طرائف عن الحب
حيلة عاشق
كان لأبي العتاهية الشاعر العباسي نوادر لطيفه مع «عُتْبة» جارية المهدي، تدل على كمال ظرفه؛ ومن ذلك ما ذكره الخطيب في «تاريخ بغداد» قال: إن أبا العتاهية لما ألح في أمر «عتبة» لأول دخوله بغداد، ولم ينل منها شيئًا، وجدها يومًا قد جلست في أصحاب الجوهر، فمضى فلبس ثياب راهب، ودفع ثيابه إلى إنسان كان معه، وسأل عن رجل كبير في السوق، فدل على شيخ صائغ، فجاء إليه فقال: إني قد رغبت في الإسلام على يدي هذه المرأة … يعني «عُتبة».
فقام الشيخ الصائغ وجمع جماعة من أهل السوق، وجاء إلى «عتبة» فقال لها: إن الله قد ساق إليك أجرًا، هذا هو راهب قد رغب في الإسلام على يديك. فقالت: هاتوه. فدنا أبو العتاهية منها — وهو في زي الراهب — فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، ثم قطع الزنار، ومال على يدها فقبلها.
فلما فعل ذلك، رفعت البرنس عن وجهه، فعرفته وقالت: نحُّوه، لعنه الله! فقالوا لها: لا تلعنيه فقد أسلم. فقالت: إنما فعلت ذلك لقذره. فعرضوا عليه كسوة، فقال: ليس لي حاجة إلى هذه، وإنما أردت أن أشرف بولائها، فالحمد لله الذي من علي بحضوركم.
وجلس أبو العتاهية، فجعلوا يعلمونه (الحمد) وصلى معهم العصر، وهو في ذاك ينظر إليها، لا تقدر له على حيلة!
وحدّث المبرد: أن «ريطة» بنت أبي العباس السفاح، وجهت إلى عبد الله بن مالك الخزاعي في شراء رقيق للعتق، وأمرت جاريتها (عُتبة) — وكانت لها ثم صحبت «الخيزران» بعدها — أن تحضر ذلك. فإنها لجالسة إذ جاء «أبو العتاهية» في زي متنسك فقال لها: جعلني الله فداك، شيخ ضعيف لا يقوى على الخدمة، فإن رأيت — أعزك الله — شرائي وعتقي، فعلت مأجورة، فأقبلت على عبد الله فقالت: إني لأرى هيئة جميلة، وضعفًا ظاهرًا، ولسانًا فصيحًا، ورجلًا بليغًا، فاشتره وأعتقه. فقال: نعم أفعل، ثم قال لها أبو العتاهية: أتأذنين لي — أصلحك الله — في تقبيل يدك؟ فأذنت له، فقبل يدها وانصرف؛ فضحك عبد الله بن مالك وقال لها: أتدرين من هذا؟ فقالت: لا. قال: هذا أبو العتاهية، وإنما احتال عليك حتى قبّل يدك!
بين الحب والمال
وكان أبو العتاهية قد قصد بغداد من الكوفة، مع زميلين له، ليستفيد بشعره عند أمرائها، ولم يكن لهم في بغداد من يقصدونه، فنزلوا غرفة بالقرب من الجسر، وكانوا يبكرون فيجلسون بالمسجد الذي بباب الجسر في كل غداة، فمرت بهم يومًا امرأة راكبة، معها خدم سودان، فقالوا: من هذه؟ قالوا: خالصة. فقال أحدهم: قد عشقت خالصة. وعمل فيها شعرًا أعانوه عليه.
ثم مرت بهم أخرى، راكبة أيضًا، ومعها خدم بيضان. فقالوا: من هذه؟ قالوا: هذه (عتبة)، فقال أبو العتاهية: قد عشقت عتبة، وعمل فيها شعرًا.
ولم يزالوا كذلك، حتى شاع الشعر المصنوع إلى الجاريتين، وتحدث الناس بعشق أبي العتاهية وزميله لهما، فقال صاحبا الجاريتين: نمتحن العاشقين بمال على أن يدعا التعرض للجاريتين، فإن قبلا المال كانا مستأكلين، وإن لم يقبلاه كانا عاشقين.
فلما كان الغد، مرت (عتبة) فعرض لها صاحبها، فقال له الخدم: اتبعنا، فتبعهم، فمضت به إلى منزل خليط لها يزار، فلما جلست دعت به، فقالت له: يا هذا، إنك شاب، وأرى لك أدبًا، وأنا حرمة خليفة، وقد تأنيتك، فإن أنت كففت وإلا أنهيت ذلك إلى أمير المؤمنين، ثم لم آمن عليك.
فقال لها أبو العتاهية: فافعلي، بأبي أنت وأمي، فإنك إن سفكت دمي أرحتني، فأسألك بالله إلا فعلت ذلك إذا لم يكن لي فيك نصيب!
فقالت له: أبق على نفسك، وخذ هذه الخمس مئة دينار، واخرج عن هذا البلد، فلما سمع ذكر المال ولى هاربًا، فقالت: ردوه، وألحت عليه فيها. فقال لها: جعلت فداك، ما أصنع بعرض زائل من الدنيا وأنا لا أراك؟ … والله إنك لتبطئين يومًا واحدًا عن الركوب، فتضيق عليّ الدنيا بما رحبت، فزادت له في الدنانير، وما زالت تلح عليه فلا يزداد إلا رفضًا.
قليل منك يكفيني
ومن ألطف ما قاله أبو العتاهية في (عتبة) قوله:
وله فيها قصائد كثيرة أخرى، يقول في إحداها:
ومن قوله فيها أيضًا:
وفيها يقول:
من الحب إلى الزهد
وحدث أبو العباس: أحمد بن يحيى ثعلب قال: كان أبو العتاهية قد أكثر مسألة الرشيد في (عُتبة)، فوعده بتزويجها، وأنه سيسألها في ذلك، فإن أجابت جهزها له، وأعطاه مالًا عظيمًا، ثم إن الرشيد سنح له شغل استمر به، فحجب أبو العتاهية عن الوصول إليه، فدفع إلى (مسرور) الكبير ثلاث مراوح، فدخل بها على الرشيد وهو يبتسم، وكانت مجتمعة، فقرأ على واحدة منها مكتوبًا:
فقال الرشيد: أحسن الخبيث. إذن … عليّ بالثانية، وكان مكتوبًا عليها:
فقال الرشيد: علي بالثالثة، وكان مكتوبًا عليها:
فقال الرشيد: قاتله الله، ما أحسن ما قال، ثم دعا به، وقال له: قد ضمنت لك يا أبا العتاهية، وفي غد نقضي حاجتك إن شاء الله، وبعث إلى (عتبة)، وقال لها: إن لي إليك حاجة، فانتظريني الليلة في منزلك.
فأكبرت (عتبة) ذلك وأعظمته، وصارت إليه تستعفيه، فحلف ألا يذكر لها حاجته إلا في منزلها.
فلما كان الليل سار إليها، ومعه جماعة من خواص خدمه، فقال لها: لست أذكر حاجتي أو تضمنين قضاءها؟ قالت: أنا أمتُك، وأمرك نافذ فيّ … فيما خلا أمر أبي العتاهية، فإني حلفت لأبيك (رضي الله عنه) بكل يمين يحلف بها بر وفاجر، وبالمشي إلى بيت الله الحرام حافية، كلما انقضت عني حجة وجبت عليّ أخرى، لا أقتصر على الكفارة، وكلما أفدت شيئًا تصدقت به، إلا ما أصلّي فيه.
وبكت بين يديه، فرق لها ورحمها، وانصرف عنها.
وغدا عليه أبو العتاهية، فقال له الرشيد: والله ما قصرت في أمرك، ومسرور وحسين ورشيد وغيرهم شهود لي بذلك، وشرح له الخبر.
قال أبو العتاهية: فلما أخبرني الرشيد بذلك، مكثت مليًّا لا أدري أين أنا قائم أو قاعد؟ قلت: الآن يئست منها إذ ردّتك، وعلمت أنها لا تجيب أحدًا بعدك.
ثم لبس أبو العتاهية الصوف، وتزهد، وقال في ذلك شعرًا كثيرًا، منه قوله:
وروى أبو سلمة الغَنويّ أنه قال لأبي العتاهية: ما الذي صرفك عن قول الغزل إلى قول الزهد؟ فقال أبو العتاهية: إذن والله أخبرك، إني لما قلت:
رأيت في المنام تلك الليلة، كأن آتيا أتاني فقال: ما أصبت أحدًا تدخله بينك وبين عتبة، يحكم لك عليها بالمعصية إلا الله تعالى؟! … فانتبهت مذعورًا، وتبت إلى الله تعالى من ساعتي من قول الغزل.
معي بين أضْلُعي
يرى الفؤاد الروحين يمتزجان
وقال ابن الرومي:
لئن ساءني لقد سرني
وقال عبد الله بن الدمينة:
العشق عفة ونزاهة
قال الشاعر:
الطرف رسول رائد للقلب
قال الأصمعي: رأيت جارية في الطواف كأنها مهاة، فجعلت أنظر إليها وأملأ عيني من محاسنها، فقالت لي: يا هذا ما شأنك؟ قلت: وما عليك من النظر؟ فأنشأت تقول:
وقال الفرزدق:
وقال آخر:
وفال ابن المعتز:
وقال الأرجاني:
وقال آخر:
لذة الحب كلها
ليس للقلب والروح ألذّ ولا أطيب، ولا أحلى ولا أنعم من محبة الله، والإقبال عليه، وعبادته وحده، وقرة العين به، والأنس بقربه، والشوق إلى لقائه ورؤيته، وإن مثقال ذرة من هذه اللذة لا يُعْدل بأمثال الجبال من لذات الدنيا.
وقال بعض العارفين: «من قرت عينه بالله قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، ويكفي في فضل هذه اللذة وشرفها أنها تخرج من القلب ألم الحسرة على ما يفوت من هذه الدنيا، حتى إنه ليتألم بأعظم ما يلتذّ بها أهلها، ويفر منه فرارهم من المؤلم، وهذا موضع الحاكم فيه الذوق لا مجرد لسان العلم».
وكان بعض العارفين يقول: مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا ولم يذوقوا طيب نعيمها، فيقال له: وما هو؟ فيقول: محبة الله، والأنس به، والشوق إلى لقائه، ومعرفة أسمائه وصفاته.
وقال آخر: والله إنه ليمرُّ بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذه الحال، إنهم لفي عيش طيب. وأنت ترى محبة من محبته عذاب القلب والروح كيف توجب لصاحبها لذة يتمنى معها أنه لا يفارق من أحبه، كما قال شاعر الحماسة:
أحسنتِ زِيدِي
قال عبد الله بن المبارك: عشق هارون الرشيد جارية من جواريه، فأرادها، فقالت: إن أباك مسني؛ فشغف بها، وقال فيها:
لذة اللقاء شفاء
وذكر العتبي أن شابًّا من ولد عثمان، وشابًّا من ولد الحسين خرجا يريدان موضعًا لهما، فنزلا تحت سرحة، فأخذ أحدهما ورقة فكتب عليها:
وكتب الآخر:
ثم مضيا، فلما رجعا وجدا مكتوبًا تحت ذلك:
دعاء في الطواف
وقال أبو المنجاب: رأيت في الطواف فتى، نحيف الجسم، بيِّنَ الضعف، يلوذ ويتعوذ ويقول:
فقلت: يا فتى، ما لهذه البنية حرمة تمنعك عن هذا الكلام؟ فقال: بلى والله، ولكن الحب ملأ قلبي بفرح التذكر، ففاضت الفكرة في سرعة الأوبة إلى من لا يشذ عن معرفة ما بي، فتمنيت المنى، والله ما يسرني بما في قلبي منه ما فيه أمير المؤمنين من الملك، وإني أدعو الله أن يثبته في قلبي عمري، ويجعله ضجيعي في قلبي، دريت به أو لم أدر، هذا دعائي، أو أنصرف من حجتي، ثم بكى. فقلت: ما يبكيك؟ قال: خوف ألا يستجاب دعائي، وله قصدت، وفيه رغبت!
محبة الأعداء
من الكلمات المأثورة عن السيد المسيح عليه السلام قوله: «أحبوا أعداءكم».
وقال دعبل الخزاعي:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال أحد الشعراء: