ما الذي يجب عمله؟ كيفية التعامُل مع العدمية
كما رأينا في الفصل الثاني، أورث كانط إشكالية لورثته من المثاليين والرومانسيين وحتى الماركسيين في التقليد القاري، وهي الإشكالية التي تَصارَع معها هو نفسه في كتاب «نقد مَلَكَة الحكم»، والتي تمثِّل جوهر نقد جاكوبي لِكانط وَفيشته. ويمكن الآن صياغة تلك الإشكالية بالطريقة التالية: نقد كانط للميتافيزيقا، إذا كان مبرَّرًا، يحقِّق الإنجاز الرائع بإظهار اللامعنى «المعرفي» للادِّعاءات التقليدية للميتافيزيقا التأمُّلية الدوجماتية، بينما يؤكد على الضرورة «الأخلاقية» التنظيمية لسيادة العقل العملي (أيْ مفهوم الحرية). وهذا يطرح السؤال التالي: كيف تُمثَّل الحرية أو تحدث في عالم الطبيعة، إذا كان هذا العالم يخضع للسببية ويُسيَّر ميكانيكيًّا وفقًا لقوانين الطبيعة؟ كيف يُوفَّق بين سببية العالَم الطبيعي وما يدعوه كانط «سببية الحرية»؟ كيف تتحوَّل العبقرية إلى قوة عملية، وذلك إشارة إلى إيمرسون الذي يشير هو الآخَر إلى كلمات كانط في كتابه النقدي الثالث؟ ألم يترك كانط البشر فيما سمَّاه هيجل وَماركس الشاب الوضْعَ الوسط، بكونهم خاضعين بحُرية للقانون الأخلاقي ومُسيَّرين عن طريق عالم الطبيعة الموضوعي المجرد من أي قيمة، والذي يقف ضد البشر باعتباره عالَمَ اغتراب؟ أليست الحرية الفردية مختزَلة إلى فكرة مجردة في مواجَهة عالَم غير مبالٍ من الأشياء المتوافرة للمرء كسلعٍ بتكلفة ما؟
هذه هي الإشكالية التي شخَّصها نيتشه في ثمانينيات القرن التاسع عشر من خلال مفهوم العدمية؛ وهو المفهوم المهم تمامًا لمجموعة كبيرة من مفكري الفلسفة القارية في القرن العشرين: هايدجر، وَفالتر بنجامين، وَتيودور أدورنو، وَكارل شميت، وَحنا آرنت، وَجاك لاكان، وَميشيل فوكو، وَجاك دريدا، وَجوليا كريستيفا. وهذا يعني أن الاعتراف بحُرية الذات يترافق مع انهيار اليقين الأخلاقي في العالم. في الفصل الثاني، تتبعنا ظهور هذا المفهوم من نقد جاكوبي لِكانط وَفيشته إلى شتيرنر وَدوستويفسكي وَسارتر. وأود الآن أن أعود إلى موضوع العدمية بمزيد من التعمق.
(١) العدمية الروسية
لا بد أن فهم نيتشه للعدمية بدأ في السياق الروسي المشار إليه في الفصل الثاني مع دوستويفسكي؛ ما سمَّاه «العدمية في بطرسبرج». التقط نيتشه مفهوم العدمية من الروائي الروسي إيفان تورجِنيف، الذي قرأ الترجمة الفرنسية لأعماله على يد بروسبير ميريميه. وبالمصادفة، مثَّلت روايةُ «كارمن» التي ألَّفها ميريميه في عام ١٨٤٥ أيضًا أساسَ نص أوبرا بيزيه، التي ظهرت في عام ١٨٧٥، والتي حملتِ الاسمَ نفسه، والتي كانت مفضَّلةً لدى نيتشه؛ وهو اختيار مثير للجدل على نحوٍ كبير من وجهة نظري، ولكن تلك قصة أخرى. ونالت العدمية على يد نيتشه تصوُّرَها الفلسفي المتكامِل والتعبير الكامل عنها.
ما يميِّز السياق الروسي عن السياق الألماني هو أن العدمية في النسخة الألمانية مسألة ميتافيزيقية أو معرفية إلى حد كبير، في حين أنها في السياق الروسي لها بُعد اجتماعي سياسي أكثر وضوحًا. تبدأ القصة ربما بمحاولة نيكولاي شيرنيشفسكي القول بعدمية القِيَم الجمالية التقليدية بالزعم أن الفن ليس تعبيرًا عن مفهوم مطلق ما للجمال، بل يمثِّل اهتمامات فئة معينة في مرحلة معينة في التاريخ. وهكذا، في السياق الروسي، ترتبط إشكالية العدمية ارتباطًا وثيقًا بالسياسة الاشتراكية الراديكالية، والتي عُبِّر عنها على نحو قاطع في رواية شيرنيشفسكي ذات التأثير الكبير «ما الذي يجب عمله؟»، التي ظهرت عام ١٨٦٣. وتتضمَّن القصة الكاملة للجانب السياسي للعدمية الروسية نقد ميخائيل باكونين الفوضوي للدولة، وربما تصل لذروتها في بلشفية لينين البروميثية وثورة أكتوبر عام ١٩١٧. وليس من قبيل المصادفة أن الكتاب الذي ألَّفه لينين في عام ١٩٠٢، ووصف فيه رؤيتَه السياسية للحزب و«ديكتاتورية البروليتاريا»، كان أيضًا بعنوان «ما الذي يجب عمله؟».
«نحن نتصرَّف وفق ما نراه نافعًا لنا … وفي هذه الأيام يُعَدُّ الرفض أنفعَ شيء؛ لذا فإننا نرفض.»
«كل شيء؟»
«كل شيء.»
«ماذا؟ ليس الفن والشعر فحسب … لكن أيضًا … لا أتجرأ على نطق اسمه …»
«كل شيء.» كرَّرها بازاروف بكل هدوء.
أنهى تورجِنيف الصراع الدرامي بين الليبرالية والعدمية على نحو كلاسيكي، وإن لم يكن مُقنِعًا؛ فبعد وقوع بازاروف بقوة وعلى نحو غير عقلاني في حب السيدة الأرستقراطية والرومانسية أودينتسوفا — دون أن تبادله الحب — يعود إلى أرض الوطن ليعيش كطبيب ريفي مثل والده. وفيما يرقى إلى الانتحار (وهو أمر منطقي في رأي دوستويفسكي)، يلتقط بازاروف عدوى التيفود من جثة إحدى الفلاحات المصابة بالمرض، ويعترف بحبه للسيدة أودينتسوفا على فراش الموت. وهكذا تنهزم العدمية أمام قوة الحب، وتنتهي الرواية برؤية مسيحية تتمثَّل في «المصالَحة الأبدية والحياة التي لا نهايةَ لها».
(٢) العدمية النيتشوية
أن تخفض القِيَمُ السامية قيمةَ نفسها. غياب الهدف، الجواب على السؤال «لماذا».
ما ينبغي التركيز عليه هنا هو استخدام الفعل الانعكاسي؛ «تخفض قيمة نفسها». فَنيتشه لا يدَّعِي أن القِيَم السامية تنخفض قيمتها من خلال النقد؛ وهو ما قد يكون زعمَ جاكوبي أو تورجِنيف، بل إنه أمر أساسي في تطوُّرها أن تخفض قيمة «نفسها». يمكن وضع هذا القول جنبًا إلى جنب مع عبارة نيتشه الأشهر التي كُتِبت على جدار برلين السابق، وعلى جدران المراحيض في جميع أنحاء العالم، وهي أنه «لقد مات الإله». وهذا لا يعني أن الإله بنحوٍ ما مات منسلًّا بهدوء من الباب الخلفي للكون دون أن يخبر أحدًا، أو أن إلهًا آخَر أخذ مكانه؛ بل يعني ذلك أننا «نحن الذين قتلناه»؛ فإننا نحن البشر مسئولون عن موت الإله. العدمية هي انهيار نظام المعنى؛ حيث يصبح كل ما كان مُفترضًا كمصدرٍ متسامٍ للقيمة في ميتافيزيقا ما قبل كانط باطلًا؛ حيث لا توجد شماعات معرفية يُعلَّق عليها معنًى للحياة. فكلُّ الادِّعاءات المتسامية عن معنى الحياة تُختزَل إلى مجرد قِيَم — في فلسفة كانط، يُختزَل الإلهُ وخلودُ الروح إلى حالة مسلَّمات العقل العملي الخالص — وأصبحت تلك القِيَمُ غيرَ قابلة للتصديق، تنتظر ما سمَّاه نيتشه «قلب القِيَم» أو «إعادة تقييم القِيَم».
ولكن بمجرد أن يكتشف المرء كيف أن هذا العالم مصنوع فحسب من أجل تلبية حاجاتٍ نفسيةٍ، وكيف أنه ليس له أي حق فيه، فإن آخِر صورة من العدمية تأتي إلى حيِّز الوجود هي التي تتضمَّن عدم الإيمان بأي عالم ميتافيزيقي وتحرِّم على نفسها الإيمان بعالَم «حقيقي». وبعد الوصول إلى هذه الحالة، يسلم المرء بأن حقيقة الصيرورة هي الحقيقة «الوحيدة»، وينكر كلَّ السبل الملتوية التي تؤدِّي إلى عوالم ميتافيزيقية وإلى آلهة مزيفة؛ ولكنه «لا يمكنه أن يتحمَّل هذا العالَمَ، وإن لم يكن يريد أن ينكره».
- (١)
في تشاؤم شوبنهاور، الذي يدعوه نيتشه «العدمية السلبية»، أو على نحو أكثر عدوانيةً «البوذية الأوروبية»؛ بمعنى أنه إذا كان هناك خواء في قلب معتقداتي الميتافيزيقية السابقة، فإنني حينها قد أؤكِّد أيضًا هذا الخواء وأمارِس اليوجا أو الأوريجامي أو أي شيء آخَر.
- (٢)
في الفوضوية الروسية أو «العدمية الفاعلة» التي شهدناها في أعمال تورجِنيف، والتي يرى نيتشه أنها مجرد «تعبير عن الانحلال الفسيولوجي». وهذا يعني أنه إذا كان هناك خواء في قلب معتقداتي الميتافيزيقية السابقة، يمكنني حينها أن أمضي في تدمير كل شيء من حولي في صورة أعمال إرهاب خلَّاق عنيف. (هذا اتجاه داخل العدمية يمكن للمرء رصده في العديد من الحركات السياسية المتطرِّفة، مثل الحركة الموقفية في باريس في ستينيات القرن العشرين، التي ادَّعَى أنصارُها أنه بما أن المجتمع مجرد مشهد — صورة زائفة لمظهر فارغ — فإن المهمة السياسية تتمثَّل في إعلان هذه الحقيقة في الأفعال السياسية المختلفة والفنية على نحو كبير غالبًا. وكان أحد الشعارات الشهيرة لتلك الحركة هو: «تحت أحجار الأرصفة، يوجد شاطئ»، وهو ينطوي على أنه ينبغي على المرء كشف هذا الشاطئ عن طريق رَمْي تلك الأحجار على الشرطة.)
- (٣)
في مزاج ثقافي عام من التعب واللامبالاة والإرهاق والعناء الذي لُخِّص في عبارة نيتشه الشهيرة: «المجتمع الحديث … لم تَعُدْ لديه القوة «لطرح فضلاته»»؛ بمعنى أنه إذا كان هناك خواء في قلب معتقداتي الميتافيزيقية، فربما من الأفضل أن أهزَّ كتفي بلا مبالاة وأتمتم فحسب قائلًا: «أوه، حسنًا، أعتقد أن هذه هي الطريقة التي تسير بها الأمور.» ربما نرى هذا على أنه «عدمية نظرية»، والتي يُعبَّر عنها كلاسيكيًّا في شخصية إيور في كارتون «ويني ذا بو».
لكن، جديًّا، النقطة الأساسية التي ينبغي فهمها هنا هي أن العدمية ليست مجرد نفي التأويل المسيحي الأخلاقي للعالَم، ولكنْ «نتيجة» له. فبالنسبة إلى نيتشه، تتحقَّق العدمية كحالة نفسية عندما ندرك أن المقولات التي حاولنا من خلالها منح معنًى للكون لا معنى لها. وهذا لا يعني على الإطلاق أن الكون لا معنى له، ولكن يعني بدلًا من ذلك — في إشارة لفلسفة كانط، وتذكير باهت برؤية جاكوبي — أن «الإيمان بمقولات العقل هو سبب العدمية»؛ ومن ثَمَّ، من وجهة نظر نيتشه، العدميةُ هي النتيجة غير المتوقَّعة لنقد كانط للميتافيزيقا؛ وهذا يعني أن العدمية هي نتيجة التقييم الأخلاقي؛ فقِيَمِي لم يَعُدْ لها مكان في العالم، وهذا هو الاغتراب الذاتي للرواقية الحديثة التي سمَّاها هيجل ساخرًا «وجهة النظر الأخلاقية للعالم».
والآن، «يمكن» لمثل هذا الموقف أن يؤدِّي إلى استسلام العدمية السلبية أو الأوهام الحماسية للعدمية الفاعلة، ولكنه يمكن أن يؤدي أيضًا إلى المطالَبة بإعادة تقييم القِيَم؛ المطالَبة التحويلية التحررية بأن تكون الأمور مختلفة. في أعمال نيتشه، ومن منظور مجموعة كبيرة من مفكري التقليد القاري في القرن العشرين، يرافق تشخيصُ العدمية المطالَبةَ بالتغلب على العدمية. وتُعرَف أعمال نيتشه بمناهضتها للعدمية؛ وهذا هو السبب في أن نيتشه يصرُّ مرارًا وتكرارًا على أهمية وجود مقولات جديدة وقِيَم جديدة، من شأنها أن تسمح لنا بتحمُّل عالَم الصيرورة هذا دون الوقوع في اليأس أو اختراع إلهٍ جديدٍ والخضوع له.
وفق رؤيتي، هذه هي وظيفة فكرة «العود الأبدي» الغامضة ظاهريًّا في أعمال نيتشه؛ أي «الوجود كما هو، دون معنًى أو هدف، مع ذلك يتكرَّر بنحو لا مناص منه دون الانتهاء إلى العدم». يؤكد نيتشه أن ما يجري من محاولات مع مفهوم العود الأبدي هو النقيض التام لوحدة الوجود؛ بمعنى أنه إذا كانت وحدة الوجود هي حضور الإله في كل شيء، فإن العود الأبدي محاولةٌ للتفكير في الكون دون وجود إله؛ فالإلحاد بالنسبة إلى نيتشه ليس مجرد بيان للحالة، بل هو أيضًا نتيجة لجهد كبير لتحرير البشر من الأصنام التي اعتادوا على التذلُّل لها.
على الرغم من أن هناك آخَرين سيختلفون معي، فإني أرى مفهوم العود الأبدي لِنيتشه باعتباره تجربة فكرية تُعَدُّ نوعًا من المغالاة في الفكر الكانطي؛ بمعنى أن الأخلاق عند كانط تستند إلى مفهوم الواجب النقي السامي الذي لا يمكن أن يقوم على أي مصلحة تجريبية، ولا يمكن النظر إليه باعتباره وسيلةً لتحقيق غاية، مثل السعادة. فلا توجد غاية من وراء ممارسة الفضيلة سوى الفضيلة نفسها. ومع ذلك، الأخلاق لدى كانط لا تزال تحتفظ بالإله وخلود الروح كمسلمات للعقل العملي الخالص؛ لذلك، لا تزال التصرفات الأخلاقية للمرء إلى حدٍّ ما مرتبِطة بأمل تحقيق السعادة البعيد حيث يُثاب المرء على الفضيلة. ويجعل نيتشه هذه الفكرة الكانطية الأساسية كانطيةً أكثر من كانط نفسه؛ فبالنسبة إليه، لا يوجد إله، وفكرة خلود الروح ليست سوى مزحة سيئة. ومع ذلك، ما يطلبه نيتشه منَّا بفكرة العود الأبدي هو أن نتصوَّر وجودنا في كونٍ بلا معنًى لاهوتي أو ضمان ميتافيزيقي يُعِيد نفسه على نحوٍ لا نهائي متكرِّر إلى الأبد. والآن، إذا كنا نستطيع أن نعرف ونواصل «تأكيد» مثل هذه الصورة، فإننا قد نكون قادرين تمامًا على القول إننا في النهاية قد تغلبنا على العدمية المتضمنة في التأويل المسيحي الأخلاقي للعالم.
(٣) جدلية التنوير
- (١)
لا ترتبط قِيَم الحداثة أو التنوير بنسيج العلاقات الأخلاقية والاجتماعية؛ أيْ بأمور الحياة اليومية. وهذا يعني أنها غير قادرة على إنتاج كلٍّ تخيُّلي أو عقلاني جديد، ما رأى واضِعو «البرنامج النسقي» (انظر الملحق في نهاية الكتاب) أنه الحاجة إلى «ميثولوجيا العقل». بعبارة أخرى، يتركنا كانط مع سلسلة من الثنائيات غير الموحدة. وتفتقر القِيَم الأخلاقية للتنوير إلى أية فعالية (وهذا هو جوهر نقد هامان وهيجل لِكانط الذي ورثه ماركس الشاب؛ حيث تصبح قِيَم التنوير قِيَمًا برجوازية)؛ أيْ تفتقد أيَّ اتصال بالممارسة الاجتماعية.
- (٢)
ومع ذلك، لم تفشل القِيَم الأخلاقية للتنوير في الارتباط بنسيج العلاقات الأخلاقية والاجتماعية فحسب، ولكن الأسوأ أيضًا أنها أدَّتْ بدلًا من ذلك إلى التدهور التدريجي لهذه العلاقات من خلال العمليات التي يمكن أن نسمِّيها بتعبير ماكس فيبر: العقلانية؛ وبتعبير ماركس: الرأسمالية؛ وبتعبير أدورنو وَهوركهايمر: العقلانية الأداتية؛ وبتعبير هايدجر: نسيان الكينونة. وهذه هي جدلية التنوير المحتومة والمتناقضة؛ أرى أن هذه هي إحدى الرؤى الأساسية لجاكوبي، وقد رأيناها تتكشَّف أمامنا من خلال القصة التي أرويها.
ولعرض الأمر على نحو أوسع نطاقًا، فإن مشكلة الحداثة الفلسفية — كما عُرِضت حتى الآن — هي كيفية مواجَهة مشكلة العدمية بعد أن رأى المرء كيف لم تفشل قِيَم التنوير في السيطرة على الحياة اليومية فحسب، ولكن أدَّتْ أيضًا إلى تحلُّلها التدريجي. وفي رأيي، هذه هي المشكلة التي يعود إليها فلاسفةُ التقليد القاري مرارًا وتكرارًا، إما من خلال محاولة إيجاد وسيلة جديدة للاستجابة لها — كما هي الحال مثلًا في أعمال هابرماس وَدريدا — وإما من خلال رفض السياق التاريخي والفلسفي الذي تُطرَح فيه المشكلة؛ على سبيل المثال: في أعمال رورتي.
(٤) العلاقة بين الفلسفة والمجالات غير الفلسفية في التقليد القاري
بطبيعة الحال، تتمثَّل الصعوبة الإضافية هنا في أن مثل هذه المواجهة مع العدمية لا يمكن ببساطة أن تتم في مجال الفلسفة، إذا كان مسلَّمًا — كما هي الحال لدى مفكرين متنوعين مثل نيتشه وَهايدجر وَأدورنو — أن الفلسفة متآمِرة مع القوى التي تنتج العدمية؛ فبالنسبة إلى نيتشه، الفلسفةُ عدميةٌ؛ فهي مليئة بالزهد و«الضغينة» الخاصَّيْن بالتأويل المسيحي الأخلاقي للعالَم. وبالنسبة إلى هايدجر — كما سنرى لاحقًا — الفلسفةُ التقليدية لا ترغب في معرفة شيءٍ عن العدم في جوهر مَبْدَئِها الخاص بالسبب الكافي. وبالنسبة إلى أدورنو، يحيط بالفلسفة خطر أن تصبح خطابًا أيديولوجيًّا من التجريد يتآمر مع تجريد المجتمع الرأسمالي السلعي المادي.
إذن، كيف يمكن للمرء التعامُل مع العدمية؟ هذا هو السؤال. لديَّ أفكاري الخاصة في هذا الشأن، كما يوجد لدى فلاسفة آخَرين. كلُّ ما سعيتُ إلى إيضاحه حتى الآن هو أن التعامُل مع العدمية يمثِّل الإشكالية الأساسية للفلسفة القارية ما بعد كانط، التي تسري مثل خيط أريادني عبر المتاهة الفكرية في آخر قرنين من الزمان. ودفع هذا جانبًا كبيرًا من الفلاسفة القاريين للبحث عن خطابات وممارسات غير فلسفية ربما تتعامل مع أزمة العصر الحديث. ويرى نيتشه وسائلَ للمساعدة في التفكير التراجيدي لقدماء الإغريق، ويجدها هايدجر في التفكير التأمُّلي للإبداع الشعري، ويجدها أدورنو في استقلالية الفن الحداثي الراقي، ويراها ماركس في الاقتصاد السياسي، ويجدها فرويد في ممارسة عمليات التحليل النفسي. وتتمثَّل النقطة هنا في أن إشكالية العدمية تبدأ في شرح السبب في اهتمام جزء كبير من الفلسفة القارية بالعلاقات مع المجالات غير الفلسفية، سواء أكانت الفن أم الشعر أم التحليل النفسي أم السياسة أم الاقتصاد.
(٥) الحداثة التقدُّمية والرجعية
تشعَّبَ هذا الاهتمام بالعدمية بعد نيتشه إلى اتجاهين مختلفين من التفكير في أزمة العالَم الحديث، يمكن تسميتهما الحداثة «التقدُّمية» والحداثة «الرجعية». من جانب، في أعقاب الوَرَثة الراديكاليين لِهيجل — مثل لودفيج فيورباخ وَماركس الشاب — اندمج النقد الفلسفي للحداثة مع النقد الاجتماعي الألماني الأكثر تقدُّمية للحداثة، الذي لاقى التعبيرَ المحدد له في أعمال مفكرين مثل فيبر وَجورج زيمل. استمر هذا النهج خصبًا للغاية فيما يُسمَّى ﺑ «الماركسية الغربية» والجيلِ الأول لمدرسة فرانكفورت من ثلاثينيات القرن العشرين وما بعدها. ويُعَدُّ الممثل المعاصر الأكثر تميُّزًا لهذا النهج حيال الحداثة هو هابرماس، الذي شغل — على نحو مهم — منصبَ أستاذ الفلسفة وعلم الاجتماع بجامعة فرانكفورت. ولا يزال هذا النهج مستمرًّا حتى يومنا هذا في أعمال خليفة هابرماس في جامعة فرانكفورت؛ أكسل هونيت. ويتميَّز هذا النهج من الناحية المنهجية بالإيمان بالخصوبة المتبادلة للفلسفة وعلم الاجتماع؛ وهذا يعني أنه لا بد أن تنفذ المقولات الفلسفية اجتماعيًّا إذا كنَّا نرغب في أن يكون لها أية فعالية؛ ولكن الأبحاث الاجتماعية تتطلَّب الوجود النقدي والتأمُّلي للفلسفة لمنعها من الاستغراق في الوضعية. ومن الناحية السياسية، رُبِط هذا النهج الخاص بالحداثة التقدُّمية بتياراتٍ فكرية يسارية مختلفة، سواء أكانت ماركسية أم ديمقراطية اجتماعية.
على الجانب الآخَر، يوجد النقد الأكثر تحفُّظًا للحداثة، الذي يمكن إيجاده في أعمال مفكرين مثل أوسفالد شبنجلر وَكارل شميت وَإرنست يونجر. بصياغة شبنجلر، الغرب «ثقافة مُسِنة» دخلت في مرحلة ذبول لا يمكن إيقافها، مثل الذبول الأخير لروما القديمة. والاستمرار الفلسفي لنهج النقد الاجتماعي هذا في سياق سرد التراجع والانهيار يمكن إيجاده في أعمال هايدجر، لا سيما في تأملاته حول التكنولوجيا في أواخر أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين. ولكن أيضًا — وربما على نحو غير متوقَّع — يمكن للمرء أن يجد هذا النهج من النقد الثقافي المتشائم في أعمال فيتجنشتاين، الذي أظهر نفسه متأثرًا بقوةٍ بِشبنجلر في أعمالٍ مثل «الثقافة والقيمة». وبينما تستند منهجيةُ الحداثة التقدمية على الاعتماد المتبادل بين الفلسفة وعلم الاجتماع، فإن علم الاجتماع بالنسبة إلى الحداثة الرجعية يُعَدُّ مُدانًا بوصفه تعبيرًا عن الانهيار الديمقراطي الحديث. ثم تُنزَل المقولات الفلسفية حينها مباشَرةً إلى التحليل الاجتماعي، الذي يمكن أن يؤدِّي إلى تشخيص ثقافي متشائم متقلِّب. مرةً أخرى، يقدِّم هايدجر مثالًا كلاسيكيًّا هنا؛ حيث يوسع ببساطة أطروحته حول تاريخ الميتافيزيقا على أنها نسيان الكينونة إلى نقد ثقافي؛ حيث تسيطر على جميع جوانب الحياة اليومية صورةُ العالَم التكنولوجي الذي يُعَدُّ تعبيرًا اجتماعيًّا عن ذلك النسيان نفسه؛ أو كما يقول هايدجر متنهِّدًا: «تزداد رقعة الأرض القاحلة.» والنتائجُ السياسية للحداثة الرجعية معروفةٌ جيدًا في حالة التزام هايدجر بالاشتراكية القومية، التي رأى فيها هو وآخَرون مثل شميت وَيونجر — وإن كان على نحوٍ وجيز — إمكانيةً عملية لإسقاط العدمية. ولا حاجةَ بي لقول إنني لا أجد هذا وسيلةً مفيدة جدًّا للإجابة على السؤال المطروح في عنوان هذا الفصل.
وجهة نظري هي أنه على الرغم من وجود اختلاف تام في وجهة النظر السياسية وخلافات منهجية كبيرة بين الحداثة الرجعية والتقديمة، فإن كلا النهجين استجابة لإشكالية العدمية؛ فهما متفقان في اعتقادهما أنَّ من مهام الفلسفة الانخراطَ فيما أدعوه إنتاج الأزمة. وهذا يعني أن الفلسفة نقدٌ للممارسة الاجتماعية القائمة، كشكلٍ من أشكال الممارسة غير الحرة أو الجائرة، يطمح لهدف التحرُّر الفردي أو الجماعي. ويختلف هذان النهجان — يختلفان تمامًا — فيما يريانه حيال شكل هذا التحرر.