الفصل الثالث
منطق مشكلة العلوم الإنسانية
سواء اتفقنا أو اختلفنا مع وجهة النظر المعروضة في الفصل السابق بتحديد التخلف النسبي
للعلوم الإنسانية في تعثر مرحلتها التفسيرية، فلا نحسب أن ثمة اختلافًا كبيرًا يمكن أن
يُثار حول القضية المطروحة في هذا الفصل، والتي تَرُدُّ إشكالية العلوم الإنسانية برمتها
إلى افتقارها للتقنين المنطقي الدقيق. وليس يتعارض هذا مع ما سبق، بل يؤكده من حيث إن
التفسير ذو منطق استنباطي أعقد من مَنْطِق الوصف، يحتاج إلى تقنين منطقي أدقَّ، إذا ما
أُرِيدَ له أن يكون تفسيرًا علميًّا بحَقٍّ.
لقد قيل الكثير في حيثيات مشكلة العلوم الإنسانية، لتَجُول الصعوبات المحيقة بها
بين عدة
خصائص تتميز بها الظاهرة الإنسانية دُونًا عن الطبيعية: من قبيل صعوبة التكميم واستخدام
ألفاظ كيفية، ومن ثَمَّ صعوبة صياغة قوانين دقيقة، وأن الباحث جزءٌ لا يتجزأ من الظاهرة
التي يبحثها، فلا بد أن يَشْعُر تجاهها بميول وأهواء معينة، تفرضها الأيديولوجية السياسية
والاجتماعية والبيئة الثقافية والبيئة الحضارية التي ينتمي إليها، فتؤدي به إلى إضفاء
الإسقاطات التقييمية أو الأحكام على مادة بحثه، ما يُنَاقِض طبيعة العلم الذي يأبى تَدَخُّل
عنصر القيمة المراوِغ الفضفاض، وهو عنصر يَصْعُب استئصاله من البحوث الإنسانية، فثمة
قِيَم
الباحث التي تؤثر على أحكامه، بل ومجرد رَصْده الوقائع، وثمة القيم الموجِّهة لموضوع
البحث
ذاته، هذا فضلًا عن تعقُّد الظواهر الإنسانية والاجتماعية بصورة تجعلها — بخلاف الظواهر
الطبيعية — «متعددةَ الملامح والأبعاد والخصائص، ما يصيب محاولات وَصْفِها بالقصور
الشديد».
١ ويُمْكن القول أيضًا إنها بوصفها ظاهرة موضوعها الإنسان العاقل، فهي ثنائية
النسق، فكما أن للإنسان جانبًا جوانيًّا باطنًا، وآخر برانيًّا ظاهرًا فلا بد أن ينقسم
البحث إلى قسمين أحدهما براني يتعلق بما يتبدى للحواس، والآخر جواني هو غرفة
العمليات.
٢ هذه الثنائية تُمَيِّزها عن الظواهر الطبيعية، وتجعل التجريب لا يَصْلُح لها.
وفضلًا عن الظواهر الطبيعية، وتجعل التجريب لا يصلح لها. وفضلًا عن كل ذلك ثمة عامل الحرية
الإنسانية، والكثيرون يقيمون الهوة بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية على أساس حرية
الإنسان، دونًا عن أي موضوع من موضوعات العلم في الاختيار، وتحديد المَسِير والمَصِير
تحديدًا يَنِدُّ عن سيطرة القوانين، إن لم يَنقض فكرة القانون العلمي، ولعله يخضع للأغراض
والغايات البعيدة في مقابل العلل الميكانيكية السابقة، «بالإضافة إلى أن التنبؤ لا يقع
على
غير الكليات الشاملة التي لا تصل إليها موضوعات العلوم الإنسانية.
٣ والعلية لن تعود هنا موضوعيَّةً فحسب، بل أيضًا شخصية؛ لأن موضوعات هذا العلم
ليست مجردة، بل محسوسة حية وإنسانية بنوعٍ خاص، كل هذه العوامل تُوَضِّح الفارق الكبير
بين
موضوع العلوم الإنسانية وبين حدث كيميائي، أو كهربائي، أو حتى نظرية»،
٤ في العلوم الطبيعية، وإليها يرْجِع الفارق الكبير بين درجة التقدم في الأولى
ودرجَتِه في الثانية. ولعل أشهر الصعوبات التي تختص بها العلوم الإنسانية هو ما يسمى
بتفرد
Uniqueness الظاهرة، ومحاولة التجريد والتعميم
وإسقاط خصوصية الظاهرة، وتميزها قد ينطوي على تشويه لطبيعتها.
٥ ويتصل بهذا ما يُسَمَّى بالتغيير السهل السريع للظواهر الإنسانية أو
الاجتماعية.
٦ وكل هذا «يَجْعَل الاطراد في مجالها أَقَلَّ ظهورًا منه في الظواهر الطبيعية،
ما يتعذر معه أن نعزل جانبًا من جوانب البحث — كما نفعل في البحوث الطبيعية — عزلًا
يُمَكِّنُنا من تَتَبُّع ذلك العامل وحده في تكرار وقوعه، فإذا نحن اضطُرِرْنا إلى الاقتصار
على مشاهَدة الوقائع في حالة تركيبها دون تحليلها إلى عناصرها عنصرًا عنصرًا، وَجَدْنا
تلك
الوقائع ذات طابع لا يحتمل لها أن تتكرر تكرارًا يتيح لنا الفرصة أن نَلْحَظ الاطراد
فيها.
فعالِم الاجتماع مثلًا لا يستطيع — كما يستطيع زميله العالِم الطبيعي — أن يُعيد الظاهرة
التي هي موضوع بحثه، كلما أراد أن يُخْضِعَها للمشاهَدة؛ لأن الظواهر الاجتماعية فريدة
في
نوعها، تجيء كل ظاهرة منها مرة واحدة، ثم تمضي فتصبح حادثة تاريخية لا يتكرر
حدوثها»
٧ كل هذه الفوارق بين العلوم الإنسانية والطبيعية
٨ تثير الشك في إمكان وجود قوانين تَحْكُم ظواهر العلوم الإنسانية؛ أي وجود
تماثلات مختلفة في أوقاتٍ مختلفة، تُسْتَعْمَل كبيِّنة على قوانين مطردة للجنس البشري
في كل
الأوقات، وتحت كل الظروف، وهذه التماثلات تفترض مسبقًا وجهة نظر الباحث، بالإضافة إلى
أن
صياغتها في قانون تحتاج عددًا كبيرًا من المتغيرات، يَبْعُد عن أن تكون دالَّة بسيطة
كقوانين الطبيعة.
ويمكن أن نُضِيف إلى هذه العوامل ما يُعْرَف بمُعَوِّقات البحوث الإنسانية، لا سيما
في
البلاد المتخلفة من قَبِيل ضعف التمويل نتيجة التشكيك في جدواها وحصائلها التطبيقية،
مقارَنَةً بالعلوم الطبيعية. والانبهار بالآلة عنوان التقدم، لحد اعتبار الدراسات الإنسانية
ترفًا يمكن — بل يجب — تأجيله! وانعدام التخطيط والتساوق بين هيئات البحث. وثَمَّة نظام
التعليم وإعداد كوادر الباحثين، الذي يركز على باحثِي العلوم الطبيعية، ويخصهم بالقروض
والمِنَح والبعثات والمراكز دونًا عن باحثي العلوم الإنسانية، فتستأثر الأولى بالطلبة
النابهين، وربما تعنينا بصفةٍ خاصة أمثال هذه المعوقات؛ لأنها — كما ذكرنا — تتركز في
الدول
المتخلفة أو النامية، والواقع أن الموقف في قضية العلوم الإنسانية يماثل الموقف من قضية
المرأة من حيث إنه يصلح مؤشرًا شديد الدلالة على درجة نمو الوعي العام، ومن ثَمَّ درجة
التقدم الحضاري، نظرًا لمعامل الارتباط الثابت بين درجة الوعي ودرجة التقدم.
على أن تلك المُعَوِّقات تَخْرُج عن نطاق فلسفة العلم، لعلها تندرج تحت سوسيولوجية
المعرفة أو عواملها الاجتماعية.
•••
ونعود إلى فلسفة العلم لنجد أن منهج الاختزال المنطقي شديد الفعالية فيها، وبواسطته
يمكن
اختزال كل حيثيات أو أسباب مشكلة العلوم الإنسانية في عامِلَيْن أساسيَّيْن تنفرد بهما
عن
العلوم الطبيعية، فيرتد إليهما تخلفها النسبي عنها:
وخلاصة تفاعُل العامِلَيْن معًا يَنْجُم عنه «افتقاد الإحكام في المشروع العلمي»
٩ حين البحث في الظواهر الإنسانية. وهذا ما اصطلحنا على أنه افتقار العلوم
الإنسانية إلى التقنين المنطقي (لا سيما في المرحلة التفسيرية).
العامل الأول المختص بطبيعة العلاقة بين الباحث وموضوع البحث يتعلق بمنطق العلم من
حيث
تحديد وإحكام البنية المنطقية لصوغ الفروض ومِحَكَّات قبولها، أو تعديلها، أو رَفْضها
بموضوعية تنأى عن التحيز والهوى والإسقاطات اللاعلمية. العامل الثاني المختص بنوعية الظاهرة
الإنسانية يتعلق بمنهج العلم الإخباري، أصوليات البحث التجريبي في تعامله مع الظاهرة.
والمفروض أن دراستنا هذه تَنْصَبُّ على منطق العلم، فتحمل إمكانية درء العامل الأول،
لكن
التساوق المنطقي المنهجي يُلْزِمُنا بالعروج على منهج العلم … منطق المنهج التجريبي في
أكثر
تطوراته حداثة التي تكشفت في ضوء ثورة العلم في مطالع القرن العشرين، ثورة النسبية
والكوانتم.
وبالصورة المعاصرة لمنطق المنهج التجريبي سنلقى الطريق مفتوحًا أمام إمكانية درء
العامل
الثاني. بهذا وذاك تتأتى إمكانيات حل مشكلة العلوم الإنسانية، على ضوء الخاصة المنطقية
المميزة للعلوم الطبيعية وتساوقها
١٠ المنهجي. إن التحديد الدقيق لهذه الخاصة، وإيضاح مدى قدرتها على الإحاطة بمنطق
النظرية العلمية الإخبارية، وما يستتبعها من فصل القول في إشكالية المنهج التجريبي، هذا
من
شأنه أن يرسم مشروعًا واعدًا، أو على الأقل يَشُقُّ طريقًا ممهَّدًا لتحقيق الإحكام
المتحقِّق في مباحث العلوم الطبيعية.
على أن الفصل بين عامِلَي المشكلة وأسلوبَي معالجتها يكاد يكون مبدأً تنظيميًّا لهذه
الدراسة فحسب، فهما في واقع الأمر أو واقع العلم ليسا منفصِلَيْن بهذه الحدة، وليس العامل
الثاني في حد ذاته مقطوعَ الصلة بمنطق العلم. لو بدأنا منه؛ أي من نوعية الظاهرة الطبيعية
الإنسانية، فسوف نلقى اختلافها وتميُّزها عن الظاهرة الطبيعية — أي تلك النوعية الخاصة
—
إنما تتمثل في أنها تختص بعنصر الوعي كثير المتغيرات، شديد التعقيد. وهذا في حد ذاته
يمكنه
أن يفضي بنا إلى قلب منطق العلم توًّا.
ذلك أنه تبعًا لمنطق العلم — وليس تاريخ العلم — وعلى وجه التحديد تبعًا لقاعدة
العمومية generality المنطقية، ولا بد أن نُسَلِّم
بالتقسيم أو التصنيف المبدئي للعلوم الإخبارية إلى ثلاث مجموعاتٍ كبرى، متدرجة منطقيًّا
تبعًا لدرجة عمومية موضوعها، وهي درجة تتناسب تناسبًا عكسيًّا مع درجة تعقيده (أي تناسبًا
طرديًّا مع درجة البساطة). هذه المجموعات الثلاث — بالطبع بعد مجموعة أو نسق العلوم الصورية
علوم المنطق والرياضيات — هي أولًا مجموعة العلوم الطبيعية أو الفيزيوكيميائية، وثانيًا
مجموعة العلوم الحيوية أو البيولوجية. هاتان المجموعتان يُمْكن أن تندرجا معًا في مجموعة
علوم المادة — الجامدة والحية — وليقابلا معًا المجموعة الثالثة وهي مجموعة العلوم
الإنسانية.
تبعًا لهذا نجد الفيزياء — وفي حوزتها الفلك — على قمة نسق العلم الإخباري، فموضوع
الفيزياء مجرد المادة والطاقة في الزمان والمكان. هي إذن الأكثر عمومية، حتى إن موضوعات
العلوم الأخرى زوايا في عالم الفيزياء، الذي هو إطار الكون … مجمل عالم الظواهر، موضوع
العلم أو العلوم الإخبارية. قوانين الفيزياء لهذا تنطبق على مجمل موضوعات العلم، فلا
بد أن
تُسَلِّم بمُسَلَّماتها كل فروع العلم الأخرى، ولكن العلم ينتقل إلى المجموعة الثانية،
مجموعة العلوم الحيوية التي تدرس موضوعًا أعقد من مجرد المادة. إنه المادة وقد أضيفت
إليها
القدرة على القيام بوظائف الحياة. فلا بد أن نضيف الفروض العلمية المختصة بظاهرة الحياة
ووظائفها، ثم لكي يحيط العلم بالظواهر الإنسانية — وهي أعقد وأعقد — لن تكفي قوانين
الفيزياء والبيولوجيا، وإن كانت بداهة تنطبق على الإنسان حين يسقط من علٍ وفقًا لقانون
سقوط
الأجسام الفيزيائي، وحين تؤدي أعضاؤه وظائف الحياة وفقًا لقوانين البيولوجيا، ومن أجل
الإحاطة بالظواهر الإنسانية لا بد أن ينضاف إلى هذا وذاك قوانين، أو فروض، أو نظريات
تتناول
ظاهرة الوعي الجمعي بسائر تَشَكُّلاته وتَمَثُّلاته ونواتجه. ويمكن ملاحظة أن ذلك التدرج
المنطقي للعلوم تبعًا لمستوى تعقيد موضوعها يوازيه تَدَرُّج عكسي في مستوى تقدُّمها،
ولعله
أيضًا تبرير منطقي لتدرج مستوى التقدم، فالفيزياء أكثر العلوم تقدمًا وموضوعها أبسط،
والبيولوجيا درجة تقدمها أقل؛ لأن موضوعها أعقد، والعلوم الإنسانية درجة تقدمها أقل وأقل؛
لأن موضوعها أعقد وأعقد.
والجدير بالذكر الآن أن هذا التصنيف المبدئي مجَرَّد قواعد منطقية صورية لنظام العلاقات
النسقية بين فروع العلوم، ولا ينطوي البتة على ضرورة رد العلوم الإنسانية إلى الفيزياء
البحتة أو سواها، ومن ثَمَّ فإن هذا التصنيف لا يستلزم إطلاقًا فكرة العلم الواحد أو
الموحَّد، إن رد العلوم إلى الفيزياء في بناء العلم الموحَّد هي فكرة مرتهِنة
بالإبستمولوجيا الكلاسيكية، إبستمولوجية الحتمية الميكانيكية، التي اتفقنا على أن هذا
البحث
يروم الخلاص، أو الانتقال الجذري منها إلى الإبستمولوجيا المعاصرة، إبستمولوجيا النسبية
والكمومية. وفي الفصل السابع من هذا الكتاب سنُفَنِّد بتفصيلٍ وبراهينَ أوضح فكرةَ ردِّ
العلوم إلى الفيزياء في بناء العلم الموحَّد.
ونعود إلى موضوعنا الحالي، إلى ارتباط منطق العلم بنوعية الظاهرة الإنسانية المختصة
بعنصر
الوعي كثيرة المتغيرات التي تجعل ظواهر العلوم الإنسانية أكثر تعقيدًا من ظواهر العلوم
الطبيعية، وأيضًا الحيوية، لنجد أنه ليس مجرد الدرجة الكمية للتعقيد في الموضوع تبريرًا
منطقيًّا كافيًا ومحيطًا لتخلف العلوم الإنسانية عن العلوم الطبيعية، بل إن اللافت حقًّا
في
العقد الأخير من السنين أن التعقيد
complexity في حد ذاته،
التعقيد عمومًا، وتعقيد الظواهر الإنسانية خصوصًا، أجل … عين ومحض التعقيد بأنظمته
البنائية، وتفاعلاته الجدلية، وعلاقاته النفسية، ومتطلباته المنهجية قد أصبح موضوعًا
لعلم
ناشئ حديثًا، مبحث يتكاتف لتشييده علماء من تخصصات عديدة، لإرساء الأطر النظرية، وأساسيات
الممارَسات الإجرائية لهذا المبحث أو العلم الذي سيكون بحقٍّ درةً من دُرَر الإنجازات
العلمية في القرن العشرين.
١١ أما إذا كانت مجرد الدرجة الكمية للتعقيد هي ببساطة مَعَامل الارتباط القياسي
لدرجة التقدم العلمي للَزِمَ عن ذلك منطقيًّا أنَّ بَذْلَ جهد أكثرَ كمًّا، ومِنْ قِبَل
عَدَدٍ أكْبَرَ من الباحثين، كفيلٌ تمامًا كي تحرز العلوم الإنسانية درجة التقدم المنشودة،
وتتجاوز مشكلتها. وليس هذا هو الأمر الواقع ولا المتوقع.
وتفسير هذا فيما أوضحناه في الفصل الأول من الكتاب، من أن اطراد التقدم العلمي ليس
مجرد
تراكم كمي رأسي، بل يعني تضاعف القوى المعرفية للنظريات في متوالية منطقية، وتبعًا لمبدأ
الطرح المنطقي يمكن ملاحظة أن هذا يُطْرح أيضًا على موضوع العلم، ليصبح تعقيد الموضوع
بدوره
مسألة متوالية منطقية، وليس مجرد دالة كمية بسيطة. ومواجهة التعقيد بدورها لا بد أن تتم
على
هذا الوجه، وتغدو النسقية المنطقية هي الأسلوب القادر على الإحاطة الصورية بالموقف شديد
التركيب والتعقيد، وتتبع تمثلاته ونواتجه: فالعلم — كل علم سواء طبيعيًّا أو إنسانيًّا
—
يتناسب ما يحرزه من اطراد التقدم مع درجة تقنينه المنطقي ونسقيته. ولئن كانت الفيزياء
قد
فاقت كل فروع العلم في درجة تقدُّمها، فذلك ببساطة؛ لأنها تفوق كل فروع العلم في درجة
نسقيتها وتقنينها المنطقي، في مقابل العلوم الإنسانية التي أوجَزْنا منطق مشكلتها في
«افتقاد المشروع العلمي للإحكام والتقنين المنطقي».
وقبل تحديد كيفية تحقيق هذا الإحكام المفتقد، لا بد قبلًا من طرح السؤال: لماذا هذا
الافتقاد؟ وسبيلنا الآن إلى الإجابة عنه.
•••
تجرى العلوم الطبيعية في طرق حَدَّدَتْ معالِمَها ممارساتٌ عريقة وراسخة مُتَّفَق
عليها،
فتسير عبر تخوم واضحة، وتصاغ قوانينها وفروضها ونظرياتها في حدود منطقية مقننة بدقة.
فقُدِّرَ لها — كما أوضحْنا — أن يتوالى تَقَدُّمها وتتجاوز سرعة تقدُّم العلوم الإنسانية.
وكان ذلك لعوامل متعددة أفْضَتْ إلى نسقيتها التامة، وهي عوامل تتبلور أخيرًا في بساطة
وحياد موضوعها، ومن ثَمَّ إمكانية انفصالها واستقلالها عن مختلف مجالات النشاط الإنساني
الحضارية والروحية، فكان انتصارها على منافِساتها من بني ثقافية أخرى أمرًا مُيَسَّرًا،
وتمكَّنَتْ من فَرْض ذاتها أو نسقها المحكوم بمنطقها «حكم ذاتي» يبلغ منتهى الشرعية
والدستورية بما أوضحناه آنفًا من منطق «تصحيح ذاتي». وأصبحَت العلوم الطبيعية كيانًا
مستقلًا تمامًا فلا تبعية، ولا وصاية، ولا اقتحام لقوى دخيلة على بناء العلم. إنه تحرُّر
العلوم الطبيعية من الأوضاع أو المؤثرات الخارجية الذي بات جليًّا في عصرنا هذا. أما
العلوم
الإنسانية فيعود افتقارها لدرجة أعلى من التقنين المنطقي الدقيق إلى أنها لا تستطيع مِثْل
هذا التحرر التام من مؤثرات خارجية دخيلة على العلم.
وابتغاءً للدقة في هذه القضية المهمة لا بد وأن تميز بين نوعين من المؤثرات. النوع
الأول
هو المحددات الحضارية والثقافية التي تعبر عن مستوى وعْي العصر، أو ما وصَلَتْ إليه المعرفة
الإنسانية في مرحلة معينة.
والنوع الثاني هو المؤثرات التي تُعَبِّر عن تحيز حضاري أو ثقافي أو اجتماعي. فالنوع
الأول شأنه شأن القصور العلمي في مجال جمع المعلومات، وتصنيفها وإجراء أنواع من الحسابات
عليها، فهو مشروط مثلها بمرحلة معَيَّنَة من تطور العقل البشري، ويتم التغلب عليها خلال
الزمن بتراكم الجهد الإنساني. أما النوع الثاني فلا يؤدي اكتشافه إلى التخلص منه؛ لأنه
يعبر
عن مصالح.
١٢ مصالح أمة، أو نظام، أو طبقة، أو مصالح أقل عمومية من ذلك. قوة وفاعلية النوع
الأول من المؤثرات — أي مستوى الوعي المعرفي في العصر — واضحة تمامًا على منطق العلم
ومنهجه، وأيضًا سوسيولوجيته. وقد ازدادت وضوحًا في ضوء ثورتي الكوانتم والنسبية. إن هذا
النوع من المؤثرات يحدد الأطر والآفاق المستهدَفة في العلوم الطبيعية، وأيضًا الإنسانية،
ويذهب جوزيف مارجوليس «إلى أن هذا النوع من المؤثرات يبرر القول بأن العلوم الفيزيائية
ذاتها هي مشاريع أو مغامرات. فإذا كانت تفترض على وجه الدقة وجود عالم فيزيقي مستقل،
فإنها
أولًا وأخيرًا تقبع داخل تساؤلات باحثين من البشر المثقلين بالإثقالات الثقافية».
١٣ ويقول مارجوليس إنه في هذا يأخذ برأي توماس كون في «بنية الثورات العلمية»
بأننا يمكن أن نتساءل عن عالَم مستقِلٍّ، ولكننا لا يمكن أن نقيم طبيعته بوصفه مستقِلًّا
عن
تساؤلاتنا.
١٤ والواقع أن هذا التصور ليس قصرًا على كون ومارجوليس أو سواهما، بل هو عامٌّ في
الإبستمولوجيا العلمية المعاصِرة، حتى يذهب جاستون باشلار إلى أن الذات في العلم ذات
تاريخية. فتقدم العلم المتتالي الذي عَرَضْنا له في الفصل الأول من الكتاب، وأوضحنا كيف
أنه
بصميم طبيعيته غير مُنْتَهٍ، ولن يتوقف أبدًا، ذلك يعني —
كما يقول فيرنر هيزنبرج — «أن بناء أو نظريات العلم في أي مرحلة ليست سوى حلقة من السلسلة
اللامتناهية لحلقات الحوار بين الإنسان والطبيعة، ولم يعد من الممكن أن نتحدث ببساطة
عن
طبيعةٍ بحد ذاتها. علوم الطبيعة إذن تفترض سلفًا وجود الإنسان، وعلينا كما يقول بور
Bohr أن نأخذ في الحسبان أننا لسنا المشاهدِين، بل الممثلِين
في مسرح الحياة.»
١٥ وإذا كان عالم نيوتن تلك الآلة الميكانيكية التي تسير وفقًا لقوانينها الذاتية،
وبفعل عللها الداخلية في زمان ومكان مُطْلَقَيْن بإزاء أي مراقب في أي وضعِ كان، وبأي
سرعة
كانت، وكل ما عليه فقط أن يراقبه من وراء ستار إذا كان هذا هو عالَم نيوتن، فإن عالَم
النسبية ليس هكذا البتة، ولا بد لنا من خَلْق أو على الأقل تحديد منظور وسرعة المراقبة.
ولا
تتأتى الملاحظة أصلًا في العالم الكمومي — عالم الكوانتم — بغير فَرْض يفترضه العقل،
ويستنبط منه وقائع الملاحظة.
١٦ وهكذا أصْبَحَت فصول المسرحية العلمية تنبثق مِنْ قَلْب الواقع الإنساني بحدوده
المعرفية، وأصبح العلماء — كما أشار بور — ليسوا فقط مراقبين، أو مشاهدين، بل هم أيضًا
الممثلون والمُخْرِجون والمؤلفون؛ لذلك حَقَّ قول مارجوليس بأن العلوم الفيزيائية مغامَرة.
وطبعًا العلوم الإنسانية هي الأخرى مغامَرات أو مشاريع بهذا المعنى الذي ينطلق مِنْ قَلْب
الحدود المعرفية للعصر المعين. فمن الواضح أن العالم التاريخي الاجتماعي للإنسان لا يمكن
تأويله، أو مجرد فهْمه فهمًا معقولًا بوصفه منفصلًا — ولو من حيث المبدأ — عن الأهليات
والإمكانات الاستقصائية المتاحة في عصرٍ مُعَيَّن،
١٧ أو ما أسميناه: مستوى الوعي المعرفي للعصر. إِذَنْ فهذا نوع من المؤثرات، ومن
أي وجهة للنظر، مشتَرِك بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية على السواء، والأهم أنه
نوع
لا خطورة منه، بل إنه يحمل البُعد المقابِل في جدلية التقدم العلمي المستمر.
ولكن الخطورة في النوع الثاني من المؤثرات المتمثل في ضغوط عناصر أخرى للبناء الحضاري
تُسْفِر عن تحيزات للمصالح ليس من بينها مَصلحة البحث العلمي النازع للوصف والتفسير،
أو
الفهم والسيطرة. وهذا النوع هو فقط المقصود حين القول باطراد تقدُّم العلوم الطبيعية
لتحرُّرها منه. والآن في عصرنا هذا أصبح هذا النوع من المؤثرات الخارجية — التحيزات لمصالح
— مختصًّا فقط بالعلوم الإنسانية مسببًا مشكلتها وافتقادها لتقنين منطقي. ولسوف يعترض
جوزيف
مارجوليس على أن العلوم الإنسانية فقط تختص بهذه المؤثرات، فهو يتفانى ويتعمق في عرْض
طويل
مُسْهَب، وبِلُغة شديدة الحرص على الإغراب والتعقيد، ليثبت قضية محورية، مؤداها أن العلم
نشاط إنساني. ومن ثَمَّ فكل العلوم — ومهما كان موضوعها فيزيقيًّا أو حيويًّا — إنما
هي
علوم إنسانية من حيث هي إنجاز فعلي للإنسان. وهي جميعًا لا يمكن تعيين خصائصها تعيينًا
دقيقًا بمعزل عن ملامح الثقافة الإنسانية، والخبرة، والاهتمامات الإنسانية.
١٨ وكل العلوم — أو بتعبير مارجوليس كل شعاب العلم — في هذا سواء، فلا تغدو
الاهتمامات والاحتياجات وسائر العوامل الخارجية في البناء الثقافي والحضاري — مختصة بالعلوم
الإنسانية دون الطبيعية، وأبسط ما يُقال في الرد على مارجوليس هو أننا الآن معنيون بمنطق
العلم لا سوسيولوجيته؛ لذلك لا نبحث في العلوم من حيث هي «إنجاز»، بل من حيث هي بناء
منطقي
ذو محتوًى معرفِيٍّ، ومضمون إخباري نرومه أكثر كفاءة. وهذه المؤثرات والتحيزات تنطوي
على
عناصر تصلُّب تُشِلُّ أطراف المحتوى المعرِفِيِّ للعلوم الإنسانية دونًا عن
الطبيعية.
إن المحتوى المعرفي للعلوم الطبيعية ينْصَبُّ على ظواهر محايدة لخلوها من الوعي والإرادة،
فيمكن للإطار الثقافي والسياق الحضاري — المؤثرات الخارجية أو الأوضاع الخارجية للعلم
— أن
تَرْفَع يدها عنه تمامًا. وحين رَفَضَ الإطار الثقافي هذا — كما حَدَثَ حين فرضية مركزية
الشمس لكوبرنيقوس أو فرضية التطور لدارون — انهزم السياق الثقافي تحت وطأة القوة المنطقية
للنظرية العلمية. ودرجة التقدم التي تحرزها العلوم الطبيعية الآن، جعلتها تبلغ من العمر
رَشَدًا وتنال الاستقلالية الكاملة، وأَجْبَرَت كل حيثيات السياق الثقافي أن تَرْفَع
اليد
تمامًا عن صميم محتواها المعرفي، وأصبح الآن لا يجرؤ على التدخل في صَوْغ فروضها أو عناصر
نظرياتها، ويقتصر على التفاعل معها مع حصائلها التطبيقية أو تقانتها من الخارج، لتغدو
الأوضاع «الخارجية» للعلم تتفاعل معه فقط من «الخارج» فلا يحدث أي اضطراب أو خلط
منطقي.
أما بالنسبة للعلوم الإنسانية فالأمر يختلف. وافتقادها للإحكام المنطقي راجع أولًا
وقبل
كل شيء إلى تشابك الإطار الثقافي — أي الأوضاع الخارجية — مع صميم المحتوى المعرفي للعلوم
الإنسانية، حتى قيل: «إن الأوضاع الخارجية هي التي أمْلَتْ على البحث في هذه العلوم اختيار
القنوات التي يمكن أن تُجْرَى فيها التصورات عن طريق التحكم في الإنسان وللمجتمع، وتتألف
هذه الأوضاع الخارجية من القوى السياسية والاجتماعية إلى جانب البدائل الثقافية الأخرى
كالأديان والتقاليد والعرف والفلسفات «وكلها معًا تشكل الأيديولوجيات» وبيانات رجال السياسة
والإصلاح. فهذه أو تلك تنطوي على تصوُّر مُعَيَّن للإنسان والمجتمع، مَثَل أعلى تلتزم
به
مصالحها ويطابق آراءها».
١٩ وهذه البدائل التي تحظى بالرعاية والتوقير من جماهير الناس وأصحاب السلطان على
السواء، جعلت البحوث في العلوم الإنسانية «تتخبط في شعاب متفرقة، وتتخفى فيها شراك
الأيديولوجيات».
٢٠
إن المنافسة القوية التي تَلْقَاها العلوم الإنسانية في صلب حلبتها، وفي صميم قضاياها
وتصوُّراتها للإنسان والمجتمع على الإجمال في منطوق محتواها المعرِفِيِّ داخل بنية العلم،
من قِبَل بدائل ثقافية أخرى تَقَع في نطاق الظروف الخارجية للعلم هو ما نَجَمَ عنه افتقادها
للإحكام المنطقي.
ومن الجهة الأخرى يتضاعف هذا الافتقاد، حين نجد حدود العلوم الإنسانية — وطبعًا دونًا
عن
العلوم الطبيعية — إنما هي حدود مستباحة أيضًا من قبل الحس
المشترك
Common Sense، أو الفهم الشائع؛ أي الموقف العادي للإنسان العادي. «يؤكد هذا ما
نراه في حياتنا اليومية. فكلنا أقررنا بمشروعية العلم الاجتماعي أم أنكرناه، نُصْدِر
أحكامنا على ما يواجهنا من مواقف اجتماعية، بل نتطرف في أحكامنا إلى الحد الذي يجعلها
مصبوبة فيما يسمى بالقوالب أو الأنماط الجامدة، فنقسم البشر إلى أنماط أو أصناف تيسيرًا
للحكم عليهم، وتعجيلًا باتخاذ قرارات سريعة بشأنهم؛ لأن ضغوط الحياة لا تسمح لنا بإهدار
الوقت والجهد في الدراسة المتأنية، وحسبُنا ما يتاح لنا مِنْ تَلَقٍّ مستَتِر نتلقاه
من
وسائل التنشئة والتربية والإعلام، فضلًا عَمَّا تُمْلِيه علينا مصالحنا المباشِرة، التي
غالبًا ما تتخفى في ثوب أنيق نسيجه المبادئ، والمثل العليا، والقيم الروحية.»
٢١
هكذا كانت مشاريع العلوم الإنسانية — أو بالأدق حدودها المنطقية — فريسةً لتأثيرات
عوامل
ثقافية تتراوح بين قطبين أو قوسين، هما الأيديولوجية الحضارية المعينة كحدٍ أقصى، والحس
المشترك كحدٍ أدنى، وعوامل أخرى تتدرج بين هذا وذاك. جميعها تقع خارج البنية المنطقية
للعلم، ولها ثقلها الوبيل على المحتوى المعرفي داخله، فكان حصاد هذا أن قصرت الأساليب
والطرائق عند كل فريق «عن استيعاب جوانب الظاهرة الإنسانية والاجتماعية»، فهي إما تميل
إلى
جانب من آخر، وإما لا تقبل التطبيق إلا عند مَنْ سَلَّم أولًا بالافتراضات الفلسفية،
والالتزامات الأيديولوجية التي صادر بها أصحابها منذ البداية. بيد أننا نجد من وراء هذه
الفروق الفلسفية والأيديولوجية ضروبًا من الاتفاق المعلَن أو المضمَر، وهو ذلك الاتفاق
حول
مصادَرات أو مسَلَّمَات العلم، مثل افتراض إمكان الفهم والتعميم.
٢٢ هذا الاتفاق المبدئي هو الذي أقام المرحلة الوصفية، وذلك التنازع هو الذي يعوق
النجاح المنشود للمرحلة التفسيرية. فذلك التنازع — وبسبب تدخل العوامل الخارجية وضغوطها
—
على وجه الدقة العامل الذي تسبب فيما أسلَفْنا الإشارة إليه من تناقُض التفسيرات الإنسانية،
مقابل تكامُل التفسيرات الطبيعية.
إن تكامل التفسيرات الطبيعية يتمخض فعليًّا وإجرائيًّا في التساوق والتآزر الجميل،
والخصيب المثمر، بين اتجاهات النظرية وممارسات التجريب، مثلًا بين الفيزياء النظرية أو
البحتة وبين الفيزياء التجريبية أو المعملية. الأولى تَرْسُم للثانية خُطاها وتُحَدِّد
أُطُرَها. والثانية تَحْمِل اختبارات الأولى ومِحَكَّاتها وشواهدها، وأيضًا مواطن كذبها،
بل
أحيانًا ضرورة تعديلها، أو حتى الثورة عليها، وسرعان ما يستجيب منَظِّرُو الفيزياء أنفسهم،
كما حَدَثَ مثلًا حين أثبتت تجربة مكلسون مورلي كذب «الأثير»، وكان ضروريًّا للفيزياء
النظرية الكلاسيكية. وعبر استجابات نظرية عديدة لنتائج هذه التجربة — كمحاولات فيتزجيرالد
ولورنتز وسواهما — أتَتْنَا في النهاية الاستجابة العظمى، ألا وهي نظرية النسبية، هكذا
يتساوق التجريب والتنظير في الفيزياء، وفي العلوم الطبيعية عمومًا، فتتآزر الجهود، وتتسارع
معدلات التقدم، ويهتف باشلار: «أي تفاهم ضمنيٍّ يسود الحاضرة الطبيعيانية.»
٢٣
وبالمثل تمامًا، نجد تناقض التفسيرات الإنسانية يرتد فعليًّا وإجرائيًّا في الانفلاق
الذي
تشهده العلوم الإنسانية بين اتجاهات التنظير واتجاهات التجريب، ما يسهم في تباطؤ معدلات
التقدم، والجدير بالذكر ها هنا أنه في الثلث الأول من القرن العشرين ساد علم الاجتماع،
بتأثير من المدرسة الأمريكية، خصوصًا مدرسة شيكاغو، انكبابٌ محموم على التجريب، وعزوفٌ
تامٌّ عن التنظير؛ لأنه يَذْكُر الاجتماعيِّين بالمرحلة قبل العلمية حين كانت المباحث
الاجتماعية مشاكل فلسفية. طبعًا سرعان ما أثبتت التجريبية المحضة عقمها وقصورها، وربما
كانت
سيادة البنيوية في المرحلة التالية من مسار علم الاجتماع في القرن العشرين، بمثابة رَدِّ
فِعْل عكسي لهذا. وسادت البنيوية أمريكا وأوروبا، وارتفع لواؤها في البحوث العربية أيضًا،
وكما هو معروف تعتمد البنيوية التجريد غير الرياضي إلى أقصى حد ممكن في بحثها الدءوب
عن
الهيكل الثابت. والمُحَصِّلة لكل هذا أنْ تَزَايَد في الآونة الأخيرة إحساس الباحثين
بالبَوْن الذي أَخَذَ يتَّسِع بين التنظير والتجريب، بحيث أصبحنا «نرى العلوم الاجتماعية
صِنْفَيْن في منهجياتها إما تجريبًا مُفْرِطًا، وإما تلاصقًا مع الواقع، أو بالأحرى فإن
الاتجاهَيْن يمثلان قطبَيْن يتمركز حَوْلَهُما عديد البحوث حسب الاهتمامات، والأغراض
المتَّبَعة، والمدارس الفكرية. ومما لا شك فيه أن البحوث الاجتماعية تنفلق حسب هذين
التوجيهين الكبيرين: تَوَجُّه نحو مزيد من البحوث الميدانية، وتَوَجُّه نحو تكثيف البحوث
البنيوية».
٢٤
وبالطبع الحال عينه في علم الاقتصاد، وأيضًا في علم النفس؛ حيث يبز السلوكيون جميع
باحثي
العلوم الإنسانية في انكبابهم على التجريب وعزوفهم التام عن التنظيرات، بل حتى عن مناقشة
النظرية السلوكية ذاتها! ربما كرد فعل عكسي لما كان من إفراط التحليليِّين المضجر بشأن
الصروح النظرية الشاهقة والسحيقة التي ابتدعها خيال فرويد، وأصر على إقحامها في دهاليز
ودياجير مفترضة للنفس الإنسانية. «مرة أخرى نشير إلى علم النفس المعرفي كوسط ذهبي يحمل
إمكانيةً تقدمية بتدارك هذا الانفلاق.»
إن افتقاد التآزر المنطقي السليم بين اتجاهات التنظير واتجاهات التجريب لهو — في آن
واحد
— علة ومعلول لاضطراب الحدود المنطقية للعلوم الإنسانية، وهو في النهاية تَمَثُّل من
تمثلات
مَنْطق مُشْكِلَتها، وحلها ينطوي على تدارُك لهذا؛ لأنه شَرْط ضروري لمعدلات التقدم
المنشود؛ ولأنه لا تفسير علميًّا بغير تنظير مُلْتَحِم بالتجريب. فغنيٌّ عن الذكر أنه
لا
عِلْم إخباريًّا أصلًا بغير التجريب. أما النظرية فهي البوصلة الموجِّهة والعقل الهادي
الضروري لِلَمِّ شتات المباحث الإمبريقية، لتُوَجِّهَها وتَرْسم إطارها، بل وترسم خُطَّتَها
أصلًا، فتحدد الوقائع المطلوب ملاحظتها، وبغير النظرية الكفء تغدو النتائج الإمبريقية
هشيمًا يذروه الرياح، لا يعني شيئًا، ولا يُفْضِي إلى شيء، خصوصًا إذا يَمَّمْنا الأبصار
صَوْب الهدف التفسيري بنجاح ملموس. إن النظرية الكفء بمثابة التتويج النهائي للمشروع
العلمي، وبتعبير مجازي يمكن القول إن البحوث التجريبية والإمبريقية هي جسد العلم، والنظرية
هي روحه، وكفاءة الممارسات والإنجازات العلمية تنطوي على كفاءة التوازن والتآزر بينهما،
وهذا يعتمد على مِحَكَّات علمية قوية — سنحاول طرحها — تحدد تُخُوم الطريق في مُتَّصِل
تَقَدُّمِيٍّ صاعد صَوْب الهدف العلمي، وهو سيطرة العقل على الظاهرة موضوع البحث، ودائمًا
نهدف إلى أن يكون هذا أعلى من المطروح في وقتنا، ليطَّرد التقدم العلمي.
الخلاصة أن تناقض التفسيرات في العلوم الإنسانية، ومعها قصور الممارسات سواء تطرفت
في
التنظير، أو أَفْرَطَتْ في التجريب ترتد إلى تأثيرات العوامل الخارجية المذكورة التي
تجعل
المشروع العلمي ليس نقيًّا خالصًا، ليس علميًّا تمامًا، بل يمتزج ويتشابك مع أمور كثيرة
غير
علمية. والأرض التي يتأسس عليها المشروع العلمي الإنساني لم تُمَهَّد بما يكفي؛ إذ لم
تُحَدَّد تخومها بدقة منطقية.
إن مهمة العلوم الإنسانية هي دراسة كل نشاط إنساني في كل مجال يزاوِلُه الفرد أو
الجماعة
في الفكر والعمل، دراسة إخبارية؛ أي تهدف إلى الوصف والتفسير، ومِنْ ثَمَّ التنبؤ والتحكم،
تمامًا كما تهدف العلوم الطبيعية. ومع هذا فكما قيل بحق: «لا ريب أنها تختلف عن العلوم
الطبيعية؛ لأن موضوعَهَا العام هو «الإنسان في المجتمع إزاء العالم» فهي بذلك لا تستطيع
أن
تعتصم بعزلتها بحجة التخصص العلمي الدقيق، ولا بد أن تجد نفسها منخَرِطَةً في صميم الواقع
الإنساني الاجتماعي، غير أن هذا يُوَجِّهه الالتزام العلمي بقَدْرِ ما كان يُسَيِّره
نفوذ
عناصر أخرى خارج العلم، وبذلك جاءت أنساقها مفتوحة الطرفين تَدْلِف من قمتها الفلسفات
أو
الأيديولوجيا أو التقويمات، وتتسرب من قاعدتها التعميمات التجريبية دون أن تؤسس رصيدًا
مُتَّفَقًا عليه من الفروض المتحققة.»
٢٥
ومِنْ أوضح هذه التمثيلات على هذا هو النظرية في علم الاجتماع الذي يتميز بطبيعة خاصة،
فهو يتعامل مع النسق الاجتماعي — نسق الأوضاع الإنسانية — حيث تتفاعل شتى الجوانب ككُلٍّ
متكامل، وكل عِلْم من العلوم الإنسانية ينفرد ببحث جانِبٍ معَيَّن من جوانب هذا النسق
أو
النشاط. إن علم الاجتماع أكثر العلوم الإنسانية عموميَّةً، شأن الفيزياء البحتة في علوم
الطبيعة الجامدة والحية، وفي نسق العلم ككل. إنه — أي الاجتماع — الإطار المنطقي الضام
لشتى
مباحث العلوم الإنسانية، ونظرًا لاتساع المدى المنطقي لعلم الاجتماع كانت النظرية
الاجتماعية أكثر من سواها من نظريات فروع العلوم الإنسانية نهبًا مستباحًا للمؤثرات
الثقافية الخارجية، بحيث أصبحت في حقيقتها خليطًا يجمع بين الأيديولوجيا وبين الفلسفة
والقيم الحضارية، بل والأهداف المعيارية وتصورات الحياة اليومية، وأحكام الحس المشتَرِك،
وبِغَيْر أن يَصُبَّ هذا في إطارٍ أو قالب منطقيٍّ مُقَنَّن؛ لذلك لا نجد نظرية اجتماعية
علمية بالمعنى الدقيق، وقد أوضحنا هذا حين توقَّفْنَا لمناقشة النظرية الوظيفية، وأَشَرْنا
إلى سليلاتها، وحاولت السوسيومترية تدارُك هذا بالإفراط في التجريب، أو معالَجة الخطأ
بالخطأ المضادِّ.
النظريات الاجتماعية المطروحة لا تتحقق فيها السمة العلمية الدقيقة الفعالة؛ لأنها
ليست
نظريات علمية بالمعنى المنطقي. النظرية العلمية ينبغي أن تُشَكِّل نسقًا محدَّدًا يقوم
على
مجموعة من المفاهيم والقضايا التي تربط بين المفاهيم، بحيث تتخذ النظريةُ دورًا
استنباطيًّا، شكلًا يَعْتَمِد طائفةً من التعريفات والمصادرات المُفْضِية إلى فروض جزئية
حسب قواعد منطقية تُفْضِي إلى تعميمات، بشرط أن تكون التعميمات الناتجة قابِلَةً للاختبار
التجريبي، أو التحقق الواقعي. أما النظرية أو النظريات الاجتماعية في وضْعها الراهن فتَفُوق
الجميع من حيث كَوْنها نسقًا مفتوحًا من قِمَّتِه وقاعدته على السواء، من قمتها تتسلل
التقويمات، ومن قاعدتها تتسلل التعميمات الإمبريقية، خصوصًا حين الإفراط في التجريب
كالسويسوميترية. وهذا لأن الأيديولوجيا تخص النظرية الاجتماعية بالذات لاتساع مداها المنطقي
بتوجهاتها أو بتشويهاتها إن لم تستأثر بها، وكانت السوسيوميترية ردَّ فعل عكسيًّا لهذا،
ومعها بالطبع الاتجاه السوسيولوجي الإمبيريقي الذي ساد في أمريكا ردحًا من الزمن.
والحق أن كارل ماركس — والكثيرون يرَوْنه المؤسِّسَ الحقيقي لعلم الاجتماع، علم الاجتماع
الديناميكي مُقَابِل علم الاجتماع الوضعي السكوني الزائف — هو أول من لَفَتَ الأنظار
إلى
«التشويه الأيديولوجي» عمومًا ولعلم الاجتماع خصوصًا، موضحًا أن الأيديولوجيا هي نقيضة
العلم، ويرى الفيلسوف الفرنسي المعاصر بول
ريكور
Paul Ricoeur أن ماركس استعار «التشويه الأيديولوجي» من نابليون. «فالأيديولوجيا»
مصطلح نَبَتَ ونما في فرنسا، مع دي تراسي الذي استحدثه عام ١٧٩٧م ليبشِّر بأسس نظام سياسي
اجتماعي جديد يقوم على العلم بدلًا من كل تُرَّهات الماضي، ثم خرج المصطلح عن ارتباطه
المزعوم والزائف بالعلم، على يد كوندياك. و«الأيديولوجيون» أصلًا هم الذين ورثوا في فرنسا
فِكْر كوندياك، واعتبروا الأيديولوجيا دراسة تحليلية للأفكار التي يُكَوِّنها العقل البشري
عن الأشياء، غير أن نابليون اتَّهم هؤلاء الأيديولوجيين المسالمين اتهامات كثيرة، واعتبرهم
خطرًا على النظام الاجتماعي، وهو بذلك أول من أعطى الأيديولوجيا دلالة سلبية قدحية. فيقول
بول ريكور: «لا شك أنه خَلْف كل هجوم أو رفض للأيديولوجيا يختفي نابليون معين.»
٢٦
والواقع أننا لا نهاجم الأيديولوجيا، ولا نعطيها دلالة سلبية قدحية، ولا دلالة إيجابية
تقريظية، فإذا كانت الأيديولوجيا مجموعة الأفكار المبدئية العامة لكل جماعة مُعَيَّنة
بشأن
أصولها وأهدافها ومعاييرها ومصالحها الحضارية، فلا شك أن الأيديولوجيا إِذَنْ مُقَوِّم
جوهري للمجتمع أو الجماعة، ولا يتأتى وجود القومية الواعي دون أيديولوجيا، بل يمكن أن
نسير
مع الإنثربولوجيين ونقول إن أي جماعة — مهما كانت بدائية — لها أيديولوجيا تقدمية، إن
الأيديولوجيا تقوم بأدوار حضارية مهمة، ولكن ليس من بينها الدور المنوط بمنطق العلم،
وحين
تقتحم الأيديولوجيا مسار البحث العلمي، فلا بد أن ينتابه اعتوار يحول بينه وبين تحقيقٍ
أَدَقَّ وأفْضل لهدف العلم الإخباري، ووَصْف وتفسير ما هو كائن.
ونعود إلى ماركس — أَوَّل مَنْ رفع لواء التشويه الأيديولوجي — وسواء أكان نابليون
يختفي
فيه كما يرى ريكور أو لا يختفي، فإن الذي يهمنا الآن أن مبدأ فلسفة ماركس «المادية» يعني
أن
الحياة الواقعية للإنسان تَسْبق مبدئيًّا تمثلاته الذهنية، قد انعكس هذا في تناوُل ماركس
لمسألة «التشويه الأيديولوجي»، بمعنى أنه بدأ بالتشويه الأيديولوجي للواقع، ثم ارتفع
إلى
التشويه الأيديولوجي للعلم. ففي عام ١٨٤٤ أخرج ماركس الشاب كتابه الشهير «الأيديولوجيا
الألمانية» حيث استفاد من أبحاث لودفيج فيورباخ في كتابه «ماهية الديانة المسيحية» ليوضح
كيف تُشَوِّه الأيديولوجيا الواقع بأن تَعْكِسه في وَعْي زائف. والحق أن مفهوم ماركس
نفسه
آنذاك عن الأيديولوجيا هو الذي كان شائعًا. فقد كانت الأيديولوجيا عند ماركس في تلك المرحلة
المبكرة تقوم على أن «الخيال الإنساني هو مجرد انعكاس لحياة الإنسان الواقعية ولممارساته،
ذلك الانعكاس هو الأيديولوجيا بالتحديد. وهكذا تصبح الأيديولوجيا هي العملية العاملة
التي
بواسطتها تعمل التمثلات الخيالية للإنسان على تشويه حياته الواقعية وممارساته الفعلية،
ويمكن أن نلاحظ مباشرة كيف ترتبط المهمة الثورية بنظرية الأيديولوجيا عند ماركس، فإذا
كانت
الأيديولوجيا مجرد صورة مُشَوَّهة، أو قَلْب، أو تزييف للحياة الواقعية، فإن المهمة الثورية
ستعمل على إعادة الأمور إلى نصابها».
٢٧ هكذا بدا التشويه الأيديولوجي مُنْصَبًّا على الواقع، وداخل هذه المرحلة
المبكرة من الفكر الماركسي «مرحلة الأيديولوجيا الألمانية» لم يتم بعد معارضة الأيديولوجيا
مع العلم، ما دام هذا العلم المزعوم لن يظهر إلا مع كتاب «رأس المال»،
٢٨ ومن ثَمَّ لم يُوَجِّه ماركس الأنظار إلى التعارض بين العلم والأيديولوجيا إلا
في مرحلة متأخرة مع مراحل تطوره الفكري، وهي المرحلة التي ظهر فيها «رأس المال».
ها هنا لفت ماركس الانتباه إلى أن مصالح الأيديولوجيا البرجوازية تشوه علم الاجتماع
الوضعي الناشئ حديثًا، والواقع أن أوجست كونت نفسه اعترف بأنه أَسَّس هذا العلم مدفوعًا
بتمزق المجتمع بين صراعات التقدميِّين والمحافظِين، ليغدو هذا العلم ليس فقط ضرورةً معرفية،
بل أيضًا مَطْلبًا أيديولوجيًّا؛ إذ إننا ندرس لكي نَضْبط، وقوانين المجتمع هي الوسيلة
الوحيدة لخلق التوافق والانسجام بين قُوَى التقدم الثائرة وبين النظام الاجتماعي، فنتمكن
من
الحفاظ أو الإبقاء على الوضع القائم مُحَقِّقين مصالح البرجوازية، لعل ماركس إذن مُصِيبٌ
في
هذا، ومصيب أيضًا في تأكيده على أن عِلْم الاقتصاد البرجوازي — هو الآخر — يحوي جوانب
علمية
وجوانب أخرى أيديولوجية، وبطبيعة الحال «استبعد ماركس العلوم الطبيعية من الأيديولوجيا
أو
من احتوائها على تشويه أيديولوجي، واعتبرها مثالَ الدقة والضبط والموضوعية (تبعًا لما
أوضحناه من مادية تعني أسبقية الحياة الواقعية على التمثلات الذهنية) رأى ماركس أن الإنسان
لا يستطيع أن يحل في فِكْره التناقضات التي لا يستطيع حَلَّها في الواقع، ومِنْ ثَمَّ
فإن
دور العلم هو كشف التشويه الأيديولوجي.»
أما القضاء عليه فمرهون بتغيير الواقع.
٢٩ والمشكلة أن ماركس بعد أن قطع كل هذا الشوط عاد ليعالِج الخطأ بالخطأ المضاد،
فكل ما فعله هو تأسيس علم اجتماع — وأيضًا اقتصاد — ليس متحررًا من التشويه الأيديولوجي،
بل
بالعكس أكثر انصياعًا للمصالح الأيديولوجية، لكن البروليتارية. وربما كانت حُجَّتُه أو
ذريعته في هذا أنه يهدف إلى مرحلة علمية تكون نهاية الأيديولوجيا بظهور المجتمع اللاطبقي
«أو بتحقيق المصالح البروليتارية في دوران منطقي واضح سيؤدي إلى نتائج عكسية كما سنوضح
الآن.»
إذ يمكن القول إن لينين
V. I. Lenin (١٨٧٠–١٩٢٤) عمل على
تدارُك هذا بأن أعطى الأيديولوجيا مفهومًا يختلف عن مفهوم ماركس لها، فبينما أعطاها ماركس
معنًى ودورًا معرفيًّا، فإن لينين اعتبر الأيديولوجيا هي مجموع أشكال المعرفة والنظريات
التي تُنْتِجها طبقة معينة للتعبير عن مصالحها، ومن ثم يغدو ثَمَّت أيديولوجيا بروليتارية،
كما أن ثَمَّت أيديولوجيا برجوازية، وبذلك ارتبطت الأيديولوجيا بالطبقة بصرف النظر عن
تقييمها المعرفي، وأصبحت تعيينًا للوعي الطبقي، وبعد أن كانت الأيديولوجيا نقيضة العلم
فقدت
هذا المعنى الماركسي النقدي، وأصبح من الممكن مع لينين التحدث عن أيديولوجيا علمية، وأخرى
غير علمية، وطبعًا الأيديولوجيا «العلمية» عند لينين هي البروليتارية! فأصبح العلم فريسة
للأيديولوجيا أكثر من أي وقتٍ مضى — مهما كان برجوازيًّا — واستأثرت الأيديولوجيا اليسارية
بتشويهها علم الاقتصاد بالذات لتتسرب إلى خلاياه، وهو من أوثق العلوم الإنسانية ارتباطًا
بالرياضات، والنمذجة الرياضية، والإحصاء الرياضي خصوصًا في علم الاقتصاد التحليلي، وعلم
الاقتصاد الرياضي، ولم تَنْجُ من هذا الفيزياء ذاتها، هكذا لَفَتَ ماركس الانتباهَ لمسألة
التشويه الأيديولوجي، ولكن بدلًا من أن تعمل الماركسية — أي الاشتراكية العلمية — مِنْ
بَعْده على تلافي هذا التشويه راحت تُرَسِّخه، وتستغله لتحقيق مصالحها لا مصالح البحث
العلمي، وسيظل تَغَنِّي الماركسيين الزاعق بالعلم البرجوازي والعلم البروليتاري «وأيضًا
الفن البرجوازي والفن البروليتاري» من أوضح الأمثلة على قوى التشويه الأيديولوجي، وحين
تتعاظم حتى تصبح تبريرًا وتسويغًا للمشروع العلمي ذاته، أو لممارسة النشاط العلمي أصلًا،
أو
بتعبير بول ريكور بعد أن كانت الأيديولوجية تزييفية أصبحت تبريرية، وقد لامس ماركس نَفْسُه
هذا المعنى الثاني للأيديولوجيا؛ حيث أعلن أن أيديولوجية الطبقة السائدة تتحول دائمًا
إلى
أفكار سائدة بفعل سَطْوَتِها وقُدْرَتها على تقديم ذاتها كأفكار كونية شمولية
٣٠ فيسهل عليها التسلل إلى معاقل العلم.
ومع هذا استمر الفكر الماركسي في إغفاله خطورة التشويه الأيديولوجي للعلم وفي استغلاله.
وأَكَّد جورج لوكاتش
G. Lukace (١٨٨٥–١٩٧١) أن
الأيديولوجيا هي الوعي الطبقي، ومن ثَمَّ لكل طبقة أيديولوجيَّتُها، كما سبق أن أعلن
لينين،
بينما رفض أنطونيو جرامشي
A. Gramscis (١٨٩١–١٩٣٧)
الانفصال الأيديولوجي بين طبقات المجتمع، وجعل الأيديولوجيا هي جملة الأفكار التي تحرك
مجتمعًا بأسْره وليس طبقة معينة، واستعان في هذا بفكرة الهيمنة أو السيطرة التي أشار
إليها
ماركس بأن الطبقة السائدة تفرض أيديولوجيتها، «وأيضًا الدولة السائدة سياسيًّا واقتصاديًّا
تفرض أيديولوجيتها على المجتمع الدولي العالمي، أو على قطاع منه يمتد إليه نفوذها»، ولكن
لأن هذه تُوهِن من مقولة الصراع الطبقي، ولعناصر أخرى في فلسفة جرامشي — التي تعد من
أَسْبق
المعالم التجديدية للماركسية — اتُّهِم جرامشي بتهمة المراجعية أي إعلاء الولاء للماركسية
للتسلل إلى صفوف الطبقة العاملة من أجل إشاعة التشكيك في المبادئ الماركسية والعمل على
تقويضها.
٣١ وفي عام ١٩٢٦ اعْتُقِل موسوليني جرامشي، وظل في السجن حيث كَتَبَ مؤلفاته
الضخمة حتى وفاته في ريعان العمر شهيدًا من شهداء الإخلاص الحقيقي للماركسية.
ولكن الماركسية أو الاشتراكية العلمية عادت لتعين من جديد تضاد العلم والأيديولوجيا
وخطورتها عليه، وذلك مع الماركسي الفرنسي والبنيوي الثائر لويس ألتوسير، الذي اختلف مع
لينين ولوكاتش وجرامشي في تأكيده أن العلم نقيض الأيديولوجيا، واختلف أيضًا مع ماركس
بإضافة
أن المعرفة تبدأ بالأيديولوجيا، ولكن يتعين التخليص منها، وإحلال العلم مَحِلَّها فيما
أسماه بالانقطاع المعرفي، واستفاد التوسير من البنيوية في تخطيطٍ لهيكل الماركسية الثابت،
ووضْعها بين الأيديولوجيا والعلم، أو تحديد جوانبها الأيديولوجية وجوانبها العلمية، لتتخلص
من الأولى وتبقى علمًا، وكانت محاولته للخلاص من تشويهات الأيديولوجيا للعلم دءوبة حتى
ذهب
إلى ما وراء، أو ما قبل الماركسية، وأيضًا وضعِيَّة كونت، وراح يوضح كيف أن مونتسكيو
وروسو
قد أعاقهما أنهما ظلا ضحية لأيديولوجيا الطبقة والعصر، ولولاها لتَمَكَّنَا من إحراز
مشروع
العلم السياسي بنجاح أكبر.
٣٢
إن الماركسية التي فطنت إلى قوى التشويه الأيديولوجي، ثم وَقَعَتْ أسيرةً لها استنامت
لسلطانها، وعادت من جديد يراودها الأمل في المشروع العلمي حقًّا، ويبدو أملًا عسيرًا
لوطأة
الأيديولوجيا الماركسية. نقول إن الماركسية بهذا تعطينا مثالًا شديدَ الدلالة فقط مثال،
فليس هذا التشويه قصرًا على الماركسية، بل هو — وربما بصورة أشد — كامِن فعَّال مِنْ
قِبَل
الأيديولوجيات الشتى، لا سيما إذا كانت لمجتمع مُغْلَق بتعبير كارل بوبر، ويعطينا ريكور
عرضًا ثاقبًا لكيفية تسَرُّب أيِّ أيديولوجيا، وفقط من حيث هي أيديولوجيا إلى معاقل العلم،
وعبْر مراحلها الثلاث من تشويه إلى تبرير إلى إدماج، أَوْضَحْنا كيف أصبح في عصرنا هذا
إدماج بنسق العلوم الإنسانية دونًا عن الطبيعية، يقول بول ريكور:
لننطلق من المثال المتعلق بتخليد المجموعة الإنسانية لأحداث تعتبرها مؤسِّسة
لوجودها الخاص، فاستمرار شعلة الأصول وعظمتها يظل أمرًا صعبًا جدًّا؛ ولذلك كثيرًا
ما يتمازج — ومنذ البداية — مع كل من التواطؤ الجماعي، وتكرير الطقوس الاحتفالية
والتمثيل المبسط والمعمم، وكأن الأيديولوجيا لا تحافظ على قوَّتِها المحرِّكة إلا
حينما تتحول إلى وسيلة لتبرير السلطة التي تُمَكِّن المجموعة الإنسانية من التعبير
عن ذاتها وتأكيدها — كفرد كبير على الساحة العالمية — وهذا ما نلاحظه فعلًا من خلال
الكيفية التي عبْرها يتحول تخليد الحدث الجماعي بسهولة كبيرة جدًّا إلى برهنة
متكررة دائمًا، وذات شكل واحد تقريبًا، بواسطة تخليدنا الجماعي هذا نُثْبِت للآخرين
أن وجودنا بالطريقة التي نُوجَد عليها فِعْلًا أمْرٌ جيد ومقبول، وهكذا تستمر
الأيديولوجيا في فسادها واختلالها، خصوصًا حينما نأخذ بعين الاعتبار التبسيط
المبالَغ فيه، والتمثيل المضَخَّم اللذَيْن بواسطتهما تمتد عملية الإدماج داخل
عملية تبرير السلطة، وشيئًا فشيئًا تصبح الأيديولوجيا شبكة لقراءة سطحية وسلطوية لا
لطريقة حياة الجماعة الإنسانية فقط، بل أيضًا للموقع الذي تحتله في تاريخ العالَم،
إلى أن تتحول إلى نظرة عامة
للعالَم
Vision du Monde، وهي إذ تصل إلى هذا المستوى العامِّ تصبح عبارة عن قانون
ثابت أو شفرة رمزية شمولية يتم بواسطتها تفسير كل أحداث العالم، وهكذا يزداد توسُّع
الوظيفة التبريرية للأيديولوجيا تدريجيًّا إلى أن تتسرب إلى الأخلاق الاجتماعية
وإلى الدين، بل وتلحق حتى العلم.
٣٣
ويبقى كارل مانهايم K. Mnheim في كتابه الشهير
«الأيديولوجيا واليوتوبيا» — وله ترجمة عربية — مِنْ أقدَرِ مَن استطاعوا تجسيد الفارق
بين
العلوم الطبيعية والإنسانية بأن المحتوى المعرفي في الأولى يتحرر تمامًا من الأيديولوجيا
التي هي مُجْمَل الأفكار والآراء والنظريات والقيم التي تُعَبِّر عن جماعة معينة في إطار
تاريخي مُعَيَّن، وهي بهذا نظرة شاملة؛ أي مضادَّة للنظرة العلمية.
•••
وهي مضادة للنظرة العلمية من أكثر من وجهة، فإذا كان المنهج العلمي يقف على العامل
المشترك بين الذوات أجمعين، نجد «الأيديولوجيا تؤدي إلى تبايُن شديد في الآراء، وتجعل
نفس
الموضوع يراه الناس بطرق مختلفة جدًّا»،
٣٤ حتى «يمكن اعتبار عدم الثقة والشك اللذين يبديهما الناس تجاه خصومهم في كل
مكان، وكل مراحل التطور التاريخي السلف المباشر لفكرة الأيديولوجيا.»
٣٥ وثمة أيضًا علاقتها بالطوباوية (التفكير اليوتوبي). والحالة الذهنية تكون
طوباوية أو يوتوبية حين تتعارض مع الأمر الواقع الذي تحْدث فيه،
٣٦ بينما العلم ينْصَبُّ على الواقع، ويتساوق معه. والحق أنه لا يمكن الفصل في
الفكر الإنساني بين العنصرين الأيديولوجي واليوتوبي (الطوباوي)، إنهما يتولدان معًا،
وعادة
ما تمتزج أيديولوجيات الطبقات الصاعدة بيوتوبياها.
وقد عرض مانهايم بشيء من التفصيل لطوباويات أو يوتوبيات التيارات الأيديولوجية الرئيسية،
بطبيعة الحال فقط في مسار الفكر الأوروبي.
٣٧ فكان الشكل الأول للعقلية اليوتوبية هو العقيدة الألفية ذات الطقوس الدينية
الصاخبة، والشكل الثاني هو ليبرالية الطبقة البرجوازية الصاعدة، وكانت يوتوبياها هي فكرة
الحرية، والشكل الثالث مع يوتوبيا المثل الأعلى المحافظ، الذي يقبل البيئة كما هي، وكأنها
النظام المناسب للعالم، ولا يتحرك إلا لصد هجوم الطبقات التي تريد تغيير الوضع القائم،
وتقدم الاشتراكية الشيوعية الشكل الرابع للعقلية اليوتوبية، والهجوم عليها يأتي من المصادر
الثلاثة السابقة، وأخطرها الليبرالية، وفي الوضع المعاصر تنزل اليوتوبيا بالتدريج نحو
الواقع، فتخضع لكثير من التغيرات في الوظيفة والمضمون؛ ولأن مانهايم يُقِرُّ استحالة
الوصول
— في الوقت الراهن على الأقل — إلى الحقيقة بصورة مستقلة عن المعاني الاجتماعية والتاريخية،
فقد عَمِلَ على توضيح دَوْر الأيديولوجيا واليوتوبيا في العلوم الإنسانية، «وإذا كان
مقياس
الأهمية العلمية لأي مفهوم هو قدرته التفسيرية، فإن الأيديولوجيا واليوتوبيا من المفاهيم
المهمة في تفسير الظواهر النفسية والاجتماعية والتاريخية.»
٣٨ فهما وسيلتان لتجنُّب المزالق الفكرية؛ أي يُلْزِماننا بأن نختبر كل فكرة بدرجة
تُطَابِقها مع الواقع، وبأن السعي للخلاص من التزييف والتمويه الأيديولوجي والطوباوي،
وهو
في نهاية المطاف السعي للوصول إلى الحقيقة.
٣٩
•••
بعد هذا العرض المنطقي، وأيضًا التمثيل والتوضيح السريع لمشكلة العلوم الإنسانية
في
صراعها مع القوى الهائلة لضغوط أو تأثيرات أو تحيزات الأيديولوجيا، يتوجب علينا أن نضع
المشكلة بحيث تسير نحو الحل، ولا ندَعها طريقًا مسدودًا لا يُفْضي إلى اتفاق بين الباحثين
أو تكامُل لجهودهم، بل يغدو هذا الوضع تحديًا علينا أن نواجهه باحثين عن الأسس والمعايير
التي نميز بمقتضاها بين ما هو علمي وما هو أيديولوجي، وافتقاد هذه المعايير وغيابها لا
يخدم
أيًّا من النظرية العلمية أو الأيديولوجيا على السواء، فلكل منهما أهميته وضرورته، لكنهما
رغم ذلك أمران مختلفان،
٤٠ وهذا هو عينه ضرورة تحديد تخوم واضحة لمشاريع العلوم الإنسانية.
وسوف نصل أيضًا إلى هذا الطريق نفسه لو سِرْنا من الوجه الآخر للعملة، أو للمشكلة
المقابِل لتسَرُّب أو تدَخُّل الأيديولوجيا، وهو تدخُّل الحس المشترِك.
فلا شك أن الطبيعة النوعية لموضوعات العلوم الإنسانية — ولعلم الاجتماع بالذات —
تفتح
الباب لتدخُّل الحس المشترك، حتى يذهب ميردال إلى أن العلم الاجتماعي لا يعدو أن يكون
حسًّا
مشتركًا على درجة رفيعة من الصقل والإحكام، ومن ثم يشارك العلماء الاجتماعيون سائر الناس
في
تصوراتهم عن الواقع، ويفرق ميردال بين نمطين من التصورات هما الاعتقادات
beliefs والتقويمات. ويمتزج النمطان في آراء
Opinions الناس ومنهم العلماء، رغم اختلاف الفحوى المنطقية لكل منهما. فالنمط
الأول — أي الاعتقادات: عقلي عرفاني، النمط الثاني — أي التقويمات: انفعالي لا
إرادي.
٤١
وعمق هذا التداخل بين العلم وبين الحس المشترك يبرز هو الآخر مدى الاحتياج لمحك يفصل
بحسْمٍ بين ما هو علميٌّ، وما هو لا علمي. ومن أي زاوية «يجب أن نميز في قضايا العلوم
الإنسانية بين ما يخص العلم، وما يخص غيره.»
٤٢
والخلاصة أننا ننتهي الآن إلى أن الطريق نحو حل مشكلة العلوم الإنسانية يتطلب التمييز
بين
ما هو علمي يتعلق بالمحتوى المعرفي، وما هو لا علمي يتعلق بأيديولوجيا، أو فلسفة، أو
تقويم،
أو إسقاطات، أو رأي شائع … على ألا يتم التمييز بطريقة مباشرة؛ أي ليس بالوعي والتصريح
بما
هو غير علمي، بل بجعله عاجزًا عن التدخل المباشر في القضية العلمية، ولن يكون ذلك إلا
بصياغة قضايا العلوم الإنسانية على النحو الذي لا يجعل الحكم عليها معتمدًا على مقاييس
الأيديولوجيا، أو الفلسفة، أو سواهما، ومعنى هذا أن تطوع القضية العلمية في بحوث العلوم
الإنسانية لشروط صياغة الفرض العلمي الذي يقبل المواجهة مع الواقع، من حيث المبدأ، وكل
ما
لا يقبل هذا التطويع يظل خارج المحتوى العلمي، حتى يجد طريقه فيما بعد لهذا التطويع،
وهنا
يمكن أن نبدأ الطريق نحو حل مشكلة العلوم الإنسانية.
٤٣
وحين تحديد صياغة الفرض العلمي ومعيار التمييز بين ما هو علمي وما هو غير علمي، لا
مندوحة
البتة عن الالتجاء إلى الخاصة المنطقية للعلوم الطبيعية التي هي عينها معيارها المميز
إياها، فالنجاح اللافت للعلوم الطبيعية المتسارعة التقدم في أداء مهمة العلم الإخبارية
في
الوصف والتفسير — وفضلًا عنهما السيطرة والتحكم والتنبؤ — قد بلغ درجةً أصبحت تعني أن
خاصيتها المنطقية هي التمثيل العيني لشروط الفرض العلمي كيما يتكفل بتلك المهام المنوطة
بأي
علم إخباري. ولما كانت الخاصة منطقيةً، فإنها تحدد طريق أو أسُسَ التآزر المتحقق في العلوم
الطبيعية، والمنشود في العلوم الإنسانية. إنها على الإجمال، أو على حد تعبير باشلار:
تعطينا
المثال الثقافي الذي يجب أن يتأكد في جميع مباحث الفكر العلمي؛ حيث لا عقلية في الفراغ،
ولا
تجريبية مفككة. هاتان هما الفرضيتان الفلسفيتان في الطبيعيات المعاصرة.
٤٤
والواقع أن الخاصة المنطقية للعلوم الطبيعية لا تعدو أن تكون الصياغة أو الصك المنطقي
الدقيق لتساوق جهود العلماء؛ ولهذا التآزر الحميم الملتزم المسئول بين العقل والممارسة
المعملية، أو بين التنظير والتجريب.
فما هي هذه الخاصة وعلى وجه التحديد المنطقي الدقيق؟
هوامش