الفصل الثاني
العلوم الإنسانية منطق تخلفها النسبي
نأتي للعلوم الإنسانية، لنلقاها هي الأخرى — بلا جدال — تَحْمِل في حد ذاتها ما يُضاف
إلى
الرصيد العلمي للقرن العشرين، لكن (وهذه اﻟ «لكن» هي محور دراستنا) لم يتَكَوَّن بَعْدُ
نَسَقٌ متكامِلٌ من القوانين التفسيرية في أي مجال من مجالات العلوم الإنسانية، يماثل
من
حيث القوة المنطقية أنساق القوانين التفسيرية في أقل فروع العلوم الطبيعية حظوة من
التقدم.
وهذا التخلف النسبي هو أساس ما يُعْرَف بمشكلة العلوم الإنسانية، إنها إشكالية مُلِحَّة،
تؤرِّق باحثيها والمهتمين بشأنها أجمعين. ويَنْدُر أن يَتَعَرَّض عمل لفلسفة العلوم
الإنسانية ومناهجها، ولا يشير إلى تَخَلُّفها النسبي عن العلوم الطبيعية، حتى قيل إن
وجود
علوم طبيعية على أساس منطقِيٍّ مُقَنَّن ومنهَجِيٍّ راسخ، مثَّل بالنسبة لباحثي العلوم
الإنسانية «التحدي الذي ينبغي عليهم مواجَهَته للوصول بعلومهم إلى مستوًى يقارِب مستوَى
العلوم الطبيعية».
١ في هذا الصدد لا بأس مِنْ ذِكْر فيلهلهم
دلتاي
W. Dilthey (١٨٣٨–١٩١١) على الرغم من الخلاف الحاد بين طريقنا وطريقه؛ ذلك لأنه
في طليعة الرواد الذين استشعروا بعمقٍ وأصالةٍ مشكلةَ العلوم الإنسانية حديثةَ النضج
والنماء، وعجْزها النسبي عن تحقيق التقدم الذي أحرزَتْه العلوم الطبيعية، كان أن حصره
دلتاي
في مشكلتين: «الأولى أن العلوم الإنسانية ما زال يُعْوِزها تَصَوُّر واضح، ومُتَّفَق
عليه
عن أهدافها ومناهجها المشتركة والعلاقات بينها، إذا ما قورِنَتْ بما هو سائد في العلوم
الطبيعية. والمشكلة الثانية هي أن العلوم الطبيعية تزداد منزلتها ومكانتها نموًّا واطرادًا
بحيث تَرْسَخُ في الرأي العام مثلًا أعلى للمعرفة لا يتلاءم مع التقدم في العلوم
الإنسانية».
٢ ورفض دلتاي مَوْقِف كل المثاليِّين والتجريبيِّين، أو باصطلاح كارل بوبر
المعارِضِين للمذهب الطبيعي والمؤيِّدِين له. وتعَهَّد دلتاي بتأسيس العلوم الإنسانية
على
نحو أكثر نسقية ومنهجية، وبوصفها شديدة التباين — منهاجًا وتطبيقًا — عن العلوم الطبيعية،
هذا مِنْ حيث كَوْنِها نسبية متغيِّرة وفقًا للأنماط والإيقاعات التاريخية للسياقات
الاجتماعية، أو الثقافية حسب اصطلاحه المفَضَّل. فكان لدلتاي تأثير كبير على الدراسات
التاريخية، بحيث أصبح المؤرخون في حِلٍّ عن تحقيق السمة العلمية الدقيقة في
أبحاثهم.
٣ وكان له أيضًا أثر أقل في الدراسات الإنسانية أو الاجتماعية. وهو رائدٌ مَهَّدَ
الطريق الذي اخْتَطَّتْه فيما بَعْدُ الفينومينولوجيا، وسوف نُعَرِّج عليها في مُقْبِل
حديثنا.
لقد تنامى من بعد دلتاي الوعي بهذا التخلف النسبي للعلوم الإنسانية، وكَثُر الحديث
فيه
ربما لدرجة مملة، حتى أصبح أمرًا مألوفًا، ما يدفعنا لمحاوَلة جادة لاستشراف إمكانيات
حل
مشكلة العلوم الإنسانية، مقارَنَة بتقدم العلوم الطبيعية، أو على ضوئه.
والحق أن ذلك الأمر المألوف، مألوف بقدر ما هو عجيب، فمسائل العلوم الإنسانية كانت
منذ
الأزمنة البعيدة مَوْضِع الاهتمام الأكبر، وتستقطب أعاظم العقول، فكان تناوُلها أكْثر
نُضْجًا من تناوُل مسائل العلوم الطبيعية.
٤
وأي مقارنة بسيطة بين دساتير أرسطو وبين فيزيائه، أو بين تناول أفلاطون وفلاسفة الإسلام
لمشاكل الأخلاق والمجتمع والسياسة «أو الإمامة» وبين تناوُلهم لمشاكل الطبيعة والمعادن،
تُثْبِت هذا، ودَعْ عنك المحاوَلة الناضجة الباسقة التي قام بها عبد الرحمن بن خلدون
(+
٨٠٨ﻫ = ١٤٠٦م) لتأسيس العلم الإنساني، عِلْم العمران، أو علم الاجتماع بمصطلحات عصْرنا،
وبصورة تُدْهِش أكثر العِلْمِيِّين تقدُّمًا حتى الآن. وإن كانت محاوَلة لم تُؤْتِ في
عَصْرِها ثمارَها الممكنة أو المرجوَّة؛ لأنها تأتَّت وشمس الحضارة العربية توشك على
الأفول، فلم تَلْقَ خلَفًا صالحًا يحمل ميراثها العظيم، والذي يبدو حتى يومنا هذا قابلًا
للاستثمار المربِح كمحاولة سان سيمون، أو حتى أوجست كُونت، وسواهما من الغربيِّين الذين
قُدِّرَ لمحاولاتهم التواصل والسيرورة والنماء. وفي مقابِل هذا نجد ما قاله ابن خلدون
فيما
يختص بمسائل الطبيعة لا يساوي شروة نقير، ولا يستحق إضاعة أي وقت أو جهد، وابن خلدون
هو
السلف الحقيقي لفيكو (+ ١٧٤٤)، ومشروعه العظيم لتأسيس العلم الجديد — عِلْم الإنسان
وتاريخه.
فابن خلدون وفيكو يترأسان معًا المحاولات الطموحة في مجال الدراسات الإنسانية، والتي
تألقَتْ طوال العصور الماضية، وإذا كانت لم تستطع أن تكُون عِلْمًا ذا قوة منطقية حقيقية،
وَصْفِيَّة أو تفسيرية، فإنها كانت — على أي حال — أنْضَجَ كثيرًا من الطبيعيات. وفي
ذلك
التفاوُتِ الحادِّ بين مستوى التفكير في الإنسانيات ومستواه في الطبيعيات، طوال العصور
القديمة، يقول جون بيرنت: «في الأيام الباكرة كان اطراد الحياة الإنسانية موضوعًا للإدراك
الجليِّ أكثرَ من سياق الطبيعة. وقد عاش الإنسان في دائرة خلابة من القانون والعرف، أما
العالَم من حوله فعلى ما يبدو ظل مفتقِرًا للقانون.»
٥ ولنلاحظ أن القانون أساسًا يَخُصُّ مجتمع الإنسان، وفرض النظام عليه، وتحقُّق
العدل والقسطاس فيه. وفوْرَ أنْ لُوحِظ أي اطراد في الطبيعة وصيغ، على الفور انسحب هذا
المفهوم الإنساني الخالص «القانون
Law»، ليخلع على
الطبيعة.
ولكن الفروق النوعية للظاهرة الإنسانية، وما قد تختص به من إسقاطات ذاتية حميمة أو
عاطفية
ومثاليات غائية … إلخ، هي ربما التي جعلتها مَوْضِع الاهتمام الأكبر منذ الأزمنة البعيدة،
وجعلتها من الناحية الأخرى تبدو مستعصية على أصوليات النسق العلمي النامي حديثًا، فتنأى
عنه، وتتخلف عنه مسيرته، وتنكشف قصورات المحاولات السابقة الجمة عن شروط ما هو علمي،
«وحتى
بدايات القرن التاسع عشر لم يكن أحد يفكر تفكيرًا جديًّا في فكرة العلوم الإنسانية
والأخلاقية.»
٦ بالمعنى الدقيق لمصطلح العلم المتفق عليه في بحثنا هذا، على الرغم من أن الرائد
الرسمي للتفكير العلمي الحديث: فرانسيس بيكون
F. Bacon
(١٦٢٦ +) قد دعا أو بشَّرَ بهذا في «الأرجانون الجديد».
٧ أو شريعة العلم الحديث، البديل لأورجانون أرسطو، ومنطقه القياسي البالي، شريعة
العلم القديم والعقيم. ومع التطور المذهل للتفكير العلمي الذي تأتى في سياق المشروع
الكلاسيكي النيوتني، وتهاوى الأوثان الواحد بعد الآخر أمام مده، واجتياحه العاتي، شهد
منتصف
القرن التاسع عشر الميلادي الرسمي لكثير من فروع العلوم الإنسانية. على نفس أسس
الإبستمولوجيا العلمية آنذاك، بمستوَى طموحاتها، وطبيعة مسَلَّماتها، وتأثير استجاباتها
للحدود، والظروف المعرفية … هذه الأسس الإبستمولوجية يلَخِّصها ويبلوِرُها مبدأ الحتمية
Determinism الميكانيكية، وهي تعني نظامًا شاملًا لا
تَخَلُّف فيه، ولا مصادفة، ولا استثناء ولا احتمال، كل حدث لا بد أن الضرورة ويستحيل
ألا
يحدث، أو أن يحدث سواه، فثمة قوانين ميكانيكية يقينية دقيقة دقة رياضية، تحكم هذا الكون،
وتجعل أحداثه في صورة أشبه بالسلسلة المحكَمة الحلقات، كل حلقة تلزم عن سابِقَتِها،
وتُفْضِي إلى لاحِقَتِها، حتى إذا توَصَّلْنا إلى تلك القوانين، وعَرَفْنا تفاصيل حالة
الكون في لحظة لاحقة معينة، لاستطعنا أن نتنبأ يقينًا بتفاصيل حالته في أي لحظة، فهذه
الحتمية لها وجه آخر هو العلية
Causality التي تضفي على
الطبيعة انتظامها الحتمي، والعلية بدورها مبدأ كوني يعني أن كل حادثة في الكون لها علة
أَحْدَثَتْها، ولكل علة معلول ينشأ عنها، فتسير أحداث هذا الكون في تسلسُل عليٍّ، ليغدو
التفسير العلمي هو ربط الحادث اللاحق بالحادث السابق من خلال قانون.
٨
وقد كانت الحتمية الميكانيكية بعَلِيَّتها هي عقيدة العلم الكلاسيكي، ديدن العلماء
وعملهم
إبستمولوجيًّا، وإطار عالم العلم أنطولوجيًّا، لا سيما بعد أن وَضَعَ نيوتن تفسيره
الميكانيكي للكون الذي بدا وكأنه الإحراز النهائي لمشروع التصور الحتمي. وتأكد ذلك المشروع
بالنجاح الخفاق لنظرية نيوتن، حتى إنها مثلت النبراس والهادي الحادي. ولم يَعُدْ أمام
الدراسات الإنسانية إلا اقتفاء مثالياته الآمنة المطمئنة، ويُجْمِل الفيلسوف المعاصر
أشعيا
برلين — وهو من المعنيين بشتى إشكاليات الدراسات الإنسانية — يُجْمِل الموقف بدوافعه
ومبرراته وطموحاته كالآتي: «والآن إذا كان نيوتن قادرًا من حيث المبدأ على تفسير كل حركة
وكل مكون من مكونات الطبيعة الفيزيقية، وفي حدود عدد صغير من القوانين ذات العمومية
المطلقة، أفلن يناقض العقل الافتراض القائل: إن استخدام مناهج مماثلة لن يُفَسِّر الأحداث
والوقائع الاجتماعية والسيكولوجية؟ صحيح أننا نعرف عنها أقل كثيرًا مما نعرفه عن الوقائع
الفيزيوكيميائية، ولكن هل ثمة اعتراض من حيث المبدأ على أننا يمكن أن نكتشف يومًا ما
قوانين
قادرة على أن تعطينا تنبؤات في نفس دقة تنبؤات العلم الطبيعي؟ إذن لا بد من العمل على
كشف
هذه القوانين بواسطة بحوث في الإنسان على قدر كافٍ من الحذر والخيال.»
٩ والحق أن هذا هو عينه نص العقلانيين في القرن الثامن عشر هولباخ، ودولامبير،
ولامتري، وكوندرسيه. إنهم أكدوا إمكانية الرياضة الاجتماعية والفيزياء الاجتماعية
وفسيولوجيا كل شعور أو اتجاه أو نزوع، في نفس دقة وجدوى أصولها في العلوم الطبيعية، وإن
الميتافيزيقيين ضحية الوهم والخداع، فلا شيء في الطبيعة غائيٌّ، وكل شيء خاضع للقياس،
وفي
الإجابة عن الأسئلة التي تؤرقنا، سيشرق علينا الفجر بنور العلم.
١٠ بل إن أصحاب الدراسات الإنسانية، خصوصًا النفس والاجتماع، نازغهم الحلم
الطوباوي بالظفر بمنزلة تساوي منزلة الفيزياء بمناهجها الرياضية وتطبيقاتها القوية، وربما
الظفر بمنزلة تفوق الفيزياء، وذلك عن طريق إعادة تشكيل البشر والمجتمعات.
١١
كان هذا هو الحلم الذي أينع طوال القرن الثامن عشر، حتى عَرَفَ كيف يتلمس طريقه إلى
أرض
الواقع خلال القرن التاسع عشر بفضل الاسترشاد بالمثال الحتمي. ولئن كانت رواسب المثاليات
المنطقية لحتمية نيوتن الميكانيكية العلية، بكل قصوراتها التي هي قصورات المشروع العلمي
آنذاك، والتي لا تزال عالقة بأذهان بعض العلميين حتى الآن، من العوامل التي تعرقِل حل
مشكلة
العلوم الإنسانية، حتى إن التخلص من براثنها، واستيعاب الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة
للنسبية والكمومية كفيل بمعالجة الإشكالية — كما سنرى — بل ولئن كانت فكرة الحتمية في
حد
ذاتها، وبعد أن اندثرت من العلوم الطبيعية، من الأفكار التي لا يزال يتمسك بها بعض الباحثين
في العلوم الإنسانية، وبطريقة قد تجعلهم ينتهون إلى أنها ليست ضرورية ولا حتمية، فنخرج
بموقف شديد الغرابة في العلوم الإنسانية، يعني حتمية ولاحتمية، تناقض ذاتي
١٢ … نقول مع هذا، فإن الذي يهمنا الآن أن نلاحظ دور الحتمية في إطار عصرها، وكيف
فتح المشروع الكلاسيكي الطريق أمام الدراسات الإنسانية، لتلحق بمسيرة العلم الظافرة،
وتتفتح
أكمامها العلمية بريِّ إبستمولوجيته، فشهد القرن التاسع عشر النشأة الناضجة لعلم الاقتصاد
على يد آدم سميث.
١٣
ثم التطور الجذري على يد ماركس، ولعلم الاجتماع الذي نشأ على يد أوجست كونت، لَحِقَ
به
علم النفس، واستقام الجذع العلمي لعلوم السياسة … إلخ.
ولا ننسى في هذا الصدد استبسال الجبهة الأعمق من فلاسفة العلم في القرن التاسع عشر.
وعلى
رأسهم جون ستيورات ميل
J.S. Mill (١٨٠٦–١٨٧٣) المتحدث
الرسمي باسم العلم الكلاسيكي الحتمي العليِّ، في آخر مراحل هيله وهيلمانه. فقد أخلص في
دِفَاعه المنطقي المجيد — لكن الاستقرائي السطحي البالي — لتأكيد إمكانية العلوم الإنسانية.
فتعرض في الجزء السادس من كتابه الأكبر «نسق
المنطق
System Of Logic» «لمنطق العلوم الاجتماعية أو
الإنسانية
On The Logic Of
Social Science» حيث دعا إلى مضاعفة الجهد لتأسيسها تمامًا كالعلوم الطبيعية.
هذه الدعوة التي لاقت أقوى استجابة مع أوجست كونت، صديق ميل الشخصي ورفيقه الفكري،
١٤ الذي أنجز مشروعه العلمي العظيم على أساس أن المعرفة بالمجتمع تاج المعرفة
العلمية.
•••
حتى إذا دلفنا إلى قلب القرن العشرين، وجدنا العلوم الإنسانية، وقد قَطَعَتْ شوطًا
طويلًا، وبذلَتْ جهودًا مضنية وناجحة إلى حدٍّ كبير في تحديد موضوعاتها، وتعريف ظواهرها،
وصياغة مفاهيمها ومصطلحاتها. وقد أرست مناهجها وأساليبها الإجرائية كالتحليلات الرياضية
مثلًا الاقتصادية، والمناهج الإحصائية، والقياسات العددية، والوسائل الإمبيريقية
كالاختبارات والمقاييس السيكوميترية، والتجربة المعلمية والتجربة الميدانية، والعينة
التجريبية، والعينة الضابطة، والاستبار، وقوائم الاستبيان، وكشف الأسئلة، واستمارة
المقابَلة والمشاهَدة بالمشارَكة، فضلًا عن الأساليب الدقيقة لتحليل وتنظيم واستخلاص
ما
تفيد به المعطيات … إلى آخِر ما يُدَرَّب عليه الباحثون — تبعًا لتخصصاتهم المختلفة —
من
منهجيات إجرائية دقيقة أفضت بالعلوم الإنسانية إلى محصَّلات جليلة الشأن، ولا تزال تفضي،
خصوصًا بعد ظهور الكمبيوتر الذي يَسَّرَ السيطرة على جماع هائل من المعطيات
الإمبيريقية.
ومنذ الربع الثاني من القرن العشرين، كان قد اتضح تمامًا أن الدراسات الإنسانية الإخبارية
قد شَقَّتْ لنفسها طريق «العلم» بالمعنى الدقيق، وقَطَعَتْ منه شوطًا كبيرًا، واستقام
عُودُها. وهذا النضج اللافت جَعَلَهَا في منزلة تؤهِّلها للمقارنة الصريحة مع العلوم
الطبيعية، ليتضح عَجْزُها عن تحقيق ما أَحْرَزَتْه العلوم الطبيعية من تقدُّم، وبلغ الوعي
بهذا التخلف النسبي حدًّا جَعَلَ الفكر الأوروبي آنذاك يسوده ما يُعْرَف بِاسم أزمة العلوم
الإنسانية، والتي قد تَصِل لحدٍّ يجعلها أزمة العلوم الأوروبية إجمالًا
١٥ كما نص عنوان كتاب لهوسرل.
وشهد هذا القرن دعوات تأتَّتْ كرد فعل، ومحاولة لتخطي الأزمة. ولعل أبرزها تيار مستقل
وقوِيٌّ من تيارات الفكر المعاصر، ألا وهو فينومينولوجيا أدموند هوسرل E. Husserl (١٨٩١–١٩٣٨) التي تصادر منذ البداية على استحالة شَقِّ طريق
العلوم الطبيعية، وإحراز ما أحرزته من تقدُّم؛ أي تواجه مشكلة العلوم الإنسانية، بواسطة
التسليم بها كأمر واقع لا سبيل البتة إلى تجاوُزه. والفينومينولوجيا شأنها شأن سائر
التيارات الفلسفية التي خرجت من أعطاف القرن العشرين، منهج أكثر منه مذهبًا، وأسلوب للبحث
أكثر منه تشييدًا لبناء. فقد كانت جهدًا مستميتًا لإزالة الهوة بين العلوم الطبيعية
والإنسانية، مُدَّعِية أنها تُصْلِح من شأن الأخيرة، مهما كانت نظرتنا لطبيعة الظاهرة
الإنسانية. وهي كما ذكرنا تصادر على أن هذه الهوة من صميم طبائع الأمور وليست مشكلة.
وهي
بهذا التطرف في تأكيد الوضع أو المشكلة تقابل الاتجاهات الإمبيريقية كالوضعية والسلوكية
في
تطرفها بمواجهة المشكلة عن طريق نفيها، وإنكار خصوصية الظاهرة الإنسانية.
وراحت الفينومينولوجيا في محاولة دءوبة لاستكشاف الشعور، تيار الشعور الزماني؛ لذلك
اعتنى
هوسرل في كتابه «دراسات منطقية
Logische Untersuchungen»
عناية بالغة بالوعي الباطن بالزمان، والتوصيف الفينومينولوجي له.
١٦ وكانت فينومينولوجيته في هذا «تحاول البحث عن بُعْد إنساني خاص بعلوم الإنسان
يتمثل في التصورات العقلية كما كانت الحال عند العقليين ابتداءً من ديكارت حتى آخر ممثليهم،
وهو برنشفيج
Brunschvick ولا يتمثل في التجارب الحسية كما
كان عند التجريبِيِّن، ابتداء من بيكون حتى الوضعية بكل صورها.»
١٧ ومع هذا كانت الفينومينولوجيا طريقًا ثالثًا لضم المثالية والمادية — طريقًا
شَقَّه دلتاي. «فهي دعوة للحياة التي لا يمكن وَضْعها في نطاق العقل ولا في نطاق
المادة.»
١٨ على اعتبار أن التجربة الحية هي المَدْخَل الوحيد للعلم. ولئن كانت التجربة
الحية ذاتية، فإن الآخر — التشارك في التجربة — هو الذي يضمن الصدق والموضوعية. على العموم
حاوَلَتْ الفينومينولوجيا إحكام العلاقة بين الذات والموضوع، أو بمصطلحاتنا بين الباحث
وموضوع البحث عن طريق «القصدية، والإحالة» — كما هو معروف — ولكننا نرى الفينومينولوجيا
شقَّتْ طريقًا موازيًا لطريق العلم — الطريق المنطقي الذي نسلكه ها هنا — ونعتقد أنها
بصورتها تلك وكمنهج للبحث، أليق بالدراسات الإنسانية الحضارية الأيديولوجية والمعيارية،
منها بالعلوم الإنسانية الإخبارية بمهامها المنطقية الدقيقة.
ونظرًا لانكباب روادهم خصوصًا فندلباند وريخرت على التفرقة في العلوم والوقائع والأحكام
بين النومطيقي nomothetic وهو الكوني العام الطبيعي وبين
الأيديوجرافي ideographic الفردي الخاص الإنساني، وهي
تفرقة سبق أن أشار إليها أرسطو، فإننا يمكن أن نترك لهم علم التاريخ فقط، ولكننا لا نعتقد
أن الفينومينولوجيا يمكن أن تُجْدِي في تحليلات علم الاقتصاد مثلًا، أو التغير في علم
الاجتماع، أو حتى الفروق الفردية في علم النفس …
ولسنا نغْفُل تطورات الفينومينولوجيا بعد هوسرل، خصوصًا مع موريس ميرلوبونتي
M. Merleau
Ponty (١٩٠٨–١٩٦١)
الذي حرص على إيضاح أنها تقع في مكانة أعلى من الرياضيات والمنطق، بمعنى أنه عن طريق
استقصائها البنيات الأساسية للخبرات الخاصة بالتفكير، والمعرفة تساعد في توضيح أُسُس
المعرفة ذاتها، المعرفة بالظواهر الإنسانية. ولسوف يعتمد علم النفس بالذات — في رأي
ميرلوبونتي — على الفينومينولوجيا من أجل توضيح تصوراته الأساسية، مثلما تعتمد الفيزياء
على
الرياضيات من أجل توضيح أفكارها الرئيسة.
١٩ ومهما يكن الأمر، فإن الفينومينولوجيا — مرة أخرى — تسلك طريقًا موازيًا لبحثنا
هذا، ليس بمُتَلَاقٍ معه، والتوغل فيها، وتحديد مدى جدواها،
٢٠ أكثر مما فعلنا استطرادًا وخروجًا عن التسلسل المنطقي لعناصر بحثنا هذا.
من الناحية الأخرى نلاحظ أن الفينومينولوجيا شأنها شأن كل فلسفة قامت كي تناهض مثاليات
العلم الطبيعي وتنشق عنها؛ لأنها تُشَيِّء الإنسان وتُمَوْضعه وتُجَرِّده من إنسانيته،
أو
على الأقل لا تلائمها … إنما تناهضها؛ لأنها وقفت بتفكيرها عند مرحلة العلم الكلاسيكي
الحتمي، وتعجز عن استيعاب ثورتي الكوانتم والنسبية (أي الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة)
التي نَفَت الحتمية، وقَلَبَتْ مثالياتها.
يتضح هذا من موقف الفينومينولوجيين في عِلْمَي الاجتماع والنفس. فقد لجئوا إلى
الفينومينولوجيا عزوفًا عن أي افتراضات حتمية، ورؤية الإنسان واقعًا في شراك الأبنية
الوراثية والاجتماعية التي تحدِّد له سلوكه، وما سوف يفعله، وسعيًا وراء نظرة أخرى تؤكد
حريةَ وتَفَرُّدَ الإنسان، وقدرته على خلْقِ وتشكيلِ عالَمِهِ الاجتماعي. باختصارٍ يرى
الفينومينولوجيون الإنسان باعتباره كائنًا خلَّاقًا يتمتع بسِمَة أساسية هي إضفاء المعاني،
ويتشكل سلوكه في إطار وَعْيِه.
٢١ بينما ينفي العلم الكلاسيكي هذا من حيث كانت الحتمية تنفي حرية
الإنسان.
٢٢
وفي كل هذا قامت الفينومينولوجيا أساسًا لتَفَادي الأخطاء المنهجية التي وقَعَتْ فيها
العلوم الإنسانية، بتَبَنِّيها الأعمى لمُسَلَّمات المنهج في العلوم الطبيعية الكلاسيكية،
واتخاذها مثالياتها التي يلخصها مبدأ الحتمية. ويَتَمَثَّل هذا التبني على وَجْه الخصوص
في
الوَضْعِيِّين من علماء الاجتماع وزملائهم السلوكيين في عِلْم النفس.
•••
ولكن الحق الذي لا مراء فيه، والذي تؤكده النظرة الأولى لتاريخ العلوم الإنسانية الحديثة،
هو أن فيالق باحثي الوضعية والسلوكية قد أنْجَزَتْ حصادًا هائلًا، وهو الذي جَعَلَ العلوم
الإنسانية تقف على قَدَمَيْها، وتَشُقُّ طريق العلم لتَمْخَر عبابه، وتؤهلها أصلًا للدخول
في مقارَنة مع العلوم الطبيعية، وتنامى هذا الحصاد منذ أواسط القرن العشرين، لا سيما
بعد أن
تَسَلَّحَتْ بمناهج الإحصاء والاحتمال التي كانت ترفضها في القرن الماضي سعيًا وراء وهْم
اليقين النيوتوني، والتحديد الفردي المُطْلَق للفيزياء الكلاسيكية برياضياتها
الإقليدية.
بيد أن هذا الحصاد الهائل يقتصر فقط على المرحلة الوصفية للعلم، دونًا عن المرحلة
التفسيرية فضلًا عن البحتة، وليس الوصف أمرًا يسيرًا، أو هَيِّنًا، أو حتى مُجَرَّدَ
مرحلة
تمهيدية، وها هو ذا هومانز يُسَمِّي المرحلة الوصفية باسم مرحلة الاكتشاف
Discovery، فالوصف يُطَابِق الاكتشاف؛ لأنه عملية تعيين
واختبار علاقات أكثر أو أقل عمومية بين خواص الظاهرة موضوع البحث. وهو اكتشاف لأن تلك
العلاقات غير معروفة قبل البحث الذي يكشف عنها. ولا يستعمل هومانز أبدًا مصطلح الوصف
Description، ويستعمل دائمًا مصطلح الاكتشاف، مؤكدًا أن
الاكتشاف — الوصف بمصطلحاتنا — معيار وجود العلم أو إمكانيته أصلًا، لكن التفسير هو معيار
درجة نجاحه أو تَقَدُّمه.
٢٣ وهذا ما سبق أن أوضحناه في الفصل السالف، وأوضحنا أيضًا كيف يتجاوز التفسير
الوصف، فيستعين به، ويضيف إليه القوانين، أو النظريات «قضايا عامة» كي يُحَقِّق هَدَفَه
فيُمَثِّل التقدم الحقيقي للعلم. باقٍ أن نؤكد الآن — مع هومانز — أن الوضع في العلوم
الإنسانية لا يختلف كثيرًا عن الوضع في العلوم الطبيعية من حيث العلاقة بين الوصف والتفسير.
«ولن يكون ثمة تفسير دون قضايا عامة».
٢٤ قوانين في مقدمات الاستنباط. «ولا شك أن محتوى القضايا العامة والتفسيرات
مختلِف في العلوم الإنسانية عنه في العلوم الطبيعية، ولكن مَطْلَب القضايا العامة
والتفسيرات واحد في الاثنين».
٢٥ هذا إذا أردنا قوة إخبارية ومحتوًى معرفيًّا، يعني سيطرة العقل على الظواهر
الإنسانية، كما سيطر على الظواهر الطبيعية.
إن السلوكية — التقليدية ثم الحديثة أو المُعَدَّلة — ومهما تذرعت باختباراتها
السيكوميترية، أو أساليبها الإحصائية، التي بَرَعَتْ وتمادت في تطبيقها واستغلالها لضبط
البحوث الإمبيريقية، والحصول على نتائج دقيقة، ومعها الوضعية وسليلاتها الوظيفية، ثم
البنيوية، حتى السوسيوميترية … في علم الاجتماع، التي اقْتَبَسَتْ من علم النفس أساليب
الإحصاء والقياس الكمي الدقيق، كلها معًا — وهي المتربعة على عرش المنطق العلمي في عالم
الدراسات الإنسانية — تحوي نفس القصور الذي يحول بينها وبين العبور المتمكن إلى المرحلة
التفسيرية والخوض فيها خوضًا ذا عمومية منطقية، ومحتوًى مَعْرِفِيٍّ غزير، ويتمثل القصور
في
— أو يتأتى من — الوقوف على سطح الظاهرة بالاستسلام الكامل للمعطى التجريبي، وتفتيت موضوع
الدراسة إلى ذَرَّات، مغفلة الطبائع التكاملية للكيانات الإنسانية. وإن كان ثمة إيجابيات
للجشطلت فإن السلوكية خَطَفَتْ منها الأضواء العلمية.
إن السلوكية بَزَّتْ كل مدارس علم النفس قولًا وفعلًا في الولاء لمنطق العلم التجريبي،
لكن بخطوط الإبستمولوجيا الكلاسيكية للعلم الميكانيكي. فحَوَّلَت العلة والمعلول، الفعل
ورد
الفعل، إلى المثير والاستجابة القابلة للملاحظة، ثم التعميم الاستقرائي. وصَمَّت الآذان
عن
الانهيار المُدَوِّي للآلة الميكانيكية العظمى، وتطورات العلم المعاصر. والمحصلة هي اقتصار
السلوكية على الوقائع الملاحَظة، والتأكيد أن التجريب المعملي هو فقط الذي يؤدي إلى نتائج
يُعْتَمد عليها. وهذا جعل اهتمامها بعمليات التفكير والمعرفة في الذهن يتراخى، وتعجز
عن
تفسير الظواهر شديدة التعقيد، التي لا يمكن الإحاطة بها عن طريق تعميم تجريبي مباشر
يَفْتَرِض أن الإنسان مُجَرَّد مُتَلَقٍّ سلبي لعوامل البيئة والوراثة، وتتفاقم المشكلة
حين
نصل إلى مستوى علم النفس الاجتماعي، وهو من معاقل السلوكية، عرفت كيف تتوغل في وصفه أو
اكتشافه، ولكن تفسيره يحتاج إلى تركيب أكثر منه إلى تحليل وتفتيت. وتظل مشكلة علماء النفس
السلوكيين — كما يقول هومانز وهو في طليعة أشياعهم — أنهم لم يكن لديهم روح المغامرة
والإقدام في قضاياهم، بحيث تَسَعُ تفسيرًا للسلوك الاجتماعي.
وبتطرف قد لا يكون مقبولًا، يؤكد هومانز نفسه — مع آخرين بالطبع — أن القضايا الأساسية
لكل العلوم الإنسانية هي قضايا علم النفس السلوكي، إلا أنه قد نَهَضَ بمهمة مَدِّ نطاقها
علماءُ النفس الاجتماعيون، الذين أخطئوا — والحديث ما زال لهومانز — في اعتقادهم أن علم
النفس السلوكي محدودٌ في مداه، وليس له أن يتجاوز الجرذان وغيرها إلى البشر.
وعلى هذا يمكننا الحكم بأن العجز عن الاقتراب من التفسيرات المقتدرة ذات العمومية
المنطقية متوشجًا في صميم مصادرات السلوكية. ولعل هذا أحد الأسباب التي أدت إلى الانقلاب
عليها الذي شَهِدَهُ النصف الثاني من القرن العشرين — الخمسينيات منه — بعد أن كادت تستأثر
طوال نصفه الأول — بالأخص ربعه الثاني — بعلمية علم النفس. هذا الانقلاب أو بالأصح التجاوز،
تَأَتَّى على وجه التعيين من مدرسة علم النفس
المعرفي
Cognitive Paychology وبفضل الجهود الدءوبة لرواده العظام نَخُصُّ منهم بالذكر
أولريك نايسر
U. Neisser وجيروم برونر
J. Bruner تبلور علم النفس المعرفي خلال الستينيات وشق
طريقه الواعد، مستفيدًا بإيجابيات شتى من العلم المعاصر وإبستمولوجيته وتقانته، لا سيما
الذكاء الصناعي وأنظمة تشغيل الحاسوب الإلكتروني (الكمبيوتر) كمناظرة تخطيطية لفهم أنظمة
الذكاء الطبيعي، أو العقل الإنساني في حل المشكلات. وبحثنا هذا إذ يحاول دَفْع وتعميق
استفادة العلوم الإنسانية من ثورة العلم المعاصر، إنما يأخذ في الاعتبار علم النفس المعرفي.
فقد أصبح معقد الآمال في مستقبل الدراسات السيكولوجية، والإمكانات المستشرفة بإزاء علم
النفس في مرحلة ما بعد السلوكية، القادرة على استيعابها بإمبيريقياتها الفعالة، لكن السطحية
القاصرة، ثم تجاوزها إلى ما هو أعمق وأشمل.
٢٦
«لتوضيح وإثبات ذلك راجع الفصل السادس من هذا الكتاب»، ومن
علماء النفس ننتقل إلى الشق الثاني من عمداء العلوم الإنسانية؛ أي علم الاجتماع. لنجد
الوظيفية بالذات قد قامت هادفة الإضافة إلى مُسَلَّمات الوضعية، بما يكفل إحراز الهدف
التفسيري العلمي، رافضة التفسيرات الغائية التي تفسر الظاهرة بأهدافها المستقبلية على
عكس
منطق العلم العلي — الميكانيكي — الذي يفسر الظاهرة بعللها السابقة، أو بماضيها، فكانت
الوظيفية منهجًا لتفسير الظواهر أو الأحداث والأنظمة الاجتماعية عن طريق ذِكْر الوظيفة
التي
تؤديها. وتركز على فَهْم المجتمع باعتباره مجموعة من الأنساق المرتبطة بعلاقات، فيكفي
التفسير الرجوع إلى الوقائع الملاحظة، ولسنا في حاجة إلى المخيلة أو الحدس.
٢٧ ويعتبر مالينوفسكي
B. Malinowski (١٨٧٣–١٩٢٠)
أبو الوظيفة؛ لأنه أول من استخدم «الوظيفة» للتعبير عن منهج معين، أو اتجاه للبحث. لكن
الوظيفة دخلت علم الاجتماع من خلال تدريس ردكليف
براون
A. R. Redcliffe Brown (١٨٨١–١٩٥٥)، ثم قويت بفضل تالكوت بارسونز
T.
Parsons (١٩٠٢–؟) وظهر في
أعمالهما مفهوم البنية بجانب الوظيفة، وأصبح «الوظيفي – البنيوي» هو الإطار العام للتفسير
المنشود في علم الاجتماع، ورأى ردكليف أن المشكلة هي إمكان التوصل إلى علم طبيعي للمجتمعات
الإنسانية. ومعنى ذلك تطبيق نفس الطرق المنهجية، والمنطقية، المستخدمة في العلوم الفيزيقية
والبيولوجية على ظواهر الحياة الاجتماعية الخاصة السياسية والاقتصادية وعلى الفنون والعلوم
وعلى اللغة «ذلك بهدف التوصل إلى صيغ دقيقة علميًّا، من التعميمات المحتمَلة ذات
المعنى»،
٢٨ والحق أن فكرة «الوظيفية» عن النسق «العضوي» للمجتمع و«الوظيفية الحيوية» تداني
بينها وبين تحقيق العلم الطبيعي بالمجتمع.
فهل قفزت الوظيفة بعلم الاجتماع إلى مرحلة التفسير العلمي الناضج المقنن منطقيًّا؟
في
الإجابة عن هذا نلاحظ أن الوظيفة في خاتمة المطاف نظرية اجتماعية، وسوف نرى أن الخلل
المنطقي في حدود النظرية الاجتماعية بصفة عامة من أشد ما يدفعنا لمحاولة تَلَمُّس التقنين
المنطقي لإقالة العلوم الإنسانية من تعثرها في المرحلة التفسيرية. وثانيًا نلاحظ أن
الوظيفية — بصفة خاصة — يؤخذ عليها أن مفهوم الوظيفة غير محدد، وأنها تَحَيُّز أيديولوجي
محافظ يهدف إلى إبقاء الوضع القائم، ما يجعلها تنْكَبُّ بلا موضوعية على تفسيرات استاتيكية
واستقرارية للمجتمع، وأنها من ثَمَّ تنطوي على تقدير غير متناسب لدور الأنظمة المُغْلَقة
في
الحياة الاجتماعية، تفشل في تناوُل مشكلة التغير الاجتماعي بنجاح، فتَعْجِز عن تفسير
ظواهر
من قبيل الصراع والتفكيك، فربما استطاعت أن تفسر جيدًا لماذا تستمر الأشياء، لكنها لم
تفسر
أبدًا لماذا تتغير؟ إنه نفس المأخذ الذي كان يؤخذ مِنْ قَبْل على الوضعية. بينما يؤخذ
على
الماركسية مغالاتها في تفسير التغير، ومن ثَمَّ عَجْزها عن تفسير الثبات النسبي الذي
تتمتع
به بعض الأنظمة الاجتماعية. وقد يبدو أن البنيوية تمثل الوسط الذهبي في هذا الصدد، من
حيث
إنها تنص على التحول
Transformation بجانب الكلية والضبط
الذاتي. وسرعان ما يَخِيب هذا الأمل حين نَجِدُ أهم أعلامها، ألا وهو كلود ليفي شتراوس
—
أعظم من قام بتطبيقها خصوصًا في الأنثربولوجيا — يؤكد أن صلب المنحى البنيوي ليس شيئًا
أكثر
من «البحث عن الثابت، أو هو البحث عن العناصر الثابتة فيما بين الاختلافات
السطحية»،
٢٩ وقد ظلت البنيوية دائمًا أقرب إلى الطابع المحافظ السكوني المناهض لديناميكية
الماركسية. وبرفقة الماركسية يقف التيار النقدي في علم الاجتماع الأمريكي (على أن نفصل
بين
الماركسية كمدرسة علمية وبينها كمشروع سياسي). والذي يعْنِينا الآن أن الوظيفية التي
انتقيناها مثلًا تَعْجِز عن التفسير العلمي بسبب اهتمامها منذ البداية بقضايا خاصة بشروط
التوازن الاجتماعي، هي قضايا لا يمكن أن تُشْتَقَّ منها نتائج نهائية في نسق استنباطي،
ويؤكد إرسنت ناجل استحالة اعتبارها تفسيرًا لافتقارها إلى الاتفاق مع الأدلة التجريبية
المتوافرة، وهناك أدلة على أن المجتمعات ليست أنساقًا عضوية مُغْلَقَة كما تُدْعَى
الوظيفية.
٣٠ على الإجمال نجد التفسيرات المُدَّعاة للوظيفية تفتقر إلى المحتوى المعرفي، ما
أدى إلى الحكم بأنها تنزع إلى التفسير الغائي بافتراضها فروضًا غير قابلة للاختبار؛ أي
أنها
محاولات غير علمية، والبنيوية هي الأخرى تَلْقى نقدًا مريرًا؛ لأن بعض فروضها غير قابلة
للاختبار التجريبي. لقد توقفنا عند الوظيفية؛ لأنها معبرة عن اتجاه علم الاجتماع المُخَلَّص
في اقتفاء أصوليات المنطق التجريبي، الذي يمتد من الوضعية وحتى البنيوية، والوضعية الجديدة
أو المحدثة في الربع الثاني من القرن العشرين، والاتجاه السوسيولوجي الأمبيريقي
والسوسيوميترية … إلخ؛ وذلك لكي تعطينا الوظيفية تمثيلًا عينيًّا شاهدًا على تعثُّر
الدراسات الاجتماعية في طريقها نحو النظريات التفسيرية العلمية حقيقة، فنكون على بينة
حية
من جزئية معبِّرة، حين نتناول في الفصل التالي من الكتاب إشكالية المنطق التفسيري للعلوم
الاجتماعية، وافتقار النظرية الاجتماعية من حيث هي هكذا للتقنين المنطقي الدقيق، الذي
يجعلها علمية حقًّا.
ومن المهم أيضًا أن نكون على بينة من أن تلك الاتجاهات؛ أي السلوكية والوضعية وسليلاتها
…
إلخ، في محاولتها الإخلاص لمثاليات العلم التجريبي، الكلاسيكي، تبنت الإمبيريقية المتطرفة
بحماس فائق، على حساب طبيعة العلم المبدعة الخلاقة، وطبيعة الظاهرة الإنسانية على السواء،
فراحت تواجه مشكلة التخلف النسبي للعلوم الإنسانية بالعَوْد المباشر إلى الوقائع التجريبية
الملاحَظة إمبيريقيًّا، وهذا ليس حلًّا للمشكلة، بل على العكس هو المشكلة عَيْنها؛ لأن
الوقوف على الواقعة التجريبية فقط، يعني في حد ذاته عدم القفز إلى المرحلة التفسيرية،
اكتفاءً بالوصف.
إذن، نَخْلُص مما سبَق إلى تحديد مشكلة العلوم الإنسانية، أو منطق تخَلُّفها النسبي
عن
العلوم الطبيعية فقط بعجزها عن بلوغ المرحلة التفسيرية المقْتَدِرة، أو بالأدق اضطراب
محاولاتها التفسيرية، وافتقارها للتقنين المنطقي، كما أشار هومانز ليس ثمة كلمة تستخدم
في
العلوم الإنسانية أضخم وأَجَلُّ من كلمة «النظرية»، ولكن نادرًا ما يسألون أنفسهم: ما
النظرية؟ إن النظرية تفسير لظاهرة، وكل شيء ليس تفسيرًا لا يستحق اسم «نظرية».
٣١ وهومانز يتفق معنا على أن صعوبات العلوم الإنسانية تقع في التفسير أكثر منها في
الكشف أو الوصف، وأن المشاكل المميِّزة للعلوم الإنسانية هي مشاكل التفسير.
٣٢ ذلك أنه بينما تتكامل التفسيرات في العلوم الطبيعية، أو يتجاوز بعضها البعض في
متصل التقدم الصاعد، وعلى أقصى الفروض يميل تفسير إلى التأكيد على زاوية دون الأخرى،
نجد
التفسيرات في العلوم الإنسانية تتنازع وتتناقض، وقد تبلغ حد التضاد الصريح، ومِنْ أَوْضَح
الأمثلة على هذا تحليلية فرويد وسلوكية واطس، اللتان احتلَّتا قَصَبَ السبق في علم النفس
في
نفس الفترة التاريخية، وتنازعتا نفس الحلبة، وعلى حين نجد خطأ التفسير التحيلي في أنه
يبالغ
في تعميق الظاهرة النفسية وتعقيدها، نجد خطأ التفسير السلوكي في أنه يبالغ في تسطيح الظاهرة
النفسية وتبسيطها، وإن كان تبسيطًا لحساب منهج العلم وإبستمولوجيته.
وتَعْجِز التفسيرات المطروحة في العلوم الإنسانية عن التكامل؛ لأنها تفتقر إلى الخصائص
المنطقية الدقيقة. لسنا نقصد إنكار أي قيمة لها، أو الحط من شأنها، أو أنها محض هراء
أو
لغو! كلا بالطبع فلا شك أنها تضمنت محاولات جسورة جبارة، ولكن ينقصها شيء من الدقة لتكون
مثمرة حقًّا. بعبارة أخرى، يغدو التقنين المنطقي الدقيق للتفسيرات في العلوم الإنسانية
كفيلًا بأن يجعلها تتجاوز الكثير مِنْ تَخَلُّفها النسبي عن العلوم الطبيعية.
على هذا النحو يتأتى تحديد منطق التخلف النسبي للعلوم الإنسانية، فقط بافتقاد المرحلة
التفسيرية تقنينًا منطقيًّا أدق. فلا يوجد البتة أي مسوغ منطقي لتطرف البعض، حتى يذهب
إلى
أن مشكلة العلوم الإنسانية «هي أنها ليست علومًا»، فلا يعود السؤال المطروح: كيف يمكن
مواجهة تخلُّفها النسبي أو معوِّقات تقدُّمها؟ بل يصبح: هل يمكن أصلًا قيام علوم إنسانية،
وسرعان ما تأتينا الإجابة بالنفي.
٣٣
هذه الإجابة المتطرفة عادة ما تَسْتَنِدُ في إنكارها لإمكانية العلوم الإنسانية على
أساسٍ
من التسليم المبدئي بأن العلم لا يكون إلا في صورة العلم
الدقيق
exact science الذي يتحول إلى صورة نسق رياضي يخلو من أي ألفاظ كيفية، ولا يتحدث
إلا بالرموز والأعداد، ويا حبذا لو راحت الفوارق الشكلية بينه وبين الرياضة. فذلك هو
شأن
الفيزياء البحتة التي تَسْتَنْبِط من معادلاتها فقط بالأساليب الرياضية ما لا يكشف عنه
الواقع التجريبي إلا بعد سنوات، كما حَدَثَ حين توصَّل ديراك
Dirac بالمعادلات الرياضية إلى ضديدات
الجسيمات الذرية
Antiparticles، ثم أثبتتها التجارب بعد ذلك بسنوات، أو كالنيوترون،
تَوَقَّعَه العقل نظريًّا، ثم وَجَدَهُ تجريبيًّا بعد ثلاثين عامًا،
٣٤ وجسيمات أخرى للذرة
w. z. ومِنْ قَبْلُ لم
يَطْرَح كوبرنيقوس فرضية مركزية الشمس إلا على أساس حجة وحيدة، هي حجة البساطة الهندسية
وبساطة الاستدلالات الرياضية، فهي أبسط من مركزية الأرض البطلمية، وإذا أضفنا إليها فرضية
أن الأرض تتحرك، سنكون أقدر على تفسير الظواهر الفلكية، ولم تَتَأَتَّ الشواهد التجريبية
إلا بعد وفاة كوبرنيقوس مع ملاحظات تيكو براهة، وجاليليو عن وجه الخصوص. هكذا تَتَصَدَّر
الرياضيات الجبهة الأمامية في معركة العلم الدائمة لفرض سلطان أكبر على الطبيعة
الفيزيائية.
ولئن كانت الفيزياء الحديثة ذاتها مَرَّت بمرحلة معينة من تاريخها — تتحدد بمنتصف
القرن
الثامن عشر — سادَتْها فكرة «تعتمد على الوثوق بالتجربة أكثر من الرياضيات باعتبار
الرياضيات شديدة الحصر ما يصعب قراءتها للطبيعة»
٣٥ فعمَّ الانكباب على التجربة، وتراجَعَت الرياضيات للدرجة الثانية. وراح ديدرو —
وهو من زعماء الموسوعيين الفرنسيين ذوي الاتجاه العلمي القوي — يشكك في طبيعة الرياضيات
وجدواها؛ لأنها تقطع الصلة بالتجريب. وساعد على هذا دفقة التقدم المذهل في الميكانيكا،
حتى
شهدت تلك المرحلة ميلاد «الحرفي العالِم» المعروف باسم المهندس، وأصبحت الورش الصناعية
هي
ملتقى العلماء، ومكان تَجَمُّعهم وعَمَلِهم، ومناقشاتهم ومسامراتهم،
٣٦ حتى يَنْعَت جيمس جينز هذه المرحلة بِاسْم «عصر العالِم المهندس»
٣٧ … لئن كان هذا حقًّا، فنحن نقول إنه ظاهرة سطحية لتفجر نجاح الميكانيكا
النيوتونية التي هي أصلًا نظرية رياضية. ثم إنها مرحلة — بل ظاهرة — محدودة من تاريخ
علم
الطبيعة الحديث. والآن في القرن الحادي والعشرين لم يَعُد ثَمَّة جدال طبعًا في أن الفيزياء
البحتة بَلَغَتْ أعلى درجة من الدقة مسلحةً باللغة الرياضية، أو حتى لأنها هكذا. فهذه
خاصةٌ
أساسيَّةٌ من خواصِّ العلوم الطبيعية أن لها قُطْبَيْن فلسفِيَّين هما وقائع التجريب،
ولغة
الرياضيات بتعبير باشلار الذي يُعَرِّف الطبيعيات بأنها «حقْل فكْرِيٌّ يتعين برياضيات
وتجارب، كما ينشط إلى أقصى حَدٍّ في اقتران الرياضيات والتجربة».
٣٨ ما يحدد الطبيعيات بأنها أبنية تركيبية
Synthesis ذهنية، هي تجريدية عينية. من الناحية الأخرى لا شك أيضًا —
وإطلاقًا — في كفاءة اللغة الرياضية؛ لأنها أدَقُّ لغة امتلكها الإنسان، أو قُلْ: إن
كل
لغات الإنسان طُرًّا متساوية، ولا توجد لغة أَدَقَّ وأكثر صرامة من غيرها. فما دام ثَمَّة
بَشَر متحضرون ارْتَضَوْها وسيلةً لما بينهم من إشارة وتعبير ووَصْف وجدل ونقاش … فلا
بد
أنها قادرة على هذه المهام المنوطة باللغة أي لغة، عدا لغة المنطق الرمزي وسليلته
الرياضيات، فهذه ليست أدقَّ لغةٍ امتلكها الإنسان فحسب، بل إنها اللغة الوحيدة الدقيقة،
وكل
ما عداها سواء.
وعلى الرغم من كل هذا، فإن اصطناع اللغة الرياضية في صياغة الفروض والاستدلالات والأنساق
العلمية، ليس في حد ذاته هدفًا، بل هو وسيلة الضبط، التي تواءمت تواؤمًا كاملًا مع موضوع
الفيزياء، ودرجة تقدُّمها، ولكن إن تَعَذَّر عليها التواؤم مع موضوع البحث، وأمكن تحقيق
الضبط لدرجة كافية بوسائل أخرى، فلا ينبغي أن نتشبث بالوسيلة (اللغة الرياضية) إلى الدرجة
التي تُلْهِي عن الغاية (المرحلة التفسيرية المقتدرة)، أو إنكار إمكانية بلوغها.
٣٩
لذلك لا نجد مبرِّرًا منطقيًّا لقطع الطريق على العلوم الإنسانية بدعوى أنها غير دقيقة
كالفيزياء ولن تكون، ولا حتى إرجاع تخلُّفها النسبي إلى أنها ليست علومًا دقيقة. فالعلم
الدقيق بهذا المفهوم الرياضي ليس في حد ذاته هدفًا، بل وسيلة، والرموز الرياضية بدورها
عَرَض، وليست خاصة أساسية للبنية العلمية، وإن كانت قد تحققت في العلوم الفيزيائية، فهي
لم
تتحقق في علوم أخرى لا يجادل أحد في عِلْمِيَّتها، وقدراتها المنطقية، كالجيولوجيا وعلوم
الطب والأمراض … فهي علوم منضبطة إلى حد مقبول، وتزداد انضباطًا وتقدُّمًا، ولكنها غير
دقيقة بهذا المفهوم، ولا هي تبحث عنه؛ لأنها لا تعتمد على الاستدلال الرياضي.
وكما أوضح برتراند رسل
B. Russell (١٨٧٢–١٩٧٠) عميد
عمداء التفكير العلمي والرياضي في النصف الأول من القرن العشرين، أول انتصارات المنهج
التجريبي كانت في الفلك وأعظمها في العلوم الذرية، وإن كانت هذه العلوم، وتلك تستلزم
الرياضيات، بحيث لا تقل أهمية الرياضيات فيها عن أهمية التجريب، فإن ثَمَّة علومًا أخرى
ينفرد التجريب بقصب السبق فيها، وأهمُّها علم الحياة، ويعطينا دارون مثالًا نموذجيًّا
على
الاستعانة بالمنهج التجريبي الخالص بغير حاجة إلى الرياضيات،
٤٠ كما هو حال معْظم فروع البيولوجيا. ومن الناحية الأخرى نجد في الوقت نفسه
فروعًا في علم الاقتصاد، وفي علم السكان تعطي استدلالات رياضية وتنبؤات دقيقة، بل إن
علم
السكان وهو علم إنساني خالص — فرع من فروع الجغرافيا — به أجزاء متميزة بوجود نظرية رياضية،
مصوغة ومشابهة منهجيًّا للأجزاء الدقيقة من الفيزياء. وقد تَبَنَّى ماشلوب هذه القضية
في
بحثه «هل العلوم الإنسانية حقًّا في منزلة أدنى»؛ حيث يَرْفُض الدقة بمعنى القياس والقدرة
على التنبؤ بنجاح بأحداث مستقبلية، أو التحول إلى لغة رياضية، موضِّحًا أن المعنى الصحيح
للدقة هو إمكان بناء نسق من النماذج التي تحتوي على أبنية مجرَّدة من المتغيرات، ويمكن
منها
استنباط كل القضايا الخاصة بارتباطات معيَّنة، ويُعَقِّب ماشلوب بأن أمثال هذه الأنسقة
لا
توجد في كثير من العلوم الطبيعية، هي مواضع جمة من العلوم الحيوية، بينما توجد في موضع
واحد
على الأقل من العلوم الإنسانية، هو علم الاقتصاد. والخلاصة أن صفة الدقة الرياضية لا
يمكن
نسْبَتُها إلى كل العلوم الطبيعية، كما لا يمكن رَفْضُها بالنسبة لكل العلوم الإنسانية،
وتَبْقى الإشارة إلى أن رَفْض مِعْيَار الدقة الرياضية قد تطور وتنامى في السنوات الأخيرة،
حتى يَحْمل الآن مارجوليس لواء الدعوى إلى أن مجرد التعيين الصوري لقيم مماثلة الصدق
Truth-like Values مسألة نسبية، ملائمة فقط
لنطاقات معيَّنة من البحث دون سواها!
٤١
إن الذي يجعل العلم علمًا ليس لُغَتَه أو نتائجه، بل أهدافُه
٤٢ وأسلوب تحقيقها الملتزِم بالمواجهة مع الواقع التجريبي، والمهم أنه لكي تتجاوز
العلوم الإنسانية تخلُّفها النسبي على الطريق العلمي، عليها أن تَضَعَ نُصْب أعينها هدفًا
محدَّدًا، وهو الوصول إلى تفسيرات أعلى وأكفأ مما هو متاح لها الآن. وكما أوضَحْنَا آنفا،
التفسير العلمي في كل حال يَتَّخذ دائمًا الشكل أو النموذج الاستنباطي، وصحيح أن الرياضيات
أكْمل وأوضح أشكال الاستنباط، إلا أنها ليست الشكل الوحيد، والاستنباط قد يكون منطقيًّا،
وعلى درجة مقبولة من الضبط والكفاءة. المهم أن يكون ثمة المقدِّمةُ الاستنباطية (قوانين
عامة وشروط مبدئية) لنستنبط منها نتائج. الغاية هي التفسير الذي هو استنباطي وليس من
الضروري أن ينصب في اللغة الرياضية، إذا ما أبدت طبيعة الظواهر الإنسانية بصفةٍ عامة،
وفي
هذه المرحلة من تاريخ العلم بصفة خاصة، استعصاءها على هذه اللغة. مرة أخرى وأخيرة، التفسير
هو الغاية والرياضة مُجَرَّد وسيلة يمكن طَرْحُها جانبًا، كما هو حادث في الجيولوجيا
والعلوم الحيوية مثلًا. والحق أن التفسير لا يعدو أن يكون المصطلَح الخاصَّ بالاستدلال
العلمي، فهو مجموعة القضايا التي يلزم عنها، وبالضرورة القضيةُ المراد تفسيرها.
٤٣ والتفسير في العلوم الطبيعية والإنسانية على السواء، إنما هو الإحاطة بالظاهرة،
والتمكن منها. فإذا سار بشكلٍ سليم يمكن أن يتضمن توجيهها، فيما يُعْرَف بالتقانة
(التكنولوجيا أو فعالية العلم) التي قد تتضمن بدورها التغيير. «فمثلًا إذا أخذ التفسير
في
اعتباره العوامل التاريخية وتطور المجتمعات، فإن معنى ذلك هو كشف التغيير والتطور والأزمات
التي هي جزء من الظواهر الاجتماعية التي ندرسها.»
٤٤ وإذا تذكرنا العلاقة بين التفسير والتنبؤ — وكلاهما استنباط — التي أَشَرْنَا
إليها في الفصل السابق من البحث فسوف نجد كلود ليفي شتراوس — رائد الإنثروبولوجيا البنيوية
التي هي محاوَلة جادَّة للوصول إلى مبدأ للتفسير — يرى أن العلوم الاجتماعية أو الإنسانية
—
وهو يؤكد أن المصطلحَيْن مترادفان — تَقَعُ وظيفتها في منتصف الطريق بين التفسير والتنبؤ،
ويذهب إلى أن «الإشكالية أو الصعوبة في هذه العلوم تأتي من أن مُخْتَلِف أنساق تلك العلوم
لا تَقَعُ على نفس المستوى من الناحية المنطقية، كما أن المستويات التي ترتبط بها متعدِّدة
ومعقَّدة. وكثيرًا ما تكون تعريفاتها غيرَ دقيقة.»
٤٥ وهذا بالطبع يمثل معوقات للمرحلة التفسيرية.
وهومانز بعد تأكيده أن الصعوبات المحيطة بالعلوم الإنسانية تَقَعُ في التفسير دونًا
عن
الوصف — الكشف بمصطلحاته — يختم محاضراته في طبيعة العلوم الإنسانية أو الاجتماعية بأن
العمل العلمي لن يُنْجِز فيها إلا حينما تؤخذ الوظيفة التفسيرية بجدية، و«إنْ نفسر هو
أن
نحكم ونُنَظِّم، فلنحاول — على أبسط الفروض — تفسير أكثر ملامح الحياة الاجتماعية
شيوعًا.»
٤٦
نَخْلُص من كل ما سَبَقَ إلى أنه بعد الاطمئنان إلى المرحلة الوصفية يغدو التفسير
حدًّا
ومعيارًا لمدى تقدُّم العلوم الإنسانية؛ لقدْرَتِها على الوقوف في استقلال عن العلوم
الطبيعية، ثم تعاوُن الأنداد معها في أداء مهمة العلم الإخبارية بشأن مُجْمَل ظواهر هذا
الكون الفيزيائية والحيوية والإنسانية. وهذا يرتبط بقدرة العلوم الإنسانية على الاستفادة
من
العلوم الطبيعية، وإفادتها، واحتفاظها في الوقت نفسه بالنظرة الموضوعية المراعية للنوعية
الخاصة لظواهرها، وسيرها على أسس ومبادئ منهجية. وبينما وجدنا التفسير في العلوم الطبيعية
يَطَّرد تقدمه لقيامه على قاعدة صلبة متماسكة تتمثل في اتفاق العلماء على تخوم واضحة،
وداخِلها قد يتلاقى الرأي والرأي الآخر تلاقي التكاتف والتآزر، فوجئنا بعكس ذلك في العلوم
الإنسانية «حيث لا يزالون مختلفين حول موضوع الدراسة، وأيضًا حول الموقف الذي يتخذونه
بإزاي
(أي المنهج). ولا شك أن إحدى المهام الخطيرة لفلسفة العلم هي حل تلك المشكلة والتقريب
بين
وجهات النظر المتباينة.»
٤٧
السؤال الآن: كيف يتم هذا التقريب كوسيلة لتآزُر الجهود وتكامُلها في خوض غمار المرحلة
التفسيرية عسيرة المراس خوضًا أكثر اقتدارًا … أكثر إخبارًا … أكثر علمية؟
إن الإجابة عن هذا السؤال المحوري لِدراستنا لا تتأتى إلا من خلال التقنين المنطقي
الدقيق
لمشكلة العلوم الإنسانية.
هوامش