العلموية في مقابل الظلامية: تجنُّب المأزق التقليدي في الفلسفة
الفلسفة الحقيقية تتمثَّل في إعادة تعلُّم كيفية النظر إلى العالم.
كما أشرتُ في الفصل الرابع، فإن حقيقة أن جانبًا كبيرًا من الفلسفة في التقليد القاري يمكن أن يقال إنه استجابةٌ لشعور بالأزمة في العالم الحديث، ومحاولةٌ لإنتاج وعي ناقد للحاضر بنيَّة تحرُّرية؛ تساعد إلى حد كبير في تفسير الفارق الأكثر بروزًا وإثارةً الذي يميزه عن جزء كبير من الفلسفة التحليلية، وهو مناهضة العلموية؛ فمن منظور قاري، اعتناق العلموية في الفلسفة يفشل في فهم الوظيفة النقدية والتحررية للفلسفة؛ أي إنه يخفق في إدراك التواطؤ المحتمل بين التصور العلمي للعالم وما رآه نيتشه على أنه عدمية؛ فهو يفشل على نحو أساسي في معرفة الدور الذي تقوم به العلوم والتكنولوجيا في اغتراب البشر عن العالم. هذا الاغتراب يمكن أن يحدث بعدد من الطرق، سواء أكان من خلال تحويل العالم إلى عالم مُحتم سببيًّا من الأشياء يقف ضد ذات إنسانية معزولة، أم من خلال تحويل هذه الأشياء إلى سلع فارغة يمكن مسحها أو تبادُلها بلا مبالاة.
يكمن نقد العلموية في الاعتقاد بأن نموذج العلوم الطبيعية لا يمكن — وعلاوة على ذلك، لا ينبغي — أن يُعَدَّ نموذجًا للتفكير الفلسفي، وأن العلوم الطبيعية لا تُعَدُّ السبيل الأساسي والأكثر أهميةً لفهم العالم. يجد المرء تعبيرًا عن هذا الاعتقاد لدى مجموعة كبيرة من المفكرين في التقليد القاري مثل برجسون وَهوسرل وَهايدجر، والفلاسفة المرتبطين بمدرسة فرانكفورت منذ ثلاثينيات القرن العشرين وما بعدها. وفي هذا الصدد، أوصي بشدة بقراءة كتاب هابرماس «المعرفة والمصالح البشرية» (١٩٦٨)؛ فبالنسبة إلى هابرماس، العلموية تعني الإيمان بالعلم في حد ذاته؛ أي «الاقتناع بأننا لم يَعُدْ بوسعنا أن نفهم العلم «كشكل» من أشكال المعرفة، وإنما يجب اعتبار أن المعرفة هي العلم.» ويُعَدُّ كتاب «المعرفة والمصالح البشرية» نقدًا منهجيًّا للعلموية التي تبدأ تاريخيًّا بالاعتقاد بظهور الوضعية من خلال تقبُّل فلسفة كانط النقدية في منتصف القرن التاسع عشر، في أعمال إرنست ماخ وَأوجست كونت. يروي هابرماس على نحوٍ أساسي تاريخَ ما قبل تصوُّر حلقة فيينا العلمي للعالم، ولكن مقصده نقدي وتحرُّري على حد سواء. ويشير إلى أن الوضعية والعلموية تشكِّلان إنكارًا لأي تأمُّل نقدي، وهو التأمل من النوع المتجسِّد في أعمال كانط وفي تطوُّر المثالية الألمانية لهذا المشروع النقدي، الذي وفَّر أساسًا لنظرية اجتماعية تحرُّرية لدى ماركس وَفيبر، ومدرسة فرانكفورت في بداياتها. ما يعنيه هابرماس بهذا الادِّعاء هو أن فلسفة كانط النقدية هي (كما رأينا في الفصل الثاني) تأمل في شروط إمكانية وجود ذات عالِمة ومتحدِّثة وفاعلة؛ ومن ثَمَّ فإن كانط يسعى من خلال ذلك إلى وضع أسس المعرفة النظرية العلمية، إلا أن بحثه المتعالي له هدف تحرري، لدرجة أنه يسعى للدفاع عن مفهوم الحرية الإنسانية. وكما يشير هابرماس: «فِعل التأمُّل الذاتي الذي «يغيِّر الحياة» هو حركة تحرُّر.» ويتقدَّم هيجل بعد ذلك بهذا المشروع النقدي إلى مرحلة أخرى، عن طريق تأمُّل الطرق التي ينبغي من خلالها أن تفترض فلسفة كانط مقدَّمًا مجموعةً كاملة من الافتراضات المضمنة سياقيًّا، المتأصلة في عالم الحياة القائم فعليًّا وهياكل الحياة الاجتماعية وتاريخها؛ هذا يعني أن صورة كانط عن «المعرفة» ينبغي أن تفترض مقدَّمًا سلسلةً كبيرة من «المصالح» التي لم تخضع لتأمُّل ملائم؛ وهذا هو أساس ادِّعاء هيجل أن الأخلاق الكانطية، على الرغم من قصدها الجدير بالثناء، لا تزال شكلية مجردة خالية من السياق. ويزعم هابرماس بعد هيجل أن مفهوم التأمل النقدي هذا حَوْل علاقة المعرفة بالمصلحة اختير بطريقة تمثيلية من قبل التحليل النفسي الفرويدي، على الرغم من مَيْل فرويد المؤسف نحو العلموية الذي يبذل هابرماس قصارى جهده لاستئصاله. يعني هذا أن التحليل النفسي ممارسةٌ تأملية نقدية تسعى إلى تحرير البشر من الأوهام المختلفة التي يعتادون خداعَ أنفسهم بها، و«من خلال فهم هذه الأوهام، تحرِّر الذاتُ نفسَها من نفسها».
(١) ممارسة الفنومينولوجيا
مع ذلك، يوجد خطر يتمثَّل في أن يتحول القلق المشروع حيال العلموية إلى توجُّه مناهض للعلموية، وهذا هو خطر «الظلامية». من وجهة نظري، القطبان اللذان يجب تجنُّبهما في الفلسفة هما العلموية والظلامية، اللذان يعكسان الميولَ الضارة داخل الفلسفة التحليلية والقارية، كما يبين الصراع بين كارناب وَهايدجر على نحو واضح. في إشارة هايدجر الوحيدة لِكارناب، تحدَّث عن «لب الصراع الذي لا يزال خفيًّا» في التفكير بين الطرفين المتقابلين للفلسفة المعاصرة. أريد الآن أن أحاول النظر في لب الصراع هذا من خلال الدفاع عن مفهومٍ للفنومينولوجيا يهدف إلى تقويض العلموية دون الوقوع في الظلامية.
يصف ميرلو-بونتي بأسلوبٍ بارعٍ مهمةَ الفنومينولوجيا بأنها «الكشف عن الطبقة قبل النظرية» للتجربة البشرية، التي يقوم عليها الموقف النظري للتصور العلمي للعالم. إن ما أود الدفاع عنه هنا هو شيء يشبه مفهوم ميرلو-بونتي عن الفنومينولوجيا. من وجهة نظري، المسألة مسألة ممارسة الفنومينولوجيا من أجل محاولة كشف الطبقة قبل النظرية لتجربة الأشخاص والأشياء، وإيجاد صيغة وصف موفَّق لهذه الطبقة من التجربة مع صرامتها ومعايير صحتها. إنه هذا البُعْد الصلب — على الرغم من أنه غير ملموس تقريبًا — من التجربة قبل النظرية، الذي تتمثَّل مهمة الفنومينولوجيا في توضيحه؛ لغز المألوف الذي حاول ميرلو-بونتي توضيحه بمفهوم «الإيمان الحسي». وهذا يعني أنه عندما أفتح عيني وأنظر حولي للعالم، فإن لديَّ ثقة تامة بأنه موجود وذو معنًى على نحوٍ كبير. المشكلة هي أن هذا الإيمان ينهار عندما أبدأ في تأمُّله وأسأل نفسي: «حسنًا، كيف يمكن أن أكون على يقين من أنه يوجد عالَم خارجي بالنسبة إليَّ، عندما لا تكون الأدلة القادمة من حواسي دائمًا قابلةً للاعتماد عليها تمامًا؟» كيف يمكن للمرء استعادة سذاجة الإيمان الحسي عندما يكون قد بلغ بالفعل نقطة التأمُّل؟ يجيب ميرلو-بونتي على هذه المسألة بمفهوم يسمِّيه «فرط التأمُّل»؛ وهو أن الفنومينولوجيا تأمُّل فيما يسبق التأمُّل، الركيزة قبل النظرية للتجربة. الهدف هنا هو أن الوصول إلى المستوى قبل النظري للتجربة الإنسانية ليس بالضرورة فوريًّا للبشر مثلنا الذين بلغوا التوجُّه الذهني النظري للعلوم؛ ومن ثَمَّ، فإن الفنومينولوجيا تنطوي على إعادة تعلُّم كيفية النظر إلى العالَم بكل ما فيه من وجود واضح وفعلي.
(٢) ما قبل العلوم
ينتمي للاعتقادات المُسلَّم بها، السابقة لكل تفكير علمي وكل التساؤلات الفلسفية، الاقتناعُ بأن العالم موجود، بأنه موجود دائمًا مسبقًا، وأن كل تصحيح لاعتقادٍ ما، سواء أكان قائمًا على التجربة أم غيرها، يفترض دائمًا وجود العالَم، وذلك بمنزلة أفق لكل موجود له صلاحية غير مشكوك فيها … والعلم الموضوعي أيضًا يطرح أسئلته فقط على أساس وجود العالم مسبقًا انطلاقًا من الحياة قبل العلمية.
إن نقد العلموية من خلال الفنومينولوجيا لا يسعى لدحض أو نفي نتائج البحث العلمي لصالح بعض الفهم الصوفي لوحدة الإنسان والطبيعة، أو غير ذلك. بدلًا من ذلك، فإنه يؤكد ببساطة على أن العلم لا يُعَدُّ السبيلَ الأساسي أو الأكثر أهميةً لفهم أنفسنا والعالم. ومناهضة العلموية لا تستلزم على الإطلاق توجُّهًا مناهِضًا للعلم، كما أنها لا تعني أن «العلم لا يفكر»؛ وهي عبارة متأخرة لِهايدجر سبَّبت من المشاكل أكثر ممَّا حَلَّت. في رأيي، ما يلزم هنا هو ما أشار إليه هايدجر الشاب في عبارةٍ يتم تجاهُلها كثيرًا، على الرغم من أنها موحية للغاية من كتاب «الكينونة والزمان»، وهي: «مفهوم وجودي للعلم»، وهذا من شأنه إظهار كيف أن ممارسات العلوم الطبيعية تنشأ من ممارسات العالَم المعاش، وكيف أن ممارسات العالَم المعاش لا يمكن ببساطة اختزالها إلى تفسير علمي طبيعي.
اسمح لي بتفصيل هذه النقطة أكثر قليلًا مع الإشارة إلى مفهوم هايدجر «ما قبل العلم». في محاضرة واضحة على نحوٍ مذهل في عام ١٩٢٤، تَتضمَّن في صورة مبدئية العديد من الحجج الموجودة في كتاب «الكينونة والزمان»؛ يصف هايدجر تأمُّلاته بأنها تنتمي إلى ما قبل العلم الذي سيكون بمنزلة توضيح تأويلي لشروط إمكانية البحث العلمي. ما يعنيه هايدجر بهذا هو أن ما قبل العلم يصف الأصل الاجتماعي للتوجُّه النظري للعلوم في ممارسات العالَم المعاش. وبينما سأفترض بطِيبةٍ أنه محاوَلةٌ للمزاح من جانب هايدجر، يصف ما قبل العلم بأنه مثل قوة الشرطة في موكب العلم، التي تُجرِي تفتيشًا منزليًّا من آنٍ لآخر في الأفكار القديمة، وتتحقَّق مما إذا كان البحث العلمي في الواقع قريبًا من الأشياء نفسها — ومن ثَمَّ يكون فنومينولوجيًّا — أو ما إذا كان العلم يتعامل مع معرفة تقليدية أو موروثة خاصة بتلك الأشياء. يتخيَّل المرء اعتقالًا جماعيًّا واحتجازًا لحشود كبيرة من الفلاسفة المعتنقين للفكر الطبيعي من قِبَل شرطة الفنومينولوجيا هذه. في مواضع أخرى في أعمال هايدجر، تُسمَّى شرطة الفنومينولوجيا تلك «منطق مُنتِج»؛ أيْ هي كشفٌ قبل علمي للعالم المعاش الذي يمثِّل أساس العلوم بالقفز أمامه. ما يبدو أن هايدجر يعنيه هنا هو أنه على النقيض من التصوُّر التجريبي أو اللوكي حول الفيلسوف كعامل مساعد للعلم (كما أوضحنا في الفصل الأول)، فإن المنطق المنتِج يقفز أمام العلوم من خلال توضيح أساسها في فنومينولوجيا الأشخاص والأشياء والعالم؛ الطبقة قبل النظرية للتجربة.
ما أسمِّيه «ما قبل العلم الفنومينولوجي» أو «التصوُّر الوجودي للعلم» لا يفنِّد أو يدحض عملَ العلوم، إنما يوضِّح أن التوجُّه النظري للعلوم يجد شرطَ إمكانية وجوده في ممارسات العالم المعاش خاصتنا المتعددة؛ بعبارة هابرماس، المعرفةُ النظرية متأصِّلةٌ في الاهتمامات العملية. علاوة على ذلك، وكما سيتضح فيما يلي، إنه يبين أن هذه الممارسات تتطلب توضيحًا تفسيريًّا أو تأويلًا، وليس فرضيات العلوم الطبيعية السببية أو تفسيرات العلوم الزائفة التي تبدو سببية. ما تقدِّمه الفنومينولوجيا هو إعادة وصف توضيحي للأشخاص والأشياء والعالم الذي نعيش فيه. وعلى هذا النحو، لا تنتج الفنومينولوجيا أي اكتشافات كبيرة، بل تعطينا سلسلة من رسائل التذكير حول أشياء كنَّا مطَّلعين عليها، ولكنها تصبح غير ملحوظة عندما نتبنَّى التوجُّه النظري للعلوم الطبيعية. تقدِّم الفنومينولوجيا ما يمكن أن نسمِّيه «تذكيرات يومية»؛ تذكيرًا بالممارسات والأعمال الروتينية التي تحدث في الخلفية، والتي تشكِّل الشبكة الحساسة للحياة العادية.
(٣) معضلة الملفات الغامضة
اسمح لي أن أنتقل الآن إلى الظلامية. من المهم أن نشير إلى أن مثل هذا النهج الفنومينولوجي المناهِض للعلموية «يمكن» أن يؤدي إلى «الظلامية» المعادية للعلموية، التي تُعَدُّ في نواحٍ كثيرة المفهومَ المعاكس أو المضاد للعلموية، ولكن ليس من «الضروري» أن يُفعَل ذلك إذا كنا حَذِرين بما فيه الكفاية للقيام ببعض عمليات التدقيق الفكري. ربما يمكن تعريف الظلامية هنا بأنها رفض التفسيرات السببية التي تقدِّمها العلوم الطبيعية عن طريق إحالتها إلى قصة سببية بديلة، ذات مرتبة أعلى بنحوٍ ما، ولكنها غامضة في الأساس؛ بمعنى أن الظلامية هي استبدال الشكل العلمي للتفسير، الذي يُعتقَد أنه علمي، بتفسير مناهض للعلم وغامض، ولكنه لا يزال سببيًّا؛ على سبيل المثال: لم يحدث الزلزال بسبب الصفائح التكتونية، ولكن بسبب غضب الرب من كثرة آثامنا.
كظاهرة ثقافية، هذا شيء يمكن ملاحظته في كل حلقة من حلقات مسلسل «الملفات الغامضة»؛ حيث تُقدَّم فرضيتان سببيتان، واحدة علمية وأخرى غامضة، وحيث يثبت دائمًا خطأ الفرضية الأولى وصحة الثانية، ولكن بطريقةٍ تتركنا في حيرةٍ بعض الشيء. وهذا يعني أنه يمكن تفسير الظاهرة الخارقة للطبيعة محل البحث، ولكن سببها يظل غامضًا؛ فهي لغز. والآن، بما أن معضلة الملفات الغامضة هذه بمنزلة إلهاء ثقافي، فيمكن القول إنها لا تضرُّ كثيرًا، ولكن في نطاقات أخرى يمكن أن تكون أكثر ضررًا. ومن أمثلة التفسيرات الظلامية المألوفة إرادة الرب، والوجود المطلق للكائنات الفضائية، وتأثير النجوم على السلوك البشري، وما إلى ذلك. وثمة تفسيرات أخرى أقل وضوحًا، ولكن يمكن القول إنها تساوي السابقة في الضرر، منها الدوافع الفرويدية، أو الأنماط الأولية لدى يونج، أو المطلق لدى لاكان، أو السلطة عند فوكو، أو «الاختلاف» عند دريدا، أو أثر الرب لدى ليفيناس، أو — بالطبع — الغياب الخطير للكينونة وغيابها عن تاريخ الميتافيزيقا لدى هايدجر في أعماله الأخيرة. ويمكن أن تمتد هذه القائمة إلى ما لا نهاية.
في رأيي، ما يظل بوسعنا تعلُّمه من الفنومينولوجيا هو أنه عندما يتعلق الأمر بالسبيل الأساسي والأكثر أهميةً لفهم الأشخاص والأشياء — ما يمكن أن نسميه مخزوننا الكامل من المعرفة الضمنية بالعالم الاجتماعي — فإنه لا تلزمنا تفسيراتٌ علمية سببية، أو فرضيات زائفة العلمية تتعلَّق بأسباب غامضة، ولكن ما أسمِّيه، على غرار فيتجنشتاين، «ملاحظات توضيحية»؛ على سبيل المثال: «جوانب الأشياء التي تمثِّل الأهمية الكبرى بالنسبة إلينا تكون خفيةً بسبب بساطتها وألفتها (فالمرء لا يكون قادرًا على ملاحظة شيء ما لأنه دائمًا موجود أمام عينيه).» تجلب الملاحظات التوضيحية أمام أعيننا ملامحَ حياتنا اليومية التي كانت خفيةً لكنها بديهية، وكانت خفية لأنها كانت بديهية. وهي تجعل هذه الظواهر أكثر وضوحًا، وتغير الجانب الذي تُرَى بموجبه، وتمنح الأمور نظرةً شاملة جديدة ومثيرة للدهشة. بهذا المعنى، تمثِّل الفنومينولوجيا إعادةَ ترتيبٍ لما كان معروفًا ضمنيًّا لكنه أصبح غير ملحوظ؛ فهي تسمح لنا بإعادة تعلُّم كيفية النظر إلى العالَم. وبطبيعة الحال، النظر لأعمال هايدجر على هذا النحو لا يبدو مثيرًا مثل التحدُّث عن الهبة العظيمة للكينونة في حال غيابها أو أيًّا كان، ولكن ربما هذا النوع من الإثارة هو شيء نكون أفضل حالًا من دونه.
ينبغي أن يكون واضحًا مما قلته أنني أحاول القيام بدراسة مصغرة لتحديد أمراض المشهد الفلسفي المعاصر، التي تهدف إلى التعليق على أسوأ تجاوُزات الفلسفة القارية والتحليلية، وربما كبحها. من ناحية، يوجد خطر الظلامية في جانب من الفلسفة القارية؛ حيث تفسر الظواهر الاجتماعية بالإشارة إلى قوى وكيانات وفئات واسعة جدًّا وغامضة للغاية بحيث يمكن أن تفسر كل شيء ولا شيء على الإطلاق؛ على سبيل المثال: ظاهرةٌ مثل شبكة الإنترنت (أو الهواتف المحمولة أو حتى البيوت المتنقلة) يمكن أن يُنظَر إليها باعتبارها دليلًا إضافيًّا لدعم أطروحة هايدجر حول ما يسمِّيه «الإطار»؛ أي التوجُّه المؤطِّر الذي يسود في العالم التكنولوجي؛ ومن ثَمَّ يؤدي إلى نسيان الكينونة. وعلى هذا النحو، يبدو أن الظواهر اليومية تُفسَّر بالإشارة إلى قوًى تبدو سببية، تعمل مثل الآلهة في الأساطير القديمة. وربما يُنظَر إلى أي جانب من جوانب الحياة الشخصية والعامة باعتباره دليلًا على قوالب السلطة الانضباطية، أو تفكك «الآخر الكبير» أو صدمة الواقع، أو الكينونات المتعددة للجسد دون أعضاء، أو أي شيء. وحيثما توجد هذه النزعات الظلامية، فإنه يجب أن يكون العلاج إزالة الغموض أو إزالة الوهم؛ بمعنى أنه يجب أن يوجد نقدٌ لهذا النوع من الكلام، وتحقيقٌ في أسباب انخراطنا في ذلك في المقام الأول.
ولكن، على الجانب الآخر من دراستي المصغرة هذه، ثمة خطر العلموية المزمن في بعض مجالات الفلسفة التحليلية. إذا كنا نستطيع تصوُّر بحث فلسفي بعنوان «التجارب الواعية الذاتية والمادية: سد الفجوة التفسيرية»، فلماذا إذن لا نتصوَّر أبحاثًا بعناوين مثل «الانفجار العظيم وأنا: سد الفجوة التفسيرية» أو «الانتقاء الطبيعي وأنا: سد الفجوة التفسيرية»؟ يتمثَّل افتراض تلك الأساليب العلموية في وجود فجوة يمكن سدها من خلال تفسير تجريبي أفضل. لقد كان رأيي عبر هذا الكتاب أنه توجد فجوة شعورية هنا — الفجوة بين المعرفة والحكمة — لا يمكن سدها خلال الدراسة التجريبية؛ وهذا يعني أن مسألة معنى الحياة لا يمكن اختزالها إلى دراسة تجريبية. وهذه الفجوة الشعورية بين المعرفة والحكمة هي مساحة التأمل النقدي نفسها؛ فإننا نحتاج في الفلسفة — ولكن أيضًا على نحو أكثر عمومًا في الحياة الثقافية — إلى قصِّ أجنحة العلموية والظلامية؛ ومن ثَمَّ نتجنَّب أسوأ ما في الفلسفة القارية والتحليلية؛ وهذا يعني أننا بحاجة لتجنُّب خطأ الاعتقاد بأننا نستطيع حل ما يتطلَّب توضيحًا فنومينولوجيًّا من خلال تفسير سببي أو شبه سببي. بطبيعة الحال، الكلام أسهل بكثير من الفعل، ولكن على الأقل يمكننا أن نبدأ.
التمييز بين العلموية والظلامية بطبيعة الحال ليس دقيقًا مثلما أكون قد أشرت. بدايةً، ربما لا تكون الظلامية شيئًا واحدًا؛ إذ توجد في الواقع ظلامية على أساس الإيمان بنوع من الأشياء الغامضة المقدسة، سواء أكان زيوس أم يهوَه أم الدافع للموت؛ ما يمكن تسميته «الظلامية الغامضة». ولكن ثمة ظلاميات أخرى تدَّعِي أنها يمكن إثباتها علميًّا: «أيها الطبيب، أَلَا يمكنك أن ترى أنَّ أَرَقي وعدوانيتي ينجمان عن حقيقة أنني قد اختُطِفت من قِبَل كائنات فضائية عندما كنتُ في معسكر الصيف الماضي؟» أو «أَمْهِلني فقط عامًا آخَر من الأبحاث وسأثبت أخيرًا أن المادة هي نتاجٌ لتدفُّقات إلهية». وبالطبع هناك علمويات تُقبَل دون نقاش؛ ومن ثَمَّ فهي تعادل الظلامية؛ على سبيل المثال: ربما أُومِن أن جميع الحالات العقلية يمكن عزوها إلى نزعات تطوُّرية دون معرفة كيفية ذلك أو السبب فيه. يبدو هذا صحيحًا فحسب. يمكننا تسمية هذا «علموية غامضة» أو ما شابه. دَعْنا نَقُلْ فحسب أن ثمة حاجة ملحَّة لتصنيفٍ أكثر تفصيلًا للتمييز بين العلموية والظلامية.
(٤) الحاجة للقليل من التدقيق الفكري
أعتقد أن أرسطو كان مُحِقًّا للغاية في الإيمان بأن الأخلاق معنِيَّة بالطريقة التي نعيش بها وبالسعادة البشرية، وأيضًا كان مُحِقًّا بشدة في الإيمان بأن هذا النوع من المعرفة («المعرفة العملية») يختلف عن المعرفة النظرية. يبدو لي أن وجهة النظر الخاصة بالمعرفة التي تقرُّ بأن مجال المعرفة أوسع من مجال «العلم» تمثِّل ضرورة ثقافية إذا أردنا التوصُّل إلى رؤية عاقلة وإنسانية حيال أنفسنا والعلم.
نحن نعيش مع فجوة بين المعرفة والحكمة، وداخلها. حان الوقت الذي ينبغي فيه على الفلاسفة — والجميع — البدء في التفكير في تلك الفجوة، فربما يوجد على المحك ما هو أكثر من راحة البال الشخصية.