دهاء الشيطان
كان هناك إصرارٌ وانتباهٌ مفاجِئان في كلمات برايس الأخيرة تناقَضا بشدة، وحتى بنحوٍ غريب، مع اللامبالاة شبهِ الساخرة التي اتسم بها منذ دخولِ زائرَيه، واستطاع الرجلان تمييز ذلك فنظرا أحدهما إلى الآخر في تساؤل. وحدث تغييرٌ أيضًا في سلوكه؛ فبدلًا من الاستلقاء في كرسيِّه بتكاسل، كما لو لم يكن لديه أيُّ تفكير إلا في راحته الشخصية، جلس الآن منتصبًا، ينظر بحِدة من رجلٍ إلى آخر، وبدا أن موقفه وسلوكه وكلامه بالكامل يشير إلى أنه اتخذ قراره فجأةً بتبنِّي مسار محدَّد للتصرُّف.
وكرَّر قائلًا: «سأُخبرك بالمزيد!» وأردفَ: «بما أنك هنا — الآن!»
ألقى ميتشينجتون، الذي شعر بعدمِ ارتياحٍ غريب، نظرةً أخرى على جيتيسون. وهذه المرة كان جيتيسون هو الذي تحدَّث.
وقال بهدوء: «بالقطع، في ظل معرفتي بالقضية، سنكون ممتنِّين لأي معلومات يُمكن أن يُقدمها لنا دكتور برايس.»
قال ميتشينجتون موافقًا: «أوه، بالتأكيد!» وأضاف: «هل تعرف المزيد، إذن، يا دكتور؟»
طلب برايس من زائرَيه أن يُقرِّبا كرسيَّيهما من كرسيِّه، وعندما تحدَّث، تحدَّث بنبرةٍ منخفضة ومركَّزة لرجلٍ يقصد أمرًا سريًّا.
قال: «الآن انظر هنا، يا ميتشينجتون، وأنت، أيضًا، يا سيد جيتيسون، بما أنك معنيٌّ بهذه القضية — سأتحدَّث بصراحة إلى كِلَيكما. في البداية، سأُقدِّم تأكيدًا جريئًا؛ أنا أعرف عن لغز رايتشستر بارادايس هذا — الذي يتضمن موتَ كلٍّ من برادن وكوليشو — أكثر من أيِّ رجل على قيد الحياة؛ لأنني، على الرغم من أنك لا تعرف ذلك، يا ميتشينجتون، قد بحثتُ فيه عن كثب. وسأُخبركما بيني وبينكما لماذا بحثتُ فيه؛ فأنا أريد أن أتزوَّج ربيبة دكتور رانسفورد، الآنسة بيوري!»
أرفقَ برايس هذا الإقرار الصريح بنظرةٍ بدَت وكأنها تقول: ها نحن، ثلاثة رجال من هذا العالم، يعرفون حقيقة الأشياء — نحن يفهم بعضُنا بعضًا! وبينما فقط أومأ جيتيسون برأسه دلالة على الفهم، صاغ ميتشينجتون أفكارَه في كلمات.
فقال: «بلا شك، يا دكتور، بلا شك!» وتابع: «وبناءً على ذلك فإن أمرهما يخصُّك! بالطبع!»
قال برايس: «شيءٌ من هذا القبيل.» وأردف: «وبطبيعة الحال، لا يرغب أيُّ رجل في الزواج إلا إذا كان يعرف كلَّ ما يُمكنه معرفته عن المرأة التي يُريدها، وعائلتها، وأسلافها — وكل ذلك. والآن، يعلم كلُّ شخص تقريبًا في رايتشستر يعرف دكتور رانسفورد وربيبَيه أنَّ هناك غموضًا حولهم، وقد انتشر الحديثُ عن هذا الأمر، بلا نهاية، بين العجائز النمَّامات في كلوس، على وجه التحديد، وأنت تعرف كيف يُثرثِرن! إن الآنسة بيوري نفسَها، وشقيقها، ديك الصغير، بدرجةٍ أقل، يعلمان أن هناك سرًّا. وإذا كان هناك مَن يعرف السر، فهو رانسفورد. وإلى هذه اللحظة، يرفض رانسفورد كشفَ السرِّ — حتى للآنسة بيوري. وأنا أعلم أنها سألَته، لكنه يلتزمُ الصمت العنيد. وهكذا قررتُ أن أكتشف السرَّ بنفسي.»
سأله ميتشينجتون: «حسنًا، ومتى بدأتَ في تلك اللعبة الصغيرة، يا دكتور؟» وأضاف: «هل كان ذلك قبل، أم منذ، بداية هذه القضية؟»
أجاب برايس: «بطريقةٍ جادة حقًّا — منذ بداية القضية.» وأردف: «إذ إن ما حدث في يومِ موت برادن جعلني أتعمَّق في الأمر برُمَّته. والآن، ماذا حدث؟ سأُخبرك بصراحة، الآن، يا ميتشينجتون، إنني، عندما تحدَّثنا مرةً من قبل عن هذه القضية، لم أخبرك بكلِّ ما كان ينبغي أن أقوله. حيث كان لديَّ أسبابي للتحفُّظ. لكن الآن سأعطيكما تفاصيلَ كاملةً عما حدث في ذلك الصباح على حدِّ علمي — فانتبِها، كِلاكما، وستُدركان كيف ستترابطُ أجزاء الصورة معًا. في ذلك الصباح، نحو التاسعة والنصف، غادر رانسفورد العيادة وذهب عبر كلوس. لم يمضِ وقتٌ طويل على مغادرته، حتى جاء ذلك الرجل برادن إلى باب العيادة، وسألني إذا كان دكتور رانسفورد بالداخل. فقلت إنه غيرُ موجودٍ وإنه قد خرج للتو، وأوضحت للرجل في أيِّ اتجاه. فقال إنه كان يعرف طبيبًا يُسمَّى رانسفورد منذ زمن بعيد، ثم انصرف. وبعد ذلك بقليل، تتبعتُ الرجل. وبالقرب من مدخل بارادايس، رأيتُ رانسفورد يُغادر الرواق الغربي للكاتدرائية. كان بلا شكٍّ في حالة انفعال، وشاحِبَ الوجه وعصبيًّا. ولم يرَني. فواصلتُ طريقي وقابلت فارنر، الذي أخبرني بالحادث. ومن ثَم ذهبتُ معه إلى أسفل سلَّم سانت رايثا فوجدتُ الرجل الذي زار العيادة مؤخرًا. وقد مات بمجرد أن وصلتُ إليه. فأرسلتُ في استدعائك. وعندما أتيتَ، عُدتُ أنا إلى العيادة فوجدتُ رانسفورد هناك في حالةِ انفعالٍ غير عادي — لقد بدا وكأنه رجلٌ أُصيب بصدمة رهيبة. هذا كل شيء عن هذه الأحداث. فرتِّباها معًا وكوِّنا الصورة.»
توقَّف برايس لحظةً، كما لو كان يُرتِّب حقائقه.
وتابع على الفور: «بعد ذلك، بدأتُ التحقيقَ في الأمور بنفسي؛ من أجل إرضاءِ نفسي. وسرعان ما اكتشفتُ أشياءَ معيَّنة، سأُلخِّصها، بإيجاز؛ لأن بعض الحقائق التي لديَّ معروفة لكما بالفعل بلا شك. بادئ ذي بدء، إن الرجل الذي جاء إلى هنا باسم جون برادن، هو في الواقع جون بريك. وكان في وقتٍ من الأوقات مديرًا لفرع شركة مصرفية شهيرة في لندن. وقد اختلسَ بعض المال منهم في ظلِّ ظروفٍ غامضة على ما يبدو، ولم أعرف عنها شيئًا حتى الآن؛ ومن ثَم حُوكِمَ، وأُدين، وحُكِم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات مع الأشغال الشاقة. وهذان الربيبان اللذان تحت وصاية رانسفورد، ماري وريتشارد بيوري، كما يُطلَق عليهما، هما في الواقع، ماري وريتشارد بريك — ابناه.»
سأله جيتيسون، الذي كان يستمع باهتمامٍ شديد: «هل أثبَتَّ ذلك بالفعل؟» وتابع: «إنه ليس مجردَ تخمين من جانبك، أليس كذلك؟»
تردَّد برايس قبل الردِّ على هذا السؤال. ففي النهاية، بعد أن فكَّر مليًّا، قال لنفسه إنه كان تخمينًا. فهو لم يستطِع إثباتَ تأكيده بنحوٍ تام.
وأجاب بعدَ لحظةِ تفكير: «حسنًا، سأوضِّح ذلك بالقول بأنني، من خلال الأدلة المتوفرة لديَّ، وما أعرفه، أعتقد أنها حقيقةٌ لا جدال فيها. إذ إن الحقيقة، الحقيقة الثابتة والمؤكَّدة، التي أعرفها هي هذه: لقد تزوَّج جون بريك من ماري بيوري في كنيسة أبرشية برادن ميدوورث، بالقرب من بارثورب، في ليسترشير، لقد رأيتُ هذه المعلومة في السجلِّ بأمِّ عيني. وكان إشبينه، الذي وقَّع في السجل كشاهدٍ، هو مارك رانسفورد. إذ اعتاد بريك ورانسفورد، في شبابهما، الذَّهابَ إلى برادن ميدوورث لصيد السمك، وكانت ماري بيوري تعمل مربِّيةً في بيت القسِّ هناك. كان من المفترض دائمًا أنها ستتزوج من رانسفورد، لكنها بدلًا من ذلك، تزوجَت من بريك، الذي بالطبع أخذها إلى لندن. وأنا لا أعرف شيئًا عن حياتهما الزوجية. لكن في غضونِ بضع سنوات، وقَع بريك في مأزق، وذلك للسبب الذي أخبرتُكما به. وأُلقي القبض عليه — وكان هاركر هو الرجلَ الذي فعل ذلك.»
صاح ميتشينجتون متعجبًا: «يا إلهي!» وتابع: «لو كنتُ أعلم فقط …»
قال برايس: «ستعرف الكثيرَ قبل أن أنتهي.» ثم أضاف: «ويمكن لهاركر بالطبع، أن يُخبركما بالكثير — لكنه غيرُ مُرضٍ. لم يستطِع بريك تقديمَ دفاعٍ عن نفسه، لكنَّ محاميَه قدَّم في المحكمة تلميحات واقتراحات غريبة، كلها تشير إلى أن بريك قد خُدع بطريقةٍ قاسية وشريرة — في الواقع، كما لو كان قد وقع في فخٍّ دفعه لفعلِ ما فعله. وكان هذا من قِبَل رجل كان يثقُ به كصديقٍ مقرَّب. لقد وصل الكثيرُ من الكلام إلى أذنَي هاركر — لكن عن تلك النقطة بالذات، أنا ليس لديَّ معلومات. دعونا ننتقل من ذلك إلى شئون بريك الخاصة. حيث كانت لديه في وقتِ اعتقاله زوجةٌ وطفلان صغيران للغاية. وقد اختفَوا تمامًا إما قبل القبض عليه بوقتٍ قصير، أو عنده، أو بعده على الفور، ورفض بريك نفسُه رفضًا قاطعًا أن يقول كلمةً واحدة عنهم. وعندما سأل هاركر عما إذا كان بإمكانه فعلُ أيِّ شيء، كان رد بريك أنه لا داعي لأن يَشغل أحدٌ نفسَه. ولقد حافظ على صمتٍ عنيد حول تلك النقطة. وقد تقابل رجلُ الدين الذي كانت السيدة بريك تعمل مربيةً في عائلته مع بريك، بعد إدانته — ولم يَقُل له بريك شيئًا. أما بخصوص السيدة بريك، فليس هناك المزيدُ من المعلومات عنها — بالنسبة إليَّ على أي حال. كلُّ ما كان معروفًا في ذلك الوقت هو الآتي؛ لقد صدَّر بريك لكلِّ مَن تواصل معه، في ذلك الوقت، فكرةَ أنه رجل تعرَّض للظلم والخداع بقسوة، ولجأ للصمت الكئيب، وكان يُضمِر بداخله رغبةً للانتقام ويُخطط لذلك بالفعل!»
تمتمَ ميتشينجتون: «أجل، أجل!» وتابع: «الانتقام؟ — هكذا إذن!»
تابع برايس: «وخضع بريك، آنذاك، لعقوبته ذاتِ الأشغال الشاقة، وهكذا اختفى، إلى أن ظهر مرةً أخرى هنا في رايتشستر. ولنتركه لحظةً، وسنعود. وإنها عودةٌ، بلا شك، إلى الافتراض والنظرية — ولكنَّ هناك منطقًا فيما سأقوله. فنحن نعلم — بما لا يدع مجالًا للشك — أن بريك قد تعرَّض للخداع والخيانة، في بعض الأمور المالية، من قِبَل شخصٍ ما — رجلٍ غامض — أشار إليه على أنه أقربُ أصدقائه. ونحن نعلم، أيضًا، أنه كان هناك غموضٌ غيرُ عاديٍّ في اختفاء زوجته وطفلَيه. والآن، من خلال كلِّ ما اكتُشف، مَن كان أقربَ صديق لبريك؟ رانسفورد! ورانسفورد، في ذلك الوقت، لم يكن له أيُّ أثر. هو، أيضًا، اختفى — هذه حقيقة قد أثبَتُّها. وبعد سنوات، ظهر مرة أخرى — هنا في رايتشستر، حيث اشترى عيادة. وفي النهاية أصبح له فتًى وفتاة، قدَّمَهما رَبيبَين تحت وصايتِه، وجاءا للعيش معه. ولقَبُهما هو بيوري. وكان لقبُ الفتاة التي تزوَّجها جون بريك هو بيوري. فماذا نستنتج من ذلك؟ نستنتجُ أن والدتهما قد تُوفِّيَت، وأنهما معروفان باسمها قبل الزواج، وأنهما، دون أدنى شكٍّ، طفلا جون بريك. وهذا يؤدِّي إلى نظريتي، التي سأُخبركما بها الآن بوصفها سرًّا — إذا كنتما ترغبان في ذلك.»
قال جيتيسون بهدوء: «هذا ما أتمناه على نحوٍ خاص.» وتابع: «إنه ما أريده على وجه التحديد!»
قال برايس: «إذن، إنها كما يلي.» وتابع «لقد كان رانسفورد الصديق المقربَ الذي خدع بريك وخانه.» وأردف:
«إنه على الأرجح خدَعه في بعض الأمور المالية، وخانه في أموره العائلية. وأنا أعتقدُ أن رانسفورد قد هرب مع زوجة بريك، وأن بريك، بدلًا من بثِّ كل حزنه إلى العالم، تقبَّل الأمر في صمتٍ وبدأ في تدبير خُطة الانتقام. هذه هي نظريتي حول الأمر. لقد هرَب رانسفورد مع السيدة بريك والطفلَين — وهما مجرد رضيعَين — واختفَوا. وعندما خرج بريك من السجن، سافر إلى الخارج — وربما في باله تعقُّبُهم. في غضون ذلك، كما هو واضح تمامًا، انخرط في بعض الأعمال التجارية وحقَّق مكاسبَ جيدة. وعاد إلى إنجلترا باسم جون برادن، وللسبب الذي تعرفانه، زار رايتشستر، وهو غيرُ مدركٍ تمامًا أن أيَّ شخص يعرفه يعيش هنا. والآن، حاوِلا تخيُّلَ ما حدث. كان بريك يتجوَّل في كلوس في ذلك الصباح. فرأى اسم الدكتور مارك رانسفورد على اللافتة النُّحاسية المثبتة على باب العيادة. فدخل إلى العيادة، وطرح سؤالًا، وأدلى بملاحظة، ثم غادر. والآن، ما التسلسلُ المحتمَل للأحداث بعد ذلك؟ يلتقي رانسفورد بالقرب من الكاتدرائية — حيث يوجد رانسفورد بالتأكيد. فيميز كلٌّ منهما الآخرَ، وعلى الأرجح ينتحيان جانبًا، ويَصعدان إلى تلك المقصورة بوصفها مكانًا هادئًا للتحدُّث، وتحدثُ مشادَّة، وضربات، وبطريقةٍ أو بأخرى، ربما من دون قصد، يُلقى برادن من خلال ذلك المدخلِ المفتوح، لِيَلْقى حتفه. وقد رأى كوليشو ما حدث!»
كان برايس يُراقب مستمِعَيه، ويلتفتُ بالتناوب من واحدٍ إلى آخَر. لكن الأمر لم يكن بحاجةٍ إلى الانتباه من جانبه ليرى أن وجهَيهما يبدو عليهما الانفعالُ بشدة؛ كان كلُّ رجل يتلقَّى باهتمامٍ بالغ كلَّ ما قاله واقترحه. واستمرَّ هو في التأكيد على كل نقطة كان يذكرها.
ومن ثَم قال: «هل رأى كوليشو ما حدث؟» وأردف: «هذه، بالطبع، نظرية-افتراض. لكن لننتقل الآن من النظرية إلى الحقيقة الفعلية. سأُخبرك بشيء الآن، يا ميتشينجتون، لم تسمع به من قبل، أنا متأكِّد. لقد استطعت بطريقتي، بعد موت كوليشو، أن أحصل على بعض المعلومات، سرًّا، من أرملته، وهي امرأةٌ فَطِنة إلى حدٍّ ما، وذكية بالنسبة إلى مستواها الاجتماعي. لقد وجَدَت الأرملة، أثناء البحث في متعلَّقات زوجها، في درجٍ معيَّن يحتفظ فيه بالعديد من الأشياء الشخصية، دفترَ التوفير الخاصَّ بجمعية تعاونية كان كوليشو عضوًا فيها عدةَ سنوات. ويبدو أنه كان رجلًا يحب الادِّخار، وكان يتمكَّن كلَّ عام من ادِّخار القليل من المال من أجره، وكان يأخذ هذه المدَّخرات مرتَين أو ثلاث مرات في العام، وهو مبلغ بسيط، مجرد جنيه أو اثنين، ويضعها في حسابه في تلك الجمعية، التي، على ما يبدو، كانت تأخذ المدَّخَرات بهذه الطريقة من أعضائها. والآن، هناك معلومة مسجَّلة في ذلك الدفتر — رأيتها — تُوضح أنه قبل يومين فقط من وفاته أودعَ خمسين جنيهًا — خمسين جنيهًا، انتبها لذلك! — في حسابه في الجمعية. من أين يمكن أن يحصل كوليشو على خمسين جنيهًا، فجأةً؟! لقد كان عامِلَ بناءٍ مساعدًا، يكسِب في أحسنِ الأحوال ستةً وعشرين أو ثمانية وعشرين شلنًا في الأسبوع. وبحسب زوجته، لم يكن لديه أقاربُ يمكن أن يتركوا له إرثًا. ولم تسمع قطُّ عن تلقِّيه تلك الأموال من أي مصدر. لكن هذه هي الحقيقة! فما الذي يُفسر ذلك؟ نظريتي — وهي أن الشائعاتِ القائلةَ بأن كوليشو، بعد أن شرب الكثير من البيرة، قد ألمح إلى أنه يُمكن أن يقول شيئًا عن موت برادن إذا أراد، قد وصلَت إلى مهاجم برادن، الذي دفع لكوليشو تلك الخمسين جنيهًا ثَمنًا لصمته، وبعد ذلك، قرَّر التخلصَ من كوليشو تمامًا، وهو ما فعله بلا شك، عن طريق السم.»
توقَّف برايس مرةً أخرى — ومرة أخرى أظهر المستمعان انتباهَهما بالصمت التام.
ثم تابع برايس قائلًا: «والآن نأتي إلى السؤال التالي: كيف سُمم كوليشو؟» وأردف: «لأنه سُمِّم، بلا شك. هنا نعود إلى النظرية والافتراض مرةً أخرى. إذ إنه ليس لديَّ أدنى شكٍّ في أن حمض الهيدروسيانيك الذي تسبَّب في موته قد وُضع في حبة دواء ابتلعَها — حبة كانت في تلك العلبة التي وجَدوها معه، يا ميتشينجتون، والتي عرَضتَها عليَّ. لكن تلك الحبة بالذات، على الرغم من تشابُهِها في المظهر، لا يمكن أن تتكوَّن من المكونات نفسِها الموجودةِ في الحبوب الأخرى. على الأرجح، كانت حبةً مغلَّفة بشكل كثيف تحتوي على السم — الذي سيبدأ مفعولُه في حالة الذوبان بالطبع. حيث يذوب الغلافُ بمجرد أن يبتلعه الرجل، وينتج عن ذلك الموتُ على الفور. ويمكنك القول إن كوليشو قد حُكم عليه بالموت عندما وضع علبة الحبوب في جيب الصدرية الخاصة به. لقد كان الأمر يخضع للصدفة المطلقة، والحظ المطلَق، بخصوص اللحظة المحدَّدة التي سيموت فيها. لقد كان في العلبة ستُّ حبات، وتبقَّى فيها خمس. إذن التقط كوليشو الحبةَ المسمومة أولًا! وربما كان موته سيتأخَّر إن التقطَ الحبة المسمومة بعد تناول الحباتِ الخمس الأخرى، كما ترى، لكنه كان حتمًا سيموتُ إنْ آجلًا أو عاجلًا.»
أظهر ميتشينجتون رغبةً في الكلام، فتوقَّف برايس.
سأله ميتشينجتون: «ماذا عما قاله رانسفورد أمامَ قاضي التحقيق؟» وأردف: «لقد طلب معلوماتٍ معينةً حول تشريح الجثة كما تعلم، كان، كما قال، من المفترض أن توضِّح أنه لا يوجد شيءٌ سام في تلك الحبوب.»
صاح برايس بازدراء: «يا للسخف!» وأضاف: «مجرد خدعة! لمثلِ هذه الحبة التي وصفتُها لن يكون هناك أثرٌ سِوى غلاف السكر — والسم. أؤكِّد لكما أنه ليس لديَّ أدنى شك في أن هذه هي الطريقة التي وُضع بها السم. لقد كانت سهلة. ومَن يُمكنه أن يعرف مدى سهولة وضعه هكذا غير طبيب؟»
تبادل ميتشينجتون وجيتيسون النظرات. ثم اقترب جيتيسون من برايس.
وقال: «إذن نظريتك هي أن رانسفورد قد تخلَّص من برادن وكوليشو — قتلَ كِلَيهما، في الواقع، أليس كذلك؟» وتابع: «هل أفهم أن هذا حقًّا هو مؤدَّاها — في كلمات واضحة؟»
أجاب برايس: «ليس تمامًا.» وأردف: «أنا لا أقول إن رانسفورد قصَدَ قتل برادن، فكرتي هي أنهما التقيا، ووقعَت بينهما مشادَّة، وربما مُشاجرة، وأن برادن فقد حياته أثناء ذلك. ولكن بخصوص كوليشو …»
قاطعه ميتشينجتون: «لا تنسَ!» وأضاف: «إن فارنر قد أقسمَ إنه رأى برادن يُلقى به عبر ذلك المدخل! لقد أُلقي به للخارج! لقد رأى يدًا.»
أجاب برايس: «إن كل شيء يمكن أن يُثبت فارنر عكسَه؛ فربما تكون اليدُ قد امتدت لسحب برادن إلى الخلف. كلا — أعتقد أنه ربما كان هناك عدمُ تعمُّد في تلك القضية. ولكن، فيما يخص كوليشو — فإن القتل، بلا شكٍّ، متعمَّد!»
ثم أشعلَ سيجارة أخرى، وبدا في مظهر رجل قال كلَّ ما كان يختمر في ذهنه، فنهض ميتشينجتون من كرسيِّه، بعد أن أدرك أنه قال كلَّ ما يجب قوله.
وقال، وهو ينظر إلى جيتيسون: «حسنًا، كلُّ ما قلتَه مثيرٌ للاهتمام وبارعٌ للغاية، يا دكتور.» ثم أردف: «وسنضعُ كلَّ ذلك في الاعتبار. بالطبع، لقد تحدَّثت عن كل هذا مع هاركر، أليس كذلك؟ أودُّ أن أعرف ما سيقولُه بشأنه. والآن بعد أن أخبرتنا بحقيقة شخصيته، أعتقد أنه يمكننا التحدُّثُ معه، أليس كذلك؟»
قال برايس: «عليكما الانتظار بضعةَ أيام، إذن.» وتابع: «فقد ذهب إلى المدينة — مستقِلًّا آخِرَ قطار تحرَّك الليلة — من أجل هذه القضية. لقد أرسلتُه. لقد حصلتُ على بعض المعلومات اليوم عن مكان وجودِ رانسفورد خلال وقت الاختفاء، وقد كلَّفت هاركر بالتحقُّق منها. وعندما أعرف ما توصَّل إليه، سأخبركما.»
قال ميتشينجتون: «إنك تُعرِّض نفسك لبعض العناء.»
أجاب برايس: «لقد أخبرتك بالسبب.»
تردَّد ميتشينجتون قليلًا، ثم، بحركة من رأسه باتجاه الباب، دعا جيتيسون كي يتبعَه.
وقال: «حسنًا.» وتابع: «هناك الكثيرُ من الأمور التي يجب علينا النظرُ فيها، على ما أعتقد!»
ضحك برايس وأشار إلى رفِّ كتبٍ بالقرب من المدفأة.
وسأله: «هل تعرف ما الذي قدَّمه نابليون بونابرت ذاتَ مرة كنصيحةٍ مفيدةٍ للشرطة؟» وأضاف: «كلا؟! إذن سأخبرك. قال: «إن مهارة الشرطة تكمن في عدمِ رؤية ما لا فائدة لها من رؤيته.» إنها نصيحةٌ جيدة، يا ميتشينجتون!»
ابتعد الرجلان في الشوارع المظلمة، وظلَّا صامَتين حتى اقتربا من باب فندق جيتيسون. وحينها، تحدَّث ميتشينجتون.
وقال: «حسنًا!» وأضاف: «لقد حصلنا على حكايتَين، على أي حال! ما رأيك في الوضع الآن؟»
ألقى جيتيسون رأسه للخلف مطلقًا ضحكةً جافة.
وقال: «لم أقَع مطلقًا في مثل هذه الحَيرة طوالَ حياتي!» وأردف: «مطلقًا! لكن إذا كان هذا الطبيب الشابُّ يلعب لعبة، إذن، أُقسم، أيها المفتش، إنها خدعةٌ شريرة وملعونة! ونصيحتي هي أن تُراقب الجميع!»