السبق
وفقًا لقدرته التي لا يمكن إنكارها على التدبير والتخطيط، أجرى برايس استعداداتٍ مناسبةً وحريصةً من أجل زيارته لمقبرة ريتشارد جينكينز. وحتى في ظل حالة الارتباك المؤقَّت التي أعقبَت عثوره على جثة كوليشو، كان منتبهًا بما يكفي لتحقيق أغراضه المباشرة بحيث لاحظ أن المقبرة — وهي بناءٌ قديم جدًّا ومتهدم — توجد في وسط مساحةٍ صغيرة من الرصيف الحجري بين أشجار الصنوبر وحائط صحن الكاتدرائية؛ كما لاحظ أن الرصيف يتألف من بلاطات صغيرة مربعة الشكل من الحجر، التي بعضها يحمل أحرفًا أُولى وتواريخَ. إن إلقاء نظرة فاحصة على المكان المفترض للنقطة المحددة التي كان يريدها، كما هو موضَّح في قصاصة الورق المأخوذةِ من حقيبة برادن، أظهر له أنه كان سيتعيَّن عليه رفعُ واحدة من تلك البلاطات الصغيرة — وربما اثنتَين أو ثلاثٍ منها. ولذا فقد جهَّز نفسه بعَتلة قصيرة من الفولاذ المقسى، اشتراها خِصِّيصى من تاجر الأدوات المعدنية، وبمصباح صغير. ولو قُبض عليه وفُتش وهو يشق طريقه نحو محيط الكاتدرائية فربَّما كان من المعقول أن يُشتبه به لتخطيطه لاقتحام المتحف والاستيلاءِ على الكنوز المتنوِّعة التي تشتهر بها رايتشستر. لكن برايس لم يخشَ الاعتقال ولا الاشتباه. إذ إنه أثناء إقامته في رايتشستر، تجوَّل كثيرًا حول المدينة العتيقة في الليل، وكان يعلم أن بارادايس، في أي وقتٍ بعد حلول الظلام، تُصبح مكانًا مهجورًا. قد يعبر الناسُ الممرَّ القريب إلى البوابة الصغيرة عن طريق المسار الخارجي، لكن لن يخترقَ أحدٌ الحاجزَ السميك من الصنوبر والسرو عندما يحُلُّ الليل. والآن، في أوائل الصيف، يصبح حاجز الأشجار والشجيرات سميكًا للغاية وكثيفَ الأوراق، بحيث إنه بمجرد الدخول إلى الفِناء، ومع وجود أوراق الشجر على جانب، والجدران العظيمة للصَّحن على الجانب الآخر، يُصبح هناك احتمالٌ ضئيل بأن يكتشف أيُّ شخصٍ ما يفعله أثناء مهمة البحث التي يُجريها. ومن ثَم لقد توقَّع القيام بمهمة سريعة وهادئة، تُنجَز في غضون دقائق قليلة.
ولكن كان هناك شخصٌ آخر في رايتشستر يعرف قدرًا كبيرًا من جغرافيا فِناء بارادايس مثلَما يعرفها بيمبرتون برايس. إذ إن علاقة ديك بيوري وبيتي كامباني قد تطورت مؤخرًا من مرحلةِ زمالة الدراسة إلى بدايات فجرِ الحب الأولى، وعلى الرغم من أن لقاءاتهما المتكررةَ قد بدأت بالمراسلات الرومانسية فيما بينهما، فإن بهجةَ وغموض تلك المراسلات قد تضاعفَت مائة ضعفٍ عبر طريقةٍ سرية لتبادلها. ففي داخل البوابة الصغيرة لبارادايس، يوجد نصبٌ تذكاري عتيق به تجويف مناسب — حوَّله ذكاء ديك بيوري إلى مكتبِ بريدٍ للحب. لقد كان يضع فيه بانتظامٍ رسائلَ لبيتي، كما كانت تضع فيه بيتي رسائلَ له. وفي هذا المساء بالذات، ذهب ديك إلى بارادايس ليحصلَ على رسالةٍ محتملة، وبينما كان برايس يسير على مهلٍ عبر المسار الضيق، المحاط بالأشجار والمباني العتيقة الذي يؤدي من فرايري لين إلى الفِناء العتيق، انعطف ديك عند إحدى الزوايا وهو يَعْدو فاصطدم به. وعلى ضوء المصباح الوحيد الذي أضاء المسار، تمالكَ الاثنان نفسَيهما ونظر كلٌّ منهما إلى الآخر.
فقال برايس: «مرحبًا!» وتابع: «لماذا أنت مسرعٌ هكذا، يا صغيري؟»
تراجع ديك، الذي كان يلهث، بسبب الانفعال أكثرَ من الجري، ونظر إلى برايس. حتى تلك اللحظة، لم يكن يعرف ما يجعله يتخذُ موقفًا مُعاديًا ضد برايس، الذي كان يعجبه نوعًا ما بالطريقة التي يُعجب فيها الأولاد أحيانًا بمن يَكبُرونهم في السن، كما كان يثق به.
فردَّ عليه قائلًا: «مرحبًا!» وتابع: «عجبًا! إلى أين أنت ذاهب؟»
أجابه برايس: «ليس إلى مكانٍ محدد! — فقط أتجوَّل.» وأردف: «لا يوجد غرضٌ معيَّن.»
سأله ديك، وهو يُشير بإبهامه نحو بارادايس: «ألم تكن ذاهبًا إلى هناك؟»
صاح برايس متعجبًا: «إلى هناك!» وتابع: «يا إلهي، كلا! إنه كئيبٌ بما فيه الكفاية في النهار! ولماذا ينبغي أن أذهب إلى هناك؟»
أمسك ديك بكمِّ معطف برايس وجذبه جانبًا.
وقال هامسًا: «اسمع!» ثم أردف: «يوجد شيءٌ ما هناك — بحثٌ من نوعٍ ما!»
جفَل برايس على الرغم من محاولته إبداءَ عدم الاكتراث.
وقال: «بحث؟ هناك؟» وأضاف: «ماذا تقصد بذلك؟»
أشار ديك نحو الأشجار، فرأى برايس بصيصَ ضوءٍ خافت.
وقال ديك: «لقد كنتُ هناك — للتو.» وتابع: «وظهر بعضُ الرجال — ثلاثة أو أربعة. إنهم هناك، بالقرب من صحن الكنيسة، حيث وجدتُ ذلك الرجلَ الذي يُدعى كوليشو. إنهم … يحفرون — أو شيء من هذا القبيل!»
تمتم برايس: «يحفرون!» وأضاف: «هل يحفرون؟»
أجاب ديك: «شيء من هذا القبيل، على أي حال.» وتابع: «استمع.»
سمع برايس رنةَ المعدن على الحجر. واستولت عليه قناعةٌ غيرُ سارة بأنَّ سعيه سيبوءُ بالفشل، وأن هناك شخصًا ما قد سبقه، ولعن نفسَه لأنه لم يُنجز الليلةَ الماضية ما تركه دون إنجاز حتى هذه الليلة.
ومِن ثَم سأل: «مَن هؤلاء؟» وأضاف: «هل رأيتهم — أعني وجوههم؟»
أجاب ديك: «لم أرَ وجوههم.» وأردف: «فقط هيئاتهم في الظلام. لكنني سمعتُ صوت ميتشينجتون.»
قال برايس: «إنهم من رجال الشرطة، إذن!» وتابع: «عجبًا، ما الذي يسعَون خلفه؟»
قال ديك في همس، وهو يجذب ذراع برايس مرة أخرى: «انظر هنا!» وأردف: «تعالَ! أعرف كيف أصلُ إلى هناك دون أن يرَونا. اتبَعني.»
تبِعه برايس على الفور، وبمجرد دخولِ ديك عبر البوابة الصغيرة، أمسك بمعصم رفيقه وقاده بين الشجيرات في اتجاه البقعة التي أتت منها الأصواتُ المعدنية. كان يسير بخُطًى خفيفة مثل قط، وبذل برايس كلَّ جهده ليحذوَ حذوه. وبعد لحظات من خلف حاجز من أشجار السرو نظرَا عبر امتداد من البلاطات الحجرية تقع في وسطها مقبرةُ ريتشارد جينكينز.
حول تلك المقبرة كان هناك خمسةُ رجال وجوههم مرئيةٌ بدرجةٍ كافية في الضوء الذي ألقاه اثنان من المصابيح القوية، وُضع أحدهما على المقبرة نفسها، والآخر على الأرض. عرَف المراقبان أربعةً من أصل خمسة في الحال. كان الأول، الذي كان راكعًا على البلاطات، ومشغولًا باستخدامِ عتلةٍ صغيرة تُشبه تلك التي يحملها برايس داخل معطفه، هو رئيسَ عمال البناء في الكاتدرائية. أما الثاني، الذي كان يقف بالقرب منه، فهو ميتشينجتون. وأما الثالث، فكان رجلَ دين — وهو من ذَوي الرتب القليلة في المجلس. أما الرابع — وهو مَن جعل حضوره برايس يجفل للمرة الثانية في ذلك المساء — فكان الدوق ساكسونستيد. لكنَّ الخامسَ كان غريبًا — وهو رجل طويل كان يقف بين ميتشينجتون والدوق، ومن الواضح أنه يُولِي اهتمامًا قلِقًا بعمل رئيس عمال البناء. وكان برايس مقتنعًا بأنه ليس من أهل رايتشستر.
وبعد لحظةٍ اقتنع بحقيقةٍ أخرى مؤكَّدة بالقَدْر نفسِه. أيًّا كان ما يبحث عنه هؤلاء الرجال الخمسة، فهم ليس لديهم فكرةٌ واضحة أو دقيقة عن مكان وجوده بالضبط. كان رئيس العمال يخلع البلاطات الصغيرة بعتلته الواحدةَ تلوَ الأخرى، من الحافة الخارجية لسفح المقبرة العتيقة المبنية فوق الأرض، وعندما كان يُزيل كلًّا منها، كان يبحث في الأرض تحتها. وقدَّر برايس، الذي أدرك بديهيًّا ما كان يحدث، وعرَف أن شخصًا آخر غيره يمتلك سرَّ القصاصة الورقية، أن الأمر سيستغرقُ بعض الوقت قبل أن يصلوا إلى المكان المحدَّدِ المشارِ إليه في التعليمات المكتوبة باللاتينية. فتراجع بهدوء وجذب ديك بيوري.
ثم همس عندما انسحبا بعيدًا مخافةَ أن يسمعهما أحد: «قف هنا، والتزِم الصمت!» وأضاف: «وراقبهم! فأنا أريد أن أُحضر شخصًا ما — أريد أن أعرف مَن هو هذا الغريب. أنت لا تعرفه، أليس كذلك؟»
أجاب ديك: «لم أرَه من قبل.» وأردف: «اسمع! عُد بهدوء، ولا تَشي بالأمر لأحد. أريد أن أعرف ما وراء كل هذا.»
ضغط برايس على ذراع الفتى ليُطمئِنَه وشقَّ طريقه عائدًا عبر الشجيرات. لقد أراد أن يُحضِر هاركر، وفي الحال؛ لذا سارع إلى منزل الرجل العجوز ودخل دون استئذان إلى رَدهة منزله. إن هاركر، الذي من الواضح أنه كان ينتظره، والذي كان في تلك الأثناء يُسلِّي نفسه بغليونه وكتابه، نهض من كرسيِّه عندما دخل الشاب.
وسأله: «هل عثرتَ على أي شيء؟»
فأجابه برايس: «لقد فشلنا!» وتابع: «أنا أحمقُ لأني لم أذهب في الليلة الماضية! لقد سبَقونا، يا صديقي! — هذا كل شيء!»
قال هاركر مستفسرًا: «مَن هم الذين سبقونا؟»
أجاب برايس: «خمسة أشخاص.» وأضاف: «ميتشينجتون، وعامل بناء، وأحد رجال الدين في الكاتدرائية، ورجل غريب، ودوق ساكسونستيد! ما رأيك في ذلك؟»
جفل هاركر فجأةً كما لو أنه قد أدرك شيئًا فجأة.
وصاح متعجبًا: «الدوق!» وتابع: «هذا مستحيل! يا للعجب! — هل ذلك ممكن حقًّا؟ صدِّقني، أنا لم أفكِّر فيه قط!»
سأله برايس: «تُفكِّر في ماذا؟»
قال هاركر: «لا عليك! سأخبرك لاحقًا.» وتابع: «في الوقت الحالي، هل هناك أيُّ فرصة لإلقاء نظرة عليهم؟»
أجاب برايس بسرعة: «هذا ما جئتُ من أجله.» وأردف: «لقد كنت أراقبهم مع بيوري الصغير. هو مَن أخبرني عنهم. هيا! أريد أن أرى ما إذا كنت تعرف الرجل الغريب.»
توجَّه هاركر نحوَ خِزانةٍ ذاتِ أدراج في الرَّدهة، وبعد بعض البحث أخرج منها شيئًا ما.
ثم قال، وهو يُناول برايس بعض الأشياء: «خذ!» وتابع: «ارتدِ هذا فوق حذائك. إنه جرموق من اللباد السميك — يمكنك المشي داخل غرفة نومِ والدتك وأنت ترتديها ولن تسمعَك أبدًا. وسأفعل الشيء نفسَه. أنت تقول إنك قد شاهدت رجلًا غريبًا، أليس كذلك؟ حسنًا، هذا دليلٌ على أن شخصًا ما يعرف سرَّ تلك القصاصة من الورق مثلنا، يا دكتور!»
قال برايس، الذي كان غاضبًا من فقدان اكتشافه: «إنهم لا يعرفون المكان المراد.» ثم أضاف: «لكنهم سيعثرون عليه، أيًّا كان ما قد يوجد هناك.»
ومن ثَم قاد هاركر عائدًا نحو بارادايس وإلى المكان الذي ترَك فيه ديك بيوري، الذي اقتربا منه بهدوءٍ شديد لدرجة أن برايس أصبح بجانب الفتى قبل أن يعلمَ ديك بوجوده هناك. وجذب هاركر، بعد نظرةٍ واحدة على مجموعة الوجوه، برايس إلى الوراء ووضع شفتَيه بالقرب من أذنه ونطق اسمًا في همسةٍ غير محسوسة تقريبًا لكنها واضحة.
«إنه جلاسديل!»
جفل برايس للمرة الثالثة. إن جلاسديل هو الرجل الذي رآه هاركر في رايتشستر بعد ساعةٍ أو نحوِ ذلك من موت برادن؛ المجرم المدان السابق، المزوِّر، الذي زوَّر توقيعَ الدوق ساكسونستيد! وهناك ها هو ذا يقف، دون أيِّ خوفٍ على ما يبدو، إلى جانب الدوق. ماذا كان يعني كلُّ هذا؟
لم يكن هناك تفسيرٌ لما يَعنيه التعرضُ للخداع على يد الرجل الذي كان يُراقبه برايس وهاركر وديك بيوري سرًّا من خلف حاجز أشجار السرو. لقد كان الرجال الأربعة يشاهدون في صمت، أو كانوا يتهامَسون بين الحين والآخر، بينما كان الخامس يعمل. كان هذا الرجل يعمل بنحوٍ منظَّم، حيث كان يُعيد كل حجر إلى موضعه بعد أن يخلعه ويفحص الأرض تحته. ولم ينتج عن هذا أيُّ شيء حتى الآن، لكنه أصبح في ذلك الوقت يعمل على مبعدةٍ من المقبرة، وبرايس، الذي كانت لديه فكرةٌ دقيقة للغاية عن مكان البقعة المرادة، كما هو موضَّح في الإرشادات الموضحة في قصاصة الورق، وكز هاركر عندما بدأ رئيس العمال في خلع آخر البلاطات الصغيرة. وفجأةً حدثَت حركةٌ بين المراقبين، ونظر رئيس العمال إلى أعلى وطلبَ من ميتشينجتون أن يُمرِّر له مجرفة مُلقاة على بُعد مسافة قصيرة.
وقال بصوتٍ عالٍ وصل إلى أذنَيْ برايس ورفيقَيه: «هناك شيءٌ هنا!» وأردف: «كما أنه ليس على عمق كبير، أيها السادة!»
بعد توجيه بعض الضربات القوية بالمجرفة، جرى إخراج بعض كُتَل التراب من الحفرة، ووضع رئيس العمال يده وأخرج طردًا صغيرًا، بدا في ضوء المصباح الذي يحمله ميتشينجتون بالقرب منه ملفوفًا في كيسِ خيشٍ خشن، ومغلقًا ببقع كبيرة من شمع الخَتْم الأسود. والآن، كان هاركر هو مَن وكز برايس، لِيَلفت انتباهَه إلى حقيقةِ أن الطرد، الذي سلَّمه رئيس العمال إلى ميتشينجتون، سُلِّم على الفور من قبل ميتشينجتون إلى الدوق ساكسونستيد، الذي، بدا واضحًا جدًّا أنه سعيدٌ بقدْر ما هو متفاجئ بالحصول عليه.
وقال: «دعونا نذهبْ إلى مكتبك، أيها المفتش.» وتابع: «سوف نفحص المحتويات هناك. دعونا نذهب جميعًا في الحال!»
ظل الأشخاص الثلاثة خلف أشجار السرو ثابتين وصامتين حتى غادرَ الباحثون الخمسة بمِصباحَيهم وأدواتهم وتلاشى صوتُ خطواتهم المبتعدة في فرايري لين. ثم تحرَّك ديك بيوري لينسلَّ مبتعدًا، فمدَّ برايس يده وأمسكه من كتفه.
وقال: «اسمع، يا بيوري!» وتابع: «هل ستُخبر أحدًا بكل هذا؟»
فتدخَّل هاركر في الحوار قبل أن يتمكَّن ديك من الإجابة.
وقال بهدوء: «لا يُهم إن فعل، يا دكتور.» وتابع: «أيًّا كان الأمر، ستعرفه المدينةُ بأكملها غدًا. إنهم لن يتكتَّموا عليه.»
ترك برايس ديك يذهب، فانطلق الفتى على الفور في اتجاه كلوس، بينما اتجه الرجلان نحو منزل هاركر. ولم يتحدَّث أيٌّ منهما حتى أصبحا بأمانٍ داخل الرَّدهة الصغيرة لمنزل المحقق العجوز، وهناك أضاء هاركر مصباحه ونظر إلى برايس وهز رأسه.
وقال بنبرةٍ شبهِ حزينة: «من الجيد أنني قد تقاعدت!» وأردف: «لقد أصبحتُ عجوزًا جدًّا بحيث أصبح من الصعب عليَّ القيامُ بمهامِّ عملي بكفاءة، يا دكتور. فيما مضى كنتُ لائقًا بما يكفي لأن ألوم نفسي لأنني لم أُسبِر أغوارَ هذا الأمر في وقتٍ أسرعَ مما فعلت!»
سأله برايس، على نحوٍ شبهِ متهكِّم: «هل استطعتَ سَبْر أغوارِه؟» وتابع: «ستكون أمهرَ مني بكثير إن كنتَ قد فعلت. إذ إنني للأسف لم أستطِع ذلك!»
أجابه هاركر: «لقد فعلتُ.» ثم فتح درجًا في مكتبه وسحب دفتر قصاصات، ممتلئًا، مثلما رآه برايس بعد لحظات، بقصاصاتٍ من الصحف، وكلها مرتَّبة ومفهرَسة على نحوٍ جيد. وبحث الرجل العجوزُ في الفهرِس، واتجه إلى صفحةٍ معينة، ووضع إصبعه على إحدى القصاصات. ثم قال: «ها هي ذي!» ثم تابع: «وهذه واحدة فقط — وهناك المزيد. إنها ستوضِّح لك بالتفصيل ما يمكنني أن أخبرك به في بضعِ كلمات وما كان ينبغي أن أتذكَّره. لقد مرت خمسةَ عشر عامًا على السرقة الشهيرة في ساكسونستيد التي لم يُعرَف فاعلها مطلقًا — سرقة ماسات الدوقة — التي تُعَد واحدة من أذكى عمليات السرقة التي وقعت، يا دكتور. لقد سُرقت في إحدى الليالي بعد حفلة رقص كبيرة أُقيمت هناك؛ لم يستطِع أحدٌ إلقاء القبض على الفاعل مطلقًا، ولم يُعثر للماسات على أثرٍ مطلقًا. وسأدفع كلَّ ما أملك إن لم يكن الدوق وهؤلاء الرجال يُمتعون أعينَهم برؤيتها الآن! — في مكتب ميتشينجتون — وأنَّ مَن أبلغ الدوق بالمعلومات التي أرشدتهم إلى مكان وجودها هو جلاسديل!»
تعجَّب برايس، الذي كان يُجيل عقله في التطورات المحتملة، وقال: «جلاسديل! ذلك الرجل!»
قال هاركر: «ذلك الرجل، يا سيدي!» وأضاف: «لهذا السبب كان جلاسديل في رايتشستر يوم موت برادن. وهذا هو السبب وراء قدوم برادن، أو بريك، إلى رايتشستر من الأساس. بالطبع، كان هو وجلاسديل قد توصَّلا بطريقةٍ ما إلى السر، ولا شك أنهما كانا ينويان إخبارَ الدوق معًا، والحصول على المكافأة — التي كانت تبلغ ٩٥ ألف جنيه! ونظرًا إلى أن بريك قد مات، فقد تحدَّث جلاسديل إلى الدوق، لكن …» هنا توقَّف الرجل العجوز ونظر إلى رفيقه نظرةً ماكرة وأضاف: «لا يزال السؤالُ التالي مطروحًا: كيف مات بريك؟»