عن طريق الخطأ
نظر العجوز سيمبسون هاركر، الذي كان جالسًا بالقربِ من مكتب أمين المكتبة، ويداه مطويَّتان على مقبضِ عصا المشي القويةِ الخاصة به، عبر زوجَين من العيون الذكية واللامعة بنحوٍ غير عادي إلى برايس وهو يَعبُر الغرفةَ ويقترب من هذَين النمَّامَين.
وقال: «أعتقد أن الدكتور كان موجودًا هناك عندما عُثر على الكتاب الذي تتحدَّث عنه.» وتابع: «هكذا فهمتُ من ميتشينجتون.»
قال برايس، الذي لم يكن لديه ما يمنع المشاركةَ في الحديث: «أجل، كنتُ هناك.» ثم التفتَ إلى كامباني. وسأله: «ما الذي يجعلك تعتقدُ أن هناك دليلًا في ذلك؟»
أجاب أمينُ المكتبة: «عجبًا لك!» وتابع: «إنه رجلٌ يحمل معه كتابًا عن التاريخ القديم لبارثورب. وهي مدينة صغيرة ذاتُ سوقٍ مركزية في منطقة ميدلاندز، بليسترشير، على ما أعتقد، ليست ذاتَ أهميةٍ خاصةٍ أعرفُها، ولكنها بلا شك لها قصةٌ خاصة بها. لماذا قد يهتمُّ أيُّ شخص عدا رجلٍ عاش في بارثورب، في الماضي أو الحاضر، بهذه القصةِ لدرجةٍ تجعله يحمل معه كتابًا عن تاريخها القديم؟ لذلك، أستنتج أن هذا الغريبَ كان رجلًا من سكان بارثورب. وينبغي أن أستعلمَ عنه في بارثورب.»
لم يُبدِ سيمبسون هاركر أيَّ ملاحظة، وتذكَّر برايس ما قاله السيد ديلينجهام عندما عُثر على الكتاب.
وأجاب بلا مبالاةٍ: «أوه، لا أعرف!» وأردف: «أنا لا أتفقُ معك في الرأي. فقد رأيتُ الكتاب — فهو ذو تجليدٍ عتيق غريب وألواح نُحاسية قديمة غريبة. ربما يكون الرجلُ قد اشتراه لهذا السبب — لقد اشتريت كتبًا عتيقةً لأسبابٍ أقلَّ من هذه.»
أجاب كامباني بحدَّة: «مع ذلك، ينبغي أن أستعلمَ عنه في بارثورب. على المرء أن يُفكر في كل الاحتمالات. والاحتمالات في هذه الحالة تُشير إلى أن الرجل كان مهتمًّا بالكتاب؛ لأن له صلةً بتاريخ بلدته.»
استدار برايس بعيدًا نحوَ حائطٍ عُلِّق عليه عددٌ من الخرائط والمخطَّطات الخاصة بكاتدرائية رايتشستر ومحيطها — التي جاء إلى المكتبة ليطَّلع على إحداها. ولكن عندما تذكَّر فجأةً أن هناك سؤالًا يمكنه طرحُه دون إثارةِ أي شك أو تخمين، استدار مرةً أخرى نحو أمين المكتبة.
وسأله: «ألا يوجد سجلٌّ للمدفونين داخل الكاتدرائية؟» وتابع: «أو دفتر مكتوبٌ فيه أسماؤهم؟ إذ كنتُ ألقي نظرةً على النُّصب التذكاري لرايتشستر منذ عدة أيام، ورأيتُ بعض الأسماء التي أريد تتبُّعَها.»
رفع كامباني ريشةَ الكتابة الخاصةَ به وأشار إلى صوانٍ به مجلداتٌ كبيرة ذاتُ تجليد جلدي، موجودٍ في ركنٍ بعيد من الغرفة.
وأجاب: «الرفُّ الثالث من الأسفل يا دكتور.» وأضاف: «ستجد دفترَين هناك — أحدهما سجلٌّ بجميع المدفونين داخل الكاتدرائية نفسِها حتى اليوم، والآخر سجلٌّ بالمدفونين في بارادايس والأديرة القديمة. ما الأسماء التي تريد تتبُّعها؟»
لكن برايس تصنَّع عدمَ سماع السؤال الأخير، ومشى إلى المكان الذي أشار إليه كامباني، وحمل الدفتر الثانيَ إلى طاولةٍ مجاورة. فنادى عليه كامباني عبر الغرفة.
وقال: «ستجد فهارسَ مفيدةً في النهاية.» وأضاف: «لقد سُجِّل جميعُ المتوفَّيْن حتى الوقت الحاضر — منذ أربعمائة عام، تقريبًا.»
قلَّب برايس الصفحاتِ حتى الفِهْرِس في نهاية دفتره — وهو فهرِس مكتوبٌ بأنماط مختلفةٍ من الكتابة. وخلال دقيقةٍ واحدة، وجد الاسمَ الذي يبحث عنه — هناك كان واضحًا أمامه — ريتشارد جينكينز: تُوفِّي في ٨ مارس ١٧١٥، ودُفن في بارادايس، في ١٠ مارس. كاد يضحكُ بصوتٍ عالٍ من السهولة التي تتبَّع بها ما بدا في البداية أمرًا يصعب معرفته. ولكن لئلا تبدوَ مهمتُه سهلةً للغاية، استمر في قلب أوراق الدفتر الكبير، ومن أجل الحصول على عذرٍ إذا سأله أمين المكتبة أيَّ أسئلة أخرى، فقد حفظ بعضَ الأسماء التي رآها. وبعد مدَّة، أعاد الدفتر إلى رفِّه، ثم التفتَ إلى الحائط الذي عُلِّقَت عليه المخططاتُ والخرائط. ووجد هناك مخططًا لبارادايس، موضَّحًا عليه موقعُ وأسماءُ جميع القبور الموجودة في ذلك الفِناء العتيق، الذي كان يأمُل من خلاله معرفةَ الموقع الدقيق لقبر ريتشارد جينكينز.
لكنْ هنا واجهَ برايس مشكلتَه الأولى. كانت توجد أسفلَ كل جانبٍ من المخطط القديم — الذي يعود لعام ١٨٥٠ — قائمةٌ مجدوَلة بمقابر بارادايس. وقد كُتبت أسماء العائلات والأشخاص في هذه القائمة — ومقابل كلِّ اسمٍ وُضع رقم يُطابق الرقم المكتوب نفسَه على الأقسام المختلفة للمخطَّط. ولم يكن اسم ريتشارد جينكينز في تلك القائمة — لقد راجعها بعنايةٍ مرتين، أو ثلاثَ مرات. لم يكن هناك. من الواضح، أنه إذا كان قبرُ ريتشارد جينكينز، الذي دُفن في بارادايس عام ١٧١٥، لا يزال موجودًا، بين أشجار السرو والصنوبر، فإن الاسم والنقشَ كانا قد تلاشَيا من عليه، وبَلِيا بفعل الزمن والطقس، عندما وُضع هذا المخطط، بعد مائةٍ وخمسة وثلاثين عامًا. وفي هذه الحالة، ماذا كانت تَعني الملاحظةُ التي وجَدها برايس في حقيبة الرجل الميت؟
ومن ثَم ابتعد في النهاية عن المخطَّط، وقد تملَّكَته الحيرة، فنظر إليه كامباني.
وسأله: «هل وجدتَ ما تُريد؟»
أجاب برايس، الذي كان مستعدًّا بإجابةٍ: «أوه، أجل!» وأردف: «أردتُ فقط أن أرى مكانَ دفنِ عائلة سبلبانك — هناك الكثير منهم، كما أرى.»
قال كامباني: «في الركن الجنوبيِّ الشرقي من بارادايس.» وتابع: «لديهم عدةُ مقابر. كان بإمكاني أن أُوفِّر عليك عناءَ البحث.»
ضحك برايس قائلًا: «أنت موسوعةٌ منظَّمة عن المكان.» وأضاف: «أفترضُ أنك تعرف كلَّ شاردة وواردة عنه!»
أجاب أمينُ المكتبة: «من المفترض أن أكون كذلك.» وأردف: «لقد كنتُ أتدرَّب على ذلك، منذ أن كنتُ صبيًّا، على مدى خمسةٍ وأربعين عامًا.»
علَّق برايس بملاحظةٍ مناسبة، ثم غادر المكتبةَ وعاد إلى شقَّتِه — ليقضيَ هناك معظمَ الأمسيةِ التاليةِ في محاولةِ حلِّ الألغازِ المتنوِّعة التي صادفَته في هذا اليوم. لكنه لم يستطِع التوصلَ إلى شيءٍ في تلك الليلة، وكان لا يزال يُفكر في حلٍّ لألغاز الحادث عندما ذهب إلى جلسة التحقيق في أسباب الوفاة في صباح اليوم التالي — ليجدَ قاعة المحكمة ممتلئةً حتى الأبواب بمجموعة من سكان المدينة الفُضوليِّين مثله. وبينما كان جالسًا هناك، يستمع إلى المقدمات، وإلى أدلةِ الشهود الأوائل، صوَّر عقلُه النشطُ والماكر لنفسِه، مع الكثير من التسلية الساخرة، كيف يمكن لكلمةٍ أو كلمتين من شفتَيه أن تحلَّ الأمور إلى حدٍّ بعيد. وأخذ يُفكر فيما قد يقوله — إذا قال كل الحقيقة. لقد فكَّر فيما يمكن أن ينتزعَه من رانسفورد إذا كان هو قاضيَ التحقيق في هذه الجلسة، أو المحامي، وكان رانسفورد في منصَّة الشهود تلك. إذ كان سيسأله وهو تحت القسَم عما إذا كان يعرف ذلك الرجل الميتَ — وإذا كان قد تعامل معه في أوقاتٍ سابقة، وإذا كان قد التقى به وتحدَّث معه في ذلك الصباح الحافل بالأحداث — كان سيسألُه، بشكلٍ مباشر، إذا كانت يده هي التي ألقَت الرجلَ ليَلْقى حتفَه. لكن لم يكن لدى برايس أيُّ نيةٍ لكشفِ أي معلومات لديه في هذا الوقت — فقد كان سيقول فقط ما يريد أن يُفصح عنه وليس أكثر. وهكذا جلس وسمع — وعرَف ممَّا سمعه أن الجميعَ هنا غارقون في غموضٍ لا فكاكَ منه، وأنه في وسط ذلك الحشد هناك رجلٌ واحد فقط لديه بعض الشكوك فيما يتعلق بحقيقة الأمر، وأن هذا الرجل هو برايس نفسُه.
كانت الأدلة المقدَّمة في المراحل الأولى من جلسة التحقيق معروفةً جميعُها لبرايس، ولأغلبِ الأشخاص في القاعة بالفعل. لقد حكى السيد ديلينجهام كيف التقى بالرجلِ الميتِ في القطار، وهو يُسافر من لندن إلى رايتشستر. وحكت السيدة بارتينجلي كيف وصل إلى فندق مايتر، وسُجِّل في دفتر النزلاء باسم السيد جون برادن، وأنه سأل في صباح اليوم التالي عما إذا كان بإمكانه الحصولُ على عرَبةٍ تُقله إلى ساكسونستيد في وقتِ ما بعد الظهر، حيث كان يرغب في مقابلة الدوق. وشهد السيدُ فوليوت أنه قد رآه في الكاتدرائية متجهًا نحوَ أحد السلالم المؤدِّية إلى المقصورة. كما شهد فارنر — الشاهدُ الأكثرُ أهميةً حتى تلك اللحظة — بما رآه. كما قدَّم برايس نفسُه، وتلاه رانسفورد، شهادتَهما الطبية، ثم تحدَّث ميتشينجتون عن تفتيشه لملابس وأغراض القتيل الموجودة في غرفته بفندقِ مايتر. وأضاف ميتشينجتون أُولى المعلومات التي تُعَد جديدةً بالنسبة إلى برايس.
قال ميتشينجتون: «نتيجةً للعثور على الكتابِ الخاصِّ ببارثورب في حقيبة السفر الخاصة بالمجني عليه، أرسلنا برقيةً طويلة أمسِ إلى الشرطة هناك، لإخبارِهم بما حدث، وطلبنا منهم على وجه السرعة إجراءَ عمليةِ بحثٍ دقيقةٍ عن أيِّ مُواطن في المدينة يحمل اسمَ جون برادن، وإبلاغنا هذا الصباحَ عبر برقية بالنتيجة. وجاء ردُّهم، الذي استقبَلْناه قبل ساعة كالتالي. لا يوجد في بارثورب — وهي مدينةٌ صغيرة جدًّا — أيُّ شخص بهذا الاسم.»
لقد كان برايس يتوقَّع ذلك بالفعل. ومن ثَم التفتَ باهتمامٍ أكبر إلى الشاهد التالي — الدوق ساكسونستيد، القُطب المحليِّ الكبير، وهو رجلٌ ضخم وصريح للغاية، كان حاضرًا في القاعة منذ بدايةِ الإجراءات، التي كان من الواضح أنه مهتمٌّ بها كثيرًا. فمن الممكن أنه قد يكون قادرًا على قولِ شيء هام — فقد يعرف، في النهاية، شيئًا عن هذا الغريب الغامض على ما يبدو، الذي، رغم أي شيء يمكن للسيدة بارتينجلي أو أي شخص آخر أن يقوله عكس ذلك، ربما كان لديه موعدٌ وعمل معه.
لكنَّ سُموَّه لم يكن يعرف شيئًا. إذ لم يسمع قط اسمَ جون برادن في حياته — بقدرِ ما كان يتذكر. وقد عاينَ للتو جثةَ الرجل البائس ونظرَ بعناية في ملامحه. وأكَّد أنه لا يعرف عنه أيَّ شيء — ولم يستطِع أن يتذكر أنه قد رآه في أي مكان وفي أيِّ وقت. لم يكن يعرف شيئًا عنه حرفيًّا — ولم يستطِع التفكيرَ على الإطلاق في أي سببٍ لرغبة السيد جون برادن في رؤيته.
فقال قاضي التحقيق: «إن لدى سموِّك، بلا شك، تعاملاتٍ تِجاريةً مع عددٍ كبير من الناس في كل الأوقات.» وتابع: «ربما يكون بعضُها مع رجالٍ لم تُقابلهم إلا مدةً وجيزة من الوقت — ربما، بِضْع دقائق. ألا تتذكَّر قطُّ أنك قد قابلتَ هذا الرجل بهذه الطريقة؟»
أجاب الدوق: «أنا أتميزُ بامتلاك قدرةٍ غير عادية على تذكُّر الوجوه.» وأضاف: «وبدقة كبيرة — إذا جاز لي القول. لكنني لا أتذكر هذا الرجلَ على الإطلاق — في الواقع، دعني أقُل إنني متأكدٌ من أن عينَيَّ لم تقَعا عليه في حياتي قط.»
سأله القاضي: «هل يُمكن لسموك أن تقترح أيَّ سبب قد يجعله يرغبُ في مقابلتك؟»
أجاب الدوق: «ليس لديَّ أيُّ سبب! لكن رغم ذلك، قد يكون هناك العديدُ من الأسباب — غيرِ المعروفة بالنسبة إليَّ، ولكن يُمكنني التخمين. إذا كان هذا الشخصُ أحدَ المهتمين بالآثار، فهناك الكثيرُ من الأشياء العتيقة في ساكسونستيد التي قد يرغب في رؤيتها. أو قد يكون من مُحبي اللوحات — ومجموعتنا مشهورةٌ بعضَ الشيء، كما تعلم. وربما كان من هُواة الكتب — ولدينا بعضُ الإصدارات النادرة. يمكنني الاستمرارُ في تخمين الأسباب — ولكن ما الفائدة؟»
قال القاضي: «الخلاصة هي أن سموَّك لا تعرفه ولا تعرف شيئًا عنه.»
قال الدوق موافقًا وهو ينزل من منصة الشهود: «هكذا بالفعل — أنا لا أعرف شيئًا عنه!»
عند هذه المرحلة، أرسل قاضي التحقيق أعضاءَ هيئة المحلَّفين بصحبة ضابطٍ تابع له؛ لإجراء فحصٍ شخصي دقيق لمقصورة نوافذ الإضاءة العُلوية. وأثناء ذَهابهم، حدثَت بعض الضجة في القاعة بسبب دخول ضابط شرطة قدَّم للقاضي رجلًا في منتصف العمر، حسَن المظهر، اعتبره برايس على الفور قطبًا تجاريًّا من لندن يتمتع بقدرٍ من المكانة. وقد جرى تبادلٌ للملاحظات على الفور بين الوافد الجديد والقاضي، شارك فيه حاليًّا بعضُ المسئولين الجالسين على الطاولة. وعندما عادت هيئة المحلَّفين، دخل الشخص الغريب مباشرةً إلى منصة الشهود، والتفت القاضي إلى هيئة المحلَّفين والقاعة.
ثم قال: «لقد تمَكَّنا بنحوٍ غير متوقَّع من الحصول على بعض الأدلة عن هُوية الرجل الميت، أيها السادة.» وتابع: «إن الرجل النبيلَ الذي صعد لتوِّه إلى منصة الشهود هو السيد ألكسندر تشيلستون، مديرُ بنك لندن آند كولونيز، الكائن في شارع ثريدنيدل ستريت. وقد رأى السيد تشيلستون تفاصيلَ هذا الحادثِ في الصحفِ هذا الصباح، فانطلق على الفور إلى رايتشستر ليُخبرنا بما يعرفه عن الرجل الميت. ونحن ممتنُّون جدًّا للسيد تشيلستون — وعندما يؤدي القسَم، ربما يتفضل بإخبارنا بما يعرفه.»
في خِضمِّ هَمْهمة الإثارة التي سرَت في القاعة، انغمس برايس في النظر خُفْيةً نحو رانسفورد الذي كان جالسًا في الجهة المقابلة، خلف الطاولة الموجودة في وسط القاعة. لقد أدركَ على الفور أن رانسفورد، على الرغم من أنه ربما يُجاهد بشدة لإبقاء تعبيراتِ وجهه تحت السيطرة، كان بالتأكيد مرتبكًا من إعلان القاضي. إذ شحبَت وجنتاه، واتسعَت عيناه قليلًا، وانفرجت شَفتاه بينما كان يُحدق في مدير البنك — بوجه عام، كان الأمر أكثرَ من مجرد فضول كسا ملامحَه. ثم التفتَ برايس، وهو راضٍ ومبتهجٌ على نحوٍ خفي، لسماع ما سيقوله ألكسندر تشيلستون.
إنه لم يَقُل الكثير — لكن ما قاله كان ذا أهمية كبيرة. قال السيد تشيلستون، قبل يومَين فقط — كان ذلك في اليوم السابق لوفاته — جاء السيد جون برادن إلى بنك لندن آند كولونيز، الذي يعمل السيد تشيلستون مديرًا له، وقدَّم نفسه على أنه قد وصل لتوه إلى إنجلترا قادمًا من أستراليا؛ حيث قال إنه كان يعيش هناك منذ عدة سنوات، وطلب السماحَ له بفتح حساب. ثم قدَّم بعض خطابات التوصية من وكلاء بنك لندن آند كولونيز، في ملبورن، التي كانت مُرضيةً للغاية؛ ومن ثَم جرى فتح الحساب، ووضع هو فيه مبلغَ عشرة آلاف جنيه على هيئة كمبيالة تُحصَّل عند الطلب لصالح أحد هؤلاء الوكلاء. ولم يسحب شيئًا مقابلها، حيث قال بلا مبالاةٍ إن معه الكثيرَ من المال في جيبه في الوقت الحالي، كما لم يأخذ حتى دفتر الشيكات الذي قُدِّم له، قائلًا إنه سيطلبه لاحقًا.
وتابع الشاهدُ قائلًا: «لم يُعطِنا أيَّ عنوان في لندن ولا في إنجلترا.» وأردف: «لقد أخبرني أنه قد وصل لتوه إلى تشارينج كروس في ذلك الصباح، بعد أن سافر من باريس أثناء الليل. وقال إنه ينبغي أن يُقيم بعضَ الوقت في فندقٍ سكَني في لندن، وفي هذه الأثناء كان لديه مقابلة، أو زيارة، واحدةٌ أو اثنتان ليقوم بهما في الريف، وقال إنه سيُقابلني مرةً أخرى عندما يعود منهما. لقد أعطاني القليل جدًّا من المعلومات عن نفسِه، لم يكن ذلك ضروريًّا؛ لأن خطاباتِ التوصية من وكلائنا في أستراليا كانت مُرضيةً تمامًا. لكنه ذكَر أنه سافر إلى هناك منذ عدة سنوات، واستثمر في شراء الأراضي — وقال أيضًا إنه سيستقرُّ الآن في إنجلترا إلى الأبد. هذا …» — هكذا اختتم السيد شيلستون حديثه — «هو كلُّ ما يُمكنني قوله من خلال معرفتي الخاصة. لكن …» — وأضاف، وهو يسحب صحيفة من جيبه — «هذا إعلانٌ لاحظتُه في صحيفة «ذا تايمز» هذا الصباحَ عندما جئتُ للإدلاء بشهادتي. ستُلاحظ …» — وتابع وهو يناولها للقاضي — «أنه قد نُشر بالتأكيد من قِبَل عميلِنا المسكين.»
ألقى القاضي نظرةً سريعة على فِقرة مميزة في عمود الإعلانات والرسائل الشخصية لصحيفة «ذا تايمز»، وقرأها بصوتٍ عالٍ:
قال: «إن الإعلان على النحو التالي.» وتابع: «إذا اطَّلع صديقي القديمُ ماركو على هذا الإعلان، يجب أن يعلم أن ستيكر يرغب في رؤيته مرةً أخرى. جيه برادن، عناية بنك لندن آند كولونيز، شارع ثريدنيدل ستريت، لندن.»
كان برايس يُراقب رانسفورد بهدوء. هل أخطأ في اعتقاده أنه رآه يجفل؛ أنه رآه وقد تورَّد وجهه عندما سمع الإعلان يقرأ؟ لقد كان يعتقد أنه ليس مخطئًا — ولكن إذا كان على حق، فقد استعاد رانسفورد في اللحظة التالية السيطرةَ الكاملة على نفسه ولم يُبدِ أيَّ انفعال. والتفت برايس مرةً أخرى إلى القاضي والشاهد.
لكن الشاهد لم يكن لديه المزيدُ ليقولَه — باستثناء الإشارة إلى أنه يجب إرسالُ برقية إلى وكلاء البنك في ملبورن للحصول على معلومات؛ لأنه من غير المرجَّح أن يحصلوا على المزيد في إنجلترا. وبهذا انتهت المرحلةُ الوُسطى من الإجراءات — وجاءت المرحلة الأخيرة، التي تابعَها برايس باهتمامٍ متزايد. إذ سرعان ما ثبت، من خلال بعضِ الملاحظات التي أدلى بها القاضي، أن النظرية التي طرحها أرتشديل في النادي أثناء وجود برايس في اليوم السابق قد حَظِيَت بتأييد السلطات، وأن زيارة المحلَّفين إلى مسرح الحادث كانت مقصودةً من قِبَل القاضي من أجل تهيئتهم لِقَبول تلك النظرية. والآن استُدعي أرتشديل نفسُه، بصفته ممثلًا للمهندسين المعماريين المسئولين عن ترميم الكاتدرائية؛ لإبداءِ رأيه — وقد عرَضه بالكلمات نفسِها تقريبًا التي سمعه برايس يستخدمها قبل أربعٍ وعشرين ساعة. وبعده جاء رئيس عمال البناء، وأعرب عن القناعة الراسخة نفسِها التي ترى أن الحقيقةَ الفِعلية هي أن رصيف المقصورة في ذلك المكان المحدَّد أصبح ناعمًا للغاية، وهو يميل نحو المدخل المفتوح بزاوية حادة، بحيث فقد الرجلُ البائس اتزانَ خطواته عليه، وقبل أن يتمكَّن من استعادته، انزلق مندفعًا من المدخل وفوق القمة المكسور لسلَّم سانت رايثا. وعلى الرغم من ذلك، وبناءً على رغبة أحد المحلَّفين، استُدعي فارنر مرة أخرى، وتمسَّك بقوةٍ بقصته الأصلية عن رؤية يدٍ هي بكل تأكيد، حسَبما أعلن، ليست يدَ القتيل، وسرعان ما أصبح من الواضح أن هيئة المحلَّفين تُشارك القاضيَ في اعتقاده بأن فارنر في خوفه وانفعاله قد أخطأ في التقدير، ولم يُفاجَأ أحدٌ عندما أعلن رئيس هيئة المحلَّفين، بعد استشارةٍ قصيرة جدًّا مع زملائه، حكمًا بأن الموت قد حدَث عن طريق الخطأ.
قال رجلٌ يجلس بجانب برايس: «إذن، بُرِّئت المدينة من وصمةِ جريمة القتل!» ثم أضاف: «هذا عملٌ جيد، على أي حال! إنه أمر سيئ، يا دكتور، أن تُفكِّر في وقوع جريمةِ قتلٍ داخل كاتدرائية. ستُصبح هناك مسألةُ تدنيس مقدسات، بالطبع — وجميع أنواع التعقيدات.»
لم يُعلِّق برايس على كلام الرجل. إذ كان يُراقب رانسفورد، الذي كان يتحدَّث إلى القاضي. ولم يكن مخطئًا الآن — فقد حمل وجهُ رانسفورد كلَّ علامات الارتياح اللامتناهي. من ماذا؟ استدار برايس ليُغادر القاعة الممتلئة، التي سارع الحضورُ بالخروج منها. وبينما كان يجتازُ الطاولة المركزية، رأى العجوز سيمبسون هاركر، الذي، بعد جلوسه في صمتٍ يقِظ لمدة ثلاث ساعات، قد اقترب منها، ثم التقطَ كتاب «تاريخ بارثورب» الذي عُثر عليه في حقيبة برادن وأخذ يُحدق بفضول في صفحة العنوان الخاصة به.