منزل صديقه
وجد برايس نفسَه في الساعة الحاديةَ عشرة من صباح اليوم التالي في رَدْهة صغيرةٍ مليئة بالكتب في منزل صغيرٍ يقع في شارعٍ هادئٍ في حي ويستبورن جروف. وقد عُلقت فوق رفِّ الموقد، وسط لوحات وصور فوتوغرافية أخرى، لوحةٌ رُسِمت بالألوان المائية لبرادن ميدوورث، والآن دخل إلى الرَّدهة رجلُ دينٍ عجوزٌ ذو شعر أشيب، اعتبره برايس على الفور القسَّ السابقَ لبرادن ميدوورث، وقد نظر بفضول إلى زائره ثم إلى البطاقة التي أرسلها برايس مع طلب اللقاء.
وقال مستفسرًا: «دكتور برايس؟» وتابع: «دكتور بيمبرتون برايس؟»
انحنى برايس ليُحيِّي الرجلَ بأفضل تحية، وتصرَّف بأكثر أسلوب متملِّقٍ ومهذب للغاية يعرفه.
وقال: «آمُل ألا أتطفَّل على وقتك، يا سيد جيلووترز.» ثم أردف: «الحقيقة هي، أنني قد نُصِحت أمس بمقابلتك، من قِبل القسِّ الحالي لبرادن ميدوورث — هو وكذلك، خادم الكنيسة هناك، كلايبورن، الذي تتذكَّره، بالطبع، يعتقدان أنك ستتمكَّن من إعطائي بعضَ المعلومات فيما يخص موضوعًا له أهمية كبيرة، بالنسبة إليَّ.»
قال السيد جيلووترز وهو يدعو برايس إلى الجلوس، ثم جلس بالقربِ منه: «أنا لا أعرف القسَّ الحاليَّ.» ثم أردف: «أما كلايبورن فأنا، بالطبع، أتذكرُه جيدًا بالفعل؛ لا بد أنه قد أصبح الآن عجوزًا — مثلي! والآن، ما الذي تريد أن تعرفه؟»
أجاب برايس، الذي وضع خُططَه بعنايةٍ وأعدَّ قصته: «سأمنحك ثقتي، يا سيد جيلووترز، وأنا متأكد من أنك أهلٌ لها. لقد أمضيت عامَين في العمل طبيبًا في رايتشستر، وتعرفت هناك على سيدةٍ شابة أرغب بشدة في الزواج منها. وهي ربيبة الرجل الذي عملت مساعدًا له. وأعتقد أنك ستبدأ في إدراكِ سببِ مجيئي إليك عندما أقول إن اسم هذه السيدة الشابَّة هو ماري بيوري.»
جفَل رجلُ الدين العجوزُ، ونظر إلى زائره باهتمامٍ غيرِ عادي. وقبض على ذراع الكرسيِّ وانحنى إلى الأمام.
وقال بصوتٍ منخفض: «ماري بيوري!» وتابع: «ما … ما اسم الرجل الذي هو وصيُّها؟»
أجاب برايس على الفور: «دكتور مارك رانسفورد.»
اعتدل الرجلُ العجوز في جِلسته مرة أخرى، مع انحناءةٍ طفيفة لرأسه.
وصاح متعجبًا: «يا إلهي!» وأضاف: «مارك رانسفورد! إذن — يجب أن يكون الأمرُ كما كنتُ أخشى وأشتبه!»
لم يردَّ برايس. إذ علم على الفور أنه قد لمس وترًا ما، وكانت طريقته المعتادةُ هي السماحَ للناس بأخذ وقتهم. كان السيد جيلووترز قد غرق بالفعل في شيءٍ يُشبه إلى حدٍّ كبير حلمَ يقظة، فجلس برايس في صمتٍ منتظرًا ومتوقِّعًا منه الحديثَ. وفي النهاية انحنى الرجل العجوز إلى الأمام مرة أخرى، بنوعٍ من الحماس.
وسأل مكررًا سؤالَه الأول: «ما الذي تريد أن تعرفه؟» ثم أضاف: «هل … هل هناك أيُّ … أيُّ غموض؟»
أجاب برايس: «أجل!» ثم أردف: «غموضٌ أريد كشفَه، يا سيدي. وأرى أنك يُمكنك مساعدتي، إذا تكرَّمت بذلك. فأنا مقتنعٌ — في الحقيقة، أنا على يقين! — أن هذه الفتاة لا تعرفُ أبوَيها، وأن رانسفورد يُخفي بعض المعلومات، بعض الحقائق عنها، وأنا أريد اكتشاف حقيقة الأمر. وبمحض الصدفة — عرَضًا، في الواقع — اكتشفتُ أمس في برادن ميدوورث أنك منذ حوالي ٢٢ عامًا قد عقدتَ مراسم زواج ماري بيوري، التي، حسَبما علمتُ هناك، كانت تعمل مربيةً في منزلك، من رجل يُدعى جون بريك، وأن مارك رانسفورد كان إشبينَ جون بريك وشاهدًا على الزواج. والآن، يا سيد جيلووترز، فإن التشابُهَ في الأسماء مذهلٌ للغاية بحيث لا يخلو من الأهمية. لذا — إن الأمر ذو أهميةٍ قُصوى بالنسبة إليَّ! — هل يمكن أن تُخبرني مَن كانت ماري بيوري التي زوجتَها لجون بريك؟ ومَن كان جون بريك؟ وما صلة مارك رانسفورد بأيٍّ منهما، أو بكليهما؟»
كان يتساءل، طوال الوقت الذي طرح خلالَه هذه الأسئلةَ، ما إذا كان السيد جيلووترز يجهل تمامًا الأحداثَ الأخيرة التي وقعَت في رايتشستر. قد يكون كذلك؛ فقد أشارت نظرةٌ سريعة من برايس حول غرفته المليئة بالكتب إلى أنه من المرجَّح أن يكون شَغوفًا بقراءة الكتب أكثرَ من كونه قارئًا للصحف، ومن المحتمل جدًّا ألا تَحظى الأحداثُ التي وقعَت في ذلك اليوم باهتمامٍ كبير من جانبه. وقد أقنعَت كلماتُه الأولى ردًّا على الأسئلة برايس بأنَّ تخمينه صحيح وأن الرجل العجوز لم يقرأ شيئًا عن لُغز رايتشستر بارادايس، الذي ظهر فيه اسمُ رانسفورد بالطبع شاهدًا في جلسة التحقيق.
إذ قال السيد جيلووترز: «لقد مرَّ ما يقرب من عشرين عامًا منذ أن سمعت أيًّا من تلك الأسماء.» وتابع: «ما يقرب من عشرين عامًا — إنه لوقتٌ طويل! لكن، بالطبع، يمكنني الردُّ على أسئلتك. كانت ماري بيوري تعمل لديَّ مربيةً في برادن ميدوورث. وقد جاءت إلينا عندما كانت في التاسعةَ عشرة من عمرها، ثم تزوجَت بعد ذلك بأربع سنوات. وهي فتاةٌ ليس لديها أصدقاء أو أقارب؛ لقد تلقَّت تعليمها في مدرسةٍ في الشمال، وقد اخترتُها للعمل من تلك المدرسة، التي، حسَبما فهمتُ، كانت تعيش فيها منذ طفولتها. والآن دعنا ننتقل للحديث عن بريك ورانسفورد. فقد كانا شابَّين من لندن، اعتادا المجيءَ للصيد في ليسترشير. وكان رانسفورد أصغرَ سنًّا من الآخَر ببضع سنوات، ولقد كان آنذاك إما طالبَ طبٍّ في سنته الأخيرة، أو مساعدَ طبيب في مكانٍ ما في لندن. أما بريك، فقد كان مدير بنك في لندن؛ لقد كان مديرًا لفرع أحد البنوك الكبرى. لقد كانا شابَّين لطيفَين، وكنتُ أدعوهما كثيرًا لزيارتي في منزلي. وفي نهاية المطاف، ارتبطَت ماري بيوري بجون بريك وقرَّرا الزواج. وقد فوجئتُ أنا وزوجتي كثيرًا بذلك؛ إذ كنا نعتقد، إلى حدٍّ ما، أن الرجل المفضَّل بالنسبة إليها هو رانسفورد. لكن رغم ذلك، اتضَح أنه بريك، وهكذا تزوجَت بريك، وكما ذكرتَ أنت، كان رانسفورد هو الإشبين. وبالطبع، أخذ بريك زوجتَه إلى لندن، ومنذ يوم زفافها، لم أرَها مرة أخرى.»
سأله برايس: «هل رأيتَ بريك مرةً أخرى منذ ذلك الحين؟» هز القسُّ العجوز رأسَه بالإيجاب.
وقال في أسًى: «أجل!» وتابع: «لقد رأيتُ بريك مرةً أخرى بالفعل، في ظلِّ ظروفٍ مؤسفة للغاية!»
قال برايس: «هل تُمانع في إخباري بتلك الظروف؟» ثم أضاف: «سأحفظ السرَّ، يا سيد جيلووترز.»
ردَّ الرجل العجوز: «لا يوجد سرٌّ في واقع الأمر بخصوص تلك الظروف.» وأردف: «لقد رأيتُ جون بريك بعد ذلك مرةً واحدة فقط. في زنزانةٍ بأحد السجون!»
صاح برايس متعجبًا: «زنزانة سجن!» وأضاف: «وهل كان سجينًا؟»
أجاب السيد جيلووترز: «كان قد حُكم عليه للتو بالسجن مع الأشغال الشاقَّة لمدة عشْرِ سنوات.» وأضاف: «لقد سمعتُ الحكم؛ إذ كنتُ حاضرًا. وحصلتُ على تصريحٍ بزيارته. عشر سنوات من السجن مع الأشغال الشاقة! — إنها عقوبةٌ رهيبة. لا بد أنه قد أُطلق سراحه منذ مدة طويلة، لكنني لم أسمع قط عن أخباره أكثرَ من ذلك.»
أخذ برايس يتأمَّل الأمرَ في صمتٍ للحظة، وهو يُقدِّر ويحسُب.
ثم سأل: «متى كانت ذلك — أقصد تلك المحاكمة؟»
أجاب السيد جيلووترز: «بعد مرور خمسِ سنوات على الزواج، أي منذ سبعة عشر عامًا.»
سأله برايس: «وماذا كانت جريمته؟»
أجاب الرجل العجوز: «سرقة أموال البنك.» وتابع: «لقد نسيتُ ماذا كانت نوعية المخالفة بالتحديد — الاختلاس، أو شيء من هذا القبيل. لم تكن هناك الكثيرُ من الأدلة، وكان من المستحيل تقديمُ أيِّ دفاع، كما أقرَّ بأنه مذنب. لكنني استنتجتُ مما سمعته أن شيئًا من هذا القبيل حدث. كان بريك مديرَ فرع. وداهمه، حسَبما قيل، أحدُ المفتشين ذات صباح، فوجد أن النقود التي في عُهدته بها عجزٌ بمقدار ألفين أو ثلاثة آلاف جنيه. ويبدو أن مالكي البنك كانوا صارمين بنحوٍ غيرِ عادي وحتى متشددين، وكان لدى بريك، حسَبما قيل، تفسيرٌ للموقف، لكن لم يُلتفَت إليه واتُّهِم بالجريمة. وكانت العقوبة كما قلتُ للتو قاسيةً للغاية، حسَبما أعتقد. لكن كانت هناك في ذلك الوقت بعض القضايا الشائنة من هذا النوع في عالم البنوك، وأعتقد أن القاضيَ أراد أن يجعل منه عبرة. أجل، إنها قضيةٌ محزنة للغاية! لديَّ تقريرٌ عن القضية في مكانٍ ما، اقتطعتُه من إحدى الصحف اللندنية في ذلك الوقت.»
نهض السيد جيلووترز وتوجَّه إلى مكتبٍ قديم في زاوية غرفته، وبعد قليلٍ من البحث في الأوراق في أحد الأدراج، أخرج سجلًّا لمقتطفات الصحف وبحثَ في صفحاته عن مقتطَفٍ معيَّن. ثم ناول السجل لضيفه.
وقال: «ها هو ذا التقرير.» وأضاف: «يُمكنك قراءته بنفسك. ستُلاحظ أنه فيما قاله محامي بريك دفاعًا عنه، هناك تلميحٌ أو اثنان يتَّسمان بالغرابة والغموضِ حول ما كان يُمكن أن يُقال إذا كان من المفيد أو النافع قولُه. إنها لقضيةٌ غريبة!»
التفتَ برايس بلهفةٍ إلى قُصاصة الصحيفة الباهتة.
قضية اختلاس مدير بنك
في المحكمة الجنائية المركزية يومَ أمس، أقرَّ جون بريك، البالغُ من العمر ثلاثة وثلاثين عامًا، المدير السابق لفرع بنك لندن آند هوم كاونتيز، المحدود، في أبر توتينج، بأنه مذنبٌ فيما يتعلق بالاتهام الموجَّه إليه باختلاس بعض المبالغ، التي هي مِلكٌ لأرباب عمله.
قال السيد ووكينشو، المحامي الشهير، مخاطبًا المحكمة نيابةً عن المتهم، إنه رغم استحالة تقديم أيِّ دفاع من جانب موكله، فإن هناك ملابساتٍ في القضية، لو أمكن كشفُها للمحكمة، لأظهَرَت أن المتهَم رجلٌ مظلوم ومخدوع. وباستعارةِ عبارةٍ من الكتاب المقدَّس، لقد جُرح بريك في منزل صديقه. وأضاف أن الرجل الذي كان مذنبًا حقًّا في هذه القضية قد أفلتَ بذكاءٍ من كل العواقب، ولن يكون من المفيد الدخولُ في أيِّ تفاصيل تخصُّه. وذكر أن المتهم لم يستخدم بنسًا واحدًا من المالِ المذكورِ لأغراضه الخاصة. وأضاف أن لا شك في أن ما فعله موكله كان خطأً وغيرَ لائق، وقد أقرَّ بأنه مذنبٌ وبأنه سيتحمَّل العواقب. ولكن إذا كان من الممكن ذِكرُ كلِّ ما له صلةٌ بالقضية، وإذا كان ذكره سيكون مفيدًا، فسيمكن إدراكُ أن ما اعتُبر المتهَم مذنبًا بسببه ما هو إلا خطأٌ أحمقُ وخطير في الحكم على الأمور. واختتم المحامي الخبيرُ مرافعتَه، بأنه سيذهب إلى حدِّ القول، مع العلم بما فعَله موكله، ومع العلم بما قاله له على انفراد، بأن المتهَم، على الرغم من أنه مذنبٌ من الناحية الفنية، فهو بريءٌ من الناحية الأخلاقية.
وقد حكم سيادة القاضي، بعد الإشارة إلى أنه لا يمكن تقديمُ أيِّ عذر من أي نوعٍ في قضيةٍ من هذا النوع، على المتهم بالسجن لمدةِ عشر سنوات مع الأشغال الشاقة.
قرأ برايس هذا التقريرَ مرتَين قبل إعادة السجل.
ثم قال: «إنها قضيةٌ غريبة وغامضة للغاية، يا سيد جيلووترز.» وأضاف: «لكنك قلتَ إنك قابلتَ بريك بعد انتهاء المحاكمة. فهل علمت منه أيَّ شيء؟»
أجاب رجلُ الدين العجوز: «لا شيء على الإطلاق!» وتابع: «لقد حصلتُ على تصريحٍ لمقابلته قبل أن يُؤخَذ إلى السجن. ولم يبدُ مسرورًا أو ميالًا لمقابلتي. وقد رجَوتُه أن يُخبرني بالحقيقة الفعلية. لكنه كان، على ما أظن، مذهولًا بعضَ الشيء بسبب العقوبة التي وقعت عليه، كما كان أيضًا متجهِّمًا وكئيبًا. وقد سألتُه عن مكانِ زوجته وطفلَيه، اللذين كان أحدهما مجردَ رضيع. إذ كنتُ قد ذهبت بالفعل إلى منزله ووجدتُ أن السيدة بريك قد باعت كلَّ الأثاث واختفت — تمامًا. لا أحد — في الجوار، على أي حال — كان يعرفُ مكانها، أو بمقدوره أن يُخبرني بأي شيء. وقد رفضَ هو الإجابةَ عن سؤالي هذا. وبعد أن ضغَطتُ عليه قال أخيرًا إنه كان يقول الحقيقة فقط عندما أجاب بأنه لا يعرف مكانَ زوجته. فقلت إنني يجب أن أعثرَ عليها. إلا أنه طلب مني عدمَ القيام بأيِّ محاولة. عندئذٍ رجَوتُه أن يُخبرني إن كانت موجودةً مع بعض الأصدقاء. أتذكَّر جيدًا ردَّه عليَّ. إذ قال بحزم: «لن أقول كلمةً واحدة أخرى لأيِّ رجل على وجه الأرض، يا سيد جيلووترز.» واختتم حديثه قائلًا: «سأُصبح ميتًا أمام العالم — فقط لأنني كنتُ أحمقَ منحَ ثقته لمن لا يستحق! — مدةَ عشر سنوات أو ما يقرب من ذلك، لكن عندما أعود إليه، سأجعل الجميعَ يُدركون معنى الانتقام! هيا اذهب!» وأردف: «لن أقولَ كلمة أخرى.» ومِن ثَم، تركتُه.»
سأل برايس: «ألم تُجْرِ المزيد من التحريات؟ — عن الزوجة؟»
أجاب السيد جيلووترز: «لقد فعلتُ ما بوُسعي.» وتابع: «لقد أجريت بعض التحرِّيات في الحي الذي كانوا يعيشون فيه. كل ما استطعت اكتشافَه هو أن السيدة بريك قد اختفت في ظلِّ ظروفٍ غامضة للغاية. لم يكن هناك أيُّ أثر لها. وسرعان ما اكتشفت أن هناك أشياءَ تُقال — الشكوك القاسية المعتادة، كما تعلم.»
سأله برايس: «مثل ماذا؟»
أجاب السيد جيلووترز: «كان يُقال إن كمية الاختلاسات كانت أكبرَ بكثيرٍ مما هو مُعلَن.» وأردف: «وإن بريك كان محتالًا ذكيًّا للغاية حيث استطاع تهريبَ الأموال بأمانٍ إلى مكانٍ ما بالخارج، وإن زوجته قد سافرت إلى مكانٍ ما — أستراليا، أو كندا، أو منطقة أخرى بعيدة — في انتظار إطلاق سَراحه. بالطبع، أنا لم أُصدِّق كلمةً واحدة من كل ذلك. ولكن ظلَّت هناك حقيقةٌ واحدة؛ وهي أنها قد اختفت! وفي النهاية، فكَّرت في رانسفورد، على أساس أنه صديقُ بريك المقرَّب؛ لذا حاولتُ العثور عليه. واكتشفت أنه أيضًا — والذي كان حتى ذلك الوقت يعمل طبيبًا ممارسًا في إحدى ضواحي لندن؛ ستريتام — قد اختفى. فبعد إلقاءِ القبض على بريك مباشرةً، باع رانسفورد عيادته فجأةً وغادر، لم يعرف أحدٌ إلى أين، لكن كان يُعتقَد إلى خارج البلاد. لم أستطِع إيجاده، على أيِّ حال. وبعد ذلك بمدة وجيزة عانيتُ مرضَا طويلًا، وأصبحت عاجزًا عن الحركة مدة عامَين أو ثلاثة، وانتهى الأمر، وكما قلتُ قبل قليل، لم أسمع أيَّ شيء عن أيٍّ منهم طوال تلك السنوات. والآن، إنك تُخبرني أن هناك ماري بيوري التي هي ربيبة دكتور مارك رانسفورد في … أين قلت؟»
أجاب برايس: «في رايتشستر.» وأضاف: «وهي فتاةٌ في العشرين من عمرها، ولها أخٌ، يُدعى ريتشارد، عمره بين السابعة عشرة والثامنة عشرة.»
صاح الرجل العجوز: «دونَ شكٍّ هذان طفلا بريك!» وأردف: «الرضيع الذي أخبرتُك عنه كان ذكرًا. يا إلهي! — إنه لأمر غريب. منذ متى وهم يعيشون في رايتشستر؟»
أجاب برايس: «إن رانسفورد يعمل طبيبًا هناك منذ سنوات — بضع سنوات.» وأضاف: «وقد انضمَّ هذان الشابان إليه هناك قبلَ عامين. ولكن ممَّا علمتُه، فقد أصبح وصيًّا عليهما منذ أن كانا طفلَين.»
سأله السيد جيلووترز: «وماذا عن والدتهما؟»
أجاب برايس: «قيل إنها ميتة — منذ زمنٍ طويل.» وتابع: «ووالدهما أيضًا. وهما لا يعرفان شيئًا. ولن يُخبرهما رانسفورد بأي شيء. ولكن، كما تقول — أنا شخصيًّا ليس لديَّ شك في ذلك الآن — من المؤكد أنهما ابنا جون بريك.»
قال الرجل العجوز: «وقد اتخذا اسمَ عائلة والدتهما!»
قال برايس: «بل فُرِض عليهما.» وأضاف: «إنهما لا يعرفان أنه ليس لقَبَهما الحقيقي. بالطبع، رانسفورد قد فرَضه عليهما! لكن الآن، ماذا عن الأم؟»
قال السيد جيلووترز: «أوه، أجل، الأم!» وأردف: «مربيتنا القديمة! يا للمسكينة!»
تابع برايس، وهو يَميل مقتربًا أكثرَ من القس ويتحدَّثُ بنبرةٍ منخفضة وسرِّية: «سوف أطرح عليك سؤالًا.» وأردف: «لا بد أنك رجلٌ ذو خبرة كبيرة، يا سيد جيلووترز — فالرجال في مهنتك خبراءُ بأحوال الدنيا، والطبيعة البشرية، أيضًا. استحضِر في ذهنك كلَّ الظروف الغامضة، والتلميحات المستترة لتلك المحاكمة. هل تعتقد — هل فكرتَ يومًا — أن الصديق المزيف الذي أشار إليه المحامي هو رانسفورد؟ استخدِم المنطق!»
رفع القس العجوز يدَيه وتركهما يسقطان على ركبتيه.
ثم صاح: «أنا لا أدري ماذا أقول!» وأردف: «لكن لأقولَ لك الحقيقة، كثيرًا ما كنتُ أتساءل عما إذا … إذا كان هذا هو ما حدثَ بالفعل. فهناك حقيقةٌ أن زوجة بريك قد اختفَت اختفاءً غامضًا، وأن رانسفورد قد اختفى بالمثل في الوقت نفسه تقريبًا، وأن من الواضح أن بريك كان يُعاني كراهيةً شديدة ومريرة عندما رأيتُه بعد المحاكمة — كراهية لشخصٍ ما قرَّر أن ينتقم منه بعد الخروج من السجن — كما أن محاميَه ألمح إلى أنه قد خُدع وتعرَّض للخيانة من أحد الأصدقاء. والآن، على حدِّ علمي، كان هو ورانسفورد أقربَ الأصدقاء — فيما مضى، قبل أن يتزوج بريك من مربيتنا. وأفترض أن الصداقة قد استمرت — حيث اختار بريك أن يكونَ رانسفورد إشبينًا له في حفل الزفاف! ولكن كيف يُمكن تفسير ذلك الاختفاء المزدوج الغريب؟»
كان برايس قد وضَع بالفعل تفسيرًا لذلك، في عقله. والآن، بعد أن حصل على كلِّ ما يُريد من معلوماتٍ من رجل الدين العجوز، نهض من أجل المغادرة.
ثم قال: «أعتقد أنك ستعتبرُ هذه المقابلة ذاتَ طبيعة سريةٍ للغاية، يا سيد جيلووترز، أليس كذلك؟»
أجاب الرجل العجوز: «بالتأكيد!» وتابع: «لكنك ذكرتَ أنك ترغب في الزواج من الابنة، أليس كذلك؟ والآن بعد أن علمت بماضي والدها — لأني أصبحتُ متأكدًا من أنها ابنة جون بريك — أظن أنك عدَلتَ عن رأيك، أليس كذلك؟»
أجاب برايس، مُظهِرًا بعضَ النبل: «لم أعدِلْ ولو لحظة!» وأضاف: «أنا لستُ رجلًا بهذه الأخلاق، يا سيدي. كلا! — لقد كنتُ أرغب فقط في استيضاح بعض الأمور، وأرجو أن تكون قد فهمتَ ذلك.»
سأله السيد جيلووترز بقلق: «وبما أنها على ما يبدو — مما تقوله — تجهل ماضيَ والدها الحقيقيَّ — فماذا إذن؟ هل ﺳ…»
أجاب برايس: «لن أفعل أيَّ شيء على نحوٍ متسرع.» ثم أضاف: «ثِقْ في أني سأُراعي مشاعرها في كل شيء. وبما أنك كنتَ متعاطفًا للغاية، سأخبرك، لاحقًا، كيف سارت الأمور.»
كانت هذه إحدى كذباتِ بيمبرتون برايس الجاهزةَ. إذ لم يكن لديه أيُّ نية لرؤية أو التواصل مع القس السابق لبرادن ميدوورث مرةً أخرى؛ لقد أخذ من السيد جيلووترز كلَّ ما يريد في الوقت الحاليِّ وانتهى الأمر. ومن ثَم غادر بايزووتر، وبعد ساعة، غادر لندن، وهو راضٍ للغاية. وقد كان يعتقد أن مارك رانسفورد، قبل سبعةَ عشر عامًا، قد استغل مصائبَ صديقه ليهرب مع زوجته، وعندما ظهر بريك، باسمٍ مستعار هو برادن، بنحوٍ غيرِ متوقَّع في رايتشستر، أضاف إلى خطيئته السابقة خطيئةً أكبر بكثير.