صفات الحب وأغراضه
الحب ما هو؟
قال أبو بكر الورَّاق: سأل المأمون عبد الله بن طاهر ذا الرياستين عن الحب ما هو؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إذا تقادحت جواهر النفوس المتقاطعة بوصل المشاكلة، انبعثت منهما لمحة نور تستضيء بها بواطن الأعضاء، فتتحرك ﻹشراقها طبائع الحياة؛ فيصوَّر من ذلك خلقٌ حاصرٌ للنفس، متصل بخواطرها يسمَّى الحب.
وسئل حماد الراوية عن الحبّ ما هو؟ فقال: الحبُّ شجرة أصلها الفكر، وعروقها الذِّكر، وأغصانها السَّهَرُ، وأوراقها الأسقام، وثمرتها المنيَّة.
وقال معاذُ بن سهلٍ: الحب أصعب ما رُكب، وأسكر ما شُرب. وأقطع ما لُقِي، وأحلى ما اشتُهي، وأوجع ما بَطَن، وأشهى ما عَلَن. وهو كما قال الشاعر:
وقال بشار العقيلي:
وقال غيره:
وقال الفقيه الفيلسوف أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم في كتاب «طوق الحمامة في الألفة والألَّاف»: الحب أوله هزلٌ، وآخره جِدّ، دَقَّت معانيه — لجلالتها — عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة، وليس بمنكر في الديانة، ولا بمحظور في الشريعة؛ إذ القلوب بيد الله عز وجل.
وقد أحبّ من الخلفاء المهديّين، والأئمة الراشدين كثير.
وأفتى ابن عباس بأن قتيل الحب لا دية له، والحب اتصالٌ بين أجزاء النفوس.
وقال الله عز وجل: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ….
وللحب علاماتٌ منها: إدمان النظر إلى المحبوب، واﻹقبال بالحديث إليه، واﻹنصات إلى حديثه، وتصديقه وإن كذب، وموافقته وإن ظلم، والشهادة له وإن جار.
ومن أفضل ما يأتيه الإنسان في حبه: التعفف، وترك ركوب المعصية والفاحشة.
وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله ﷺ: «سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمامٌ عادلٌ، وشاب نشأ في طاعة الله عز وجل، ورجلٌ قلبه معلقٌ بالمسجد، إذا خرج منه لا يلبث حتى يعود إليه، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا، ورجلٌ ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ورجلٌ تصدق فأخفى؛ حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».
الحب والمحبوب١
قولهم: أحببت حبًّا: الحب ليس بمصدر لأحببت، إنما هو عبارة عن الشغل بالمحبوب، ولذلك جاء على وزنه مضموم الأول، ومن ثم جمع كما يجمع الشغل، قال: ثلاثة أحباب: فحبُّ علاقة، وحبٌّ لخلّان، وحبٌّ هو القتل.
وكلما كان الفعل أعمّ وأشيَع، لم يكن لذكر مصدره معنى، ولولا كشف الشاعر لاختلاف أنواع الحب ما كدنا نعرف ما فيه من المعموم، وأنه في معنى الشغل كما تقدم.
وقد أنشدوا في الصحاح بيتين هما:
ولما جاءوا إلى اسم الفاعل أتوا بالاسم الرباعي حتى كأنهم لم ينطقوا بالثلاثي فقالوا: محبٌّ، ولم يقولوا: حاب أصلًا. وجاءوا إلى المفعول فأتوا به من الفعل الثلاثي — في الأكثر — فقالوا: محبوب، ولم يقولوا: محب، إلا نادرًا، كما قال:
فهذا من: أحببت كما أن المحبوب من: حببتُ، ثم استعملوا لفظ الحبيب في: المحبوب، أكثر من استعمالهم إياه في المحبّ، مع أنه يطلق عليهما.
فمن مجيئه بمعنى المفعول قول ابن الدمينة:
أي: لمحبوب. ومن مجيئه للفاعل، قول المجنون:
فهذا بمعنى: محبها. وربما قالوا للحبيب: حِبٌّ، مثل: خدن، فخدنٌ وخدينٌ مثل: حبّ وحبيب. وإذا ثبت هذا فقوله: الحبُّ ليس بمصدر لأحببت، إنما هو عبارة عن الشغل بالمحبوب، وأجروه على الفعل الرباعي استغناء عن مصدره، وهذا لكثرة ولوع أنفسهم بالحب وألسنتهم به، فاستعملوا منه أحب المصدرين استغناء به عن أثقلهما.
فلما كان المحبُّ ملازمًا لذكر محبوبه، ثابت القلب على حبه، مقيمًا عليه لا يروم عنه انتقالًا، ولا يبغي عنه زوالًا، اتخذ له في سويداء قلبه وطنًا، وجعله له سكنًا، حيث قال:
وفي شرح لامية العجم للصّفدي:
الحُب بالضم: المحبة، وبالكسر: الحبيب نفسه، قال ابن الأنباري: «الحِب هو الحبيب، يقال للمذكر والمؤنث بلفظ واحد»، ويحكي عن بعض العرب أنهم يقولون: فلانة حِبَّتي.
عشق الشرف، وعشق الجمال
قال عروة بن الزبير رحمه الله: «ما عشقت من امرأة قطّ إلا حسن شرفها؛ فإني لأعشق الشرفَ كما أعشق الجمال».
وإنما أراد الحسب، وصراحة النسب، كما قال عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: «ما عشقت من امرأة قط الا حسبها».
وقال كُثيِّر الشاعر:
ولم يرد: القصيرة القدّ، وإنما أراد المقصورة في الجمال، من قولك: قصره، إذا حبسه.
والمقصورة هي: المحجوبة. ومنه قول الله تعالى: حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ، أي: محبوسات. وقوله تعالى: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ، أي: قصرن نظرهنّّ على أزواجهنّ، فلا يبغين بهم بدلًا.
ويدل على مراد كُثيِّر في بيته، قوله في البيت الذي بعده:
والبحاتر: القصار.
أحلام المحبين
كان أبو القاسم عليّ الشريف المرتضى شاعرًا عفّ اللسان، يهوى الحسن أينما وجده، وينحو فيه منحى طاهرًا بريئًا، واشتهر بحب الجمال العذري، وقد عشق الأدب الرفيع، كما عُمّر فوق الثمانين عامًا، حيث ولد سنة ٣٥٥ وتوفي سنة ٤٣٦هـ. ومن شعره:
وقال الشريف الرضي (أخوه) وكان شاعرًا مثله يتفق معه في هواه، وحبه، وعشقه للحُسن والجمال:
الحبيب الأول، والحبيب الآخر
قال حبيب الطائي:
وقد ردّ عليه شعراء آخرون، فمن ذلك قول بعضهم:
ومنه قول ديك الجن الحمْصي:
فقال حبيب «حين بلغه قول ديك الجن»:
الحب مع اختلاف الدين
قال أبو الطحان الأسديّ، وكان نديمًا لناسٍ من النصارى:
•••
وللشيخ رجب الحريري قصيدة يصف فيها حبّه لفتى نصراني يقول فيها:
الحب في كلِّ حال
قال عنترة العبسيُّ به يصف حبّه لعبلةَ ابنة عمِّه، على ظلمها إياه:
وقال بعضهم في الوداع:
وقال دعبلُ الخزاعي:
حبُّ النساء المال
لقد كان «نُبيهٌ» بضم النون وفتح الموحدة بعدها «ياء» ساكنه «فهاء»، وكنيته «أبو الزرام» بتشديد الزاي المعجمة، ابن الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعيد بن سهم بن عمر بن هُصيص «بالتصغير» بن كعب بن لؤي بن غالب، وكان نبيهٌ شاعرًا مطبوعًا على الإجادة، وقد قيل: إن زيد بن عمرو بن نفيل كان يقول:
فقال نُبيهٌ من القافية نفسها في زوجتيه، وقد سألتاه الطلاق:
ومن شعره:
وله أيضًا:
في خلاصة الأثر ج٢
كان الأديب حسين بن أحمد بن حسين المعروف «بابن الجزري» الشاعر المشهور الحلبيّ أحد المجيدين، جمع شعره بين الصناعة والرقة، كان إذا تكلم لا يظنّه الإنسان يعرف شيئًا، وكان له خطٌّ نسخي غاية في الحسن إلا أنه كان شديد الأخلاق أحيانًا، وكان مغرمًا بشعر أبي العلاء المعري، كثير الأخذ منه، وأخيرًا رآه في منامه، وقرأ عليه اللزوميات، وسمعه يقرر في تلك الرؤيا: أنّ الخير كل الخير فيما أكرهتك النفس الطبيعية عليه، والشر كل الشر فيما أكرهتك النفس عليه.
ومن شعر ابن الجزريّ:
ومن شعره في الغزل:
ومن جيد شعره قوله:
الحب خضوع النفس
وكان حاتم بن أحمد بن موسى بن أبي القاسم بن محمد بن أبي بكر بن أحمد بن عمر الأهدل اليمني الحسيني مشهودًا له بتحصيل أنواع العلوم والمعارف، والنظم والنثر، وقد رحل إلى كثير من البلدان، وأقام بالحرمين، ثم توطن المخا، وحصل له بها شأن عظيم يغبطه عليه صفوة أصحابه وأترابه، إذ كان له يد طُولى في العلوم الشرعية، والفنون العربية، إلا أنه غلب عليه التصوف، كما كان متقنًا لعلم الأسماء والحروف، ودوائر الأولياء، حتى إنه كان زاهدًا في الدنيا، ومن شعره قوله مشطرًا فائية ابن الفارض:
وقال مخمِّسًا قصيدة ابن النبيه:
أشقى الناس أهواها
زين الدين أحمد بن علي بن الحسين بن علي الشافعي الحلبي، ولد بحلب، ونشأ بها، وكان له مذاكرة تأخذ بلُبِّ الصاحب ومحاضرات، وترغب من محاضرات الراغب، وله شعر قصير منه قوله:
وقال متغزلًا:
رابعة العدوية
كانت أم الخير رابعة بنت إسماعيل العدوية البصرية، مولاة آل عتيك، من أعيان عصرها، وأخبارها في الصلاح والعبادة مشهورة.
وذكر أبو القاسم القشيري في «الرسالة» أنها كانت تقول في مناجاتها: إلهي … أتحرق بالنار قلبًا يحبك؟ فهتف بها مرة هاتفٌ: ما كنا نفعل هذا، فلا تظني بنا ظنّ السوء!
وكان سفيان الثوري عندها يومًا، فقال: واحزناه! فقالت له: «لا تكذب، بل قل: وا قلة حزناه؛ لو كنت محزونًا لم يتهيأ لك أن تتنفّس».
وقال بعضهم: كنت أدعو لرابعة العدوية، فرأيتها في المنام تقول: هداياك تأتينا على أطباق من نور، مخمّرة بمناديل من نور.
وكانت تقول: ما ظهر من أعمالي فلا أعدُّه شيئًا.
ومن وصاياها: اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم.
وأورد لها الشيخ شهاب الدين السهروردي في كتاب «عوارف المعارف» قولها:
الحب أحسن المعاصي
في «لوعة الشاكي، ودمعة الباكي» لابن الصفدي:
انتصف الليل، وأقبلت عساكر السعد بالرَّجْل والخيل، فأمرت صاحبي برفع المدام، وتجهيز المرقد للمنام، فرفع الأواني في الحال، وأقبل على ذلك الشأن وطال، وعلق في المرقد نفحات المسك الأذفر، وأطلق فيه مباخر الند والعنبر. ثم قال: أين ترسم لي أن أبيت؟ فقلت: نم عندنا لكن خارج البيت، فأنت ممن تحققنا منه المروءة والشفقة، فاخرج عنَّا، ورد الباب بالحلقة. ففعل ما أمرناه وخرج، ولم يبق في الصدر همٌّ ولا حرج، فقلت لمحبوبي: أما تقوم بنا لننام، وأتنعم بتقبيل الثغر واعتناق القوام؟ فقال لي: أقوم ولكن العناق حرام، فقلت: في عنقي تكون الأوزار والآثام:
فقال: أستغفر الله من الفجور واللغط، ومن وقوعك أيها الإنسان في الغلط.
فقلت: لا تظن أن محبتك من المعاصي والسيئات، واعلم أن هواك من أفضل الفضائل، وأحسن القربات.
الهوى قدرٌ
أخبرنا أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش. قال: أخبرنا أبو العباس محمد بن يزيد المبرِّد قال: سألت أبا الفضل الرياشي عن معنى قول الشاعر:
فقال: هو عندي كقولهم: ويل للشجيِّ من الخليِّ. ومعناه: أن البرق يضحك والريح تبكي.
وذهب بعضهم إلى أن المعنى أن الريح تبكي شجوها، والبرق يبكي أيضًا وهو يلمع في الغمامة.
وأنشدنا أبو بكر الأصبهاني لنفسه:
وأنشدنا لنفسه في مثل هذا:
وأنشدنا أبو إسحاق الزجاج قال: أنشدنا أبو العباس محمد بن يزيد:
وأنشد سليمان بن عبد الله بن طاهر لأبيه: