التساوق المنهجي للخاصة المنطقية
هكذا نعود إلى القابلية للاختبار والتكذيب التجريبي، وقد رأيناها هي الأخرى تتسم بسمة استنباطية، إنها معدل للكشف عن علمية الفروض أو النظريات أو القوانين، فلن تثير العبارات الجزئية مشاكل حقيقية بشأن خاصيتها، لكن الطبيعة الكلية للفروض العلمية تعني استحالة مواجهتها بالواقع التجريبي؛ لأنها عامة تتحدث عن أفق لا نهائي، يستحيل حصره في زمان ومكان معيَّنَيْن يمكن إخضاع ما يَضُمَّانِه لنطاق اختبار تجريبي، وكما أوضحنا الكشف عن كونها قابلة للتكذيب، أو غير قابلة له، يتم عن طريق استنباط عبارات جزئية من الفرض، يسهل مواجهتها بالواقع، وقد رأينا أن كل المعالم الأساسية لمنطق التكذيب في تناول للنظرية العلمية كالحكم بالتكذيب أو التعزيز، ودرجته، ومقاييس المحتوى التجريبي، والمحتوى المنطقي، المطلق والنسبي، ومحتوى الصدق، محتوى الكذب … إلخ، كلها تعتمد على استنباط، لقد تكرر مصطلح «الاستنباط» في الفصل السابق من الكتاب أكثر من أي مصطلح منطقي آخر.
- الإبستمولوجيا الكلاسيكية: يساوقها منهج الاستقراء Induction الذي
يبدأ من وقائع الملاحظة، ومنها يصعد إلى القانون.
وطبعًا الممثل الرسمي لهذه النظرية هو إيزاك نيوتن بقوله الشهير: «أنا لا أفترض الفروض Hypotheses non fingo» هذه النظرية تخدم الملاحظة.
- الإبستمولوجيا المعاصرة: يساوقها المنهج الفرضي الاستنباطي Hypothetic Deductive Method، الذي يبدأ بفرضٍ ما، ومنه يهبط إلى الوقائع الملاحَظة لتُحَدِّد مسير ومصير الفرض، وطبعًا الممثل الرسمي لهذه النظرة ألبرت أينشتين، الذي يرى أن منهج البحث يتلخص في أن يتخذ الباحث لنفسه مسَلَّمات عامة، أو مبادئ يستنبط منها النتائج، فينقسم عمله إلى جزءين: يجب عليه أولًا أن يهتدي إلى المبادئ التي يستند إليها، ثم يتبع ذلك بأن يَسْتَنْبِط من هذه المبادئ النتائج التي تترتب عليها.٣ ويؤكد أينشتين تأكيدًا حاسمًا أن الوقائع التجريبية بمفردها تظل عديمة النفع للباحث ما لم يَهْتَدِ إلى قاعدة لاستنباطاته.٤ هذه النظرة تستخدم الملاحظة.
إن المنهج الاستقرائي يساوق التفسير الميكانيكي للكون ومبدأه الحتمي، وأيضًا يماثله من حيث كونه افتراضًا ساد مرحلة مَرَّ بها العقل العلمي، كانت مهمةً وضروريةً في أوانها، ولكن به وبها المزالق والأخطاء والقصورات المعرفية التي تتكشف للعقل العلمي أثناء سيره، أو تَقَدُّمه المطَّرِد، فوجب أن يتجاوزها بعد أن أَدَّتْ دورها، واستنفدت مقتضياتها، ودواعيها، وارتفع التقدم العلمي الذي هو ثوري، إلى مرحلة أعلى مختلفة عن سابقتها، الحق أن استيعاب الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة يرتهن بالرفض المنطقي لمنهاج الاستقراء، وليس هذا أمرًا يسيرًا؛ لأن الاستقراء أكد حركة العلم الحديث وتأكد بها.
•••
فقد انبثق العلم الحديث في مرحلة حضارية ومعرفية تأتَّتْ في أعقاب العصور الوسطى، وكانت عصورًا دينية حدَّدَتْ معالمها كتبٌ سماوية منزلة، تنطوي على حقائق مُسَلَّم بصحتها ويقينها، فيمكن أن نقتصر على استنباط ما يلزم عنها، فكان منهج البحث المهيمن على هذا العصر هو القياس الأرسطي: منهج استنباط القضايا الجزئية التي تلزم عن المقدمات الكلية المطروحة والمتضمنة فيها، ولا جديد، ولا مساس بآفاق المجهول في الواقع الحي.
واقترن إغلاق أبواب العصور الوسطى، وإشراقة العصر الحديث بالضيق البالغ منتهاه من منطق أرسطو (الأورجانون: أداة الفكر)، والبحث عن منهج جديد يلائم روح العصر الجديد، والمنهج الغالب على العصور الوسطى كان استنباطًا، أي أنه استدلال هابط من كليات إلى جزئيات، ولكنه كان استنباطًا يتطرف في التنظير والعزوف عن التجريب، فتَمَخَّض في العصر الحديث عن رَدِّ فِعْل معاكِس في الاتجاه، ومساوٍ في المقدار ألا وهو الاستقراء: الضد المنهجي الصريح للاستنباط، الاستقراء معاكس في الاتجاه؛ لأنه تجريب خالص واستدلال صاعد يبدأ من جزئيات، ويصعد منها إلى نتيجة أوسع: قانون عامٍّ ينطبق على ما لُوحِظ وما لم يُلَاحَظ من جزئيات مماثلة في أي زمان ومكان.
وكل وجوه أو عناصر الحتمية الميكانيكية هي الأخرى تتساوق وتتسق مع الاستقراء كمنهج، فإذا كانت الحتمية تعني — كما ذكرنا — ضرورية قوانين الطبيعة المطردة دائمًا وثبوتها ويقينها فلا تخلف، ولا مصادفة، ولا احتمال موضوعيًّا. فسوف يكون الجزء شاهدًا على الكل، وتكفي ملاحظة بسيطة، وقائع تجريبية محدودة، ثم تعميمها، لا سيما أن العلم الكلاسيكي تعامل مع ظواهر كُبْرى، جميعها واقعة في خبرة الحواس، فتبدو موضوعًا قابلًا للملاحَظة المباشِرة، بموضوعية مطلقة، بلا أدنى تدخل من الذات العارفة، ويكاد يقتصر عملها على تعميم وقائع الملاحظة المحدودة في قوانين كلية، وسنصل في النهاية إلى الصورة الكاملة لكون ميكانيكي: آلة ضخمة مُغْلَقَة على ذاتها من مادة واحدة متجانسة، وبواسطة عللها الداخلية، وتبعًا لقوانينها الخاصة تسير تلقائيًّا في مسارها المحتوم.
فكانت كل خطوة ناجحة يحرزها العلم الكلاسيكي في إطار مشروعه الحتمي الميكانيكي، تؤكد الاستقراء ويتأكد بها. ومنذ الوهلة الأولى بَدَا للعيان أن هذا النجاح المنقطِع النظير الذي أحرزه العلم دونًا عن كل محاولات المعرفية التي بذلها الإنسان من قبل لا بد أنه يدور وجودًا وعدمًا مع العنصر المُسْتَحْدَث في هذا النسق المعرفي الجديد — العلم — العنصر المستحدث هو التجربة: الاعتماد النظامي على معطيات الحواس، فبدأ العلم تجريبيًّا متطرفًا — لردة الفعل العكسية للاستنباط الأرسطي — ثم جَعَلَهُ نجاحُه يَتَطَرَّف أكثر وأكثر في تَجْرِيبِيَّتِه، إن الاستقراء الذي يبدأ بالملاحظة التجريبية، ليتقهقر دور العقل والإبداع الإنساني — إن لم يَلْغِ — هو طبعًا صورة من صوَر التجريبية المتطرفة.
- (١)
استحالة تبرير القفزة التعميمية (مشكلة الاستقراء المذكورة).
- (٢)
لو كان القانون القانون العلمي مَحْض تعميم لوقائع مستقرأة، فكيف يتسلل إليه الخطأ، هو طبعًا أَمْر واقع في العلم؟
- (٣)
إذا عجزنا عن تبرير الخطأ، ومن ثَمَّ تبرير التصحيحات، فكيف يتأتى التقدم العلمي؟
- (٤)
الاستقراء يحدد الطريق إلى الفرض أو القانون، وكل من يسلكه؛ أي يتبع خطوات الاستقراء يصل إلى قانون، وكل قانون اكتشاف لحقيقة، حتى أكد بيكون أن البحث العلمي متاح لذوي العقول المتوسطة، إذن فالعلم نشاط آلي، وليس البتة فعالية إنسانية نامية باستمرار.
- (٥)
إذا كان العلم اكتشافًا آليًّا للحقائق، ولا حاجة لفروض من خَلْق وإبداع الذكاء الإنساني، فما هو تبرير التفاوت في قدرات العلماء وإنجازاتهم؟
- (٦)
والأهم: ما تبرير بقاء مشاكل علمية «مثلًا السرطان» بغير حل مع توافُر كَمٍّ هائل من المعطيات التجريبية بشأنها يمكن ملاحظتها، ثم تعميمها؟
والآن يمكن التقدم خطوة منطقية أبعد وأجرأ ونقول: فكرة «الاستقراء» بوصفه المنهج التجريبي ليس به مثالب وأغاليط منطقية فحسب، بل به استحالة منطقية أصلًا، بعبارة موجزة البدء بالملاحظة يستحيل أن يفضي إلى شيء، والمسألة كما طرحها جاستون باشلار أن الواقع هو نقطة نهاية التفكير العلمي لا نقطة بدايته. وهذه فكرة انطلق فيها فلاسفة العلم المعاصرون، وأمعنوا في الانطلاق، فقد أَصْبَحَ من الممكن بعد كل هذا الشوط من التقدم العلمي والإحاطة الوصفية بالوقائع أن يناقش بول فيير آبند فكرة علم طبيعي بغير خبرة تجريبية، بغير عناصر حسية.
والواقع إنه لا كوبرنيقوس، ولا جاليليو، ولا نيوتن، ولا أي رائد من الرواد الذين شيدوا صَرْح العلم الحديث، ولا أي من العلماء الأقل حجمًا، ولا من العلماء طُرًّا، تَوَصَّل إلى إنجازاته عن طريق الاستقراء، بل جميعهم يبدأ بفرض يستنبط نتائجه، ثم يقوم باختبارها تجريبيًّا، ولكن بفعل العوامل الداخلية والخارجية لحركة العلم الحديث ران الوهم الاستقرائي على العقول، من حيث ران الوهم الحتمي الميكانيكي.
•••
وفي كل حال «العلم تجريبي» كما أن (أ هي أ)، ولكن في ضوء المنهج الفرضي الاستنباطي ليست الملاحظة التجريبية مصدرًا للفرض العلمي، بل مِحَكٌّ له، فهو لا يحدد الطريق إلى الفرض. هذا الطريق لا يمكن أن يكون تحديده مسألة منطق أو قواعد منهجية؛ لأنه يعتمد على عنصر العبقرية والإبداع والذكاء الإنساني، فيمكن أن يُتْرَك مثلًا للدراسة السيكولوجية للإبداع العلمي، معنى هذا ببساطة أن العلم صنيعة الإنسان، وليس البتة نشاطًا آليًّا، وبغير حاجة لتفصيلات واستطرادات يمكن إدراك كيف أن كل المثالب المنطقية المحيقة بالاستقراء تنداح كما تنداح دوائر في لُجَّة ماء أُلْقِيَ فيه بالحجر، مع رؤية المنهج الفرضي الاستنباطي.
إن العلم صنيعة الإنسان، أي فعالية نامية باستمرار، كل خطوة قابلة للتجاوز، للتقدم؛ لذلك يجعل المنهج الفرضي الاستنباطي كلَّ قانون مُجَرَّد فرْض ناجح، في حين أن المنهج الاستقرائي يجعل كل فَرْض ناجح قانونًا، اكتشافًا لحقيقة، إن الاستقراء — منهج البدء بالملاحظة الصلبة — هو منهج لتأسيس العبارات العلمية على أساس مَكِين هو الوقائع التجريبية، في حين أن العلم التجريبي بناءٌ صميم طبيعته الصيرورة والتقدم المستمر، وها هنا نجد المنهج الفرضي الاستنباطي نظرية في الإبداع والتقدم المستمر، في أسلوب هذه الصيرورة، بهذا لا يتساوق منهج العلم ومنطقه فحسب، بل وأيضًا يتطابقان.
- (أ)
في المرحلة الوسيطة ساد الاستنباط الأرسطي: القضية.
- (ب)
في المرحلة الحديثة ساد الاستقراء التجريبي: سلب القضية أو نقيضها.
- (جـ)
في المرحلة المعاصرة المنهج الفرضي الاستنباطي: مُرَكَّب جَدَلِيٌّ يَجْمع خير ما فيهما ويتجاوزهما للأفضل.
فقد أصبح علم مناهج البحث من أخص خصائص الفلسفة، وهو مركب جدلي من الوصفية والمعيارية، فالفلسفة هي الوعي بموضوعها، الوعي المتميز عن الفهم التفصيلي التفتيتي، بأنه أشمل نظرة لما هو كائن، تأصيلًا له، واستشرافًا لما ينبغي أن يكون: استشراف الطبائع العامة المميزة للبحث العلمي في أُطُرها المنطقية الصورية والثبوتية اللزومية، علم مناهج البحث حين يتعرض للمنهج التجريبي بهذه النظرة الجذرية التأصلية والشمولية الاستشرافية، يحاول الاهتداء إلى سمات البنية والقسمات الجوهرية، فيكون المنهج الفرضي الاستنباطي — كما كان المنهج الاستقرائي — هو التصور الفلسفي المنطقي للهيكل العام الذي يحدِّد أسلوب التعامل العلمي مع الواقع؛ لذلك فهو واحد.
ولكن الواقع العلمي متنوع، فالعلم التجريبي للبكتيريا غير العلم التجريبي للفلك، غير العلم التجريبي للنفس … وبطبيعة الحال لا بد أن تختلف طرائق البحث وأساليبه الإجرائية وتقاناته الأمبيريقية مِنْ عِلْم إلى علم، بل إنها تختلف داخل العلم الواحد أولًا تبعًا لدرجة تَقَدُّمه، وثانيًا تبعًا لزوايا ومستوياتِ تناوُله لموضوعه، وعلى هذه الاختلافات الإجرائية ينصَبُّ اهتمام العلماء المتخصصِين كلٍّ يسخِّره لخدمة موضوعه، وبما يتلاءم مع الطبيعة النوعية لمادة بحثه بكل تميزها وخصوصيتها عن مواد العلوم الأخرى، بهذا المنظور التخصصي تظهر علوم لمناهج البحث مُلْحقة بفروع العلوم المختلفة لتعالج الأساليب التقانية والوسائل الاختصاصية المتكيفة مع موضوع البحث، ومادَّته التي تختلف مِنْ عِلْم لآخر، فنجد مثلًا «مناهج البحث في علم الاجتماع» و«مناهج البحث في علم الفلك» و«مناهج البحث في الهندسة الوراثية» و«مناهج البحث في علم النفس»، وكل فرع قد ينقسم بدوره إلى فروع، فنجد «مناهج البحث في علم النفس الاجتماعي» و«مناهج البحث في علم نفس الشخصية» و«مناهج البحث في علم النفس الإكلينيكي» … إلخ، هذه المسائل المتعلقة بنوعيات الأمبيريقيات، وأساليب الممارسة الإجرائية، مسألة تخصصية يعالجها كل علم وفقًا لطبيعة مادته، والعلماء المنشغلون بها هم الأخبَر … فهي تخرج إذن عن مجالنا.
إن الفلسفة هي دائمًا النظرة الكلية الباحثة عن المبادئ العمومية الكامنة في الأعماق البعيدة، وبهذا المنظور نجد الميثودولوجي — علم مناهج البحث الذي يَدْخُل في ذات الهوية مع فلسفة العلوم — يبحث من وراء هذا الاختلاف عن الأسس العامة التي يمكن تجريدها من المواقف العلمية المختلفة؛ لنجدها أُسُسًا منطبقة لا على الفلك دون الاجتماع أو النفس دون الكيمياء، بل هي منطبقة على كل بحْث علمي من حيث هو علمي، معنى هذا أن المنهج الفرضي الاستنباطي هو المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية على السواء.
نعود إذن إلى العلوم الإنسانية، وبعد أن أحرزت كل ما أحرزته من نشأة ناضجة ونماء متواصل، وتقدم لا يُسْتَهان به، سوف يَظَلُّ التسليم بالمنهج الاستقرائي هو الكفيل بِجَعْل مشكلتها إشكالية، بل مَأْزَمَة لا مَخْرَج منها، فقد أوضَحْنا أن الطبيعة النوعية التي تختص بها ظواهر العلوم الإنسانية شديدة التعقيد كثيرة المتغيرات، واستلقاط وقائع للملاحَظة وسط كَثْرة مُتَكَثِّرة من المتغيرات، يجعل مَحْض التعميم الآلي لها مشوبًا بالقصورات والتحيزات، إن لم يكن مستحيلًا أصلًا تأسيسًا على ما عرضناه من استحالة البدء بالملاحظة، إن الاستقراء منهج آلي يرسم طريقًا للفرض — أي فرض — بغير مراعاة للطبائع النوعية المتغيرة لموضوعات البحوث.
أما التسليم بالمنهج الفرضي الاستنباطي فيفتح الباب على مصراعيه لإمكانية مراعاة الطبائع النوعية المتباينة، ما دام منهجًا لا يرسم طريقًا للفرض، طريقًا ربما يَصْلح للفروض بشأن ظاهرة ولا يَصْلح لأخرى.
لقد ارتدت حيثيات مشكلة العلوم الإنسانية إلى عامِلَيْن هما العلاقة بين الباحث وبَحْثه، وطبيعة موضوع البحث، وبديهي أن الطبيعة النوعية لموضوع البحث بكل خصائصها وتميزاتها وتعقداتها، لا بد طبعًا أن تنعكس في الفروض المصوغة بشأن الظاهرة، والمنهج الفرضي الاستنباطي يُطْلق العنان لطاقات العلماء الإبداعية لتنطلق فروض جريئة تلائم الطبائع المعقَّدة لظواهر العلوم الإنسانية، وتتعامل معها بنجاح. وكلما كانت الفروض أكثر جرأة، كانت مَحَلَّ ترحيب أكبر، وكانت أقدر على الإحاطة بالظواهر، ولا خوف البتة من جنوحات الجرأة ما دامت الفروض المصوغة — ومهما كانت جريئة — منهجيًّا سوف تَخْضع النتائج المستنبَطة منها للاختبار التجريبي، ومنطقيًّا لمعيار القابلية للتكذيب، هكذا يحمل التساوق المنهجي (الفرضي الاستنباطي) إمكانات درء العامل الثاني، لا سيما في حالة الاستعانة بالخاصة المنطقية — معيار القابلية للتكذيب — الكفيلة بدرء العامل الأول، وقبل أن نعالِج درء العامل الأول بشيءٍ من التفصيل لا بد من الإشارة إلى أن مواجهة الطبيعة النوعية للظواهر الإنسانية لا تقتصر على إطلاق جرأة الفروض، بل إن الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة تعني خروجًا منهجيًّا — أي على مستوى المنهج أو من زاويته — من مشكلة العلوم الإنسانية، ودخولًا منهجيًّا إلى إمكانات تقدمِيَّة كالمتاحة للعلوم الطبيعية، وهذا هو موضوع الفصل التالي من الكتاب.
هوامش
C. Hempel & P. Oppenheim, The Logic Of Explaination, In: H Feigle & M. Brodbeck (Eds.) Reading In The Philosophy Of Science, New York, 1952.
ولمزيد من التفاصيل والإحاطة انظر فصل «الاستقراء خرافة» من كتابنا المذكور «فلسفة كارل بوبر» ص١٣٥-١٣٦.