الفصل الأول
العلوم الطبيعية منطق تقدمها
بَلَغَ القرن العشرون خواتيمه متوَّجًا بحصاد علمي يتيه به على القرون أجمعين، لقد
تفجرت
فيه الطاقة التقدمية للعلوم الطبيعية، وفاقت كل مُعَدَّلات التقدم العلمي المعهودة من
قبل
بنِسَبِها البسيطة والمركَّبة. وفور أن انتهى نصفه الأول قيل: «إن أكثر من ثلاثة أرباع
علم
الفيزياء المعروف لنا اليوم قد أنتجه هذا القرن العشرون.»
١ وفي نصفه الثاني تضاعف هذا النتاج، وما زال يتضاعف. ولحقت بالفيزياء — وهي
العلم الطبيعي الأم — بقية أفرع العلوم الطبيعية. ونشأت فروع أخرى، ولا تزال تنشأ.
ولا نَحْسَبَنَّ الأمر يعوزه استطراد. فتَعَمْلُق العلوم الطبيعية «أوضح من شمس النهار»
كما قال الأقدمون، لكن الأقدمين قالوا هذا التمثيل مجازًا، ونحن نقوله حقيقةً ففي إمكان
العلوم الطبيعية الآن أن تجعل شمس النهار تتوارى بضع لحظات مثلًا أمام التفاعلات الذرية
لانفجار القنبلة الهيدروجينية، وهي واحدة من بنات حصائلها المتواضعات. هذه الحصائل تملأ
آفاق عصرنا، بدءًا من وسائل المواصلات والاتصالات التي قَهَرَت الزمان والمكان، حتى غزو
الفضاء، والصحراء. وثورة الهندسة الطبية، فضلًا عن الهندسية الوراثية التي تعاظَمَتْ
معها
استطاعات الإنسان، وتتابع أجيال الحاسوب … إلخ، ومع هذا «سيظل العلم دائمًا شيئًا ما
أعظم
من تقانة (تكنولوجيا)، وأكثر من فروع للمعرفة. إنه شيءٌ حي، شيءٌ من أشياء المتعة والجمال،
يتوشج بطبيعته توشجًا داخليًّا في شئون الحياة، وهو مع هذا شيءٌ مميَّزٌ عنها، إنه ميدان
للخبرة يلعب فيه الخيال دورًا كاملًا.»
٢
لقد قيل إن العلم شيءٌ حي، بمعنى أنه بِناء صميم طبيعته الصيرورة. وهو نَسَق متتالي
التوالد والتنامي والتغير، ما يعني أن مَنْطِقه منطق نظام ديناميكي، وهو منطق للتقدم
المستمر؛ لذلك فحين نقف على خاصية البنية المنطقية للعلوم الطبيعية، سنرى كيف أن نَسَقَها
يحْمل في صلب طبيعته إمكانية التقدم المستمر دائمًا استمرارية البحث العلمي. إن هذه
الإمكانية متوشجة في صميم البنية المنطقية، حتى أمكن القول إن منطق العلم التجريبي منطق
«تصحيح ذاتي» فنجد جاستون باشلار Gaston Bachelard
(١٨٨٤–١٩٦٢) شيخ فلاسفة العلم في فرنسا، يؤكد ضرورة الربط بين العلم والفلسفة، ويحرص
على
تأكيد أهمية الخيال والأحلام الشاعرية للعقل العلمي.
وباشلار يطلق نظرياته ورؤاه النافذة المحيطة بأعماق ظاهرة العلم كشاعر مُلْهَم، يقول:
«العلم لا يَخْرج من الجهل كما يَخْرج النور من الظلام؛ لأن الجهل ليس له بنية، بل يخرج
من
التصحيحات المستمرة للبناء المعرفي السابق، حتى إن بنية العلم هي إدراك أخطائه. والحقيقة
العلمية هي تصحيح تاريخي لخطأٍ طويل، والاختبار هو تصحيح الوهم الأوَّلِيِّ
المشترك.»
٣ فيؤكد باشلار كثيرًا أهمية النقد. أو حسب تعبيره «هذا الشك المسبق المنقوش على
عتبة كل بحث علمي، يتصف بأنه متجدد، وهو سمة أساسية لا موقوتة في بنية التفكير
العلمي.»
٤ لذلك ينتهي باشلار إلى أن العقل العلمي يتَنَكَّر دائمًا لما يُنْجِزُه، من حيث
دأبه على نقده وتصويبه. ألم نتفق على أن منطق العلم «منطق تصحيح ذاتي»؟! إنه لهذا يكفل
لتواتُر محاولات العلماء الإبداعية، ومحض توالي البحوث المنهجية … يكفل لها التقدم المستمر،
من حيث يفتح أمامها آفاقًا أوسع. معنى هذا أنه مهما أَحْرَزَتْ العلوم الطبيعية من
تَقَدُّم، فسوف يظل إحرازها هذا يحمل في صلب ذاته إمكانية التقدم الأبعد، فلا رُكون ولا
سكون البتة. بعبارة أخرى كل إجابة يطرحها العلم يطرح معها تساؤلات جديدة أَبْعَد مرامًا.
وكما يقول كلود ليفي
شتراوس
C.
Levi Strauss (١٩٠٨–؟): «سوف تكون هناك دائمًا فجوة بين الإجابة التي يكون العلم
قادرًا على إعطائها لنا، وبين السؤال الجديد الذي سوف تثيره هذه الإجابة.»
٥
فلن يتوقف أبدًا تقدُّم مسيرة العلم الطبيعي الظافرة، التي انْطَلَقَتْ في طريقها
الصاعد
الواعد، فور أن وضع نيقولا كوبرنيقوس N. Copernicus
(١٤٧٣–١٥٤٣) فرض مركزية الشمس — التي سبق أن طَرَحَها أرسطارخوس الساموسي في القرن الثاني
الميلادي — بدلًا من مركزية الأرض في النظام البطلمي القديم، المعتمَد طوال العصور الوسطى.
وتُعَدُّ مركزية الشمس الكوبرنيقية — بضعف حجمها، وما فيها من أوجه قصور — هي المنعطف
الجذري بألف ولام التعريف، الذي تَحَوَّل معه العقل البشري من شعاب العلم الطبيعي القديم،
ليستهل الخطوة الأولى ونقطة البدء في تشييد «نسق العلم الحديث».
لقد قيل إن العلم الطبيعي أقدم عهدًا من التاريخ. فالمعطيات الأساسية التي يرسو عليها
تأمَّلَها الإنسان وأسلافه لعشرات ومئات الآلاف من السنين، وقبل أن تُخْتَرَع الكتابة.
والواقع أن رموز الأعداد اخْتُرِعَت قبل الكتابة. فأول ما ينبغي أن نُقِرَّه بشأن العلم،
هو
أنه متأصل في صلب أقدم مناحي الإنجاز الإنساني.
٦ وحين نتقدم قليلًا في مسيرة الحضارة الإنسانية سوف نَلْقَى — بصفة أكثر تحديدًا
— الميراث العلمي الواضح المعالم للحضارات الشرقية القديمة، وعلى رأسها الحضارة الفرعونية،
أعظم الحضارات طُرًّا وفَجْرها الناصع. ثم هل كان يمكن تشييد «نسق العلم الحديث» بغير
الأصول النظرية العميقة التي أرساها فلاسفة الإغريق، والفروض المثمرة التي طَرَحَها بعضهم،
خصوصًا قبل السقراطيين منهم، وعلى رأسها فرض الذرة. وبصفة أكثر عينية لم تكن إنجازات
جاليليو (١٥٦٤–١٦٤٢) — وهو في طليعة الآباء العظام للعلم الحديث — ممكنة دون إنجازات
أرشميدس، هو الذي علمه التآزر الخصيب الولود بين لغة الرياضيات ووقائع التجريب. ومعلوم
جيدًا دَوْر العلماء العرب في العصور الوسطى في مواصلة مسيرة البحث التجريبي، وعلى رأسهم
وعلى رأس العلماء الطبيعيين القدامى طُرًّا، ابن حَيَّان، وابن الهيثم، والبيروني،
والرازي.
ولئِن كان العلم الطبيعي في هذا المسار الطويل قد أَنْجَزَ بِضْع محصَّلات، ربما تُتَّخَذ
مواقعها حتى الآن في نسق العلم الحديث، ولو كأصول تمهيدية فإنها كانت نتائجَ ضئيلة نسبيًّا
والأهم متناثرة؛ لأن البحث العلمي نفسه كان نشاطًا متناثرًا، مشَتَّتًا مبعثَرًا، مُلْحَقًا
بالاحتياجات العملية المباشرة في العهود السحيقة، ثم بالكهنوت في الحضارات القديمة، ثم
بالفلسفة والإطار الثقافي في الحضارة الإغريقية، وفي الحضارة الوسيطة التي كان إطارها
إطارًا دينيًّا. فلم يكن العلم الطبيعي القديم كيانًا مستقلًا بذاته، حتى انبثق العلم
الحديث في صورة نسقية؛ أي مهيأة للاستقلال، بحيث تحمل في صُلْب ذاتِها حيثياتِها وإمكانات
تَنَامِيها، وفاعليةَ عوامل تقَدُّمها ذي المعالم الواضحة.
والنسقية تعني إحكام المشروع العلمي فيرتكز في شتى ممارَساته على أصوليات منهجية صارمة،
ترتد في صورة خصائص منطقية دقيقة تحَدِّد للمشروع العلمي تخومًا واضحة، ما يكفل تآزُرَ
الجهود العلمية، فيجعلها تمثِّل متَّصِلًا صاعدًا، يواصل تقدُّمه باستمرار، ويلقي في
جوانحنا الثقة المُدَعَّمة بأن غده أفضل من يومه، تمامًا كما أن يومه أفضل من أمسه، الذي
كان أفضل من أمسه الأول. فتُمَثِّل كلُّ ممارسة من ممارسات العلم الطبيعي إضافةً لرصيده،
أو
بالأحرى لرصيد الإنسانية، لكن إضافة رأسية.
أجل، يُمَثِّل العلم الطبيعي متصلًا صاعدًا، دونًا عن شتى مناحي الإبداع الإنساني
كالفن
والأدب والفكر والفلسفة والأنظمة … إلخ، التي تنمو في صورة تَرَاكُم كَمِّيٍّ واتساع
أفقي،
لا يلغي القديمَ فيه الجديدُ، ولا يتجاوزه، ولا يفوقه، بل يَقِف بجواره. وأنَّ تَمَثُّل
الإنجازات المتوالية متصلًا صاعدًا، يقترب دَوْمًا من الصواب، متجاوزًا مَثَالِب الوضع
السابق — أو مواطن كذبه — وباحثًا عن مثالب أخرى في وَضْعه الجديد ليقترب من الأصوب.
فذلك
هو التعبير المنطقي عما يُعْرَف بمقولة تقديم العلوم الطبيعية. وسوف نرى أن الخاصة المنطقية
المميِّزة للعلوم الطبيعية، والتي تعطي أشمل معالجة لمنطق النظرية العلمية التجريبية،
هي في
حد ذاتها بلورة لعامل التقدم المتوشج في نسيج العلم الطبيعي.
•••
وقد بُذِلَت عدة محاولات فلسفية للوقوف على طبيعة هذا التقدم العلمي المستمر. وبنظرة
شاملة يعطينا بوليكاروف أربعة آراء تُجْمِل تصورات تقدُّم العلوم الطبيعية أو
نموُّها
٧ وهي:
- (أ)
تبعًا لتتالي الأحداث الذي لا يَحْكُمُه أيُّ اطِّراد عامٍّ، فإنه لا يمكن
تفسير تقدُّم العلوم الطبيعية، يمكن فقط وصْفه، وهذا هو تصوُّر الوضعيِّين
المناطقة على الخصوص.
- (ب)
تقدُّم العلم يتِمُّ كسلسلة من التحولات أو الثورات التي ربما تَحْدُث بغير
رابطة داخلية internal link. هذه هي
النظرية الثورية.
- (جـ)
وكنقيض للرأي السابق نجد الرأي التراكمي، الذي يؤكد استمرارية المعرفة
العلمية. وهذا رأي شائع بين العلماء وفلاسفة العلم ومؤرخيه الكلاسيكيين، أمثال
ويليم ويول وبيير دوهيم وكارل بيرسون وجورج سارتون. ولعل أبرز ممثليهم عالِم
الفيزياء المتطرف أرنست ماخ E. Mach
(١٨٣٨–١٩١٦)، فقد استنفد قواه الفلسفية والمنطقية في شن حرب شعواء على الكمومية
«الكوانتم» والنسبية، ما يوضح إلى أي حد كان تفكيره أَسِيرَ مرحلة العلم
الكلاسيكي، وعَجَزَ عن تجاوُزها. ونظرًا لبساطة مُسَلَّمات العلم الكلاسيكي،
وتوافقها مع الحس المشترك، فإن ذلك المَوْقِف لا يزال دارجًا ويتكرر كثيرًا،
وحتى يومنا هذا. فيعرب باشلار عن أسفه؛ لأن القرن الثامن عشر لا يزال يحيا
فينا. «وأحد أهداف هذا الكتاب الكفاح ضد الموقف العاجز عن مواكَبة التقدم في
العلم. وهو — أي العلم — المجال الذي يعنينا منه أنه التمثيل العيني لمقولة
التقدم في أجلى وأصفى صورها.»
- (د)
التصور الجدلي (الديالكتكي) لهيجل وماركس وإنجلز وأشياعهم. وتبعًا له يؤدي
التقدم الكَمِّيُّ التدريجي؛ أي «التراكمي» إلى قفزات كيفية أو «ثورية» تصبح
بدورها نقطة البدء لتراكُم كَمِّيٍّ جديد، يؤدي عند نقطة معيَّنة إلى قفزة
كيفية … وهكذا، وفقًا لقانون «الكم والكيف» الجدلي؛ أي الذي ينتقل عبر مراحل
الجدل الثلاث: القضية ثم نقيضها، ثم المُرَكَّب الذي يَجْمَع خَيْرَ ما فيهما
ويتجاوزهما إلى الأفضل، فيصبح بدوره — في مرحلة أعلى من الجدل — قضيةً تنقلب
إلى نقيضها … وهَلُمَّ جَرًّا … وعلى الرغم من النقد العنيف، بل الرفض الحادِّ
الذي يلقاه الجدل من قِبَل فلاسفة العلم ذوي الولاء الشديد للعقلانية
٨ فإننا نرى في التصور الجدلي وسيلة ناجحة للربط بين التصوُّرَيْن
التراكمي والثوري في مركب مُتَّسِق لمن شاء الاستفادة من التصورات الثلاثة معًا
في كل متآزر.
بيد أن الغاية المرومة في النهاية من كل فلسفة للعلم هي أن تبلور روحه، فتضع الأصبع
على
أشد ما يفجر الطاقة التقدمية للبحث العلمي والتفكير العلمي، ومن ثَمَّ للعقل الإنساني
والحضارة الإنسانية. والنظرية الثورية — بداهة — أقوى ما يدفع الطاقة التقدمية للعلم،
أَوَلَيست تجعله ثوريًّا؟
ولا بد قبلًا من الوقوف عند مصطلح «الثورة» وقفة لغوية، لنميز بين جانبين للدراسة
السيمانطيقية للمصطلحات هما الجانب الإشاري المباشر، والجانب الدلالي الإيحائي. من الناحية
المباشرة نجد «الثورة» تعني — دائمًا — نمطًا من التغيير المفاجئ السريع، مُغَايِرًا
لمجرد
النمو، أو حتى التطور الذي هو تَغَيُّرٌ تدريجيٌّ بطيء «يوازيه في تفسير التقدم العلمي
النظرة التراكمية»، لذلك قيل: إن «الثورة مقابِلة للتطور، فهي سريعة وهو بطيء، وهي تَحَوُّل
مفاجئ وهو تَبَدُّل تدريجيٌّ.»
٩
وهذا المعنى الإشاري المباشر مقصود بعينه، ولكن فيما يختص بالجانب الدلالي الإيحائي،
نلاحظ تفاوُتًا بين لفظة المصطلح الأوروبي
Revolution وبين
المقابل العربي «ثورة». إذ تَعُود ثورة إلى: ثار الغبار: سطع، وأثاره غيره، وتثويرًا:
هَيَّجه، وثَوَرانًا: هاج. ومنه قيل: فتنة ثارت، وأثارها العدُو، وثار الغضب: احتد، وثار
إلى الشر: نهض، وثَوَّرَ الشر تثويرًا.
١٠ فنجدها في النهاية مردودة إلى «ثار» بمعنًى يفيد هاج وماج، فيأتي الرفض
والتغيير الجذري بفِعْلِ قُوًى انفعالية. وليس هذا مقصودًا تمامًا، ولكن في الإنجليزية
نجد
المصطلح: «ثوري
Revolutionary»، جذري متطرف. وأيضًا دوار؛
لأنه مأخوذ من
Revolution التي تعني ثورة، وتعني أيضًا
إتمام دورة كاملة (مثلًا دورة الجرم السماوي في مداره) ولنلاحظ أواصر القربى الفيلولوجية
بين «ثورة
Revolution» وبين «نماء أو تطور
Evolution». على هذا نجد المصطلح الإنجليزي لا يجعل الرفض
هياجًا مفاجئًا، بل هو تقدم مكثف شديد الفاعلية، وانتقال جذري إلى مرحلة أعلى آنَ أوانها؛
لانتهاء المرحلة السابقة أو استنفاد مقتضياتها. وهذا هو المقصود على وجه الدقة من القول
بالطابع الثري للتقدم العلمي.
وسوف نرى أن هذه النظرية الثورية لِتَقَدُّم العلوم الطبيعية، والتي هي الضد الصريح
لنظرية التراكم الكَمِّيِّ، والتعديل الحق للقول بالتطور العادي، إنما هي النظرة التي
يفرضها منطق العلم ذاته، منطق الكيان المُطَّرِد التقدمِ ذي الثورات الحقيقية في تاريخ
البشر، ذلك أننا سنلقاها مُحَصِّلة للخاصة المنطقية المميِّزة للعلوم الطبيعية. ومن ثَمَّ
فهي أي: النظرية الثورية — وفي أقوى صورها — هي المعتمَدة في كتابنا هذا، المُتَّسِقة
مع
مُسَلَّمَاته وأهدافه، وإنها لنظرة شديدة الحداثة، ولكن قُبَيْل أن ينتصف القرن العشرون،
سَبَقَ أن بَشَّرَ بها مؤرخ العلم هربرت بترفيلد.
١١ وخلاصة رؤيته هي أنه على قَدْر ما يُمْكِنُنا اقتفاء الثورات العلمية بهدى
العوامل الخارجية، فالوضع يتمثل في أن العلماء في مرحلة ما يُحْدِثون تغييرًا في مخطَّطات
تفكيرهم، يرَوْن الأشياء القديمة بطريقة جديدة، ويحاولون التوصل إلى فكرة تمثل مفتاحًا
(
Key Idea وهو تعبير بترفيلد المفضل) يفض مغاليق التعثر
الطارئ. وحينما يتوصلون إلى فض هذه المغاليق تتدفق الاكتشافات بمنتهى السهولة، ويرفض
بترفيلد اعتبار تاريخ العلم تاريخًا للأفراد العظام، أو سلسلة من قصص النجاح، أو تراكم
الاكتشافات والمعرفة بالوقائع. فذلك لا يُعَبِّر البتة عن التناول السليم لتاريخ
العلم
١٢ هذا التاريخ المتَّقِد لا تحيط به إلا الرؤية الباحثة عن ثوراته.
ولعل أشد فلاسفة العلم حرصًا على إبراز الطابع الثوري للتقدم العلمي إنما هو باشلار.
إذ
يرى أن الخطأ الأساسي والأَوَّلِيَّ، هو الذي يظل مسيطرًا على العقل البشري ما لم يَعْمل
هذا العقل على إزاحته عن مواقعه واحدًا بعد الآخر بجهدٍ وكفاح وصراعٍ لا يتوقف. فكل حقيقة
لا بد أن تَكْتَسِب بنوع من النضال والانتصار. وكل معرفة لا بد أن تحارِب لكي تحتل مواقع
الجهل؛ لذلك فالتَّقدم في العلم يتم من خلال صراع بين الجديد والقديم. ولا يتحقق إلا
بنوعٍ
من التطهير الشاق لهذه الأخطاء. المعرفة لا تسير في طريق مُيَسَّر مُعَبَّد مباشرةً إلى
الحقيقة، بل إن طريقها مُلْتَوٍ مُتَعَرِّج، تمتزج فيه الحقيقة بالبطلان، ويصارع فيه
الصوابُ الخطأ صراعًا مريرًا كَيما يخَلِّص نفسه منه. وهكذا نلاحظ أن فِعْل المعرفة في
كل
حال ينطوي في حد ذاته على ثورة ما، من حيث ينطوي على صراع. يتبلور هذا الصراع في السلب
في
«اللا» التي أصبحت مقولةً لا يستغني عنها العلم المعاصر (لاحتمية، لاتَعَيُّن، ميكانيكا
لانِيُوتنية، وهندسات لاإقليدية …) ذلك أن الجدة العلمية لم يَعُدْ من الممكن اكتسابها،
إلا
عن طريق السلب المُنَظَّم، الذي يصارع القديم ويرفضه، ويُعَبِّر عما يطرأ على العلم من
تحولات أساسية، عندما يعيد النظر في مفاهيمه الكبرى، ويراجعها من جديد. ومن ثَمَّ يصر
بَاشْلَارْ إصرارًا على رَفْض فكرة الاتصال في فلسفة العلوم. فالمعرفة العلمية تتصف أساسًا
بعدم الاتصال في صورتها أو في مضمونها.
١٣
والبنية الإبستمولوجية لفرضية علمية مختلفة تمامًا عن بنية الفرضية التالية لها في
تاريخ
العلم في «جدليات ناشطة حقًّا».
١٤ والفيلسوف الذي يتبع بالتفصيل حياة الفكر العلمي سيدرك التزويجات غير المألوفة
بين اللزوم والجدلية؛
١٥ لذلك كان مصطلح الجدل (الديالكتيك) الذي يُعَبِّر عن عدم اتصال المعرفة
والانتقال من القضية إلى سلبها، شديد الشيوع في أعمال باشلار، ويحتل عناوين فرعية جَمَّة.
وفي عام ١٩٥١ أخرج كتابه «جدلية
الزمان
La Dialectique De La Duree» «له ترجمة عربية».
على أساس الصراع مع الخطأ، السلب والجدلية، والاتصال. يتضح لنا عمومية التصور الثوري.
ويغدو التقدم العلمي مرهونًا بحدوسات جريئة تمثل بدورها قفزات ثورية، تَعْقُبها أفكار
تصحِّح أفكارًا، فرُوح العلم هي تصحيح المعرفة، وتوسيع نطاقها، أو ما أسميناه منطق التصحيح
الذاتي. وهذا الأفق من الأفكار المصححة هو ما يميز الفكر العلمي،
١٦ وكل هذا يعني أن الفكر العلمي فِكْر قَلِق، فِكْر يترقب الشيء، يبحث عن فرص
جدلية ليخرج من ذاته، وليكسر أُطُرَه الخاصة، إنه الفكر الذي يسير على درب الموضوعية،
ومثل
هذا الفكر لهو الفكر المُبْدِع.
١٧
هكذا يؤكد باشلار عمومية الثورة، فيقول: «تتضمن أزمات النمو الفكري إعادة نظر كلية
في
منظومة المعرفة.»
١٨ وأيضًا على عُمْقها فيقول: «إن الإنسان يصبح بواسطة الثورات الروحية التي
يستلزمها الإبداع العلمي جنسًا مغايرًا.»
١٩ فهي تؤثر تأثيرًا عميقًا في بنية العقل المتجددة دومًا «وحتى الثورات المتصلة
بمفهوم واحد تواكب في الزمان ثورات عامة ذات تأثير عميق في تاريخ الفكر العلمي»،
٢٠ وكل شيء يمضي جنبًا إلى جنب، المفاهيم وإنشاء المفاهيم «فليس الأمر مجرد كلمات
يتبدل معناها، بينما يظل الترابط ثابتًا، كما أنه ليس أَمْر ترابط مُتَحَرِّك حُرٍّ قد
يفوز
دائمًا بالكلمات ذاتها التي يترتب عليه أن ينظمها.»
إن العلاقات النظرية بين المفاهيم تَبَدَّلَ تعريفها كما يُبَدِّل تَغَيُّر المفاهيم
علاقاتها المتبادلة. وليس يهتم باشلار كثيرًا بالصياغات المنطقية، بل بالأحرى بما أسماه
«نفسانية المعرفة»؛ لأنه فيلسوف أولًا وأخيرًا وليس منطقيًّا، ولكن يمكننا أن نُعَبِّر
عن
هذا تعبيرًا منطقيًّا، فنقول: إن الفكر لا بد حتمًا أن تتبدل صورته؛ إذ ما تَبَدَّلَ
مضمونه.
فينفي باشلار أي سكونية تراكمية عن نمو المعرفة العلمية. فالمعرفة التي تبدو ثابتة
تجعلنا
نؤمن باستمرارية الأشكال العقلية وثباتها، واستحالة قيام أي طريقة جديدة للفكر. في حين
أن
قوام البنية العلمية ليس بالتراكم، وليس لكتلة المعارف العلمية تلك الأهمية الوظيفية
المفترضة. فإذا قَبِلْنَا حقًّا أن الفكر العلمي في جَوْهَرِه يعني إنشاء الموضوعية،
وَجَبَ
استخلاص أن مستنداته الحقيقية هي التصحيحات وتوسيعات الشمولية. وعلى هذا النحو تتم كتابة
التاريخ الحركي للفكر. فالمفهوم يحظى بمعنًى أكبر في تلك اللحظة بالذات، التي يغيِّر
فيها
معناه، وإذ ذاك تصبح حدثًا من أحداث إنشاء المفاهيم.
٢١
ويمكننا أخيرًا — وعلى ضوء ما سبق — التوقف عند فكرة جوهرية أبدعها باشلار في إطار
فلسفته
الجدلية الرافضة للاتصال، لتلعب فيها دورًا محوريًّا، بحيث تناظر تكذيب النظرية المقبولة
عند كارل بوبر، وتحطيم النموذج القياسي عند كُون، وتكون من أقوى تجسيدات النظرية الثورية،
وأعتى رَفْض للنظرية التراكمية، ألا وهي «فكرة القطيعة المعرفية La Ruptare Epistemologique» التي تكاد تكون تلخيصًا لما سَبَقَ من خطوط فلسفة
باشلار، ولكنها خَرَجَتْ من أعطاف فلسفته، بل ومن حدود فلسفة العلم بأسرها، وشاعت وذاعت
وترددت في سائر جنبات الفكر المعاصر، حتى كادت تُصْبِح من مَعَالِمه، لا سيما أنها أبدت
خصوبة وفاعلية في تفسير التحولات الحضارية.
والقطيعة المعرفية تعني أن التقدم العلمي مبني على أساس قطع الصلة بالماضي، فهو شَقُّ
طريق جديد لم يتراءَ للقدامى، ولم يَرِدْ لهم بحال، بحكم حدودهم المعرفية الأسبق، ومن
ثَمَّ
الأضيق والأكثر قصورًا. والمثال الأثير لباشلار «المصباح الكهربي»
٢٢ فهو ليس استمرارًا لأساليب الإضاءة الماضية التي تقوم على الاشتعال والاحتراق،
بل قطيعة لكل هذه الأساليب لحد الشروع في مرحلة تعتمد الإضاءة فيها على الحيلولة دون
أي
اشتعال أو احتراق، فهي خَلْق وإبداع جديد تمامًا.
القطيعة المعرفية هي التجاوز النشط المسئول للماضي، فالمُبْدع الخلاق للحاضر، فلا
تعود
اللحظة تكرارًا كميًّا للتاريخ، بل هي عمل دءوب، هي إنجاز — إنجاز للحداثة. وعن طريقها
يؤكد
الإبداع العلمي حدس اللحظة التي تمثل حقيقة الزمان، من حيث هي الكائنة، وبين غير
الكائنَيْن: الماضي والمستقبل. وتغدو الشجاعة الذهنية في المحافظة على لحظة المعرفة نشيطة
حية «وأن نجعل منها منبعًا لحدسنا، متدفقًا دومًا، وأن نرسم انطلاقًا من التاريخ الذاتي
لأخطائنا النموذج الموضوعي لحياة تكون أفضل وأوضح».
٢٣
ولا يفوتنا في هذا الصدد الإشارة إلى نظرية توماس
كُون
Thomas Kuhn فهو مِنْ أهم مَنْ عَنَوْا بتفسير التقدم العلمي، وطَرَحَ في كتابه
الشهير «بنية الثورات العلمية» نظرية «تتضمن عناصر من كل من النظريتين الثورية
والجدلية»،
٢٤ ولكن ليس على طريقة باشلار؛ حيث تُسَخِّر الجدلية فقط لخدمة الثورية، بل
ولإذكائها. أما نظرية كُون فهي — إن صح التعبير — ثورية، لكن متهاودة إلى حدٍّ ما. إذ
تقوم
على التمييز في تَقَدُّم العلم بين العلم
العادي
Normal Science وبين المراحل الثورية في هذا التقدم.
٢٥
تقدم العلم العادي يحدث داخل إطار النموذج
القياسي للعلم
Scientific Paradigm الذي يَقْبَله المجتمع العلمي بوصفه بناء عِلْمِنا اليوم،
فهو الإنجازات العلمية المقبولة بصفة عامة، والتي تُزَوِّد جمهرة المشتغلين بالعلم بأنماط
المشاكل وحلولها، تقدم العلم العادي يسير داخل إطار هذا النموذج. فالعلم العادي لا يبدأ
عمله بالبحث في النظرية الأساسية للنسق العلمي، أو محاولة الثورة عليها، كما أنه لا يهتم
باختبارها، وظهور مثال معارض لا يعامل مباشرة كتفنيد للنسق — كما يوضح جون ويزدم الفيلسوف
التحليلي الكبير — فربما عالجناه بفرض
مساعد
Auxiliary Hypothesis.
٢٦
إذن فنمو العلم العادي يسير من خلال التنقيح المَعْرِفِيِّ المستمر لمحتوى نظريات
أقل
عمومية، أو حسابات دقيقة وتنبؤات، وأيضًا من خلال عملية تنقيح الإضافات التي تلحق بالنسق،
وتنقيح تطبيقاته. وعملية التنقيح هذه تأخذ طابع حل
المتاهات
Solving Puzzle. وخلال حلها تثار مشاكل جديدة في حاجة للحل. بعبارة أخرى: العلم
العادي هو حل المتاهات، من خلال تلقيح وتنقيح النظريات الموجودة بالفعل.
٢٧ وكل هذا داخل إطار النموذج القياسي للبناء العلمي. وقد استعمل كُون مفهوم
المستويات المختلفة للعمومية، وميَّز على وجه الخصوص بين النماذج القياسية الميتافيزيقية
وهي النظرة العامة
Outlook والنماذج القياسية السوسيولوجية
— كمجموعة العادات العلمية — وبين النموذج القياسي المصطنع أو المُشَيَّد لحل المشاكل
العلمية، المهم أن العلم العادي ينمو داخل إطار النموذج القياسي، بيد أن الفرض المتطور
فيه
يتحول من «ل» إلى «لا - ل»: «ل ← لَ». أما في مرحلة العلم الثوري، فإن الإطار نفسه
يتحطم، ويحل محله نموذج قياسي ذو أطر مختلفة. فيتحول الفرض من «ل ← د»
٢٨
إذن ما يميز العلم الثوري عن العلم العادي، هو أن الأخير يتحرك داخل النموذج القياسي.
بينما الأول يحطمه، ويحل محله نموذج آخر، يمثل العلائم البارزة في تاريخ العلم.
هكذا نلاحظ أن توماس كُون يتمسك بنظرية ثورية معدلة، أو مخففة إلى حدٍّ ما، مقارنة
بالنظرية الثورية الجذرية المعتمدة في هذا البحث، والتي رأيناها — مثلًا — مع جاستون
باشلار، وسوف نراها أعمق مع كارل بوبر، وثلاثتهم — بوبر وباشلار وكُون — أساطين فلسفة
العلم، لا سيما في النصف الثاني من القرن العشرين، وعلى وجه التعيين الربع الثالث منه،
وفلسفة العلم — لأنها الوجه الآخر لمَنْطِقه — لا تسمح كثيرًا بالتناقضات الحادة في وجهات
النظر، التي تترعرع في فروع الفلسفة الأخرى. والحق أنه لا تناقُضَ حادًّا أو لا تناقُضَ
البتة بين الرأي الثوري الجذري، الفلسفي مع باشلار والمنطقي مع بوبر، أو مع سواهما، وبين
الرأي الثوري المُعَدَّل مع كُون.
كل ما في الأمر كما لاحظ بريان ماجي
Bryan Magee أن كُون
يُدْخِل في اعتباره سوسيولوجية العلم وسيكولوجية العالم، وعوامل أخرى يمكن أن نُسَميها
العوامل الخارجية، أما باشلار وبوبر فيَنْصَبُّ اهتمامهما على العوامل الداخلية للعلم
وبنيته، وبوبر بالذات يقتصر تفكيره على منطق العلم؛ لذلك كانت ثوريته جذرية، ويؤكد أن
حالات
التقدم الحقيقي «لا نجد فيها شيئًا مشتركًا، أو خط استمرارية بين النماذج القياسية
المختلفة».
٢٩ وبعبارة أخرى، لا يوجد عِلْم عادي وعِلْم ثوري، كل علم طبيعي هو علم ثوري من
حيث هو مُطَّرِد التقدم، فقط بدرجات متفاوتة لهذه الثورية.
ولما كان بَحْثُنَا هذا مُخْتَصًّا بمنطق العلم — صميم بنيته الداخلية — بات واضحًا
لماذا
نعتمد النظرية الثورية في طبيعة التقدم العلمي.
وعلى أي حال فإن التقدم المُطَّرِد للعلوم الطبيعية هو — كما أوضحنا — متصل صاعد،
ولكن
بحيث يمثل مُتَوَالِية منطقية. فلا يعني البتة مجرد تراكم كَمِّي رأسي، في مقابل التراكم
الكمي الأفقي لبقية مناحي الإبداع الإنساني — كالفنون والآداب والفلسفات والأنظمة … إلخ
—
بل يعني تضاعف القوة المنطقية لنظريات النسق العلمي، خصوصًا في تصديها للمهمة التفسيرية
التي هي تَحَدٍّ لا نهاية له، تُمَثِّل وقائع التجريب مِحَكَّمه النهائي، وفيصل الحكم
على
مصير الفروض والنظريات العلمية.
من هنا كان العلم الطبيعي في كل حال علمًا تجريبيًّا، حتى الفيزياء البحتة دونًا عن
الفيزياء التجريبية أو المعملية — التي هي نسق فرضي استنباطي — فتبدو من الناحية الصورية
أقرب إلى الرياضيات، أو لعلها من ناحية المناهج الإجرائية هكذا فعلًا، فإنها — أي الفيزياء
البحتة — ومهما رُوعِيَ فيها الاتساق الرياضي والقوة الاستنباطية للفروض، لا مندوحة لها
عن
المواجهة مع الواقع، فتلتجئ في النهايات البعيدة إلى وقائع التجريب بشأن الاستنباطات
الجزئية العينية القصية — بصفة خاصة التنبؤات — المشتقة من فروضها الأولية، لنحكم على
هذا
وذاك بواسطة التجريب. إنَّ كل علم هو تجريبي من حيث هو إخباري؛ أي يخبرنا عن الواقع
وظواهره.
والهدف من أي علم تجريبي إخباري هو الإجابة عن السؤال: كيف ولماذا تحدث الظاهرة
موضوعه؟
المرحلة الأولى من العلم — منطقيًّا وليس تاريخيًّا
٣٠ — هي المرحلة الوصفية التي تجيب عن السؤال: كيف تحدث الظاهرة؟ كيف تتبدئ؟ ولكن
هذا لا يكفي. فتمهيد الطريق لإحكام السيطرة على الظاهرة فيما يُعْرَف بالتقانة التي
ارْتَهَنَتْ بنسق العلم التجريبي الحديث — دونًا عن سواه من أنساق جمَّة أنشأها العقل
البشري.
هذا يستلزم الانتقال من المرحلة الوصفية، وبناء عليها إلى المرحلة التالية عليها.
وهي
المرحلة التفسيرية التي تجيب عن السؤال: لماذا تَحْدُث الظاهرة؟ أما التنبؤ، وهو الغاية
النهائية المَرُومة من العلوم الطبيعية، فليس يفترق عن التفسير، بل هو — أوَّلًا — مَعْلَم
نجاح التفسير، خصوصًا الفيزيائي. وهو — ثانيًا — يَتَّخِذ نفس البناء المنطقي الصوري
للتفسير؛ أي الاستنباط. كلاهما يشتمل على:
- (أ)
شروط مُسْبَقة أو مبدئية.
- (ب)
تقريرات عامة أو قوانين.
- (جـ)
نتائج مُسْتَنْبَطة من (أ) و(ب).
٣١
لذلك يَذْهب بعض فلاسفة العلم أمثال همبل وأوينهايم إلى المطابقة بينهما. وإن كان
البعض
الآخر يرى التمييز بينهما، على أساس أنه قد يوجد تفسير بغير قدرة تنبؤية. وإن كان بالطبع
يستحيل وجود تنبؤ علمي بغير تفسير. إن التفسير هو الإحاطة الحقيقية بالظاهرة، وإذا كان
الوصف معيار وجود العلم، أو عدم وجوده معيار إمكانيته، فإن التفسير هو معيار التقدم العلمي؛
إذ يمكن أن تقاس درجة تقدُّم العلم بمدى توغُّله في المرحلة التفسيرية، ومدى نجاحه فيها،
أو
درجة دقة هذا النجاح.
وتبلغ المرحلة التفسيرية اكتمالها المنطقي في النظرية العامة أو البحتة التي تعني
الدامغ
المُعْتَمَد للنسقية العلمية، فهي في حد ذاتها تَتَّخِذ صورة النسق الفرضي الاستنباطي،
القادر على احتواء ظواهر موضوعه بشتى متغيراتها.
•••
وقد سار العلم الطبيعي الحديث بخُطًى حثيثة نحو هذه النسقية، ففور أن وضع كوبرنيقوس
فرضية
مركزية الشمس، أنجز يوهان كبلر J. Kepler (١٥٧١–١٦٣٠)
البولندي أساسيات المرحلة الأولى، أو إطارها النسقي.
وذلك حين وَضَعَ قوانين حركة الأجرام السماوية في مداراتها الأهليلجية — وليست الدائرية
—
حول الشمس. ثم أنجز جاليلو الإيطالي أساسيات المرحلة الثانية حين وَضَعَ قوانين حركة
الأجسام على سطح الأرض، وفي عام ١٦٨٧ جاء فرض الجاذبية لنيوتن الإنجليزي المأخوذ عن
سَلَفِهِ روبرت هوك الأقل حظًّا وقدراتٍ رياضيةً
٣٢ ليجمع الحركتين السماوية والأرضية معًا، فيضع لأول مرة في تاريخ البشرية نظرية
واحدة تَحْكُم كُلَّ وأيَّ حركة تُدْرِكُها الحواس في هذا الكون، حتى أَيْقَنَ الجميع
أن
نيوتن قد اكتشف حقيقة هذا الكون، وهي أنه قد قُدَّ على قَدِّ آلة ميكانيكية ضخمة، ولم
يَبْقَ إلا رتوش تفصيلية لتكتمل الصورة النهائية لنسق العلم التام!
على أي حال، كانت نظرية نيوتن في الجاذبية بقوانينها الثلاثة للحركة هي النظرية
الفيزيائية العامة أو البحتة؛ أي التي تضع الأسس والأطر المنطقية لنسق العلم الفيزيائي،
الذي يضع بدوره — نظرًا لعمومية الفيزياء، وشموليتها، وتَرَبُّعها على قمة نسق العلوم
الإخبارية — الأسس والأطر المنطقية لنسق العلم ككل.
٣٣ وبفضل هذه الأسس التي أَحْكَمَ نيوتن صياغتها كانت نشأة ونمو سائر أفرع العلم
الحديث، الطبيعية والإنسانية.
ومع نجاح النيوتنية الذي كان يتأكد يومًا بعد يوم، ساد الظن أنها أشمل — أو بالتعبير
المنطقي الدقيق أَعَمُّ — نظرية ممكنة، أحاطت بالحقيقة القصوى للكون الذي نوجَد فيه.
واستمرت تمضي قُدُمًا في طريقها المُظَفَّر حتى نهايات القرن التاسع عشر وبواكير القرن
العشرين؛ حيث وَصَلَتْ إلى طريقها المسدود بتطرق العلم إلى الظواهر الميكروسكوبية التي
لا
تدركها الحواس المجردة: الحركة الغازية، الحركة البراونية، أو الحركة الدائمة لجزيئات
السائل نسبة إلى روبرت براون مُكْتَشِفِها، وظواهر الديناميكا الحرارية. فهي ظواهر تُخِلُّ
بقوانين نيوتن.
على أن الغرور العلمي الأهوج الذي ساد جراء نجاح النيوتنية قد تَلَقَّى الضربة القاضية
من
الذَّرَّة والإشعاع. قد عَجَزَت النيوتنية عن الإحاطة، أو حتى التعامل مع عالم الذرة،
وما
دون الذرة من جسيمات دقيقة، وأصبح من الضروري البحث عن طريق جديد أبعد أكْثَرَ تَقَدُّمًا
من كل ما أحرزَتْه الفيزياء الكلاسيكية. لا سيما بعد أن سقط فرض «الأثير» جراء تجربة
ميكلسون مورلي. وكان الأثير الكاذب ضروريًّا لكي تستوعب الفيزياء الكلاسيكية ظواهر الضوء
والإشعاع المتأبية على التفسير الميكانيكي السطحي. لقد أدركنا أن نظرية نيوتن بكل ما
أحرزَتْه من نجاح طبق الخافقين، محْض فرض تفسيري ناجح في حدوده، حدود التعامل مع العالَم
الأكبر، كتل الطبيعة الماردة البادية للحواس، ولا تجرؤ على اقتحام الفيزيقي الرابض خلفها،
وفي أعماقها.
فشهدت مطالع القرن العشرين ثورتي: النظرية الكمومية
٣٤ التي طرحها ماكس بلانك في ١٧ ديسمبر ١٩٠٠، والنظرية النسبية، لا سيما الخاصة
التي أعلَنَها ألبرت أينشتين عام ١٩٠٥.
إن ثورة النسبية والكمومية لهي قطْعًا أعظم ثورة على وجه الإطلاق أحرزها العقل البشري
حتى
الآن، وأجرأ وأوسع قفزة تقدمية أنجزها الإنسان. لقد أقامتا نسق العلم الإخباري على مصادرات
مختلفة، وقَلَبَتَا — رأسًا على عقب — مُسَلَّمات الفيزياء الكلاسيكية: كالحتمية
الميكانيكية والعلية واطراد الطبيعة وثبوت ويقين قوانينها، والضرورة لكليهما، والموضوعية
المطلقة … إلخ، وسوف يتعرض الفصل السادس من البحث (الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة) لهذا
بشيءٍ من التفصيل. يهمنا الآن تأكيد أن هذه المبادئ لم يكن أحد يجرؤ على مجرد رفضها،
فضلًا
عن قلبها، بحيث أصبح لدينا الآن حد فاصل بين الإبستمولوجيا العلمية الكلاسيكية قبلهما،
وبين
الإبستمولوجيا الحديثة، أو بالأدق المعاصِرة بعدهما.
٣٥ وكل بحث مستقبلي استشرافي في منطق العلم عقيم غير مُجِدٍّ إن لم تُسْتَنْفَد
طاقته في استيعاب الدلالة الإبستمولوجية لثورتي الكمومية والنسبية. وحتى الآن لم تَسْتَجْلِ
بعد كل مضامينها المنطقية، وإمكاناتها التقدمية للعقل العلمي. ويكفينا ها هنا أن هذه
الثورة
هي التي ساعَدَتْ على جلو الخاصة المنطقية للعلوم الطبيعية وتساوقها المنهجي.
وقد تأكدت الإبستمولوجية العلمية الجديدة، واتضحت معالمها حين تقدمت عام ١٩٢٧ نظرية
الكمومية الجديدة، لتجتاح الكموميةُ العالَمَ الذري، وتصبح الفيزياء الذرية هي الفيزياء
الكمومية؛ حيث ثَبَتَ أن كشف بلانك الألمعي المدهش هو أعظم نصْر أحرزَتْه الفيزياء الذرية
والأكثر جدة وأصالة. وكما يقول لويس دي بروي، أبو الميكانيكا المَوْجِيَّة التي تُعَدُّ
من
أجرأ الخطوات التقدمية التي أُحْرِزَتْ في ظل الكمومية (الكوانتم) يقول: إن فرضية الكوانتم
«لم تكن محض مثير أو دافع للفيزياء الذرية التي هي أكثر فروع العلم حيوية وطموحًا، ولكنها
أيضًا وبلا جدال قد وَسَّعَت الآفاق، وطرحت عددًا من أساليب التفكير الجديدة، وستظل نتائجها
العميقة في المستقبل البعيد للفكر البشري.
٣٦ لقد أدرك الفيزيائيون — والحديث ما زال لدى بروي — أنهم بغيرها كانوا سيظلون
عاجزين عن فَهْم استيعاب أي شيء بخصوص الطبيعة الحقة للظواهر الفيزيائية لا ظواهر الضوء،
ولا ظواهر المادة».
٣٧
على أن الكوانتم الكمومية تقتصر على العالم الأصغر، عالم الإشعاع والذرة. وتأتي النسبية
—
النظرية الفيزيائية البحتة — لتحيط بمجمل الكون الفيزيائي — العالَم الأكبر — «ولتعبر
عن
الواقع الفيزيائي الذي نعيش فيه بشكل تعجز الفيزياء الكلاسيكية عن التعبير عنه».
٣٨ لقد حَطَّمَت النسبية أُطُر آلة نيوتن الميكانيكية العظمى، وشَيَّدَتْ لنا
عالَمها الرباعي الأبعاد بمتصله الزماني، المكاني. إنه عالَم، أو بالأحرى تَصَوُّر لعالَم
محدب، يختلف بل يتناقض مع عالمنا المستوي الواحد والوحيد، المعهود في تجربة الحس المشترك،
والذي ثَبَّتَتْه في أذهاننا خبرتنا العادية السطحية، وحواسنا الفجة الغليظة. وجاءت نظرية
نيوتن لتصدق عليه، وعلى حدودها فتكسب بهذا يقينًا فوق يقين.
ولكن لقصور تلك الحدود، تَفَجَّرَتْ ثورة النسبية، لتُعْلِمَنَا أنه ليس ثمة تساؤل
حول
التصور الوحيد المُطْلَق للمكان «أو للزمان»، فثَمَّة إطار مكاني «زماني» مناسب لمُلاحظي
الأرض، وآخَر لمُلاحظي الأفلاك السماوية، وآخر لمُلاحظي السدم … وبالمثل الطول والعرض
وكل
الأبعاد. لقد أحْدَثَت النسبية تغييرًا جذريًّا في أفكارنا حول الزمان والمكان والجاذبية
…
إلخ، وثورةً في الكوزمولوجيا الكلاسيكية بطريقة لا يمكن لأي فلسفة ملائمة أن تتجاهلها،
وأثَّرَتْ تأثيرًا عميقًا على مبادئ إبستمولوجية راسخة، ولن يفيدنا في شيء إنكار هذه
الحقيقة، وادعاء أن تلك النظرية الفيزيائية غيَّرت فقط مفاهيم الفيزياء، بينما ظَلَّت
الحقائق الفلسفية مصونةً لا تُمَسُّ. فإنها وإن كانت مَحْضَ علاقات فيزيائية، فقد قضت
بصورة
حادة على المبادئ الفلسفية التي يمثلها كانط.
٣٩ وهي المبادئ الإبستمولوجية السطحية، لكن الراسخة في خبرة الحس المشترك، والتي
كَسَتْها النيوتنية برداء الفيزياء الرياضية المهيب.
ثم أَتَت النسبية بصورتها الإبستمولوجية الأنطولوجية المناقِضة تمامًا، ولتحرز درجة
من
الدقة لا تدانيها النيوتنية بحال. فتستطيع تفسير ظواهر، بل وظواهر فلكية عَجَزَتْ الفيزياء
الكلاسيكية عن تفسيرها «مثلًا الحضيض الشمسي لكوكب عطارد؛ أي أبعد نقطة في مداره عن الشمس.
وهي تتغير تغيُّرًا طفيفًا من دورةٍ لأخرى»، والأهم من هذا — من منظور المنطق — أن النسبية
تنطبق بنفس القوانين على العالَمَيْن الأصغر والأكبر، فأعطتنا صورة للعمومية الحقة. في
عالم
النسبية تُدْخِل الذات العارفة — بمعنى مواقعها وسرعاتها بأجهزتها للرصد — كمتغيِّر في
معادَلة الطبيعة، ولتحرز بهذا درجة أعلى من الموضوعية، أو بالأحرى درجة مباينة تمامًا،
قامت
على أنقاض موضوعية نيوتن المُطْلَقة، لكن الموهومة. إن النسبية مرحلة أعلى من التقدم
العلمي
والعقلي.
وأهم ما يَعْنِينا منها الآن أنها جعلَتْنا ندرك خَطَلَ غرور الكلاسيكيِّين الذي يُوصِد
أبواب التقدم، خَطَلَ الحُكْم على أي محاوَلة ناجحة يُنْجِزها العقل البشري بأنها اليقين
المطْلَق، الإمساك بجمع اليدين على الحقيقة، والوصول إلى خاتمة التقدم المنشود، وأن الأوان
أوشك أن يئون للهجوم والبرء مِنْ سَعْيِنا المحموم الدائم نحو درجة من التقدم العلمي
الأبعد
… إن هذا التصور الإبستمولوجي لحدود التقدم ارتد فِعْليًّا في صورة الطريق المسدود الذي
وَصَلَتْ إليه الفيزياء الكلاسيكية، حين تطرَّقَتْ لظواهر العالم الأصغر
(الميكروكوزم).
فليس الأمر أننا اكتشفنا حدود نيوتن، وأن أينشتين هو الذي أمسك بالحقيقة. كلا، بل
الأمر
أن نيوتن محاوَلة ناجحة، وأينشتين محاوَلة أنجح. والمستقبل مفتوح بدوره لمحاوَلة أفضل
من
أينشتين، فقد أدْرَكْنا أن الآفاق المفتوحة أمام العقل العلمي لا حدود لها.
ولنَعُد إلى رفيقة النسبية، ميكانيكا الكوانتم التي أزاحَتْ وَهْم اليقين الكلاسيكي،
وأحَلَّت المصادَفة والاحتمال في بنية الطبيعة. لنجد أن العلم الاحتمالي بقوانينه الإحصائية
لن يصل هو الآخر إلى مثل ذلك الطريق المسدود. فكما يقول موريس كوهين: «النظرة الاحتمالية
تُصَوِّب وتُثْرِي مفهومنا عن الأسس الميتافيزيقية التي يرسو عليها البحث العلمي، إنها
تجعلنا أقَلَّ غرورًا، وتُفْضِي بنا إلى ضرورة تأييد استدلالاتنا باعتبارات عديدة مختلفة،
بدلا من الارتكان إلى سلسلة علية واحدة، وتجذب انتباهنا إلى حقيقة عظمى مؤَدَّاها أن
نتائج
العلم تُصَوِّب نَفْسها باستمرار. فيقين العلم ليس اليقينَ المطْلَقَ في أي نتيجة معيَّنة،
بل اليقين في أن كل خطوة غير دقيقة أو خاطئة يمكن تصويبها.»
٤٠
إن الدرس العميق الذي تعَلَّمْنَاه من ثورتَيْ الكمومية
Quantum والنسبية
Relativity أن كل
تقَدُّم علمي فقط نسبي، والنسبوية
Relativism تعني الحدود
المؤقتة للقُوَى المَعْرِفِيَّة للبحوث الإنسانية المُنْصَبَّة على هذا العالم الفيزيقي
الذي نحيا فيه.
٤١ هذه النسبوية
Relativism تجعل كل تقدُّم علمي
يُحْرِزُه الإنسان، ومهما ثبت نجاحه هو فقط أعلى نسبيًّا من المرحلة السابقة … معنى هذا
أن
المرحلة التالية تحْمِل معها إمكانية التقدم بدرجة أعلى، هكذا دواليك إلى قيام الساعة،
أو
على الأقل إلى حين انتهاء الحضارة الإنسانية الراشدة التي أصبحت علمية. وهذا الدرس
الإبستمولوجي المنطقي الميثولوجي العظيم يتأكد فعليًّا بالإنجازات العظمى المتواترة للعلم
المعاصر، المتدفِّقة حتى هذه اللحظة وما سيتلوها.
على الإجمال: أصبحت الكمومية (الكوانتم) والنسبية معًا الأساس العام، أو البحث للفيزياء
المعاصرة، ومن ثَمَّ لِنَسَقِ العلم الطبيعي في القرن العشرين، فكانَتَا —
بإِبِسْتمُولُوجيَّتِهِمَا العلمية الجديدة أو المعاصرة، وسنفصلها في الفصل السادس من
الكتاب — إيذانًا بمعدلات التقدم المُبْهِرة التي استهلَلْنَا هذا الفصل من الكتاب بالتنويه
إليها. ونختمه أيضًا بهذا التنويه … مسك الختام.
هوامش