أنواع الحب
ضروب المحبة١
المحبة ضروبٌ: أفضلها محبة المتحابين في الله، ثم محبة القرابة، ومحبة الألفة والاشتراك في المطالب، ومحبة التصاحب والمعرفة، ومحبة البرِّ يصنعه المرء عند أخيه، ومحبة الطمع في جاه المحبوب، ومحبة المتحابين لسرٍّ يجتمعان عليه، ويلزمهما ستره، ومحبة بلوغ اللذة وقضاء الوطر، ومحبة العشق الناشئة عن اتصال النفوس.
حب الولد٢
أرسل معاوية إلى الأحنف بن قيس فقال: يا أبا بحر، ما تقول في الولد؟
قال: ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرضٌ ذليلةٌ، وسماء ظليلةٌ، فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فأرضهم، يمنحوك ودّهم، ويحبوك جهدهم، ولا تسكن عليهم ثقيلًا؛ فيملوا حياتك، ويحبوا وفاتك.
فقال معاوية: لله أنت يا أحنف، لقد دخلت عليّ وإني لمملوء غضبًا على يزيد، فسللتَهُ من قلبي.
فلما خرج الأحنف من عنده بعث معاوية إلى يزيد بمائتي ألف درهم ومائتي ثوب. فبعث يزيد إلى الأحنف بمئة ألف درهم ومئة ثوب.
وكان عبد الله بن عمر يذهب بولده سالمٍ كلّ مذهب، حتى لامه الناس فيه فقال:
وقال: إن ابني سالمًا، ليحبُّ الله حبًّا لو لم يَخَفْهُ ما عصاه.
وكان يحيى بن اليمان يذهب بولده داود كل مذهبٍ حتى قال يومًا: أئمة الحديث أربعةٌ: كان عبد الله، ثم كان علقمة، ثم كان إبراهيم، ثم أنت يا داود.
وقال: تزوجتُ أم داود، فما كان عندنا شيء ألُفُّهُ فيه حتى اشتريت له شِكوةً بدانق.
وقال زيد بن عليّ لابنه: يا بنيَّ، إن الله لم يرضك لي فأوصاك بي، ورضيني لك فحذَّرَنيك، واعلم أن خير الآباء للأبناء من لم يدعُهُ التدليل إلى التفريط، وخير الأبناء للآباء من لم يدعُه التقصير إلى العقوق.
وفى الحديث المرفوع: «ريحُ الولد من ريح الجنة». وفيه أيضًا: «الأولاد من ريحان الله».
وقال النبي ﷺ، لما بشر بفاطمة: «ريحانةٌ أشمها، ورزقها على الله».
ودخل عمرو بن العاص على معاوية وبين يديه بنتُه عائشة، فقال: من هذه؟ قال: هذه تفاحة القلب. فقال له: انبذها عنك، فوالله إنهنّ ليلدن الأعداء، ويقربن البُعداء، ويورثن الضغائن.
فقال له معاوية: لا تقل ذاك يا عمرو؛ فوالله ما مرض المرضى، ولا ندب الموتي، ولا أعان على الأحزان مثلهنّ، وربّ ابن أخت قد نفع خالَهُ.
وقال المعلّى الطائي:
وكانت فاطمة بنت رسول الله ﷺ تُرقِّص الحسين بن علي (رضي الله عنهما) وتقول:
وكان الزبير بن العوام يرقِّص عُروة ابنه ويقول:
وقال أعرابي يرقِّص ولده:
حبّ الأيامى واليتامى٤
من بديع أخبار الحَكَم: أن العباس الشاعر توجه إلى الثغر، فلما نزل بوادي الحجارة، سمع امرأة تقول: وا غوثاه بك يا حكم، لقد أهملتنا حتى كَلَبَ العدو علينا فأيمنا وأيتمنا. فسألها عن شأنها، فقالت: كنت مقبلةً من البادية في رفقة، فخرجت علينا خَيلُ عدوٍ فقتلت وأسرتْ، فصنع قصيدته التي أولها:
فلما دخل عليه أنشده القصيدة، ووصف له خوف الثغر، واستصراخ المرأة باسمه، فأنف ونادى في الحين بالجهاد والاستعداد، فخرج بعد ثلاثٍ إلى وادي الحجارة، ومعه الشاعر، وسأل عن الخيل التي أغارت من أي أرض العدو كانت؟ فأُعْلِمَ بذلك، فغزا تلك الناحية، وأثخن فيها، وفتح الحصون والديار، وقتل من العدو عددًا كثيرًا، وجاء إلى الوادي فأمر بإحضار المرأة، وجميع من أُسر له أحدٌ في تلك البلاد ثم أمر بضرب رقاب الأسرى بحضرتهم، وقال للعباس: سلها هل أغاثها الحكم؟ فقالت المرأة وكانت نبيلة: والله لقد شفى الصدور، وأنكى العدو، وأغاث الملهوف، فأغاثه الله، وأعزَّ نصره.
فارتاح لقولها، وبدا السرور في وجهه وقال:
فقبل عباس يده وقال: نعم، جزاك الله خيرًا عن المسلمين.
أمثال في الحبّ٥
قول لسان الدين الخطيب:
أصناف المحبّين والعشاق كثير، بحيث يشق إحصاؤهم، ولا يتأتى استقصاؤهم، كما أورد أبياتًا من قصيدة أبي فراس الحمداني، التي يقول فيها:
وفي هذا تنبه النفوس الصعبة، على حكم المحبة، لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ.
ثم قال المؤلف: «وهذه حكمٌ تجري مجرى الأمثال: المحبة بحرٌ بعيد الشط، والفناء منتهى الخط، المحبة مهوى من بعيد، ومجالُ وعدٍ ووعيد.
المحبة ظهرٌ لا يركبه من يرى الموت فيتنكبه، كم قصمت المحبة من ظهر، وكم سيَّر صوتٌ إلى قهر.
حجة بالغة
قال ابن السبكي رحمه الله تعالى: