الشعراء العشاق
جميل بُثَيْنَة١
إنه لمعلوم أن بثينة محبوبة جميل قائد الشعر، وقد نسب بعض الشعراء بنساء مخصوصة، واشتهر كل واحد منهم بمن تغزل بها، فاشتهر جميل ببثينة، واشتهر كثيّر بعزة، وعروة بن حزام بعفراء، وقيس مجنون بني عامر بليلى، وقيس بن ذريح بلبنى، والمرقش بفاطمة، وذو الرمة بميّة وهي الخرقاء، والعباس بن الأحنف بفوز.
وبعض الشعراء لا يلتزم التغزل بامرأة مخصوصة كامرئ القيس.
وبثينة مصغر بثنة — قال صاحب الصحاح: البثنة — بالتسكين: الأرض اللينة، وبتصغيرها سميت: بثينة.
أما قصة جميل بن معمر العذري، فقد روى صاحب «الأغاني» بسنده، قال: اجتمع جميل مع جماعة من رهطه يتحدثون، فقال بعضهم: بالله حدثنا بأعجب يوم لك مع بثينة. قال: نعم، مُنعَتْ من لقائي مدة، وتعرضت لها جهدي، فلم أصل إليها، فبينما أنا ذات ليلة جالس بين شجرات بالقرب من حيها، وقد أقمت ثلاثًا أنتظرها، إذا شخص قد أقبل إليّ، فجلست وانتضيت سيفي، فلم ألبث أن غشيني الشخص، فإذا هي بثينة قد أكبت عليّ؛ فأدهشنى ذلك، وبقيت متحيرًا لا أحير جوابًا إليها، ولا أراجعها كلمة حتى برق الصبح، وما استطعت أن أكلمها.
قالوا: فهل قلت في ذلك شيئًا؟ فأنشدهم قصيدة طويلة، وهذه أبيات من أولها:
وروى صاحب الأغاني عن الهيثم أن جميلًا طال مقامه بالشام، ثم قدم وبلغ بُثَيْنَةَ خبره، فراسلته مع بعض نساء الحي، تذكر شوقها إليه، ووجدها به، وواعدته لموضع يلتقيان فيه، فصار إليها، وحادثها طويلًا، وأخبرها بحاله بعدها.
قال: وقد كان أهلها رصدوها، فلما فقدوها تبعها أبوها وأخوها حتى هجما عليها، فوثب جميل فسلَّ سيفه وشدَّ عليهما، فاتقياه بالهرب، وناشدته بثينة بالانصراف وقالت: إن أقمت فضحتني، ولعل الحيَّ أن يلحقوك، فأبى وقال: أنا مقيم، وامضي أنت وليصنعوا ما أحبوا، فلم تزل تناشده حتى انصرف، وقد هجرته مدةً طويلةً ولم تلقه، فقال هذه الأبيات الستة:
كثير عزة
قال الفتى القرشي: فإني لجالس إذ أقبل كثير فجلس إلى جنبي ولم يسلم، ثم جاءت امرأة جميلةٌ وسيمةٌ، فاستندت إلى خيمةٍ من خيام قديد، ثم قالت له: أنت كثير بن أبي جمعة؟ قال: نعم. قالت: أنت الذي تقول:
قال: نعم. فتأمّلت وجهه مبتسمة وقالت: أعلى مثل هذا الوجه هيبة؟ إن كنت كاذبًا فعليك لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
فقال لها: كثيّر: من أنت؟ واحتد عليها وهي ساكتة، ثم قال لها: لو أعلم من أنت لقطعتك وقطعت قومك هجاء. فلما سكن، قالت له: أأنت الذي تقول:
أنت جميل المحيا؟! إن كنت كاذبًا فعليك لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
فضجر كثيّر، وسكتت عنه حتى سكن. ثم قالت: أنت الذي يقول:
أهذا الوجه يروق العيون؟ إن كنت كاذبًا فعليك لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. فازداد ضجرًا، وقال: قد أعلم من أنت، ولأقطعنك وقومك، وقام، فالتفت فإذا هي قد ذهبت.
قال القرشي: فلما كان منصرفي من قديد، سألت مولاة هناك عن تلك المرأة، وقلت لها: لك عليّ إن أخبرتني من هي أن أطوي لك ثوبيّ هذين إذا قضيت إحرامي، وآتيك بهما فأدفعهما إليك. قالت: والله لو أعطيتني وزنهما ذهبًا ما أخبرتك من هي. هذا كثيِّرٌ — وهو مولاي — قد أبيت أن أخبره من هي.
قال القرشي: فرحت وبي أشد مما بكثيّر!
عمر بن أبي ربيعة
من شعر أمية بن الصلت في الغزل
قال أمية بن أبي الصلت من قصيدة له من «الطويل»:
حب امرئ القيس
من بين جبال اليمن السعيدة — وقد اشتهرت بخصب أرضها — جبل يقال له: ضارج … وهو جبل معروف يعلو سفحه نبات أخضر يسمى «العرمض»، ويعلو الماء فيه مكان مرتفع يقال له «طامي»، ويقال له أيضًا: ثور الماء، لتفجر ثورانه من بين صخور وأحجار.
وقد ذكر البكري أن ركبا من اليمن خرجوا يريدون رسول الله ﷺ فأصابهم ظمأ شديد كاد يقطع أعناقهم، فلما أتوا «ضارجًا» وهو ذلك الجبل الذي يفيء عليه الظل وارفًا جميلًا من نبات العرمض، بخضرته اليانعة، ورائحته الطيبة … ذكر أحدهم قول امرئ القيس:
وإنه لخبر عجيب — سقناه — على أثر من آثار الطبيعة التي أبدع الله صنعها.
ذو الرمّة وميّة
اشتهر ذو الرمّة بحب خرقاء، ولقبت: مية. ومما يؤثر عنه أنه يخاطب نفسه — في قصيدة طويلة كلها غزل ونسيب — فيقول:
توبة وليلى الأخيلية
ومن جيد ما ترثيه به قولها:
قال أبو القاسم رحمه الله: قولها: «أقسمت أبكي بعد توبة هالكًا»، أي: لا أبكي بعد توبة هالكًا. والعرب تضمر «لا» في القسم مع المعنى — لأن الفرق بينه وبين الموجب قد وقع بلزوم الموجب اللام والنون — كقولك: والله لأخرجن، وقال الله عز وجل: تَاللهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ، أي: لا تفتأ تذكر يوسف. وقولها: «ولا الميت إن لم يصبر الحيُّ ناشر» يقال: نشر الله الموتى فنشروا، أي أحياهم فحيوا.
قال الشاعر:
ومن أغرب ما روي في (الصدى) ما رواه أبو علي من أن ليلى الأخيلية مرت مع زوجها في بعض نجعهم بالموضع الذي فيه قبر توبة، وكانت متزوجة في بني الألكح بن عبادة بن عقيل، فقال لها زوجها: لا بدّ أن أعرج بك إلى قبر توبة كي تسلمي عليه؛ حتى أرى هل يجيب صداه — كما زعم — حيث يقول:
فقالت له: وما تريد من رمّة وأحجار؟! فقال: لا بدّ من ذلك، فعدل بها عن الطريق إلى القبر، وذلك في يوم قائظ، فلما دنت راحلتها من القبر، ورفعت صوتها بالسلام عليه، إذا بطائر قد استظل بحجارة القبر من فيح الهاجرة، فطار، فنفرت راحلتها ووقعت، فماتت!
وفي هذا الخبر ما يحقق ويصدق أن: البلاء موكل بالنطق. كما يروى أن أحد المولعين بالخمر قال:
وبعد حين من ذلك، مات ذلك المولع بالخمر، وزار قبره ذاكرٌ له فإذا هو عليه عريش، فتعجب من ذلك!
عبيد الله بن طاهر وجاريته
أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج — قال: أخبرنا أبو العباس المبرد قال: دخلت على عبيد الله بن عبد الله بن طاهر — وقد فصد فظننت أن ذلك لعلة، فأكثرت له من الدعاء، فقال: خفِّض عليك أبا العباس، فليس ذلك لعلة، وانظر ما تحت البساط، فنظرت فإذا رقعة فيها:
قلت: حسن أيها الأمير، فما سببه؟ قال: مددت البارحة يدي إلى إحدى الجواري بالضرب، فألمت لما نالها من الألم، فحلفت بقطع يدي، فأُفتيت بالفصد، ففعلت، وأنشدنا الأخفش لأبي نواس:
بحر هوى ليس له شطّ
أخبرنا أبو بكر محمد بن دريد قال: أخبرنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: دخل بعض الشعراء على يحيى بن خالد البرمكيّ، وبين يديه جارية يقال لها: خنساء، وكانت شاعرة ظريفة، فقال له: اعبث بها، فأنشأ يقول:
فقالت خنساء:
حب زينب بنت إسحاق النصراني
من فوائد الرضيّ الشاطبيّ المذكور، ما ذكره أبو حيان في الحب قال: وهو من غريب ما أنشدنا الإمام اللغوي رضي الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن يوسف الأنصاري الشاطبي لزينب بنت إسحاق النصراني:
التائب من الحب
قال: فلما سمعت ذلك منه تمكن الطمع مني، وكتبت في ورقة:
وكتبت تحت البيتين كلامًا كثيرًا في هذا المعنى، ثم دفعت إليه الورقة خلسةً.
فلما حصلت الورقة عنده كتب إليّ في غيرها: إنك لتعلم أني من بيت عريق في التقوى، وسأبقي عندي خطك شاهدًا على ما فرط منك، ولئن لم تنته لأطلعن عليها أبي وغيره؛ فتصيبك فضيحة الأبد.
أما إن انتهيت فلن أخبر بها أحدًا أبدًا.
فلما وقفت على خطه علمت قدر ما وقعت فيه، وجعلتُ أرغب إليه في أن يرُدّ الرقعة إليّ، فأبى وقال: هي عندي رهن على وفائك بألا ترجع إلى التكلم في ذلك الشأن.
ولم يسعني إلا أن امتثلت؛ لأني رأيت صيانتي وناموسي في يده، وتبت عن مثل هذه المداعبات.