الإشبين
وقعَت عينا هاركر العجوز ذاتا النظرةِ الحصيفة، اللَّتان كانتا تتجولان في الغرفة كما لو كانتا تتفقَّدان الصحبة التي وجد نفسه معها، على الفور تقريبًا على برايس — ولكن ليس قبل أن يُصبح لدى برايس الوقت الكافي لإظهارِ نظرةِ تفاجؤٍ بريئة وحقيقية على وجهه. لم يُبدِ هاركر أيَّ مظاهرَ للتفاجؤ على الإطلاق، لكن بدَت عليه الدهشة التي كان يشعر بها عندما نهض الشابُّ الأصغر منه ودعاه إلى الجلوس على المقعد المريح الذي كان يجلس عليه هو نفسه للتو.
ومن ثَم قال متعجبًا، وهو يومئ برأسه تعبيرًا عن الشكر: «يا إلهي!» وتابع: «لم أكن أتوقَّع على الإطلاق أن ألتقيَ بك في هذه البلدة البعيدة، يا دكتور برايس! إنه مكانٌ بعيد للغاية عن رايتشستر، يا سيدي، كي يتقابلَ فيه سكان رايتشستر.»
رد برايس: «لم أكن أتخيلُ أن أُقابلَك هنا يا سيد هاركر.» وأردف: «لكنه عالَمٌ صغير، كما تعلم، ويحدثُ فيه العديد من الصدف. ولا يوجد شيء يُثير العجب في وجودي هنا، رغم ذلك؛ فقد حضرتُ إلى هنا بحثًا عن عملٍ كطبيب ممارس عام في الريف؛ فقد تركتُ العمل مع دكتور رانسفورد.»
كان قد تمكَّن من اختلاقِ تلك الكَذْبة بمجردِ أن رأى هاركر، وسواءٌ أصدَّقَ الرجل العجوز ذلك أم لا، فهو لم يُظهِر أيَّ علامة على التصديق أو عدمِه. لكنه جلس على الكرسيِّ الذي سحبه برايس للأمام وأخرج علبةَ سيجار قديمةَ الطراز، ودعا رفيقه للتدخين.
وسأله: «هل تُجرب واحدةً يا دكتور؟» وأضاف: «إنه سيجار أصلي، يا سيدي؛ إذ إن لديَّ صديقًا في كوبا يُرسله إليَّ بين الحين والآخر.» وتابع، بعد أن شكَره برايس وأخذ سيجارًا: «كلا، لم أكن أعرفُ أنك قد تركتَ العمل مع الدكتور. لكن هذا مكان هادئ للغاية كي تُمارس عملك فيه، على ما أظن؛ أكثر هدوءًا حتى من مدينتِنا العتيقة الهادئة.»
سأله برايس: «هل تعرف هذه المدينة؟»
أجاب هاركر: «لدي صديق يعيش هنا — صديق قديم.» ثم أضاف: «وأنا آتي لزيارته بين الحين والآخر؛ فأنا هنا منذ الأمس. إنه يقوم ببعض الأعمال التجارية من أجلي. هل ستمكثُ هنا طويلًا، يا دكتور؟»
أجاب برايس: «فقط لأخذ جولة.»
قال هاركر: «أنا سأُغادر صباح الغد؛ في الساعة الحاديةَ عشرة.» وأردف: «إنها رحلة طويلة للغاية إلى رايتشستر، بالنسبة إلى رجلٍ عجوز مثلي.»
قال برايس: «أوه، أنت بصحة جيدة! — فصحتك أفضلُ من الكثير من الرجالِ الأصغرِ سنًّا منك.» وتابع: «وستعيش مدةً أطولَ من الكثير ممَّن هم في مثلِ سنِّك، يا سيد هاركر. حسنًا، نظرًا إلى أنك قد أعطيتَني سيجارًا جيدًا للغاية، فاسمح لي الآن أن أدعوَك لتناول كأسٍ من الويسكي؟ — يكون لديهم بوجه عام شرابٌ من نوعية جيدة جدًّا في هذه الأماكنِ العتيقةِ الطراز، على ما أعتقد.»
جلس المسافران يتحدَّثان حتى وقت النوم — لكن لم يُشِر أيٌّ منهما إلى القضية التي أثارت حماسَ جميعِ سكان رايتشستر مؤخرًا. لكن برايس كان يتساءل طوالَ الوقت عمَّا إذا كانت قصةُ رفيقه عن وجود صديقٍ له في بارثورب ليست أكثرَ من مجرد عذر، وعندما أصبح بمفرده في غرفة نومه الخاصة وفكَّر بجدِّية أكبر، توصَّلَ إلى استنتاجٍ مفاده أن هاركر العجوز كان هنا بصدد أمرٍ ما له صلةٌ بلغز بارادايس.
قال متأملًا: «لقد كان الرجل العجوز في المكتبة عندما قال أمبروز كامباني إن هناك دليلًا في ذلك الكتابِ الخاصِّ بتاريخ بارثورب.» وأردف: «ورأيتُه بنفسي يفحص الكتاب بعد انتهاء جلسة التحقيق. لا، لا، يا سيد هاركر! إن الحقائق واضحةٌ للغاية، والأدلة واضحة للغاية. ومع ذلك لماذا قد يهتمُّ تاجرٌ عجوز متقاعد من رايتشستر بهذه القضية؟ إنني في غاية الفضول لمعرفةِ ما يفعله هاركر حقًّا هنا، ومَن هو صديقه في بارثورب.»
لو كان برايس قد استيقظ في وقتٍ مبكر من صباح اليوم التالي، وتكبَّد عناءَ تتبُّع تحركاتِ هاركر العجوز، لكان قد علم شيئًا يَزيد ريبتَه أكثر. لكن برايس، الذي لم يرَ أيَّ سبب للتعجُّل، رقد في سريره إلى ما بعد الساعة التاسعة، ولم يذهب إلى غرفة الطعام حتى العاشرة والنصف تقريبًا. وفي تلك الساعة، كان سيمبسون هاركر، الذي تناول الإفطار قبل التاسعة، يتشاور عن كثب مع صديقه — ولم يكن هذا الصديق سوى الرئيس المحلي للشرطة، الذي اجتمع بسريةٍ مع الرجل العجوز في منزله الخاص، حيث ذهب إليه هاركر، بموعد مسبق، بمجرد انتهاء وجبة الإفطار. ولو كان بمقدور برايس الرؤيةُ عبر الجدران أو السماعُ عبر النوافذ، لاندهشَ من اكتشاف أن هاركر في هذا اللقاء لم يكن الرجلَ العجوز الهادئ والطيب والثرثار الذي كان يعرفه في مدينة رايتشستر، ولكنه كان رجلَ أعمالٍ عمليًّا وماديًّا.
كان يختم حديثه، في الوقت نفسِه الذي كان برايس يمضَغُ فيه على مهلٍ قطعةَ لحمِ الضأن الثانيةَ في غرفة الطعام بفندق بيكوك: «والآن بخصوص ذلك الشابِّ الذي يُقيم هناك في فندق بيكوك، إنه يسعى وراء شيءٍ ما — فحديثه عن المجيء إلى هنا بحثًا عن عمل هو محضُ كذب! — وعليك أن تُراقبه أثناء وجودِه في منطقتك. امنَح تلك المهمة في الحال لأفضل مُخبريك الذين يرتدون ملابسَ مدنية — سوف يتعرَّف عليه بسهولة من خلال الوصف الذي قدَّمتُه لك — واطلب منه أن يراقبه كظلِّه أينما ذهب. ثم أخبِرْني بتحركاته — إنه بالتأكيد يسعى وراء شيءٍ ما، وما يفعله قد يكون مفيدًا بالنسبة إليَّ — يمكنني الاستفادة منه في عملي الخاص. وبخصوص المسألة الأخرى، أخبِرني إذا توصلتَ لأي شيءٍ آخر. والآن سأخرج عبر حديقتك إلى الجزء الخلفي من المدينة ثم إلى المحطَّة. بالمناسبة، أبلغني عندما يُغادر هذا الشابُّ المقيم في بيكوك المدينةَ، وأعلِمْني إذا أمكن — ويُمكنك معرفةُ ذلك — إلى أين غادر.»
لم يكن برايس على علمٍ على الإطلاق بأن هناك مَن هو مهتمٌّ بتحركاته عندما تجوَّل في سوق بارثورب بعد الساعة الحادية عشرة تمامًا. لقد سأل سؤالًا عارضًا للنادل وعلم أنَّ الرجل العجوز قد رحل، وبِناءً عليه ظنَّ أنه بعيدٌ عن الملاحظة. وعلى الفور شرع في عمله الاستقصائيِّ بطريقته الخاصة. فهو لم يكن لِيَلفت الانتباهَ إلى نفسه بطرحِ أسئلةٍ على السكان الحاليِّين، الذين قد يُثير فضولَهم عندئذٍ؛ لكنه يعرف طرقًا أفضلَ من ذلك. قال برايس لنفسه إن كل مدينة تحتفظُ بسجلَّات عامةٍ — سجلات أبرشية، وقوائم السكان، وقوائم الناخبين، حتى المدن الصغيرة لديها سجلَّات كاملة إلى حدٍّ ما — ويمكنه البحث في هذه السجلات عن أيِّ ذِكرٍ أو تسجيلٍ لأيِّ شخص أو أيِّ عائلة باسم برادن. ومن ثَم قضى كلَّ ذلك اليومِ في هذا البحث، حيث فحص العديدَ من الوثائق والسجلات والدفاتر، وعندما جاء المساء كانت لديه معرفةٌ كاملةٌ بأسماء العائلات في بارثورب، وكان مستعدًّا للمراهنة على أنه لا يوجد أيُّ شخص يحمل اسم برادن عاش هناك خلال نصفِ القرن الماضي. إذ إنه خلال بحثه لم يُصادف هذا الاسم ولو مرةً واحدة.
كان الرجل الذي قضى يومًا بطيءَ الحركة جدًّا في مراقبة برايس، أثناء زيارته للأماكن العامة المختلفة، حيث أجرى أبحاثَه، يُراقبه أيضًا في صباح اليوم التالي، بينما كان يتناول برايس الإفطارَ في وقتٍ أبكرَ من المعتاد، استعدادًا لأعمال يوم جديد. وتتبَّع طريدته بعيدًا عن المدينة الصغيرة؛ حيث اتجه برايس نحو برادن ميدوورث. وفي رأي برايس، كان الذَّهاب إلى هناك أمرًا غيرَ مُجدٍ، لكن التشابُه بين اسم القرية والرجل الميت في رايتشستر قد يكون له أهميتُه، وقد كانت تقع على بُعد ميلين فقط من بارثورب. وعندما وصل إلى برادن ميدوورث وجدها مكانًا صغيرًا وهادئًا ورائعًا للغاية، به كنيسة قديمة على ضفاف نهرٍ مناسبٍ جدًّا لمحبِّي الصيد بالصنارة. وهناك تابع تكتيكاتِه كما في اليوم السابق، وتوجَّه مباشرة إلى منزل القسِّ، وطلب منه السماحَ له بالبحث في سجلات الأبرشية. فسارع القس، الذي لم يكن لديه اعتراضٌ على تحصيل رسومٍ مقابل ذلك، إلى الامتثال لطلب برايس، واستفسر عن المرحلة الزمنية التي يريد البحثَ خلالها، وهل هناك موضوعُ بحثٍ معين.
أجاب برايس: «لا يوجد موضوعٌ معيَّن، وبخصوص المرحلة فإنها حديثةٌ إلى حدٍّ ما. فالحقيقة هي أنني مهتمٌّ بالأسماء.» وهنا استخدم كذبةً أخرى من كذباته التي يخترعُها بسهولة، فقال: «فأنا أُفكِّر في تأليفِ كتابٍ عن الألقاب الإنجليزية، وأنا الآن أتفقَّد سجلاتِ الأبرشيات في ميدلاندز لهذا الغرض.»
قال القس، وهو يُنزل سِجلًّا من فوق أحد الرفوف: «إذن يُمكنني تسهيلُ مهمتِّك إلى حدٍّ كبير.» وتابع: «لقد نُسِخَت وطُبعت سجلات أبرشيتنا، وها هو المجلد، كل شيء موجودٌ فيه منذ عام ١٥٧٠ إلى ما قبل عشرِ سنوات، وهناك فِهرس كاملٌ تمامًا. هل تُقيم في الجوار، أم في القرية؟»
أجاب برايس، وهو يُشير برأسه من خلال نافذةٍ مفتوحةٍ نحو فندقٍ قديم في الوادي بالأسفل، بالقرب من جسرٍ حجَري قديم: «في الجوار، نعم؛ في القرية، ليس أكثرَ من الوقت الذي سأقضيه حتى موعد الغداء في الفندق هناك.» وأضاف: «هل يمكن أن تُعيرني هذا المجلدَ مدةَ ساعة؟ — وعندئذٍ، إذا رأيتُ أيَّ شيء جديرٍ بالملاحظة في الفهرس، فيُمكنني إلقاءُ نظرة على السجلات الفعلية عندما أُعيد هذا المجلد.»
أجاب القسُّ بأن هذا هو بالضبط ما كان على وشك أن يقترحَه، فأخذ برايس المجلدَ معه. وبينما كان جالسًا في رَدْهة الفندق في انتظار غَدائه، فتح المجلدَ على الفِهرس الذي جُمع بعناية، وأخذ يتصفَّحه بسرعة. وفي الصفحة الثالثة رأى اسم بيوري.
لو كان الرجل الذي تبع برايس من بارثورب إلى برادن ميدوورث موجودًا معه في ردهة الفندق الهادئ، لرأى طريدتَه يجفل، ولسَمِعه يُطلق صيحةَ اندهاشٍ مكتومةً من بين شفتَيه. لكن المطارِد، نظرًا إلى علمه بأن رَجله سيمكث في الرَّدهة مدةَ ساعة، جلس في البار بالخارج يأكل الخبز والجُبن ويشرب الجِعَة، ومن ثَم لم يُشاهد أحدٌ مدى تفاجؤِ برايس. ومع ذلك، فقد فُوجئ جدًّا لدرجةِ أنه حتى لو كان كلُّ سكان رايتشستر موجودين هناك ما كان ليتمكَّن، على الرغم من أنه قد درَّب نفسه على التحكُّم في ردود فعله، من كتمِ الإجفال أو صيحة الاندهاش.
بيوري! اسمٌ غير مألوف لدرجةِ أنه هنا — هنا، في قرية منطقة ميدلاندز البعيدةِ هذه! — يجب أن يكون هناك بعضُ الارتباط مع موضوع بحثه. ومن ثَم برز الاسمُ أمامه، متفوقًا على كل الأسماء الأخرى — بيوري — وبجواره رقم صفحةِ بحثٍ واحدة فقط. فقلَّب المجلدَ إلى الصفحة ٣٨٧ ولديه شعورٌ بأنه على وشك اكتشافٍ مؤكَّد.
وهناك لفتَ محتوى الصفحةِ انتباهَه في الحال، وعلم أنه اكتشف أكثرَ مما كان يأمُل في أيِّ وقتٍ مضى. فقرأه مِرارًا وتَكرارًا، منتشيًا بحظِّه الرائع.
التاسع عشر من يونيو، ١٨٩١. تزوَّج جون بريك، وهو رجلٌ أعزبُ من أبرشيَّة سانت بانكراس، لندن، من ماري بيوري، وهي فتاةٌ عزباءُ من هذه الأبرشية، على يد القَس. والشهود كانوا تشارلز كلايبورن، وسيلينا وومرسلي، ومارك رانسفورد.
قبل اثنين وعِشرين عامًا! إن ماري بيوري التي يعرفها برايس في رايتشستر عمرها نحوُ عشرين عامًا فقط؛ إذن، ماري بيوري العزباءُ هذه التي من بلدة برادن ميدوورث، هي، على الأرجح، والدتُها. لكن جون بريك الذي تزوَّج ماري بيوري هذه مَن يكون؟ مَن سيكون في واقع الأمر، ضحك برايس، سوى جون برادن، الذي لقي حتفَه للتوِّ في رايتشستر بارادايس؟ وهناك اسمُ مارك رانسفورد كشاهد. إذن ما هو الاحتمال التالي؟ أن مارك رانسفورد كان إشبين جون بريك؛ أي إنه هو ماركو المذكور في إعلان صحيفة «ذا تايمز» الأخير، وجون برادن، أو بريك، هو ستيكر المذكورُ في الإعلان نفسِه. إن الأمر واضح! واضحٌ كشمس الظهيرة! ماذا كان يعني كلُّ ذلك، وما الذي يستتبِعه، وما علاقة ذلك بوفاةِ برادن أو بريك؟
وقبل أن يأكل قطعةَ اللحم البقري الباردةَ الموضوعة في طبقه، نسَخ برايس تلك المعلومةَ من السجلِّ المُعاد طباعتُه، واقتنع بأن رانسفورد لم يكن اسمًا معروفًا في تلك القرية؛ فمارك رانسفورد كان الشخصَ الوحيد الذي يحمل هذا الاسمَ في السِّجل. وبعد أن انتهى من غَدائه، انطلق إلى منزل القسِّ مرة أخرى، عازمًا على الحصول على مزيدٍ من المعلومات، وقبل أن يصل إلى بوابات المنزل لاحظ، بالصدفة، مكانًا كان من المرجَّح أن يحصل فيه على ما يريد أكثرَ من القس — الذي كان شابًّا بعض الشيء. ففي نهاية المنازل القليلة الواقعة بين الفندق والجسر، رأى متجرًا صغيرًا يحمل اسم تشارلز كلايبورن، الذي كان مكتوبًا بالطِّلاء على نحوٍ غير متناسق فوق نافذته المفتوحة. وفي تلك النافذة المفتوحة، جلس رجلٌ عجوز، ذو وجهٍ مبتهج، يُصلح أحذية، وأخذ ينظر في وجه الغريب من خلال نظارته الكبيرة.
رأى برايس فرصةً مُواتية، فاتجه نحوَه وفتح الكتاب وأشار إلى الإدخال الخاصِّ بالزواج.
ثم سأله دون مقدمات: «هل أنت تشارلز كلايبورن المذكورُ في هذا السجل؟»
أجابه صانعُ الأحذية العجوز بحيويَّة، بعد أن ألقى نظرةً نحوه: «هذا أنا، يا سيدي!» ثم أردف: «أجل — بكل تأكيد!»
سأله برايس: «ما قصةُ شهادتك على هذا الزواج؟»
أشار الرجل العجوزُ برأسه نحو الكنيسة على الجانب الآخر من الطريق.
وقال: «لقد أمضيتُ اثنَتَين وثلاثين سنةً، يا سيدي، خادمًا وكاتبًا للأبرشية.» وتابع: «وقد ورِثتُ تلك الوظيفة عن والدي — الذي وَرِثها عن والده.»
سأله برايس، وهو يجلس على المقعد الذي كان صانعُ الأحذية يعمل عليه: «هل تتذكَّر هذا الزواج؟» وأردف: «لقد مرَّ عليه اثنان وعِشرون عامًا، حسَبما أرى.»
أجاب الرجل العجوز وهو يبتسم: «أجل، كما لو كان البارحة!» وتابع: «زواج الآنسة بيوري؟ بالطبع!»
سأله برايس: «مَن كانت؟»
أجاب كلايبورن: «مربِّية في منزل القس.» وأضاف: «لقد كانت سيدةً شابة، لطيفة وحلوة.»
تابع برايس: «والرجل الذي تزوجَته — السيد بريك؟» ثم أضاف: «مَن هو؟»
أجاب كلايبورن، مشيرًا إلى النهر: «شابٌّ اعتاد المجيءَ إلى هنا للصيد بين الحينِ والآخر.» وتابع: «فنحن هنا نشتهرُ بسمك السلمون المرقَّط، كما تعلم، يا سيدي. وقد كان بريك قبل أن يتزوَّجا يأتي إلى هنا مدة ثلاثِ سنوات — هو وصديقه السيد رانسفورد.»
سأله برايس: «هل تتذكَّره هو أيضًا؟»
قال كلايبورن: «أتذكَّر كِلَيهما جيدًا في واقع الأمر، على الرغم من أنني لم أرَ أيًّا منهما بعد أن تزوجَت الآنسة ماري من السيد بريك. لكنني رأيتهما كثيرًا قبل ذلك. لقد اعتادا الإقامة في ذلك الفندق هناك — الذي رأيتُك تخرج منه للتو. كانا يأتيان مرتَين أو ثلاث مرات في السنة، وكانا مقرَّبَين بعض الشيء لقسِّنا في ذلك الوقت — ليس القس الحالي، بل سلفه — وكانا يصعدان إلى منزل القس ويُدخنان الغليون والسيجار معه، وبالطبع، توطَّدَت علاقة السيد بريك والمربية في ذلك الوقت. على الرغم من ذلك، كان البعض يظنُّ أنها سترتبط بالشاب الآخر، السيد رانسفورد، أجل! ولكنها، في نهاية الأمر، ارتبطت ببريك — وكان رانسفورد هو إشبينَه خلال حفل الزواج.»
استوعب برايس كلَّ هذه المعلومات بنهمٍ، وطلب المزيد.
قال وهو ينقر على السجلِّ المفتوح: «أنا مهتمٌّ بهذا الموضوع.» وأردف: «وأعرف بعض الأشخاص الذين يحملون اسم بيوري — ربما هم أقارب.»
هز صانع الأحذية رأسه وكأنه أمرٌ مشكوك فيه.
وقال: «أتذكَّر أنه كان يُقال إن الآنسة ماري ليس لها أقارب. لقد كانت تعمل عند القسِّ العجوز بعضَ الوقت، ولا أتذكر قط أن هناك أيَّ أقارب قد جاءوا لزيارتها، ولا أنها قد ذهبت لزيارة أيٍّ منهم.»
سأله برايس: «هل تعرف أيَّ معلومات عن بريك؟» وأردف: «فحسَبما قلت، كان يأتي إلى هنا كثيرًا قبل الزواج؛ لذا، أفترض أنك سمعتَ شيئًا عن مهنته، أو مجال عمله، أو أيًّا ما كان؟»
أجاب كلايبورن: «لقد كان ذلك الرجل مصرفيًّا.» وأضاف: «مصرفيًّا — ذلك هو عمله، يا سيدي. أما الرجل الآخر، السيد رانسفورد، فكان طبيبًا، وأنا أتذكَّر ذلك جيدًا؛ لأنه ذات مرة عندما كان هو والسيد بريك يصطادان هنا، سقطَت زوجة توماس جوينت من على السُّلم وكُسِرت ساقها، فجلَبوه إليها واستطاع أن يُعالجها قبل أن يُحضروا الطبيب المحلي من بارثورب.»
وهكذا حصل برايس الآن على جميع المعلومات التي يُريدها، وأعطى كاتبَ الأبرشية العجوز إكراميةً صغيرة واستدار ليذهب. ولكنْ خطر سؤالٌ آخر على ذهنه، فعاد إلى المتجر الصغير.
وسأله: «وماذا عن القس السابق؟» وأردف: «ذلك الذي كانت الآنسة بيوري تعمل مربيةً لعائلته — أين هو الآن؟ هل تُوفي؟»
أجاب كلايبورن: «لا أستطيع أن أقولَ ما إذا كان حيًّا أو ميتًا، يا سيدي.» وتابع: «لقد تركَ هذه الأبرشية وانتقل إلى أخرى — وهي توجد في جزءٍ مختلف من إنجلترا — منذ عدة سنوات، ولم أسمع الكثيرَ عنه منذ ذلك الوقت حتى الآن؛ حيث لم يأتِ إلى هنا ولو مرةً واحدة، ولا حتى في زيارة ودية؛ فقد كان رجلًا من نوعٍ غريب. لكني سأخبرك بأمر، يا سيدي …» كان من الواضح أنه حريصٌ على إعطاء الزائر قيمةً جيدة مقابل الشلنَين ونصف الشلن اللذَين تلقَّاهما منه؛ لذا أضاف: «قسُّنا الحاليُّ لديه سجلٌّ به أسماءُ جميع رجال الدِّين، وهو سيُخبرك بمكانِ سلَفِه الآن، إذا كان على قيد الحياة، واسمه هو المبجَّل الحاصل على درجة الماجستير في الآداب توماس جيلووترز، الذي درس في جامعة أكسفورد وكان مثقفًا للغاية.»
عاد برايس إلى منزل القس، وأعاد المجلدَ المستعار، ثم طلب إلقاءَ نظرةٍ على سجلات عام ١٨٩١. فتحقَّق من الأمر ثم التفتَ إلى القس.
وقال وهو يدفع رسومَ البحث: «لقد اطلعتُ مصادفةً على ذِكرٍ لزواجٍ هناك يُهمني.» ثم أضاف: «لقد رَعاه سلفك، السيد جيلووترز. وسأكون ممتنًّا لمعرفة مكان وجوده. هل تمتلك سجلًّا إكليركيًّا؟»
أخرج القسُّ أحدَ «سجلات كروكفورد الإكليركية»، فقلَّب برايس صفحاته. ووجد أن السيد جيلووترز، من خلال السجل المقدَّم، رجلٌ مسنٌّ قد تقاعدَ الآن، وأنه يعيش في لندن، في بايزووتر، فدوَّن برايس عُنوانه واستعدَّ للمغادرة.
فسأل القس أثناء مغادرة زائره: «هل وجدت أيَّ أسماء تُهمك؟» وأردف: «أيُّ شيء جديرٌ بالملاحظة؟»
أجاب برايس من أسفل سُلم المنزل: «لقد وجدتُ اسمَين أو ثلاثة أسماء تُثير اهتمامي بشدة.» وأردف: «لقد كانت تستحقُّ البحث عنها.»
ودون مزيدٍ من التوضيح، غادر إلى بارثورب وتبِعه على النحو الواجبِ مُراقبُه، الذي رآه يدخلُ بأمانٍ إلى فندق بيكوك بعد ساعة، وبعد ذلك بساعةٍ أخرى، ذهب إلى رئيس الشرطة ليُبلغه بتقريره.
وقال: «لقد رحل، يا سيدي.» وتابع: «لقد غادر في قطار الخامسة والنصف السريعِ المتجهِ إلى لندن.»