جيتيسون يتدخَّل
بحلول موعد الإفطار في صباح اليوم التالي كان الرجل الذي من نيو سكوتلاند يارد قد أنهى سلسلةً من التأملات حول الأسرار التي كُشفت له ولميتشينجتون في الليلة السابقة، وكان قد حدَّد على الأقل مسارًا واحدًا للعمل. ولكن قبل الشروع فيه كانت لديه رسالةٌ أو رسالتان مهمَّتان يجب عليه كتابتهما، وتطلَّبَت صياغتهما الكثيرَ من التفكير والجهد، وبحلول الوقت الذي انتهى فيه منهما، ووضعهما بيده في مكتب البريد الرئيسي في المدينة، كان وقت الظهيرة قد اقترب، وأعلن الجرس الكبير للكاتدرائية، بالفعل، عن حلول الظهيرة في رايتشستر أثناء دخول جيتيسون إلى مركز الشرطة لمقابلة ميتشينجتون في مكتبه.
قال ميتشينجتون بابتهاج: «لقد كنت على وشك الذَّهاب لأرى ما إذا كنت مستغرقًا في النوم.» وتابع: «فقد ظَلِلنا مستيقظين حتى وقتٍ متأخرٍ جدًّا من الليلة الماضية، أو، على وجه الدقة، حتى هذا الصباح.»
قال جيتيسون: «كانت لديَّ رسائلُ لأكتبها.» ثم جلس والتقطَ صحيفة وألقى نظرةً عابرة عليها. وسأل: «هل لديك شيءٌ جديد؟»
أجاب ميتشينجتون: «حسنًا، لديَّ القليل.» وأردف: «لقد سافر السيدان اللذان أخبَرانا بالكثير في الليلة الماضية إلى خارج المدينة. لقد ذهبتُ لزيارتهما في وقت مبكر من هذا الصباح — في تمام الساعة التاسعة صباحًا. وعلمتُ أن دكتور رانسفورد قد سافر إلى لندن في قطار الساعة الثامنة وخمسَ عشرة دقيقة.
أما دكتور برايس، ووَفْقًا لما قالته صاحبةُ منزله، فقد خرج راكبًا دراجتَه في الساعة الثامنة والنصف — وهي لا تعلم إلى أين ذهب، لكنها تظن أنه ذهب إلى الريف. ومع ذلك، تأكدت أنه من المتوقَّع أن يعود رانسفورد هذا المساءَ، وطلب برايس بأن يُجهز عشاءه المعتاد في الساعة السابعة، وهكذا …»
رمى جيتيسون الصحيفة بعيدًا وأخرج غليونه.
ثم قال بلا مبالاة: «أوه، لا أعتقد أنهما سيهربان — أيًّا منهما.» وأضاف: «فكلٌّ منهما واثق جدًّا من طريقته لفهم الأمور.»
سأله ميتشينجتون: «هل فكَّرت فيما قالاه؟»
أجاب المحقِّق: «لقد تأمَّلتُ في الأمور قليلًا — أجل.» وتابع: «إنها مسألة معقَّدة، يا صديقي! أكثرَ مما يظنه المرءُ للوهلة الأولى. أنا متأكد من الآتي، بغضِّ النظر عن أي غموض في قضية برادن ومقتل كوليشو، أنا متأكد من أن هناك الكثيرَ من التخطيط والتدبير يحدُث — وما زال يحدُث — في مكانٍ ما، من قِبَل شخصٍ ما. تدبير خفي، هل تفهم ما أعنيه؟ ومع ذلك، فإن مهمتي المحدَّدة هي قضية كوليشو — وهناك معلومة أودُّ الحصول عليها في الحال. أين مكتب تلك الجمعية التعاونية التي سمعنا عنها الليلةَ الماضية؟»
أجاب ميتشينجتون: «إنها جمعيةُ رايتشستر التعاونية الثانية.» وأردف: «فهناك اثنتان مِن هذه الجمعيات في المدينة — الأولى خاصة بصغار التجَّار ومَن في حكمهم، والثانية خاصةٌ بالعمال. والثانية تأخذ المدخَرات من أعضائها. ويقع مكتبها في فلادجيت، واسم السكرتير هو السيد ستيبنج. ولكن ما الذي تسعى وراءه؟»
قال جيتيسون: «سأُخبرك لاحقًا.» وأردف: «إنها مجردُ فكرة.»
ومن ثَم غادر على مهلٍ ومشى عبر ميدان السوق إلى شارعٍ عتيق ضيق يُسمَّى فلادجيت، سار عبْرَه وكأنه لا يفعل أكثرَ من مجردِ تفقُّدِه حتى وصل إلى متجرٍ عتيق تحوَّل إلى مكتب، ومعلَّق عليه ستارة سِلكية فوق النصف السفليِّ من نافذته الأمامية، التي نُسج عليها بأحرفٍ لامعة واضحة «جمعية رايتشستر التعاونية الثانية — جورج ستيبنج، السكرتير». لم يكن هناك ما يُشير إلى المغامرة أو الغموض في ذلك المكان المتواضع بشدَّة، ولكن خطَر في ذهن جيتيسون عندما تجاوز عتبة هذا المكان أنه كان في طريقه لاكتشاف شيءٍ من المحتمل أن يحلَّ القضية التي تَشغله.
كان عددُ موظَّفي تلك الجمعية ضئيلًا للغاية؛ فالمكتب الخارجيُّ يوجد به صبيٌّ صغير وشابٌّ طويل القامة، والمكتب الداخلي خاصٌّ بالسيد ستيبنج، وهو أيضًا شاب، ذو شعرٍ رمليِّ اللون ووجهٍ منمَّش، والذي، بعد أن فحص البطاقة المهنية للمحقِّق الرقيب جيتيسون، أجلسه على أفضلِ كرسيٍّ في المكتب ونظر إليه بمزيجٍ من الرهبة والفضول الذي أظهَر بوضوح أنه لم يستقبل مُحقِّقًا من قبل. وكي يُظهِرَ لزائره أنه أدرك جدِّية المقابلة، أومأ برأسه مشيرًا نحو باب المكتب.
قال بهمس: «المكانُ هنا آمنٌ تمامًا، يا سيدي!» وأردف: «الأبواب مثبَّتة بشكل جيد في هذه المنازل العتيقة، أنت تعرف كيف كانوا يصنعونها بجودةٍ عالية في ذلك الزمن. لا يمكن أن يتنصَّت علينا أحدٌ هنا، كيف يُمكنني أن أخدمك، يا سيدي؟»
قال جيتيسون: «شكرًا لك، أنا ممتنٌّ لك كثيرًا.» وأضاف: «أنت لا تُمانع أن أُدخِّن غليوني، أليس كذلك؟ أنت على حق. آه! — حسنًا، بيني وبينك، يا سيد ستيبنج، أنا هنا بخصوص قضية كوليشو التي أنت بالتأكيد على علمٍ بها.»
قال السكرتير: «أنا على علمٍ بها، يا سيدي، يا له من رجل مسكين!» وتابع: «يا له من أمرٍ قاسٍ، يا سيدي، أن يَلْقى هذا الرجل حتفه. لقد كان كوليشو أحدَ أعضائنا، يا سيدي.»
قال جيتيسون: «هذا ما علمتُه.» وأضاف: «وهذا ما جئتُ من أجله. أريد الحصول على معلومة، في سريةٍ تامة، هل تفهمني؟ بيني وبينك فقط الآن.»
أومأ ستيبنج برأسه وغمز، كما لو كان يتعامل مع المحقِّقين طوال حياته. وقال بلطفٍ: «بلا شك، يا سيدي، بلا شك!» وتابع: «فقط بيني وبينك وبين عمود الباب! — حسنًا. سأفعل كلَّ ما بوُسعي، يا سيد جيتيسون. ولكن يبدو أن الأمر يتَّصل أكثرَ بما يُمكنني قوله، على ما أظن، أليس كذلك؟»
أجاب جيتيسون بأسلوبه البطيء والهادئ: «شيءٌ من هذا القبيل.» وأضاف: «أريد أن أعرف شيئًا أو شيئَين. إن جمعيتكم هي جمعيةٌ خاصةٌ بالعمال، على ما أعتقد، أليس كذلك؟ حسنًا، وأنا علمت أن لديكم نظامًا يمكن من خلاله لمثلِ هذا الرجل أن يضع كلَّ مدَّخَراته بين أيديكم، أليس كذلك؟»
أجاب السكرتير، وهو يُمسك كتيبًا دعائيًّا ويدفعه ليدِ زائره: «إنه نظام رأسمالي أيضًا!» ثم أضاف: «لا أعتقد أن هناك أفضلَ منه في إنجلترا! إذا قرأت ذلك …»
قال جيتيسون، وهو يضع الكتيب في جيبه: «سوف أُلقي نظرةً عليه فيما بعد.» وأردف: «حسنًا، لقد علمتُ أيضًا أن كوليشو كان معتادًا أن يودِع لديك القليلَ من المال المدخَر بين الحين والآخر؛ فقد كان رجلًا يُحب الادخار، أليس كذلك؟» أومأ ستيبنج بالموافقة وأمسك دفترًا يقع على الجانب البعيد من مكتبه.
وأجاب: «لقد كان كوليشو عضوًا في جمعيتنا منذ نشأتها — أي، قبل أربعة عشرَ عامًا. وقد بدأ يُودِع مدخراته منذ نحوِ ثماني أو تسع سنوات. إنها ليست كثيرة، كما سيتَّضح لك. فلنقُل، كمتوسط، من اثنين إلى ثلاثة جنيهات كلَّ نصف عام — وليس أكثرَ من ذلك. ولكن، قبل وفاته، أو قتلِه، أو أيًّا كان ما تُسميه، جاء إلى هنا ذات يوم ومعه خمسون جنيهًا! وقد أذهلَني ذلك إلى حدٍّ ما، يا سيدي! خمسون جنيهًا — جملة واحدة!»
قال جيتيسون: «إن مبلغ الخمسين جنيهًا هذا هو ما أريد أن أعرف شيئًا عنه.» وتابع: «ألم يُخبرك كيف حصل عليه؟ هل كان إرثًا، على سبيل المثال؟»
أجاب ستيبنج: «لم يقُل أيَّ شيء سوى أنَّ بعض الحظ قد صادفه.» وتابع وهو يُقلب صفحات الدفتر: «وأنا لم أسأَلْه أيَّ أسئلة. هل كان إرثًا؟ كلا، هو لم يذكر ذلك. ها هو. هنا! ٥٠ جنيهًا. انظر إلى التاريخ — إنه قبل موته بيومَين.»
نظر جيتيسون إلى الدفتر واعتدل في جلسته.
وقال: «والآن يا سيد ستيبنج، أريدك أن تُخبرني بشيءٍ محدَّد للغاية.» وأردف: «لم يمضِ وقتٌ طويل جدًّا على حدوث ذلك؛ لذا لن تُضطرَّ إلى إجهادِ ذاكرتك إلى حدٍّ كبير. على أي هيئةٍ دفع كوليشو لك مبلغ الخمسين جنيهًا ذلك؟»
قال السكرتير: «هذا سؤال تسهُل الإجابةُ عنه، يا سيدي.» وتابع: «على هيئة عملات ذهبية. خمسون جنيهًا ذهبيًّا، وكان يضعها في حقيبة صغيرة.» تأمَّل جيتيسون هذه المعلومة لحظةً أو اثنتين. ثم نهض من مكانه.
وقال: «أنا ممتنٌّ لك كثيرًا، يا سيد ستيبنج.» وأردف: «إنها معلومة قيِّمة. والآن هناك شيءٌ آخر يُمكنك أن تخبرني به ما دمتُ هنا — على الرغم من أنه، بلا شك، يُمكنني أن أوفِّر عليك عناء ذلك بالبحث في الأمر بنفسي. كم عدد البنوك الموجودة في مدينتك الصغيرة هذه؟»
أجاب ستيبنج على الفور: «ثلاثة.» وأضاف: «أولد بانك، في منداي ماركت، وبوبهام آند هارجريفز، في الميدان، ورايتشستر بانك، في سبيريرجيت. هذه هي كل البنوك الموجودة هنا.»
قال جيتيسون: «أنا ممتنٌّ للغاية.» وأردف: «وفي الوقت الحاضر، اجعل حديثنا هذا في طيِّ الكتمان. وسوف تعرف المزيد لاحقًا.»
ومن ثَم غادر المكان، وهو يُحاول تذكُّر أسماء المؤسَّسات المصرفية الثلاث — وبعد عشر دقائق كان في قاعة الاستقبال الخاصة بالبنك الأول، يُجري محادثةً جادة مع مديرها. هنا كان من الضروري أن تُصبح المحادثةُ أكثرَ سريةً، وأن يُصِر على مزيدٍ من السرية أكثرَ مما فعل مع سكرتير الجمعية، وأن يُقدِّم كلَّ الأوراق الرسمية الخاصة بمهمته ويُوضِّح كلَّ أسبابه. لكن جيتيسون لم يجد المعلومة التي يبحث عنها في هذا البنك، ولا في الثاني، أيضًا، ولم يحصل عليها إلا بعدَ اجتماعٍ سرِّي ومغلق لبعض الوقت مع المسئولين عن البنك الثالث. وعندما حصل عليها، طالبَ مصادر معلوماته بالسرية والصمت بطريقةٍ أظهرَت لهم أنه مهما كان أسلوبه هادئًا، فإنه يعرف عمله تمامًا مثلما يعرفون هم عملهم.
كانت الساعة قد تجاوزت حينها الواحدةَ ظهرًا، فاتجه جيتيسون إلى الفندق الصغير الذي كان يُقيم فيه. وأخذ يُفكِّر مليًّا وبجدِّية بينما يتناول غَداءه، وأخذ يُفكر أكثرَ وهو يُدخن غليونه بعد الغداء. وكان ذهنه لا يَزال يعصف بالتفكير، عندما دخل مكتب ميتشينجتون، في الساعة الثالثة، ووجد المفتشَ وحده فأغلقَ الباب وقرَّب كرسيًّا نحو مكتب ميتشينجتون.
ثم قال: «انظر هنا.» وتابع: «لقد قمتُ بجولة عمل صباحية رائعة، وتوصلت لاكتشاف، وعليك أنت وأنا، يا صديقي، أن نتباحثَ حوله بأكبرِ قدر من الجِدِّية كما حدث دائمًا منذ أن أتيت إلى هنا.»
دفع ميتشينجتون أوراقَه جانبًا وأظهر اهتمامه الشديد.
فقال جيتيسون: «أنت تذكر ما قاله لنا ذلك الشابُّ الليلة الماضية عن أن ذلك الرجل كوليشو قد دفع خمسينَ جنيهًا للجمعية الثانية قبل يومين من وفاته.» وأردف: «حسنًا، لقد فكَّرت كثيرًا في هذا الأمر، في وقتٍ مبكر من هذا الصباح، وتخيلت أنني أدركتُ كيف يمكنني العثورُ على شيء حول هذا الموضوع. فقرَّرت التصرُّف بهدوءٍ تام. لهذا السبب ذهبتُ إلى مقر تلك الجمعية. كانت الحقيقة هي أنني أردتُ أن أعرف على أيِّ هيئة سلَّم كوليشو مبلغ الخمسين جنيهًا هذا. لقد استطعتُ معرفة هذا. لقد كان على هيئة عملات ذهبية!»
أومأ ميتشينجتون، الذي لم يَقُده عمله حتى الآن إلى خوض غمار ألغاز عمل المحققين، برأسه مبتهجًا.
وقال: «جيد!» وأضاف: «فكرة رائعة! لم أكن لأفكر فيها قط! ولكن ما الذي تستخلصُه من ذلك؟»
أجاب جيتيسون: «لا شيء.» وتابع: «لكني استخلصتُ قدرًا كبيرًا مما عرَفتُه بعد ذلك الاكتشاف. والآن، تأمَّل معي الأمر بنفسك — أيًّا كان مَن دفع لكوليشو خمسين جنيهًا من الذهب فقد فعل ذلك بدافعٍ ما. بل أكثر من دافعٍ واحد، على وجه الدقة — لكننا سنكتفي بواحد، بدايةً. إن الدافع وراء دفع المبلغ بالذهب هو تجنُّب اكتشاف مَن دفعه. إذ يُمكن تتبُّعُ الشيك بسهولة. وكذلك الأوراق النقدية. لكن لا يمكن تعقُّب الذهب بسهولة. لذلك حرَص الرجل الذي دفع الخمسين جنيهًا إلى كوليشو على حماية نفسه بدفعها له بالعملات الذهبية. والآن، كم عدد الرجال الموجودين في مكانٍ صغيرٍ مثلِ هذا الذين من المحتمل أن يحملوا خمسين جنيهًا من الذهب في جيوبهم، أو يكون هذا المبلغُ بهذه الهيئة في متناول أيديهم؟»
قال ميتشينجتون: «ليس الكثير.»
فاستطردَ جيتيسون قائلًا: «هذا صحيح؛ ولذلك أجريتُ بعض التحقيقات السرِّية مع المصرفيِّين، حول مَن حصل على عملات ذهبية في ذلك التاريخ.» وأردف: «وكان يجب أن أُقنِعَهم بالضرورة الشديدة للحصول على هذه المعلومات قبل أن أحصل على أيٍّ منها! وقد حصَلتُ على بعضها — في المحاولة الثالثة. إذ في اليومِ السابقِ لليوم الذي سلَّم فيه كوليشو مبلغ الخمسين جنيهًا إلى ستيبنج، سحب رجلٌ معيَّن من رايتشستر خمسين جنيهًا ذهبيًّا من البنك الذي يتعامل معه. مَن تعتقد أنه فعل ذلك؟»
سأل ميتشينجتون في تلهُّف: «مَن … مَن؟»
انحنى جيتيسون مقتربًا من المكتب.
وقال بصوتٍ هامس: «برايس!» وأردف: «برايس!»
جلس ميتشينجتون منتصبَ الظهر على كرسيِّه وفتح فمه في دهشة شديدة.
وتمتمَ بعد لحظة من الصمت: «يا إلهي!» وتابع: «هل تعني ذلك؟»
أجاب جيتيسون: «إنها حقيقة!» وأردف: «حقيقةٌ واضحة، لا جدال فيها، يا صديقي. إن دكتور برايس لديه حسابٌ في بنك رايتشستر. وفي اليوم الذي أتحدَّث عنه صرَف شيكًا لنفسه بمبلغ خمسين جنيهًا وأخذه كلَّه بالعملات الذهبية.»
نظر كلٌّ من الرجلين إلى الآخَر، كما لو كان كلٌّ منهما يسأل رفيقه سؤالًا.
قال ميتشينجتون في النهاية: «حسنًا؟» وتابع: «أنت تَفوقني في التفكير، يا جيتيسون. فما الذي تستخلصه من هذا الأمر؟»
أجاب جيتيسون: «لقد قلتُ الليلةَ الماضية إن هذا الشابَّ كان يلعب لعبةً خطيرة.» ثم أضاف: «لكن ما هي هذه اللعبة؟ وما الذي يُخطِّط له؟ دعني أؤكد لك يا ميتشينجتون، أنه إذا — وأنا أقول إذا، تذكَّر! — إذا كانت الخمسون جنيهًا من العملات الذهبيَّة التي سحبَها هي الخمسين جنيهًا نفسَها المدفوعةَ لكوليشو، فإن برايس لم يدفعها على أنها رِشوة لإسكاته!»
قال ميتشينجتون، مندهشًا بوضوح: «هل تعتقد ذلك؟» وتابع: «كان هذا هو انطباعي الأول. إذا لم تكن رِشوةً لإسكاته …»
قاطعه جيتيسون قائلًا: «لم تكن رِشوة لإسكاته، للسبب التالي.» ثم أردف: «إننا نعلم أنه أيًّا كان ما يعرفه برايس بخلاف ذلك، فلم يكن على علمٍ بالحادث الذي تعرَّض له برادن إلى أن أحضرَه فارنر لرؤيته. هذا مؤكد — بحسَب ما أبلغتَني أنت به. لذلك، أيًّا كان ما رآه كوليشو، قبل أو في وقت وقوع هذا الحادث، لم يكن برايس مشاركًا فيه. من ثَم، لماذا يدفع برايس لكوليشو رِشوةً لإسكاته؟»
فتح ميتشينجتون، الذي من الواضح أنه كان يُفكر، درجًا في مكتبه فجأةً وأخذ منه بعض الأوراق وبدأ يُقلِّب فيها.
يقول رئيس العمال إنه في صباح يوم مقتل برادن، كان كوليشو يعمل في المقصورة الشمالية لنوافذ الإضاءة العلوية، حيث طُلب منه إزالةُ بعض الأخشاب التي تركها النجَّارون هناك. وقد ظل كوليشو بالتأكيد يعمل في تلك المهمة من الساعة التاسعة إلى ما بعد الحاديةَ عشرة في ذلك الصباح. ملحوظة: لقد تحققتُ من هذا بنفسي. ومن المكان المحدَّد حيث كان كوليشو يعمل على إزالة الأخشاب، هناك رؤية واضحة للمقصورة على الجانب الجنوبي من الصحن، وللمدخل المقنطَر عند رأس سُلَّم سانت رايثا.»
قال جيتيسون: «حسنًا، هذا يُثبت ما أقوله. لم تكن رشوةً لإسكات كوليشو. لأنه أيًّا مَن كان الذي رآه كوليشو يضع يدَيه على برادن، فهو لم يكن برايس؛ برايس، كما نعلم، كان في ذلك الوقت يسير عبر كلوس أو يَعبر ذلك المسارَ عبر الجزء الذي تُسمُّونه بارادايس؛ شهادة فارنر تُثبت ذلك. لذا، لو لم يدفع الخمسين جنيهًا رشوةً لإسكات كوليشو، فلماذا دفعها؟»
سأل ميتشينجتون: «هل تقترح شيئًا؟»
أجاب المحقق: «لقد فكرتُ في شيئَين أو ثلاثة.» وتابع: «أحدها هو الآتي؛ هل دُفِعَت الخمسون جنيهًا من أجل الحصول على معلومات؟ إذا كان الأمر كذلك، وحصَل برايس على تلك المعلومات، فلماذا لا يكشف معلوماتِه على نحوٍ أكثرَ وضوحًا؟ إذا كان قد قدَّم رِشوة لكوليشو قدرها خمسون جنيهًا ليُخبره مَن هو المعتدي على برادن، فهو يعرفه الآن؛ فلماذا لم يُعلن هذه المعلومة، وماذا سيفعل بها؟»
غمغم ميتشينجتون قائلًا: «إنها جزءٌ من لعبته؛ إذا كانت هذه النظرية صحيحة.»
قال جيتيسون: «قد لا تكون صحيحة.» وتابع: «لكن هذا هو الشيء الأول. وهناك شيءٌ آخر — ماذا لو افترضنا أنه دفع هذا المال لكوليشو نيابةً عن شخصٍ آخر؟ لقد فكَّرت في هذا الأمر وقلبتُه في ذهني يمينًا ويسارًا، ولأعلى ولأسفل، وأنا واثقٌ من وجود شخص آخر! تذكَّر ما أخبرنا به رانسفورد عن برايس وهاركر العجوز هذا! ومع ذلك، وَفقًا لبرايس، فإن هاركر هو أحد رجال نيو سكوتلاند يارد القدامى! ومن ثَم فمن المؤكد أنه فوق مستوى الشبهات.»
جفل ميتشينجتون فجأةً كما لو أنه قد خطرت له فكرة.
فصاح: «هذا صحيح!» وأردف: «لكن برايس فقط هو مَن يقول إن هاركر محقِّق سابق. وأنا لم أسمع قطُّ بهذه المعلومة — وإذا كان كذلك، فقد كتم الأمرَ على نحوٍ غريب. وأظن أنه كان سيُخبرنا، هنا، بوظيفته السابقة — فأنا لم أسمع مطلقًا عن شرطي من أيِّ رتبة لا يرغب في التحدُّث قليلًا مع أبناء مهنته حول الأمور المهنية.»
قال جيتيسون موافقًا: «ولا أنا.» وتابع: «وكما قلت، إن برايس فقط هو مصدرُ تلك المعلومة. وكلما فكرتُ في الأمر أكثر، اقتنعتُ أن هناك شخصًا ما — رجلًا لا يبدو أن لديك أدنى فكرةٍ عنه — ضالعًا في هذا الأمر. وربما يكون برايس متواطئًا معه. ومع ذلك، هناك شيء واحد سأفعله على الفور. لقد أعطانا برايس تلك المعلومة عن الخمسين جنيهًا. سأُخبر برايس مباشرةً أنني قد حققت في هذا الأمر بأسلوبي الخاص — وهو أسلوب من الواضح أنه لم يُفكِّر فيه مطلقًا — وسأطلب منه أن يشرح سببَ سحبِ مبلغٍ مماثل من العملات الذهبية. هيا بنا نذهب إلى بيته.»
لكن برايس لم يكن موجودًا في بيته — ولم يَعُد إلى بيته حتى اللحظة، حسَبما قالت صاحبة المنزل، منذ أن غادر في الصباح الباكر، وكلُّ ما كانت تعرفه هو أنه طلب منها أن تُعد عَشاءه ليصبح جاهزًا في موعده المعتاد هذا المساء. ومن ثَم اكتفى الرجلان بتلك المعلومة، وعادا إلى مركز الشرطة وهما لا يزالان يُناقشان الموقف. وظلا يتناقشان مدة ساعة إلى أن تسلَّم ميتشينجتون برقيةً، ففتحها، وألقى نظرة سريعة على محتوياتها ثم ناولها إلى رفيقه الذي قرأها بصوتٍ عالٍ.
«قابِلْني مع جيتيسون في محطة رايتشستر في موعد وصول القطار السريع القادم من لندن في الساعة الخامسة وعشرين دقيقة؛ لقد توصلتُ إلى حلِّ اللغز وعرَفتُ المذنبين — رانسفورد.»
ثم أعاد جيتيسون البرقية إلى ميتشينجتون.
وقال: «إنه رجلٌ يفي بوعوده!» وتابع: «لقد قال يومين، وأتمَّ المهمة في يومٍ واحد! والآن، يا صديقي — هل تُلاحظ؟ — إنه يقول الرجال، وليس الرجل! مثلما قلت لك، هناك أكثرُ من مذنب في هذه القضية. والآن يا تُرى مَن هم؟»