الوصي فقط
السيَّاح الأمريكيون معجَبون حقيقيون بكلِّ ما هو عريقٌ وجذَّاب في إنجلترا، ودائمًا ما يتوقفون، ويحبسون أنفاسهم في لحظةٍ مفاجئة من الدهشة، أثناء مرورهم عبر البوابة نصف المتهدِّمة التي تؤدي إلى رايتشستر كلوس. إذ لا يوجد مكانٌ آخر في إنجلترا يُمثِّل مشهدًا أكثرَ جمالًا لصفاء العالم القديم. إذ يرتفع هناك أمامَ أعينهم، في وسط مرجٍ أخضرَ كبير، مُحاطًا بأشجار الدردار الطويلةِ والزَّان العملاقة، المبنى الضخمُ للكاتدرائية التي تعود إلى القرن الثالثَ عشر، والتي تخترق القمَّة المستدقَّة لبُرجها العالي السماءَ وتحوم حولها الغربان باستمرارٍ وهي تنعِق. كما يتحوَّل الحجرُ البالي، الذي يبدو عن قربٍ رقيقًا مثل الدانتيل، في ساعاتٍ مختلفة من اليوم إلى درجاتٍ متغيرة من اللون، تتنوَّع من الرمادي إلى البنَفسجي، بينما تتباينُ ضخامة الصَّحن الكبير والجَناحَين بنحوٍ مثير للإعجاب، مع التناقص التدريجي لقمة البرج، التي ترتفع عاليًا فوق البرج ونوافذِ الإضاءة العلوية إلى أن تُصبح في النهاية مجردَ خطٍّ مقابل السماء. في الصباح، كما في وقتِ ما بعد الظهر، أو في المساء، يسود هنا جوٌّ دائم من السلام؛ ليس حول الكنيسة الكبيرة وحدها، ولكن في البيوت الجذابة والعريقة التي توجد في كلوس. إن هذه المنازل التي هي أقلُّ قِدَمًا بقليل من الكتلة الحجرية الضخمة للكاتدرائية التي تُطل عليها نوافذُها التي يُغطيها اللبلاب، تجعل المراقبَ العادي يشعر أن الحياة هنا، بخلاف أيِّ مكان في العالم، من المؤكد أنها تسير بسلاسةٍ وهدوء. تحت تلك الجملونات العالية، خلف تلك النوافذ ذاتِ الفواصل المزخرفة، في الحدائق العتيقة الجميلة الواقعة بين الأروقة الحجَرية والمرج المظلَّل بالدردار، لا يمكن أن يوجد، حسَبما يعتقد المرء، سوى الراحة والسرور؛ حتى الشوارع المزدحمة في المدينة القديمة، خارج البوابة المتداعية، تبدو، في الوقت الحاليِّ، بعيدةً.
في واحدٍ من أقدمِ هذه المنازل، شبهِ مختبئ خلف الأشجار والشجيرات في أحد أركان كلوس، كان يجلس ثلاثةُ أشخاص لتناول الإفطار في صباحِ يومٍ صحوٍ من أيام شهر مايو. كانت الغرفة التي يجلسون فيها متناغمةً مع المنزل القديم ومحيطه — فهي غرفةٌ طويلة منخفضةُ السقف، جدرانها مبطَّنة بألواحٍ من خشب البلوط، وسطحها مبطَّن بعوارضَ من نفس نوع الخشب — وتحتوي على أثاثٍ عتيق، ولوحات، وكتب قديمة، بينما تُخفِّف حدَّةَ جوها العتيق كمياتٌ كبيرة من الزهور، موضوعة هنا وهناك في أوعيةٍ خزَفية قديمة، وعبر نوافذها العريضة، التي فُتحت ستائرها على مِصراعَيها، كان هناك مشهدٌ جذَّاب لحديقةِ أزهارٍ عاليةِ الحواف، كما تُشاهَد عبر الآفاق من خلال الأشجار والشجيرات أجزاءٌ من الواجهة الغربية للكاتدرائية، وهي تبدو الآن قاتمةً ورمادية في الظل. لكن في الحديقة وفي هذه الغرفة المعطرة برائحة الزهور، كانت الشمس تسطع عبر الأشجار على نحوٍ يبعث على البهجة، وتُسلِّط وميضًا من الضوء على الأواني الفضية والخزفية الموضوعة فوق الطاولة وعلى وجوه الأشخاص الثلاثة الذين يجلسون حولها.
من بينِ هؤلاء الثلاثة، كان اثنان منهم في سنِّ الشباب، بينما الثالث يُعَد من هؤلاء الرجال الذين يصعب تمامًا تخمينُ أعمارهم؛ فهو رجلٌ طويل القامة، حليقُ الذقن، لامعُ العينين، نشط، حسَنُ المظهر بطريقةٍ تدل على البراعة والمِهنية، ويكاد مَن يراه يجزم بأنه يمتهنُ مهنةً تتطلب تعليمًا راقيًا. في ظل الضوء العادي، لم يكن يبدو أنه قد تجاوزَ الأربعين، لكن الضوء القوي يكشف حقيقةَ أن شعره الداكنَ به خطٌّ رمادي، وكان يُظهر ميلًا إلى الشيب عند الصُّدغَين. إن هذا الرجل القوي، والذكي، والمهندم والمتأنق بشدةٍ كان طبيبًا يتمتع بعلاقة ممتازة مع مجتمعِ مدينةِ الكاتدرائية ذي الخصوصية. وكانت تحيط به هالةٌ لا يمكن إنكارها من الرضا والرفاهية — بينما كان يُقلب كومةَ الرسائل الموضوعة بجانب طبقه، أو يُلقي نظرةً خاطفة على صحيفة الصباح الموجودة بجانب مرفقه، كان من السهل إدراكُ أنه ليس لديه أيُّ هموم تتعدَّى مشاغلَه اليومية، وأنها — على حدِّ علمه في ذلك الوقت — ليست من المحتمل أن تُؤثِّر عليه كثيرًا. وعند رؤيته في هذه الظروف المنزلية المبهجة، على رأس طاولته، مع الكثير من الأدلة على الراحة والرغد والرفاهية المتواضعة، كان أيُّ شخص سيقول، دون تردُّد، إن الدكتور مارك رانسفورد هو بلا شكٍّ أحد الأناس المحظوظين في هذا العالم.
كان الشخص الثاني من الثلاثة شابًّا في السابعة عشرة من عمره على ما يبدو؛ لقد كان فتًى قويَّ البِنية، ووسيمًا من نوعية طلبة المرحلة الثانوية، وكان منهمكًا بطريقة جدِّية في أداء أمرَين مختلفين كلٌّ منهما عن الآخَر على نحوٍ كبير؛ الأول، تناوُل البيض واللحم المقدَّد والخبز المحمَّص الجاف، والثاني، دراسة كتاب مدرسي خاص باللغة اللاتينية، كان قد رفعه أمامه مُسنِدًا إياه على إناء التوابل الفِضِّي القديم. وهكذا راحت عيناه السريعتان تنتقلان بالتناوب بين كتابه وطبقِه، وبين الحين والآخر كان يُتمتم لنفسه بسطرٍ أو سطرين. لم يُعلِّق رفيقاه بأيِّ ملحوظة على جمعه بين الأكل والتعلُّم؛ فقد عرَفا من خبراتهما السابقة أن هذه هي طريقته خلال وقت الإفطار لتعويض اللحظات التي ضاعت من وقت دراسته في الليلة السابقة.
لم يكن من الصعب إدراكُ أن العضو الثالث في المجموعة، وهي فتاةٌ في التاسعة عشرة أو العشرين، كانت أختَ الفتى. كان لكلٍّ منهما شعرٌ بُني غزير، يميل في حالة الفتاة إلى درجة لونٍ تحتوي على مسحات من اللون الذهبي، وعينان رماديَّتا اللون فيهما مزيجٌ من اللون الأزرق، وكان لون بشَرتَيهما مشرقًا وزاهيًا، وكانا جميلَي المظهر وتبدو عليهما أماراتُ الصحة بوضوح. لم يكن أحد سيشكُّ في أن كِلَيهما قد عاش قدرًا كبيرًا من الوقت في الأماكن المفتوحة؛ كان للفتى بالفعل تكوينٌ عضلي وعصبي بارز، وبدت الفتاةُ كما لو كانت على دراية جيدة باللعب بمضرب التنس وعصا الجولف. ولن يُخطئ أحدٌ ويعتقدَ أن هذَين الأخَوَين هما من أقارب الرجل الجالس على رأس الطاولة؛ إذ لم يكن بينهما وبينه أدنى تشابهٍ في الملامح أو لون البشَرة أو الأسلوب.
وبينما كان يُطالع الفتى السطورَ الأخيرة من درس اللغة اللاتينية الخاص به، ويُقلِّب الطبيبُ الصحيفة، راحت الفتاة تقرأ رسالة؛ يبدو، من خطِّ اليد الكبير الممتد، أنها رسالةٌ من فتاة صديقة لها. وكانت مستغرِقة في قراءتها، عندما بدأ الجرسُ يدق، من أحد أبراج الكاتدرائية. حينئذٍ، نظرت إلى شقيقها.
وقالت: «إنه جرس مارتن، يا ديك!» ثم أضافت: «عليك أن تُسرع.»
قبل ذلك بأعوام طويلة، في أحد القرون الماضية، ترك مواطنٌ محترم من رايتشستر، يُدعى مارتن، مبلغًا من المال لعميد ومجلس الكاتدرائية بشرط أنه طالما ظلَّت الكاتدرائية قائمة، يجب أن يدق جرسٌ من برج الجرس الأصغر لمدة ثلاث دقائق قبل الساعة التاسعة كلَّ صباح، على مدار السنة. لا أحد يعرف الآن ماذا كان هدفُ مارتن آنذاك — لكن هذا الجرس كان يعمل على تذكير السادة الذين يذهبون إلى أعمالهم، والأولاد الذين يذهبون إلى مدارسهم، بأن موعد ذَهابهم قد اقترب. ومن ثَم تحرَّك ديك بيوري، دون أن ينبس ببنتِ شفَة، وشرب نصف قهوته، وانتزع كتابه، وأمسك بقبَّعةٍ موضوعة مع المزيد من الكتب على كرسيٍّ قريبٍ منه، واختفى عبر النافذة المفتوحة. فضحك الطبيب، ووضع صحيفته جانبًا، ومد يده حاملًا كوبَه عبر الطاولة.
وقال: «لا أعتقد أنكِ بحاجةٍ إلى أن تقلقي بشأن تأخُّر ديك، يا ماري.» ثم أردف: «أنت لا تُدركين جيدًا قوة الأرجل التي لا يتجاوز عمرها سبعة عشرَ عامًا. يمكن أن يصل ديك إلى أي نقطة معينة في حوالي ربع الوقت الذي أحتاج إليه أنا، على سبيل المثال، لفعل ذلك — علاوةً على ذلك، فهو لديه معرفة جيدة بكل الطرق المختصرة في المدينة.»
أخذَت ماري بيوري الكوب الفارغ، وبدأَت في إعادة ملئه.
وقالت ملاحظةً: «لا أريده أن يتأخر.» ثم أضافت: «إنها بدايةُ العادات السيئة.»
قال رانسفورد بتساهل: «أوه، حسنًا!» ثم أردف: «إنه بعيدٌ تمامًا عن أيِّ شيء من هذا القبيل، كما تعلمين. أنا لم أشتبِه حتى في أنه يُدخن، حتى الآن.»
أجابت ماري: «هذا لأنه يعتقد أن التدخينَ سيُوقف نموَّه ويتعارضُ مع مُمارسته للعبة الكريكيت.» ثم أردفت: «كان سيُدخن لولا ذلك.»
قال رانسفورد: «إذن هذا يمنحه ثناءً عاليًا.» ثم أضاف: «بل أقصى ما يُمكن من الثناء! إذ قد تعلَّم كيفية السيطرة على رغباته. وهذا شيء ممتاز — وغير معتاد، حسبما أتخيَّل. معظم الناس غيرُ قادرين على فعل ذلك!»
أخذ كوبه المعادةَ تعبئتُه، ونهض عن الطاولة، وفتح علبة سجائر كانت موضوعةً على رف الموقد. وبدلًا من أن تلتقطَ الفتاةُ رسالتها مرةً أخرى، نظرت إليه مع قليل من الشك.
وقالت: «هذا يذكرني ﺑ… بشيء أردتُ أن أقوله لك.» ثم أردفَت: «أنت محقٌّ تمامًا في أن الناس غيرُ قادرين على قمع رغباتهم. أنا … أنا أتمنى أن يَقدِر بعضُ الناس على ذلك!»
استدار رانسفورد بسرعة من جهة الموقد وصوَّب نحوها نظرةً حادة، فاحمرَّ وجهها. ونظرت بعيدًا نحو رسالتها، والتقطتها وبدأت في طيها بعصبية. وعند ذلك نطق رانسفورد اسمًا بصوتٍ عالٍ، واضعًا في صوته اقتراحًا سريعًا خاصًّا باستفسار عن المعنى.
سأل: «برايس؟»
أومأت الفتاة برأسها وأظهرت انزعاجًا وامتعاضًا واضحَين. وقبل أن يقول المزيد، أشعل رانسفورد سيجارة.
ثم قال في النهاية: «هل عاود فعل ذلك مجددًا؟» ثم أردف: «منذ آخر مرة؟»
أجابت: «مرتَين.» ثم أضافت: «لم أودَّ أن أُخبرك — خشيتُ أن أُزعجك بشأن ذلك. لكن ماذا عليَّ أن أفعل؟ أنا أكرهه بشدة — لا يُمكنني معرفةُ السبب، لكن هذا الشعورَ موجود، ولا شيء يمكن أن يُغيِّره أبدًا. وعلى الرغم من أنني أخبرتُه — من قبل — أنه لا فائدة من الأمر، فقد ذكره مرةً أخرى — أمسِ — في الحفلة التي أُقيمت بحديقة السيدة فوليوت.»
قال رانسفورد وهو يُزمجر: «تبًّا لوقاحته!» ثم أضاف: «أوه، حسنًا! سأُضطرُّ إلى تسوية الأمر معه بنفسي. لا فائدةَ من الاستهانة بأمرٍ كهذا. لقد ألمحت له بلطفٍ من قبل بشأن هذا الأمر. وبما أنه لم يتقبَّله فلم يترك أمامي من سبيل!»
سألتْ بقلق: «لكن ماذا ستفعل؟» ثم أضافت: «أنت لن تطردَه، أليس كذلك؟»
أجاب رانسفورد: «إذا كان لديه أيُّ احترام لذاته، فسيبتعد بعدَ ما سأقوله له.» ثم أردف: «لا تزعجي نفسَكِ بشأن ذلك — أنا لست مهتمًّا بما سيحدُث له على الإطلاق. إنه طبيبٌ ماهر بما فيه الكفاية، ومساعد جيد، لكنه لا يُعجبني، على نحوٍ شخصي — لم يُعجبني قطُّ.»
قالت ببطء: «لا أريد أن أعتقد أن أيَّ شيء أقوله يمكن أن يُفقده مكانته — أو أيًّا ما كنت تسميها.» ثم أردفت: «سيبدو ذلك …»
قاطعَها رانسفورد قائلًا: «لا تَشغَلي نفسك بذلك.» ثم أضاف: «إنه سيحصل على وظيفةٍ أخرى خلال دقيقتين — إذا جاز التعبير. وعلى أي حال، لا يُمكن أن نسمح لهذا بالاستمرار. من المؤكد أن هذا الرجل غبي! عندما كنتُ صغيرًا …»
توقَّفَ قليلًا عند هذا، واستدار بعيدًا، ونظر عبر الحديقة كما لو أنَّ بعض الذكريات قد راودَته فجأة.
قالت الفتاة وهي تُمازحه قليلًا: «عندما كنتَ صغيرًا — أي، بالطبع، منذ وقتٍ طويل جدًّا!» ثم أضافت: «ماذا كان يَحدُث؟»
أجاب رانسفورد: «إذا قالت المرأة لا — بنحوٍ لا لَبْس فيه — لمرةٍ واحدة، فإن الرجل يعتبر هذا ردًّا نهائيًّا.» ثم أضاف: «على الأقل هذا ما كنت دائمًا أُومن به. أما في الوقت الحاضر …»
قالت ماري: «أنت تنسى أن السيد بيمبرتون برايس من النوع الذي يُسميه معظم الناس شابًّا لَحوحًا جدًّا.» ثم أردفت: «إذا لم يحصل على ما يُريده في هذا العالم، فلن يكون ذلك بسبب أنه لم يطلبه. لكن إذا كان يجب عليك التحدُّثُ إليه — وأعتقد حقًّا أنه يجب! — فهل ستُخبره أنه لن يحصل … عليَّ؟ ربما سيعتبر ذلك ردًّا نهائيًّا منك — بصفتك وصيًّا عليَّ.»
قال رانسفورد: «لا أعرف ما إذا كان الآباء والأوصياء يُعتدُّ بهم كثيرًا في هذه الأيام الغبراء.» ثم أردف: «لكني لن أجعلَه يُزعجك. وأفترض أن الأمر أصبح مزعجًا بالفعل، أليس كذلك؟»
أجابته: «إنه لأمرٌ مزعج للغاية أن أُطلَب للزواج ثلاثَ مرات من قِبَل رجل أخبرته بنحوٍ قاطع، وحاسم، أنني لا أريده على الإطلاق!» ثم أضافت: «إنه أمرٌ … يُثير الحنق!»
قال رانسفورد بهدوء: «حسنًا.» ثم أردف: «سأتحدَّث معه. لن يُصبح هناك أيُّ إزعاج لك تحت هذا السقف.»
منحَته الفتاةُ نظرةً سريعة، والتفت رانسفورد بعيدًا عنها والتقط رسائله.
وقالت: «شكرًا لك.» ثم أردفَت: «لكن … ليست هناك حاجةٌ إلى إخباري بذلك؛ لأنني أعرفه بالفعل. والآن أتساءل عما إذا كنت ستُخبرني بشيء آخر.»
التفت رانسفورد إليها بقلق مفاجئ.
وسألها بحدَّة: «حسنًا؟» ثم أضاف: «ماذا؟»
فسألته: «متى ستُخبرني بكل شيء عن … عن ديك وعنِّي؟» ثم أردفت: «لقد وعدتَ أنك ستفعل في يومٍ من الأيام. وها قد مضى عام كامل منذ ذلك الحين. وقد أصبح عمرُ ديك سبعة عشر عامًا! وهو لن يظلَّ راضيًا دائمًا — مكتفيًا بمعرفة أن والدنا ووالدتنا قد تُوفِّيا عندما كنا صغارًا جدًّا، وأنك أصبحت وصيًّا علينا، ومدركًا كلَّ ما فعلتَه من أجلنا. هل سيظل كذلك؟»
وضع رانسفورد رسائله مرةً أخرى، ودفع يدَيه في جيوبه، وضم كتفَيه مقابل رفِّ المدفأة. ثم سألها: «ألا تعتقدين أنه من الأفضل أن تنتظري حتى تصلي إلى سنِّ الحادية والعشرين؟»
قالت وهي تضحك: «لماذا؟» ثم أردفَت: «أنا في العشرين من عمري، هل تعتقد حقًّا أنني سأصبح أكثرَ حكمةً خلال اثنَي عشر شهرًا؟ بالطبع لا!»
أجاب: «أنتِ لا تعرفين ذلك.» ثم أضاف: «ربما تُصبحين أكثرَ حكمةً بكثير.»
قالت في إصرار: «ولكن ما علاقة ذلك بالأمر؟» ثم تابعَت: «هل هناك أيُّ سبب يمنع إخباري — بكل شيء؟»
كانت تنظر إليه بقدْرٍ معيَّن من الإلحاح، وشعر رانسفورد، الذي كان يعلم دائمًا أن لحظةً من هذا النوع ستأتي حتمًا، وأنه لن يُمكنه مُماطلتُها بأعذارٍ عادية. ومن ثَم تردَّد بينما واصلت هي الكلام.
تابعت على نحوٍ أشبهَ بالتوسُّل: «أنت تعلم …» ثم أضافت: «أننا لا نعرف أيَّ شيء — على الإطلاق. فأنا لم أعرف شيئًا من قبل، وحتى وقتٍ قريب كان ديك أصغرَ من أن يهتم …»
سألها رانسفورد على عجل: «هل بدأ في طرح الأسئلة؟»
أجابت ماري: «مرةً أو مرتَين، مؤخرًا — أجل.» ثم أضافت: «إنه أمرٌ طبيعي.» ثم ضحكت قليلًا ضحكةً متكلَّفة. وتابعت: «إنهم يقولون إنه لا يُهم، في الوقت الحاضر، إذا كنت لا تستطيع معرفةَ مَن كان جدَّك — ولكن، فكِّر في الأمر، نحن لا نعرف مَن كان والدنا — باستثناء أن اسمه هو جون بيوري. هذا لا يوضح لنا الكثير.»
قال رانسفورد: «أنتِ تعرفين الكثير.» ثم أضاف: «لقد أخبرتكِ — وكنتُ دائمًا أخبركِ — أنه كان صديقًا لي منذ الصِّغر، يعمل بالتجارة، وقد تُوفي هو ووالدتك في عمر الشباب، وأنا، كصديق لهما، أصبحتُ وصيًّا عليكِ أنت وديك. هل … هل هناك أيُّ شيء أكثر من ذلك يُمكنني قوله؟»
أجابت، بعد صمتٍ دام طويلًا لدرجة أن رانسفورد بدأ يشعر بعدم الارتياح، قائلةً: «هناك أمرٌ أرغب — شخصيًّا — كثيرًا في معرفته.» ثم تابعَت: «لا تغضب — أو تشعر بالاستياء — إذا قلتُ لك بوضوحٍ ما هو. وأنا متأكدة تمامًا من أنه لم يخطر قط على بال ديك، لكنني أكبُرُه بثلاث سنوات. والأمر هو: هل كنتَ تُنفق علينا من مالك الخاص؟»
احمرَّ وجه رانسفورد والتفتَ عمدًا نحو النافذة، وأخذ للحظةٍ يُحدق في حديقته وبعضٍ من أجزاء الكاتدرائية. ثم التفتَ نحو الغرفة مرة أخرى، متعمدًا مثلما ابتعدَ ببصره عنها.
وقال: «كلا!» ثم تابع: «وحيث إنكِ قد سألتِني، سأُخبركِ بالأمر. كِلاكما لديه أموالٌ ستحصلان عليها عندما تبلغان سنَّ الرشد. إنها … إنها في عُهدتي. وهي ليست بالمبلغ الكبير ولكنه كافٍ لتغطية جميعِ نفقاتكما. التعليم — وكل شيء. وعندما تُصبحين في الحادية والعشرين من عمرك، سوف أُسلِّمك نصيبك — والأمر نفسُه بخصوصِ ديك. ربما كان عليَّ أن أُخبرك بكل ذلك من قبل، لكني لم أعتقد أنه أمرٌ ضروري. أنا … أنا بالقطع أميلُ إلى تجاهل هذه الأمور.»
ردَّت بسرعة، مع نظرةٍ مفاجئة جعلَته يلتفتُ بعيدًا مرة أخرى: «أنت لم تتجاهل الأمورَ الخاصة بنا قط.» ثم أضافت: «وأنا أردت فقط أن أعرف؛ لأنه كان لديَّ تصوُّر أننا … حسنًا، أننا نَدين لك بكل شيء.»
ردَّ متعجبًا: «ليس أنا مَن أوحى لك بذلك التصور!»
قالت: «كلا — لم يحدُث ذلك قط!» ثم تابعَت: «لكن ألا تفهم؟ لقد أردتُ أن أعرف شيئًا. شكرًا لك. لن أطرحَ المزيد من الأسئلة الآن.»
قال رانسفورد بعد فترةِ صمتٍ أخرى: «كنتُ دائمًا أنتوي — بشدة — إخبارَكِ.» ثم تابعَ بقلق: «ولكن كما تُلاحظين، أنا لا أستطيع — حتى الآن — أن أستوعبَ أن كِلَيكما يكبُر! لقد كنتِ في المدرسة قبل عام. وديك لا يزال صغيرًا جدًّا. هل … هل أنتِ أكثرُ رضًا الآن؟» ثم أضاف: «لو لم تكوني كذلك …»
أجابت: «أنا راضيةٌ تمامًا.» وتابعت: «ربما — في يومٍ من الأيام — ستُخبرني بالمزيد عن والدِنا ووالدتنا، أليس كذلك؟ — ولكن لا تَشغل بالك بهذا الأمر الآن. هل أنت متأكدٌ من أنك لم تكن تُمانع في أن أسأل ما قد سألتك عنه؟»
قال على عجَلٍ: «بالطبع لا … بالطبع لا!» وأردف: «كان يجب أن أتذكر. لكننا سنتحدَّثُ مرة أخرى. يجب أن أدخل إلى العيادة الآن وأتحدَّثَ أيضًا مع برايس.»
قالت: «أتمنى لو أمكنَك فقط أن تجعله يتعقَّل ويَعِدُ بعدم التعرُّض لي مرة أخرى.» وتابعت: «ألن يحُلَّ ذلك المشكلة؟»
هز رانسفورد رأسه ولم يُجِب. ثم التقط رسائله مرةً أخرى وخرج إلى ممرٍّ طويل حجَريِّ الجدار، يؤدي إلى عيادته الواقعة بجانب المنزل. كان بمفرده هناك عندما أغلق البابَ وتنفَّس الصُّعداء بتأوهٍ عميق.
ثم غمغمَ قائلًا: «فلتُساعدني السماء إذا أصرَّ الفتى يومًا على معرفة الحقيقة الفعلية وعلى تقديم البراهين والحقائق له!» ثم تابع: «أنا لا أُمانع في إخبارها، عندما تكبَر قليلًا؛ لكنه لن يتفهَّم مثلما ستتفهَّم هي. على أي حال، بفضل الله أستطيعُ أن أُواصل القصة الخيالية الممتعة الخاصة بالمال دون أن تعرف أبدًا أنني كذبتُ عليها متعمدًا الآن. لكن ماذا عن المستقبل؟ ها هو رجل سيُطرَد بالفعل، وسيكون هناك آخرون، وسيكون أحدهم هو الرجلَ المفضَّل لها. وسيتوجب إخبارُ ذلك الرجل! وكذلك هي، عندئذٍ. يا إلهي! هي لا تُدرك، ولا يجب أن تدرك، أنني أعشقها بجنون! ليست لديها فكرةٌ عن ذلك — ولن يُصبح لديها؛ يجب … يجب أن أظلَّ بالنسبة إليها — الوصيَّ فقط!»
ضحِك بسخريةٍ بعضَ الشيء بينما كان يُلقي رسائله على مكتبه ويشرَعُ في فتحها، لكن قاطع انشغالَه فتحُ الباب الجانبي ودخولُ السيد بيمبرتون برايس.