فندق ساكسونستيد
قاد برايس درَّاجته من رايتشستر في ذلك الصباح عازمًا على استخدام الدبلوماسية في مسعًى جديد. لقد جلس يُفكِّر بعض الوقت بعد أن ترَكه ضابِطَا الشرطة في منتصف الليل، وخطر له أن هناك رجلًا يمكن الحصولُ منه على معلوماتٍ حيث لم يستفِد من خدماته حتى الآن، ولكن يجب أن يكون في مكانٍ ما في الجوار — ذلك الرجل هو جلاسديل. كان جلاسديل في رايتشستر في الليلة السابقة، وليس من الممكن أن يكون قد ابتعد الآن، وهناك بالتأكيد شخصٌ واحد يعرف أين يمكن العثورُ عليه، وكان هذا الشخص هو الدوق ساكسونستيد. لقد كان يعرف برايس عن الدوق أنه رجلٌ وَدود للغاية، ومحبٌّ للتحاور، وحتى ثَرْثار، ويُمكنه التحدُّث مع أي شخص حول أي شيء؛ لذا سرعان ما اتخذَ قراره بالذَّهاب إلى ساكسونستيد، وابتكارِ عذرٍ معقولٍ لزيارته، والحصول على بعض الأخبار من سموِّه. وحتى لو غادر جلاسديل المدينة، فقد يكون هناك بعضُ الأدلة الصغيرة التي يمكن معرفتُها من الدوق؛ لأن جلاسديل، كما كان يعلم، قد أعطى صاحبَ عمله السابقَ معلوماتٍ حول الجواهر المسروقة وقد حكى، بلا شك، الكثيرَ عن رفقته لبرادن. وقبل أن يصل برايس إلى ضربة المعلِّم التي يحلم بها في هذا الأمر، كان هناك شيءٌ أو شيئان يريد استيضاحَهما، لإكمال شبكته المزدوجة، وكان يرى أن الدردشة لمدة ساعة مع جلاسديل ستُحقق له كلَّ ما يريد.
كان الذهن النشط الذي وضع برايس في موضعٍ جيدٍ أثناء غَزْل شبكته ووضعِ مُخططاته أكثرَ نشاطًا من أيِّ وقتٍ مضى في صباح ذلك اليوم الذي كان في أول الصيف. لقد كانت رحلةً لمسافة عشرة أميالٍ عبر الغابات والوديان إلى ساكسونستيد، وانتشرت على جانبَي الطريق مناظرُ طبيعية كان أيُّ رجل آخر سيقود على مهلٍ كي يستمتع بها أطولَ وقتٍ ممكن، وكان معظم الرجال سيتأثَّرون بها. لكن برايس لم ينظر إلى السُّحب التي تُظلِّل قمم التلال ذات اللون النُّحاسي أو الظلال الغامضة في الوديان العميقة أو البراعم الجديدة في أسيجة الشجيرات، ولم يكن يُفكر في الريفيِّين الذين يمر بأكواخهم بين الحين والآخَر في الريف القليل السكان. إذ تركَّزَت كلُّ أفكاره على مخططاته، بنحوٍ آليٍّ تقريبًا مثلما تتبَّعت عيناه الطريقَ الأبيض الذي تسير فيه عجلته. إنه منذ أن انطلق في مسعاه كان يُقيِّم موقفه بانتظام؛ فلقد كان يُقدِّر حساباته بنحوٍ دائم. والآن، في رأيه، تبدو كلُّ الأمور واعدةً للغاية. لقد أوجد — بحسَب ما يرى — جوًّا محدَّدًا من الشك حول وضد رانسفورد — لم يكن بحاجةٍ إلا إلى مزيدٍ من الإيحاء، وربما المزيد من الأدلة كي يُلقيَ القبض على رانسفورد. وكان السؤال الوحيد الذي يزعج برايس بشدة هو: هل يجب أن يترك الأمورَ تصلُ إلى ذلك الحد قبل أن يُوجِّه إنذاره لماري بيوري، أم يجب أن يكشف لها عن لعبته أولًا؟ إذ إن برايس قد حاك خُطته بحيث إن كلمةً منه للشرطة قد تُدين رانسفورد أو تُنقذه — والآن كلُّ شيء يتوقَّف، بقدْر ما كان برايس نفسُه معنيًّا، على ماري بيوري فيما يتعلَّق بالكلمة التي يجب أن تُقال. فرغم الشكوك الشديدة التي زرَعها في ذهن الشرطة حول إدانة رانسفورد، فإنه يمكنه أن يمحوَها ويُمزقها بجملة من المعرفة الإضافية — إذا جعلَت ماري بيوري الأمرَ يستحقُّ ذلك. لكن أولًا — وقبل الوصول إلى تلك المرحلة الحرجة — كانت هناك معلوماتٌ معينة يرغب في الحصول عليها، وكان متأكدًا من الحصول عليها إذا تمكَّن من العثور على جلاسديل. فجلاسديل، وفقًا لجميع الروايات، كان يعرف برادن عن كَثْب في السنوات الأخيرة، ويعلم على الأرجح الكثيرَ من الحقائق عنه — وكان برايس يثق تمامًا في قدرته على محاورة الرجال الآخَرين، وكان يؤمن بشدة بأن بإمكانه استخراجَ أيِّ سر من أي شخص يُجري معه محادثة هادئة لمدة ساعة.
ولحُسن الحظ، لم يكن برايس في حاجةٍ إلى زيارة الدوق الوَدود والصَّدوق. إذ كان يوجد خارج القرية الصغيرة في ساكسونستيد، على حافة الغابة العميقة التي تحدُّ الحديقة الدوقية، فندقٌ قديم على جانب الطريق، وهو من بقايا أيامِ العربات التي تجرُّها الخيول، تحمل لافتتُه شعاراتِ النبالة الدوقية. ومن ثَم سار برايس داخل قاعته الحجرية العتيقة لينعش نفسَه بعد رحلته، وبينما كان يقف عند البارِ ذي النوافذ المقوَّسة، نظر إلى الحديقة خلفها فرأى هناك الرجل الذي كان يبحث عنه بالتحديد، وهو يدخِّن غليونه بكلِّ ارتياح ويقرأ الصحيفة.
لم يكن لدى برايس أيُّ ذرة من الخجل، أو نقص في الثقة في طبيعة تكوينه؛ لذا قرَّر الهجوم على جلاسديل على الفور. لكنه ألقى نظرةً فاحصةً على الرجل قبل أن يخرج إليه في الحديقة. فأدرك أنه من النوع العادي والبسيط من الرجال، وقد تخطَّى منتصف العمر، وكانت هناك مسحةٌ من الشيب في شعره وشاربه، وتبدو عليه علاماتُ الغِنى ويرتدي ملابسَ أنيقة، ويبدو في تلك اللحظة وَفْق ما يظنُّه رواد الفندق كسائح. من العلامات الخارجية لم يستطِع برايس تحديدَ ما إذا كان من النوع الذي يُحبُّ التحاور أم لا، لكنه كان سيُحاول، فأخرج على الفور علبةَ بطاقاته، وأخذ منها بطاقة، وسار عبر الحديقة إلى البُقعة الظليلة التي جلس فيها جلاسديل، وقدَّم له نفسه بأسلوبٍ مهذَّب ولطيف.
قال، وقد حرَص ألا يذكر اسم الرجل: «من فضلك، يا سيدي.» وتابع: «هل لي أن أسعدَ بمحادثةٍ معك بضعَ دقائق؟»
ألقى جلاسديل على الغريب نظرةَ اندهاشٍ سريعةً، اختلطَت مع الشك — وظن برايس أن هذا النوع من النظرات هو ما يستخدمه رجلٌ اعتاد الحذرَ عند النظر إلى أي شخص. لكنَّ وجهه عاد إلى طبيعته عندما قرأ البطاقة، رغم أنه ظلَّ متشككًا عندما رفعه مرة أخرى.
وقال: «أنت تعرفني لكني لا أعرفك، يا سيدي.» ثم أردف: «دكتور برايس، وَفْق ما أرى. لكن …»
ابتسم برايس وجلس على كرسيِّ حديقةٍ بجانب جلاسديل.
ثم رد: «لا داعي للخوف من التحدُّث معي.» وتابع حديثه، وهو يومئ برأسه في اتجاه المنزل الكبير الذي يقع خلف الغابة عند سَفْح الحديقة: «أنا معروفٌ جيدًا في رايتشستر. كما أن الدوق يعرفني جيدًا — في الواقع، لقد كنتُ في طريقي لمقابلة سموِّه الآن؛ لسؤاله عما إذا كان يُمكنه إخباري بمكان العثور عليك. الحقيقة هي أنني على علمٍ بما حدث الليلةَ الماضية — قضية الجواهر، كما تعلم — لقد أخبرني ميتشينجتون عنها، وعن صداقتك مع برادن، وأنا أريد أن أطرح عليك سؤالًا أو اثنين عن برادن.»
بدا أن جلاسديل، الذي كان متحيرًا إلى حدٍّ ما في بداية هذا الكلام، قد فهم الأمورَ بنحوٍ أفضلَ بحلول نهايته.
فقال: «أوه، حسنًا، بالطبع، يا دكتور، إذا كان الأمر كذلك، ولكن، بالطبع لديَّ كلمةٌ أولًا؛ إن هؤلاء الناسَ هنا في الفندق لا يعرفون مَن أنا أو أن لي أيَّ صلة بالدوق في هذه القضية. أنا معروف هنا باسم السيد جوردون وسأُقيم مدةً قصيرة.»
أجاب برايس مع ابتسامةٍ تدل على التفهُّم: «لا بأس.» وتابع: «كل هذا سيكون سرًّا بيننا. لقد رأيتك مع الدوق وبقية الأشخاص في الليلة الماضية، وقد تعرَّفت عليك الآن. وكلُّ ما أريده هو بعض المعلومات عن برادن. هل كنتَ على علاقة وثيقة به في السنوات الأخيرة؟»
أجاب جلاسديل: «لقد عرَفتُه سنواتٍ عديدةً.» ثم ألقى نظرة فاحصة على زائره. وسأله: «أعتقد أنك تعرف قصته — وقصتي؟» ثم أردف: «قصص الماضي، أليس كذلك؟»
أجاب برايس على نحوٍ مُطمئنٍ: «بلى، بلى!» وأضاف: «لا داعي للخوض في ذلك؛ كل هذا قد انتهى.»
قال جلاسديل: «أجل، حسنًا، كِلانا وضعَ الأمور في نِصابها الصحيح.» ثم أضاف: «وقدَّمنا التعويض — كلانا، كما تفهم. لذا لقد انتهى الأمر، أليس كذلك؟ وأنت تعرف، إذن، بالطبع، مَن كان برادن بالفعل، أليس كذلك؟»
أجاب برايس على الفور: «جون بريك، مدير البنك السابق.» وأردف: «أنا أعرف كلَّ شيء عن ذلك. لقد كنتُ مهتمًّا ومَعنيًّا جدًّا بموته. وسأخبرك لماذا. فأنا أريد أن أتزوجَ ابنته.»
استدار جلاسديل وحدَّق في رفيقه.
وصاح متعجبًا: «ابنته!» وتابع: «ابنة بريك! يا إلهي! لم أكن أعرف قط أنَّ لديه ابنةً!»
أصبح برايس هو مَن يحدِّق الآن. ونظر إلى جلاسديل وهو غير مُصدق.
ثم قال: «هل تقصد أن تخبرني أنك عرَفت بريك طوال تلك السنوات وأنه لم يذكر لك شيئًا عن ابنَيه قط؟!»
أجاب جلاسديل: «لم يذكر لي أيَّ شيء عنهما!» ثم أردف: «ولم أعلم قط أنه كان لديه أيُّ أبناء!»
سأله برايس: «ألم يتكلم قطُّ عن ماضيه؟»
أجاب جلاسديل: «ليس عن هذا الأمر.» وتابع: «لم أكن أعرفُ قط أنه متزوج — أو كان رجلًا متزوجًا. إنه بكل تأكيد لم يذكر لي شيئًا عن أنَّ لديه زوجةً أو أبناء، يا سيدي، رغم أني كنتُ أعرفه عن كثب بقدرِ ما يمكن لرجلَين أن يعرف كلٌّ منهما الآخرَ بِضعَ سنوات قبل أن نعود إلى إنجلترا.»
دخل برايس في إحدى نوبات التأمُّل المعتادة بالنسبة إليه. ماذا يمكن أن يكون معنى ذلك الصمت الاستثنائي من جانب بريك؟ ألا يزال في الأمر سرٌّ خفي، لغزٌ آخر لم يُخمِّنه بعد؟
ثم قال أخيرًا بعد توقُّفٍ طويل راقبه خلاله جلاسديل بفضول: «هذا أمرٌ غريب!» ثم أردف: «لكن هل تحدَّث إليك من قبلُ عن صديقٍ قديمٍ له اسمه رانسفورد — يعمل طبيبًا؟»
قال جلاسديل: «مطلقًا!» ثم تابع: «لم يذكر شيئًا عن هذا الرجل!»
تأمَّل برايس مرة أخرى، وفجأةً قرَّر أن يُصبح صريحًا.
فقال: «إن جون بريك، مدير البنك، تزوَّج في مكانٍ يُدعى برادن ميدوورث، في ليسترشير، من فتاةٍ تُدعى ماري بيوري. ورُزق بطفلَين، عمراهما، على التوالي، حوالي أربع سنوات وسنة واحدة عندما وقع في ما سنُسميه محنة. إن هذه حقيقة!»
قال جلاسديل: «إنها المرة الأولى التي أسمع فيها عن هذا الأمر، إذن.» ثم أضاف: «وهذه حقيقة، أيضًا!»
تابع برايس: «لقد كان لديه أيضًا صديقٌ مقرَّب للغاية اسمه رانسفورد — مارك رانسفورد.» ثم أضاف: «رانسفورد هذا كان إشبينَ بريك في حفل زفافه.»
قال جلاسديل مؤكدًا: «لم أسمعه قط يتحدَّث عن رانسفورد، ولا عن أي حفل زفاف!» وأردف: «كلُّ هذه أمور أسمعها للمرة الأولى، يا دكتور.»
قال برايس: «إن رانسفورد هذا هو الآن طبيبٌ يعمل في رايتشستر.» ثم أضاف: «وتحت وصايته فتاةٌ وفتًى يعيشان معه ربيبَين له — فتاة في العشرين من العمر، وفتًى في السابعة عشرة — وهما، بلا شكٍّ، ابنا جون بريك. وأنا أريد أن أتزوَّج الابنة.»
هزَّ جلاسديل رأسه كما لو كان في حيرةٍ شديدة.
وقال: «حسنًا، كلُّ ما يُمكنني قولُه هو أنك تُفاجئني!» وتابع: «ليس لديَّ أيُّ فكرة عن أيٍّ من هذا.»
سأله برايس: «هل تظن أن بريك قد جاء إلى رايتشستر بسبب هذا؟»
صاح جلاسديل متعجبًا: «كيف لي أن أُجيب عن ذلك، يا سيدي، وأنا أقول لك إنني لم أسمعه يَلفِظ كلمةً واحدة عن وجود ابنَين لديه؟» وأردف: «كلا! ولكن أنا أعرف سببَ قدومه إلى رايتشستر. إن السبب الوحيد — على حدِّ علمي — هو إخبار الدوق هنا عن أمرِ تلك الجواهر، التي عهِد بسرِّها إليَّ وإلى بريك رجلٌ على فِراش الموت في أستراليا. لقد جاء بريك إلى رايتشستر بمفرده — وكنتُ سألحق به في صباح اليوم التالي، وكان من المقرَّر أن نذهبَ لمقابلة الدوق معًا. وعندما وصلت إلى رايتشستر، سمعت بموت بريك، ونظرًا إلى انزعاجي من الأمر، غادرتُ مرةً أخرى وانتظرت بضعةَ أيام حتى أمسِ، عندما قرَّرت أن أُخبر الدوق بنفسي، مثلما فعلت، وكانت النتائج رائعةً للغاية. كلا، هذا هو السبب الوحيد الذي أعرفه عن سببِ قدوم بريك إلى رايتشستر. وأؤكِّد لك أنني لا أعرفُ شيئًا على الإطلاق عن أموره العائلية! لقد كان رجلًا متحفظًا جدًّا، وبغضِّ النظر عن مسائل عمله، كانت لديه فكرةٌ واحدة فقط في رأسه، وقد انتهى ذلك هناك تمامًا، يمكنني أن أؤكِّد لك ذلك!»
سأله برايس: «ماذا كانت تلك الفكرة؟»
أجاب جلاسديل: «لقد أراد أن يجد رجلًا معينًا — أو على وجه الدقَّة رجلَين — خدَعاه وظلَماه بقسوة، لكنه كان يريد بشدةٍ واحدًا منهما.» وتابع: «كان يعتقد أن هذا الشخص موجود في أستراليا، حتى قرب النهاية، عندما أدرك أنه قد غادر إلى إنجلترا، أما الآخَر، فلم يكن يُهمُّه كثيرًا. لكن الرجل الذي كان يريده فقد تطلَّع للعثور عليه بشدة!»
سأله برايس: «مَن كان ذلك الرجل؟»
أجاب جلاسديل على الفور: «رجلٌ يحمل اسم فولكينر راي.» وأضاف: «إنه رجل كان يعرفه في لندن. وقد خدَعه راي هذا، هو وشريكه، وهو رجلٌ يُدعى فلود، بأن طلبا منه أن يُقرِضَهما عدة آلاف من الجنيهات — من أموال البنك، بالطبع — لبضعة أيام ليس أكثر، ثم اختفَيا تمامًا، وترَكاه ليُواجه تهمةَ الاختلاس! لقد كان أحمقَ، بلا شك، لكنه تورَّط معهما؛ لقد فعل ذلك من قبل، وكانا دائمًا يَفِيان بوعودهما، وقد كرَّر الخطأ نفسَه وكانت النتيجة أن جلب على نفسه المشاكل. لقد سمح لهما بالحصول على بعضِ الآلاف من الجنيهات، ثم اختفَيا، وتصادف أن زار مفتش البنك فرع البنك الذي يُديره بريك وطلب مراجعة أرصِدته. وهكذا انكشفَ أمرُه. وهذا هو السبب في أنه كان يُفكِّر في العثور على فولكينر راي — وهي الفكرة التي سيطرَت على تفكيره. وكان الرجل الآخر أقلَّ أهميةً لديه؛ إذ كان راي هو الجانيَ الرئيسي.»
قال برايس بعد توقُّفٍ فكَّر خلاله قليلًا: «أتمنى أن تُخبرني بكلِّ ما تعرفه عن بريك.» وأضاف: «سيكون الأمر بيني وبينك، بالطبع.»
أجاب جلاسديل بنحوٍ غيرِ مُبالٍ تقريبًا: «أوه، إن الأمر ليس فيه أسرار!» وتابع: «بالطبع، عرَفته في البداية عندما كنا نزيلَين في … أنت تفهم أين؛ فلا حاجة إلى التفاصيل. لكن بعد أن غادرنا ذلك المكان، لم أرَه مرةً أخرى قطُّ حتى التقينا في أستراليا قبل بضعِ سنوات. كنا نعمل في نفس المجال — المضاربة في تجارة الصُّوف. لقد تقاربنا للغاية واعتَدْنا رؤيةَ أحدنا الآخر كثيرًا، وبالطبع نمَت الثقةُ فيما بيننا. وقد أخبرني في النهاية عن قضيته، وكيف أنه تتبَّع راي هذا إلى الولايات المتحدة، وبعد ذلك، على ما أعتقد، إلى نيوزيلندا، ثم إلى أستراليا، ولأنني كنتُ أطوف البلدَ كثيرًا لشراء الصوف، فقد طلب مني مساعدتَه، وأعطاني وصفًا لراي، وقال، إنه بالتأكيد سمع عنه شيئًا ما عندما جاء إلى سيدني أولَ مرة، لكنه لم يتمكَّن قط من تعقُّبِه بعد ذلك. لكني لم أستطِع أن أفيده — حيث لم أرَ أو أسمع أيَّ شيء عن راي — وتوصَّل بريك إلى استنتاجِ أنه قد غادر أستراليا. وأنا أعلم أنه كان يأمُل في الحصول على أخبار عنه، بطريقةٍ ما، عندما عُدنا إلى إنجلترا.»
سأل برايس: «ماذا عن ذلك الوصف؟ — ماذا كان؟»
قال جلاسديل: «أوه!» ثم أضاف: «لا أستطيع أن أتذكَّرَه كاملًا، الآن — إنه رجل ضخم، حليق الذقن، لا يوجد ما يميزه باستثناء شيء واحد. فوفقًا لبريك، كان لدى راي ندبةٌ غائرة في فكِّه الأيسر، وقد فقد الإصبع الوُسطى من يده اليسرى — نتيجةً لحادث إطلاق نار. إنه … ما الأمر، يا سيدي؟»
ترك برايس غليونه فجأةً يسقط من بين شفتيه. واستغرق بعض الوقت في التقاطِه. وعندما رفع نفسَه مرة أخرى كان وجهه هادئًا لكنه احمرَّ قليلًا بفعل الانحناء.
وغمغمَ قائلًا: «لقد ضغطت على الغليون بسنٍّ ملتهبٍ يؤلمني!» وتابع: «يجب أن أجعل طبيب الأسنان يفحصه. إذن فأنت لم تسمع أو ترَ أيَّ شيء عن ذلك الرجل، أليس كذلك؟»
أجاب جلاسديل: «مطلقًا!» وأضاف: «لكني تساءلت منذ وقوع قضية رايتشستر هذه عما إذا كان بريك قد التقى مصادفةً بأحد هذَين الرجلَين، وإذا كانت وفاته قد نتجت عن ذلك. والآن، انتبه لما سأقوله، يا دكتور! لقد قرأتُ ما كُتب عن جلسة التحقيق الخاصة بأسباب وفاة بريك — وكنت سأذهب لحضورها إذا كانت لدي الجُرأةُ لذلك، لكني حتى ذلك الحينِ لم أكن قد حسَمتُ رأيي بعدُ بشأن مقابلة الدوق، ولم أكن أعرف ماذا أفعل، لذلك ظلِلتُ بعيدًا، لكنَّ هناك شيئًا استرعى انتباهي، ولا أظن أن الشرطة قد لاحظَته، على الإطلاق.»
سأله برايس: «وما هو؟»
أجاب جلاسديل: «عجبًا، إنه الآتي.» وأردف: «ذلك الرجل الذي أطلق على نفسه اسم ديلينجهام — الذي جاء مع بريك إلى فندق مايتر في رايتشستر — مَن يكون؟ أين قابله بريك؟ وإلى أين ذهب؟ يبدو لي أن الشرطة قد تجاهلَت ذلك الأمر على نحوٍ غريب! وفقًا لما قرأته، لقد قبِل الجميعُ أقوال ديلينجهام الأولى، وصدَّقوها، وتركوه يتلاشى! لم يتحقَّق أحد، على حدِّ علمي، من روايته عن نفسه. إنه غريب!»
نهض برايس، الذي كان بالفعل في إحدى حالات تفكيره العميق، من كرسيِّه وكأنه سيُغادر.
وقال: «أجل.» وأردف: «ربما يكون في ملاحظتك بعضُ الوجاهة. من المؤكد أنهم أخَذوا ما قاله عن نفسه دون أن يتحقَّقوا منه. هذا صحيح — ربما يكون قد ادَّعى أنه شخصٌ آخر بخلاف هُويته الحقيقية.»
قال جلاسديل: «أجل، ومن خلال ما قرأتُه، فهم لم يُتابعوا قط تحركاتِه في ذلك الصباح!» وأضاف: «هذا أمر غريب تمامًا! أليست هناك مكافأةٌ معروضة، يا دكتور؟ سمعت عن بعض المنشورات التي وُزِّعت أو شيءٌ من هذا القبيل، لكني لم أرَها قط؛ بالطبع، فأنا هنا منذ صباح أمسِ فقط.»
أخرج برايس بعض الأوراق من جيبه في صمت. واستخرج منها المنشورَين اللذين أعطاهما له ميتشينجتون وناولهما إيَّاه.
وقال: «حسنًا، يجب أن أذهب.» وتابع: «سأراك بلا شكٍّ مرةً أخرى في رايتشستر، بشأن هذه القضية. لكن في الوقت الحاضر، فإن كل هذا هو سرٌّ بيننا بالطبع، أليس كذلك؟»
أجاب جلاسديل: «أوه، بالطبع، يا دكتور!» وأردف: «هكذا تمامًا!» ومن ثَم غادر برايس وأخذ دراجته وقادها عائدًا في اتجاه رايتشستر. ولو أنه قد ظلَّ في تلك الحديقة، لرأى جلاسديل، بعد قراءة المنشورين، وهو يدخل مبنى الفندق ولسَمِعه يطلب من مالكتِه عند البار أن تُحضر له عربةً وحصانًا جيدًا في أسرعِ وقت ممكن؛ هو أيضًا كان يريد الآن الذَّهاب إلى رايتشستر على الفور. لكن برايس كان يقود دراجته عبر الطريق، وهو يُغمغم لنفسه بكلماتٍ معينةٍ مِرارًا وتكرارًا.
أخذ يُكرِّر: «الفك الأيسر … واليد اليسرى!» وأضاف: «اليد اليسرى … الفك الأيسر! إنه أمر مميز!»