمال جيل دولوز وَميشيل فوكو.
ويمكن ملاحظة هذا التقسيم الموجود في الواقع بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية في ظواهر ثانوية فلسفية متنوِّعة، مثل توصيف الوظائف الذي يطلب «متخصِّصين في الفلسفة القارية»، وقوائم أعمال الناشرين التي تخصِّص عادةً في الجزء الأخير منها صفحات خاصة للفلسفة القارية. وكما يؤكِّد جون سيرل برضى، توجد هيمنةٌ أكاديمية شبه كاملة للفلسفة التحليلية في العالَم الناطق بالإنجليزية؛ حيث تشعر أنواع الفلسفة غير التحليلية — مثل الفنومينولوجيا — بأنه من الضروري تحديد موقفها فيما يتعلَّق بهذه الهيمنة. ومع ذلك، على الرغم من هذه الهيمنة التي لا شكَّ فيها، توجد جامعات في المملكة المتحدة وأيرلندا وكندا وأستراليا تتخصَّص في الفلسفة القارية، وغيرها الكثير في الولايات المتحدة الأمريكية، معظمها من الجامعات الكاثوليكية، مع وجود بعض الاستثناءات البارزة. في أقسام وكليات الفلسفة، حيث تكون الفلسفة التحليلية هي المهيمنة، غالبًا ما توجد دورة دراسية أو ورقة بحثية حول «الفلسفة الأوروبية الحديثة»، أو «فلسفة ما بعد كانط»، أو «الفنومينولوجيا والوجودية»، وهي الدورات التي كثيرًا ما تبدأ استجابةً لرغبة الطلاب، والتي عادةً ما تكون كبيرةً جدًّا في هذا المجال. وأيضًا، يمكن القول إن تأثير الفلسفة القارية في العالَم الناطق بالإنجليزية، ولا سيما في نُسَخها الفرنكوفونية الأحدث، أقوى بكثير خارج أقسام الفلسفة من داخلها؛ حيث إنها أثَّرت على نحو حاسم في العديد من الابتكارات النظرية في العلوم الإنسانية والاجتماعية: في النظرية الأدبية، والتاريخ، والنظرية الفنية، والنظرية السياسية والاجتماعية، والدراسات الثقافية، وعلم التأريخ، والدراسات الدينية، والأنثروبولوجيا، فضلًا عن المناقشات في مجالات الفنون الجميلة والهندسة المعمارية والنسوية، والتحليل النفسي. وعمومًا، يتم الترحيب بأفكار الفلسفة القارية في العالَم الناطق بالإنجليزية — على نحوٍ معبِّر وملحوظ — خارج أقسام الفلسفة.
ومع ذلك، إذا كانت هذه هي نهاية القصة، فإن المناقشات حول الفلسفة القارية ستكون ذات أهمية عامة قليلة، مثل الخلافات الأكاديمية الأخرى في العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية. ولِشرح الانفعال الشديد المستمر الذي يسود النزاعات المحيطة بالفلسفة القارية التي ظهرت في رفض كوينتن وصدمة باطاي، فإنه لا بد من تقديم ادِّعاء ثانٍ؛ وهذا الادِّعاء بالتحديد هو أن مفهوم الفلسفة القارية كوصف ذاتي أكاديمي أكثر إثارةً للخلاف والإزعاج؛ لأنه يحجب معنًى «ثقافيًّا» أقدم، ويعود إلى الجدل حول علاقة بريطانيا والعالَم الناطق بالإنجليزية بأوروبا القارية، وهو الجدل المتَّقِد بشدة في السياسة البريطانية المعاصرة على سبيل المثال. وبهذا المعنى، فإن المسائل المتعلِّقة بتحديد هويةِ تقليدٍ فلسفيٍّ ما، تصبح واقعةً على نحو خطير في شَرَك التحيُّزات الأيديولوجية للجغرافيا السياسية الظاهرة في مفاهيم غامضة ومضلِّلة، مثل: «التجريبية البريطانية»، و«العقلانية الفرنسية»، و«الميتافيزيقا الألمانية»، وما إلى ذلك.
(٣) حالة جون ستيوارت مِل المثيرة للاهتمام
مَن يستطع فهم المقدمات المنطقية لفكر كولريدج وَبنثام والجمع بين منهجَيْهما، فسوف يستوعب الفلسفة الإنجليزية بأكملها في عصرهما. اعتاد كولريدج قول إن كل شخص يُولَد إما أفلاطونيًّا وإما أرسطيًّا؛ وربما يمكن التأكيد على نحوٍ مماثِلٍ بأن كل إنجليزي في وقتنا الحاضر يكون ضمنيًّا إما بنثاميًّا وإما كولريدجيًّا؛ أيْ يحمل آراءً حيال الشئون الإنسانية، والتي يمكن إثبات صحتها فقط من خلال مبادئ بنثام أو تلك الخاصة بِكولريدج.
الفكرة المثيرة للاهتمام هنا هي أن الجمع بين بنثام وَكولريدج يمنح المرءَ الفلسفة الإنجليزية الكاملة لعصرهما. يرجع هذان الاتجاهان إلى سؤالين: إذ يعتقد مِل أن بنثام يطرح السؤال التالي بشأن أي مذهب قديم أو رأي سائد: «هل هو صحيح؟» في حين يطرح كولريدج السؤال التالي: «ما معناه؟» إذن، «الفلسفة القارية» معنِيَّة بالمعنى، في حين أن مذهب بنثام المقابل لها معنِيٌّ بالصحة. ومن حيث المخطَّط المذكور في الفصل الأول، إذا كان بنثام معنيًّا بمسألة المعرفة، فإن كولريدج معنِيٌّ بمسألة الحكمة.
بطبيعة الحال، من المغري للغاية تحليل ما يقوله مِل هنا نفسيًّا؛ لأنه في شتاء عام ١٨٢٦-١٨٢٧، عندما كان في سن العشرين، عانى من «أزمة نفسية» شديدة. فسأل مِل نفسه — مثل الكثير من الشباب — ما إذا كان سيصبح سعيدًا إذا تحقَّقت كل أهدافه في الحياة، واضطر للإجابة بأنه لن يكون سعيدًا. إن نفعية التعليم غير العادي الذي خضع له مِل أنتجتْ معرفةً ولكنها لم تكن كافيةً للحكمة، فضلًا عن السعادة بالطبع. تغلب مِل جزئيًّا على اكتئابه من خلال قراءة قصائد وردزوورث قائلًا في هذا الصدد: «يبدو أني تعلَّمت منها ما سيكون المصادر الدائمة للسعادة.» تعلم مِل — بحسب قوله — أنه «ليس شجرة أو حَجرًا»، وأدى ذلك لمعارضته لحكم بنثام بأن «الشعر ليس أفضل من لعبة الدبابيس». وحكم مِل أنه كان أفضل بكثير من لعبة الدبابيس، وانغمس في قراءة أعمال أتباع كولريدج، وأسلافهم الألمانيين، مثل جوته، الذي أُعجِب مِل ﺑ «تعدُّد جوانبه»، واللغوي والفيلسوف الإنسانوي فيلهلم فون همبولت. وعندما سُئِل من قِبَل المؤرخ توماس كارليل عمَّا إذا كان قد غيَّر نظرته للأمور تمامًا، أجاب مِل مشيرًا إلى المنطق الذي رُبِّي عليه: «أنا أُومِن بالنظارات.» ولكنه أضاف: «ولكني أُومِن أن العيون ضرورية أيضًا.»
بالعودة إلى مقالتَيْ مِل، بنثام هو «المدمِّر» العظيم، أو «بلغة فلاسفة التقليد القاري: هو المفكِّر «النقدي» العظيم في عصره وبلده». وهو يباشَر هذا النقد المدمِّر باستخدام طرق التحليل المنطقي والحس التجريبي السليم للسعي وراء حقيقة «الأمور العملية». بالنسبة إلى مِل، بنثام هو امتداد عملي التفكير لشك هيوم نُقِل على وجه الخصوص إلى نطاقَي القانون والحكم. وما يستحق بنثام الثناء عليه هو أنه استخدم هذه المواهب الناقدة بروح المُصلِح الاجتماعي من أجل تحسين الصالح العام. من ناحية أخرى، لم يكن كولريدج مهتمًّا بالسعي وراء حقيقة الأشياء، ولكن بالسعي وراء معناها. على هذا النحو، ليس هذا المنهج مدمِّرًا للمذاهب والتقاليد الفلسفية السائدة، وإنما يقدِّم إعادةَ بناء تأويلية لمعنى هذه المذاهب والتقاليد. بمصطلحات معاصِرة، وبالتفكير في أعمال كوينتن سكنر المهمة، فإنه يمكن للمرء أن يطلق عليها منهجًا «سياقيًّا» لتناول الأمور؛ بمعنى أنه إذا أردنا أن «نفهم» معنى ممارسة أو حدث معين أو بالطبع نص في الواقع، فإن علينا تحديد نشأته التاريخية ووضعه في إطار شبكة الحياة الاجتماعية والسياسية المعقدة؛ وبهذا المعنى — وربما على نحو مفاجئ — فإن «الفلسفة القارية الكولريدجية» هي المحافِظةُ على التقليد والعدوُّ الكبير للثورات الاجتماعية، في حين أن فلسفة بنثام هي المدمِّرةُ للتقليد وصديقةُ التغيير والتقدم الاجتماعيين. والمرء معتاد على التفكير في التمييز بين هذين التقليدين أو الاتجاهين على عكس ذلك؛ حيث تكون الفلسفة التحليلية محافظة ومنغلقة فيما يشبه غرفة استراحة الأساتذة الجامعيين الذين يرتدون ملابس تقليدية، والفلسفة القارية هي المقابل غير التقليدي للحذق العصري. وسوف نحظى على نحو مثير للاهتمام بفرصة تناول تقسيم سياسي مقابل في الصراع بين كارناب وَهايدجر؛ حيث الأول إصلاحي وتقدُّمي، في حين أن الثاني — في أسوأ أحواله — رجعي ومحافظ.
ويمكننا عرض مخطط لبعض التقابلات المستقاة من مقالتي مِل على النحو التالي:
بنثام | كولريدج |
الحقيقة | المعنى |
التدمير النقدي | إعادة البناء التأويلية |
التغيير الاجتماعي والإصلاح | المحافظة الاجتماعية |
التقدم | التقليد |
(فلسفة تحليلية) | (فلسفة قارية) |
روح الفلسفة في إنجلترا — مثل تلك الخاصة بالدين — لا تزال مذهبية على نحو شديد؛ فالمفكرون المحافظون والليبراليون، وأنصار الفلسفة المتعالية والمعجبون بِهوبز وَلوك، يرى بعضهم بعضًا خارج حدود ملة الخطاب الفلسفي، وينظر بعضهم إلى أفكار بعض باعتبارها فاسدة من جرَّاء خطيئة أولى؛ مما يجعل دراستها برمَّتها — إلا لأغراض الهجوم عليها — غير مجدية، إن لم تكن ضارة.
على الرغم من أن هذا مكتوب منذ أكثر من مائة وخمسين سنة، فإنه ربما يكون وصفًا جيدًا للطريقة التي يرى بها كثير من الفلاسفة أعداءهم في المجال من الجانب الآخر للهوَّة — أو الرواق بين الأقسام — التي تفصل بينهم. وتخاطر الفلسفة الأكاديمية بأن تكون مذهبية مثل الصراع الديني الذي يدرُس فيه المرءُ عدوَّه فحسب من أجل التحضير للهجوم عليه. ولكن دعنا لا نطيل النظر في هذه التفاصيل السيئة.
من بين الحقائق التي أَدْركها فلاسفة التقليد القاري منذ فترة طويلة، ولكن لم يتوصَّل إليها من الفلاسفة الإنجليز سوى عدد قليل جدًّا حتى الآن؛ حقيقةُ أهمية أساليب تفكير المعارضة، في الحالة الناقصة الحالية التي عليها العلوم النفسية والاجتماعية؛ والتي هي ضرورية لكلٍّ منها في التفكير، مثل الضوابط والتوازنات بين سلطات الدولة في أي دستور سياسي. وفي الواقع، الإدراك الواضح لهذه الضرورة هو الأساس المنطقي أو الثابت الوحيد للتسامح الفلسفي …
لا يتعلق بالاعتقاد بالباطل بدلًا من الحقيقة، بقدر تعلُّقه بسوء فهم جزء من الحقيقة على أنها الحقيقة بالكامل. وقد يكون من المعقول القول إنه تقريبًا في كل جدال من الجدالات الرئيسية، في الماضي أو الحاضر، في الفلسفة الاجتماعية، كان كلا الجانبين مُحِقَّين فيما أكداه، على الرغم من أنهما مخطئان فيما أنكراه، وإنه لو بذل أحدهما بعض الجهد لتبنِّي وجهة نظر الآخر بالإضافة إلى وجهة نظره، لَكان سيحتاج للقليل من العمل حتى يثبت صحة مذهبه.
يمكن التقاط عدد من الخيوط من هذه الفقرة؛ بدايةً، ثمة حقيقة شائعة فيما يتعلق ﺑ «الفلسفة القارية»؛ وهي الحاجة لأساليب تفكير معارضة؛ وهذا يعني أن الحقيقة لا يمكن العثور عليها في أي جزء من الكل، ولكن من خلال تأمُّل الكل على ما هو عليه. وعلى الرغم من أن مِل لم يأتِ على ذِكْر هيجل، فإن هذه فكرة هيجلية خالصة؛ قريبة من مفهوم «الجدل» عند هيجل. يقول هيجل في تمهيد كتابه «فنومينولوجيا الروح»: «الحقيقي هو الكل.» وهذا يعني أنه إذا أراد المرء الوصول للحكمة والمعرفة الحقيقية في الأمور الفلسفية (ما يسمِّيه هيجل «المعرفة المطلقة»)، فلا بد أن يستعرض المجموعةَ الكبيرة المتنوِّعة من الأطروحات والمواقف التي تشكِّل تاريخ وحاضر الفلسفة حيث يعبِّر كلٌّ منها عن حبة من حبات الحقيقة. ويسبِّب اختيار حبة واحدة من هذه الكومة خطر عدم الحصول على رغيف الخبز المغذي، الذي يمكن للمرء خَبْزه من كمية الحبوب الكاملة.
يقارن مِل الحاجة لمثل هذه المعارضة أو الجدل بالضوابط والتوازنات التي تشكِّل جزءًا أساسيًّا من النظام الليبرالي والديمقراطي للحكم. أحد المبررات لوجود نظام حزبي تنافسي في الحكم هو أنه من واجب المعارضة أن تتحقَّق باستمرار من سياسات وتشريعات الحزب المشكل للحكومة، والعكس صحيح عندما تُعكَس الأدوار. من وجهة نظر مِل المتفائلة، الخطأ في الفلسفة هو سوء فهم جزء من الحقيقة على أنها الحقيقة بأكملها، أو كما يشير هيجل، وضع الخوف من الخطأ في مكانة أعلى من الرغبة في الحقيقة. بهذا المعنى، لا يتمحوَّر الأمر حول مسألة البَتِّ فيما إذا كان بنثام أم كولريدج هو المُحِق، ولكن يتمحور حول رؤية كلا الاتجاهين الفلسفيين بمنزلة تعبير متَّحِد عن حقيقةٍ أكبر — وهي أن البشر مهتمون بمسألتَي المعرفة والحكمة على حدٍّ سواء — وأن الأمر يتطلَّب النظَّارة للنظر من خلالها، والعينين للرؤية بهما. تتطلَّب الفلسفة التدمير النقدي والمنطقي وإعادة البناء التأويلية المتأنية؛ بمعنى أن الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية نصفان لكلٍّ ثقافيٍّ أكبر، ولن تتحقَّق الحقيقة في الأمور الفلسفية من خلال التأكيد على جانب واحد وإنكار الآخَر، ولكن كما يقول مِل من خلال: «تبنِّي وجهة نظر الآخَر بالإضافة إلى وجهة نظره.»
(٤) ثقافتان في الفلسفة
ذكرتُ باختصار ادِّعاءَين تاريخيين حول الفلسفة القارية؛ إنها وصف ذاتي أكاديمي وسمة ثقافية. وباعتبارها وصفًا ذاتيًّا، فإن الفلسفة القارية شرٌّ لا بد منه — ولكن ربما عابِرٌ — ناتجٌ عن إضفاء الطابع الأكاديمي على المجال. وكَسِمَةٍ ثقافية، تعود الفلسفة القارية على الأقل إلى عصر مِل، وما يمكن تعلُّمه من آرائه هو أن الفصل بين التقاليد الفلسفية هو تعبير عن صراع (وعلاوةً على ذلك صراع مذهبي) داخلي لدى «الإنجليزية» وليس تقسيمًا جغرافيًّا بين العالَم الناطق بالإنجليزية وأوروبا القارية. وعلى هذا النحو، فإن الهوَّة بين الفلسفة التحليلية والقارية هي تعبير عن انقسام ثقافي عميق بين عادات فكر مختلفة ومتعارضة؛ دَعْنا نُسَمِّها البنثامية في مقابل الكولريدجية، أو التجريبية-العلمية في مقابل التأويلية-الرومانسية. النقطة الأعمق التي يودُّ مِل التأكيد عليها، هي أن حقيقة الأمور الفلسفية والثقافية، أيًّا ما قد تكون، لا يمكن العثور عليها عن طريق اختيار أحد الجانبين؛ ومن ثَمَّ سوء فهم جزءٍ على أنه الكل. بل الحقيقة — بكلمات هيجل — هي كلٌّ، والكل يجب فهمه في سياق حركته المنهجية وتطوُّره التاريخي. وآمل أن يسهم هذا الكتاب في اتجاه هذا الفهم.
في اعتقادي أن كثيرًا من العداء والشك الذي يُبدِيه فلاسفة التقليد التحليلي تجاه الفلسفة القارية، يحدث بسبب خلط هذين الادِّعاءين — الأكاديمي والثقافي — على نحوٍ ضار وتبنِّي أحد الجانبين. ولكن هذا العداء ليس دائمًا من جانب واحد؛ فبالإضافة إلى البهيمية البنثامية لبعض فلاسفة التقليد التحليلي، يمكن أيضًا أن يقال إنه ينشأ من الجنون الكولريدجي لبعض فلاسفة التقليد القاري، عندما فشلوا في فهم أحوال موقعهم الثقافي والتحدُّث بلغة أهلهم؛ على سبيل المثال: يُعَدُّ هايدجر وَدريدا من الفلاسفة العظام، ولكن لا يوجد سبب على الإطلاق للكتابة مثلهما باللغة الإنجليزية. وكانت النتيجة تقليدًا محرِجًا للآخرين في أحسن الأحوال، وكلامًا غير مفهوم في أسوأ الأحوال. ما ينبغي على فلاسفة التقليد القاري فهمه إذن هو «إنجليزية» الفلسفة القارية. وعلى الرغم من أنني لا أستطيع أن أخوض في هذا هنا، فإني أعتقد أنه يمكن تقديم ملاحظات مماثلة عن «أمريكية» أو «أسترالية» أو «كندية» الفلسفة القارية — على سبيل المثال — في العالَم الناطق بالإنجليزية.
في مجتمعنا (أيِ المجتمع الغربي المتقدِّم) فقدنا حتى التظاهُر بوجود ثقافة مشتركة؛ فالأشخاص المتعلِّمون الذين نعرف أنهم تلقَّوْا تعليمًا مكثَّفًا للغاية، لم يعودوا قادرين على التواصُل بعضهم مع بعض على مستوى اهتماماتهم الفكرية الرئيسية. وهذا أمر خطير بالنسبة إلى حياتنا الإبداعية والفكرية، وحياتنا الطبيعية قبل كل شيء. وذلك يقودنا إلى تفسير الماضي على نحو خاطئ، وسوء الحكم على الحاضر، والحرمان من آمالنا للمستقبل. وهذا يجعل من الصعب أو من المستحيل بالنسبة إلينا اتخاذ الخطوات المناسِبة.
قدَّمْتُ المثالَ الأبرز على افتقاد التواصُل هذا في صورة مجموعتين من الأشخاص تمثِّلان ما سمَّيْتُه «الثقافتين». تتضمَّن إحدى هاتين المجموعتين العلماءَ، الذين لا حاجةَ بنا إلى التأكيد على قيمتهم وإنجازاتهم وتأثيرهم؛ وتتضمَّن الأخرى المفكرين الأدبيين. وأنا لم أقصد أن هؤلاء المفكرين بمنزلة صناع القرار الرئيسيين في العالَم الغربي، وإنما قصدتُ أنهم يعبِّرون عن حالة الثقافة غير العلمية، وإلى حدٍّ ما يشكِّلونها ويتنبَّئون بها؛ فهم لا يصنعون القرارات، ولكن كلامهم يتسرَّب إلى أذهان مَن يقومون بذلك. وبين هاتين المجموعتين — العلماء والمفكرين — يوجد تواصل ضئيل، وشيء من العداء، بدلًا من التشارك في بعض الاهتمامات.
كان القصد من هذا وصفًا للحالة الراهنة للأمور، أو تقريبًا أوليًّا بسيطًا جدًّا لها. وهذا وضعٌ كرهته بشدة، وأعتقد أنه وَضَحَ على نحو ملائم.
التشابه هنا مع ملاحظات مِل واضح، لا سيما العداء الذي يشعر به ممثلو كلتا الثقافتين بعضهم تجاه بعض. وكما هي الحال مع مِل، فإنه من المغري إخضاع جهود سنو للتحليل النفسي. حصل سنو على شهادته الجامعية في الكيمياء بتفوق عام ١٩٢٧، وفي عام ١٩٢٨ بدأ العمل للحصول على درجة الدكتوراه في جامعة كامبريدج، وذلك في مختبر كافنديش الشهير على مستوى العالَم الذي كان يرأسه اللورد رذرفورد. ووصل النجاح إلى أن أصبح عالِمًا بحثيًّا متميزًا، وأصبح في عام ١٩٦٤ الرجل الثاني في وزارة التكنولوجيا المنشأة حديثًا على يد هارولد ويلسون. ومع ذلك، كان لديه دائمًا شغف بالأدب، وفي عام ١٩٣٢، نشر قصة بوليسية بعنوان «موت تحت الشراع»، تبعتها سلسلةُ «غرباء وإخوة» التي وصل عدد رواياتها إلى ما لا يقل عن إحدى عشرة، حظيت بشعبية كبيرة؛ ومن ثَمَّ، وبطرق عديدة، كان تعبيره عن أزمة الثقافتين يمثِّل صرخةَ استغاثةٍ من القلب. ومع ذلك، كما هي الحال مع مِل، كانت تلك الأزمة أيضًا جزءًا من مرض ثقافي أكبر.
تعرَّض سنو لهجوم شرس على شخصه من قِبل الناقد الأدبي والثقافي الأبرز في عصره إف آر ليفيس، الذي هاجم «قدرة سنو على الإقناع الزائف المتعدد الجوانب» ونقص الفهم الأدبي لديه. وتجاهَلَ سنو على نحو صحيح تلك المحاولات النخبوية لتجاهل المشكلة، ولكن من الواضح أن ما تَكشَّف عن مناقشات سنو وَليفيس كان هو الصراع الذي أصبح الآن معروفًا بين بنثام وَكولريدج، صراع النفعية في مقابل الرومانسية. في الواقع، هذا اشتباك مألوف في التاريخ الثقافي الإنجليزي. وكمثال أخير، تاريخيًّا، ثمة خلاف بين تي إتش هكسلي وماثيو أرنولد في الفترة ما بين مِل وسنو. باختصار، أيَّد هكسلي في محاضرة في عام ١٨٨٠ ألقاها في برمنجهام — التي كانت تُعَدُّ حينها المحورَ الصناعي لبريطانيا — التعليمَ العلمي في مقابل التعليم التقليدي السائد الذي كان يسيطر على الجامعات حينها. وردَّ أرنولد في محاضرة ريدي في عام ١٨٨٢ في جامعة كامبريدج بعنوان «الأدب والعلم»، بالزعم بأن الأدب والعلم يمكن دمجهما في فهم أوسع وجرماني أكثر للعلم باعتباره المعرفة بمعناها الواسع. وعلى الرغم من كونه ردًّا بنَّاءً، فإن المقصد الحقيقي يظهر في معارضة أرنولد الراسخة لتنقيح الفكر الجامعي التقليدي؛ ومن ثَمَّ فإن نفس القصة تستمر، ومما لا شك فيه أنه ستظهر صور أخرى أكثر معاصَرةً منها.
ومن ثَمَّ، فإن اقتراحي هو أن علينا فهم التقسيم الحالي للفلسفة في ضوء نموذج الثقافتين؛ حيث إن الصراع بين قطبَي هذا العداء يشكِّل ما نراه كثقافة. وعلى هذا النحو، من غير المرجح مطلقًا أن يختفي أيٌّ من هذين القطبين أو كلاهما. وكما يقول مِل، توجد حقيقة في هذا العداء عرفها «فلاسفة التقليد القاري» لبعض الوقت. وأفضل ما يمكن أن نأمله هو أن يقتنع طرفا هذا العداء على الأقل بوجهة النظر القائلة بأن وجود الطرف الآخر أمرٌ مشروع، وأنه ربما يوجد شيء لديه يمكن مناقشتُه، وفي أحسن الأحوال، التعلُّمُ منه.
العلاجُ الذي قدَّمه سنو للتعامل مع هذا التقسيم الفلسفي والثقافي بسيطٌ جدًّا، ويمكن تلخيصه في كلمة واحدة: «التعليم». ومن وجهة نظري، إنه لا يزال محقًّا. وقد أدى هذا التشخيص الثقافي الذي قدَّمه سنو — على نحو مباشِر إلى حدٍّ ما — إلى ظهور تقرير روبنز حول التعليم العالي في عام ١٩٦٣، وإلى تأسيس عدد من «الجامعات الجديدة»: ساسكس، وَوريك، وَيورك، وَكيل، وَكينت، وَإيست أنجليا، وجامعتِي التي ارتدتُها إسكس. وكان الهدف الضمني لهذه الجامعات هو معالجة مشكلة الثقافتين بالإصرار على حصول الطلاب على تعليم شامل؛ حيث ينبغي على علماء العلوم الطبيعية دراسة موضوعات من العلوم الإنسانية والاجتماعية، والعكس صحيح. ومن الحقائق المحزنة أنه نتيجةً للهجوم على الجامعات الذي شنَّته حكومة تاتشر في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، تخلَّتْ هذه المؤسسات عن هذه المهمة إلى حد كبير، واحتلَّ مكانَها طلسمُ «تعدُّد التخصصات» المبهم.
إذا كانت الثقافتان لا تزالان منفصلتين، فإن هذا ليس سمة خاصة ببريطانيا القرن العشرين وحدها؛ فهي تذكير بأنه كان للحداثة نقطتا انطلاق مختلفتين؛ واحدة إنسانية متأصلة في الأدب الكلاسيكي، وأخرى علمية متأصلة في الفلسفة الطبيعية في القرن السابع عشر.
ما لم يوضَّح حتى الآن هو السبب في عدم رؤية أن هذين التقليدين من البداية متكاملان، وليسا متنافسين. مهما كان المكتسب من جهود جاليليو وَديكارت وَنيوتن في الفلسفة الطبيعية، فإن شيئًا ما فُقِد أيضًا من خلال التخلي عن إرازموس وَرابليه، وَشكسبير وَمونتين.